قراءة في كتاب

علي حسين: لماذا علينا ان نقرأ "اللفياثان"

من يريد ان يقرأ كتاب "اللفياثان" لتوماس هوبز، سيضطر أن يواجهه لوحده " مثلما كتب مونتسكيو ذات يوم، هذه العبارة اتذكرها كلما اشاهد كتاب " اللفياثان " في احدى مكتبات المتنبي يشكو قلة المهتمين، فالبعض ينظر اليه سريعا، والبعض الآخر يجد في الاسم غرابة لايريد ان يشغل نفسه بها، وعندما اسأل الاصدقاء في من باعة الكتب عن احوال " " اللفياثان " يقول بانه محط اهتمام نخبة من القراء. عندما نتصفح صفحات كتاب " اللفياثان " نتذكر ما كتبه ارنست بلوخ عن الافكار المبهمة التي يعبر عنها هوبز وبدقة. من جانبي اعترف بانني كنت ولا ازال اجد صعوبة في الغوص بكتاب توماس هوبز، لكنني دائما ما اراجع النصيحة التي كتاب الروائي الانكليزي جورج اورويل وخلاصتها على قارئ تاريخ الفكر السياسي ان تكون لديه المقدرة على فهم هوبز اولا حتى يستطيع ادعاء المعرفة بالفلسفة السياسية. يصلر هيغل على وصف بانه " فيلسوف يتميز باصالة افكاره، وان الاحداث التي وقعت في عصره منحته فرصة للتفكير في المبادئ التي تقوم عليها الدولة والقانون. والواقع انه نجح في شق طريقه الى تصورات اصيلة تماما " فيما وصفه برتراند رسل بانه اشد الفلاسفة اثارة.

في الرابعة والخمسين من عمره وجد نفسه منفياً الى فرنسا، فالأحوال السياسية في البلاد لا تطمئن، والكنيسة والبرلمان يلاحقان كل من يطرح رأياً مخالفاً، كان توماس هوبز آنذاك يخطط لإصدار كتاب ضخم عن السلطة وعلاقتها بالناس بعنوان " اللفياثان "، وفي هذا الكتاب أراد أن يُشبه السلطة المطلقة بالتنين ذلك: " الحيوان الضخم الذي يرهبه الجميع، ولا يكاد يشبه أي مخلوق آخر على سطح الأرض "..في سيرته الذاتية التي كتبها بنفسه، يخبرنا توماس هوبز أن والدته التي وضعته في العاشر من حزيران عام 1588، وضعت معه توأماً آخر اسمه الخوف، وهو الذي رافقه طوال حياته التي امتدت لأكثر من تسعين عاماً.

كان والده قساً، اختفى من المدينة بعد مشاجرة حدثت بينه وبين أحد القساوسة، فضربه واضطر الى أن يغادر المدينة ولم يره أحد بعد ذلك، فقرر أحد أعمامه أن يتولى تربيته، فأدخله إحدى المدارس الدينية، إلا أن الصغير لم يجد رغبة في هذا النوع من التعليم، فانتقل بعد أن بلغ الخامسة عشرة من عمره الى أكسفورد ليدرس المنطق وعلم الطبيعة، لكنه أيضاً لم يجد في الفلسفة ومقولات أرسطو وأفلاطون أجوبة على أسئلة كانت تدور في ذهنه عن الدولة المدنية، وفلسفة الحكم والعلاقة بين الدين والسياسة يكتب في كتابه اللوياثان: " كانت الفلسفة الطبيعية التي تعلمها المدارس حلماً أكثر منها علماً، فضلاً عن أنها تصاغ في لغة ميتة لا معنى لها.. وأنا اعتقد أنه يندر أن تجد شيئاً أشد سخفاً، يمكن أن يقال في الفلسفة الطبيعية أكثر مما يسمى باسم ميتافيزيقا أرسطو، ولا شيء أشد نفوراً عن الحكومة أكثر مما قاله في كتابه السياسة، ولا أشد جهالة من القسط الأكبر من كتابه الأخلاق ". يقرر أن يغادر الجامعة ليعمل معلماً خاصاً لأحد أبناء كبار اللوردات الانكليز، وقد أتاح له عمله هذا أن يسافر مع عائلة اللورد الى الكثير من بلدان أوروبا، ويطلع على أحدث الكتابات الفلسفية، وأثناء إحدى سفرياته الى باريس وقع بين يديه كتاب " هندسة إقليدس "، فوجد نفسه لأول مرة أزاء علم دقيق أثار اهتمامه، حيث لم تكن لديه أية فكرة عن علم الرياضيات، فمناهج التعليم في انكلترا آنذاك كانت تعد الرياضيات بمثابة بدعة شيطانية، وقد ساعدته دراسته للرياضيات، على أن يقرر إن المعرفة قوة، وأن للفلسفة قيمة علمية، وإن الطبيعة والإنسان – لا الله – هما موضوعا البحث الفلسفي.

في العام 1634 يسافر الى إيطاليا حيث يلتقي بالعالم غاليليو غاليلي الذي أوحى اليه بفكرة تطبيق المنهج الهندسي على علم الأخلاق، أما في باريس التي وصل إليها بعد الانقلاب على الملك تشارلز الأول، وعاش فيها حوالي أحد عشر عاماً، حاول ان يدرس أسباب الثورة التي قامت في بلاده، وهناك ينضم الى مجموعة من المفكرين، حيث وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الفيلسوف رينيه ديكارت فيكتب نقداً عن كتابه " تأملات في الفلسفة الاولى "، ينكر فيه على ديكارت بعض أفكاره اللاهوتية، فقد كان هوبز مادياً ولم يكن يتصور الكون كله إلا مادة أو جسماً يتحرك، وعلى ذلك لم يقبل ثنائية ديكارت بين الروح والمادة.. في باريس أيضاً خاض معركة مع أحد الأساقفة حول موضوعة حرية الإرادة، وقد لخص هوبز هذه المعركة بأبيات من الشعر جاء فيها:

كانت المشكلة ولا تزال،

أنختار بإرادتنا أم بإردة الله،

وكانت مشكلة ناتجة عما تقدم،

أما هو فقد اتبع المدارس، أما أنا فاستخدمت عقلي.

في عام 1642 يصدر هوبز كتاباً صغيراً بعنوان الدولة أو المجتمع السياسي، يؤكد فيه تعارض حالة الطبيعة أو الفطرة مع الحالة الإنسانية، ونادى فيه بضرورة إعطاء السلطة السياسية الحق في تنظيم الأمور الدينية وعمل الكنيسة، وقد سبّب له هذا الكتاب عداء رجال الدين في انكلترا وفرنسا، الذين وجدوا فيه تعريضاً بسلطة البابا، عام 1651 تنتهي سنوات النفي ويعود هوبز الى انكلترا، ليتفرغ لإكمال مؤلفاته، يصدر له كتاب عن المادة يتضمن آراءه في الظواهر الطبيعية، وبعدها بثلاث سنوات يصدر كتاباً اخر بعنوان " في الإنسان " يدرس فيه سايكولوجية اللغة والعواطف، بعدها يصدر كتابه الاهم " اللفياثان أو التنين " الذي أثار حفيظة البرلمان الانكليزي والكنيسة بنفس الوقت، فصدر قرار يمنع هوبز من إصدار أي مؤلفات أخرى في الفلسفة أو السياسة، ليضطر في آخر أيام حياته الى العودة للاهتمام بالدراسات الأدبية، يترجم الى الانكليزية الإلياذة والأوديسة، وينشر سيرته الذاتية، ليتوفى في الرابع من كانون الثاني عام 1679، يطلق جون لوك لقب الفيلسوف المغامر على هوبز ويكتب:" لقد أبدى هوبز شجاعة ملحوظة في نشر أفكاره كان يعلم إنها ستثير ضده السلطات الكنسية والسياسية معاً.. والحق أنه لم يرتعد قط وهو يدخل معارك فكرية بالغة العنف والقوة، ولم يشعر بوهن وهو يكيل الضربات المتلاحقة للكنيسة ورجال الدين والفكر الأرسطي وأنصاره ".

شكل هوبز صداعاً مزمناً لمعاصريه الذين اطلقوا عليه لقب " وحش ما لمسبري " نسبة الى مسقط رأسه، ووصفه رجال الدين بانه " زعيم الملاحدة ورسول الكفر "، فيما اعتبره رجال السياسة مصدر إزعاج في البلاد لا حد له، والغريب ان الكنيسة والبرلمان اعتبراه سبباً في انتشار الطاعون عام 1665، وحريق لندن الكبير عام 1666، وكانت الناس تبحث عن سبب لهذه الكوارث، فقدم لهم رجال الكنيسة كبش الفداء إنه " هوبز الملحد " حيث أشاعت الكنيسة أن كتبه وما فيها من إلحاد وهرطقة هي سبب غضب الرب ونقمته، وقد اضطر البرلمان أن يشكّل لجنة لإعداد قائمة بالكتب الملحدة، وكان كتاب " اللفياثان " على رأس القائمة بل ذهب بعض النواب الى المطالبة بحرق الكتاب ومؤلفه لولا تدخل الملك الذي أنذر هوبز بالتوقف عن الكتابة في أي موضوع يثير حفيظة الكنيسة، وفي سيرته الذاتية نتعرف على السنوات الأخيرة من حياته التي حُرِم فيها من الكتابة فقد كان يستيقظ في السابعة صباحاً، حيث يمارس رياضته المفضلة المشي وخلالها يبدأ بمناقشة بعض الأفكار في ذهنه، ثم يذهب الى البيت ليدونها بشكل سري، وفي المساء يمارس رياضة صعود بعض التلال، ليعود بعدها يغلق عليه باب حجرته ويبدأ بالغناء بصوت عال، فقد كان يعتقد أن الغناء يفيد الرئتين ويؤدي الى إطالة العمر.

يعتبر كتاب " اللفياثان " من الكتب المؤسسة لنظرية فلسفة الدولة، ولعله الأكثر تأثيراً في السياسة بعد كتاب الأمير لمكيافيلي، وتقوم فكرة الكتاب على أن البشر أنشأوا تقاليد سياسية للحكم والدولة استناداً إلى قدراتهم ومخاوفهم وطبائعهم الخاصة، وليس بناءً على الغيب أو تعاليم الدين، ونجد هوبز يجعل الإنسان موضوعا أساسيا للقسم الأول من كتابه، فالإنسان: " في سعيه لأن يعيش في سلام ووحدة، وفي تطلعه وميله إلى السعادة فكّر في السلطة، ولكنها (السلطة) رغبة دائمة لا تهدأ، ولا تنتهي إلا بالموت؛ والسبب في ذلك أن الإنسان لا يستطيع ضمان القوة ووسائل العيش الجيد التي يملكها الآن دون أن يقتني المزيد منها، ومن هنا نتج أن الملوك الذين يملكون السلطة الأعظم يوجهون جهودهم نحو ضمانها في الداخل بواسطة القوانين، وفي الخارج بواسطة الحروب، وعندما يتم لهم ذلك تنشأ رغبة أخرى ". بعد ذلك يناقش هوبز مفهوم الدولة الذي يقسمه الى ثلاثة أنواع، " نظام ملكي"، أو " ديمقراطي " أو " فئوي " أي أرستقراطي، وهو يحدد الفرق بين هذه الأنظمة بقدرتها على تأمين السلام والأمن للشعب، وهو الهدف الذي أدى إلى إنشائها، ولما كانت أهواء البشر عموماً أقوى من عقولهم، ويشمل ذلك بطبيعة الحال الحكام، فإنهم سيرجِحون مصالحهم الخاصة على المصالح العامة إذا تعارضتا، والحل كما يرى هوبز، أن تكون مصالحهم الخاصة هي مصلحة الناس العامة.

ويؤكد هوبز أن جميع المصائب والكوارث التي تلاحق الإنسان، إنما تنشأ بسبب الحروب، وهو يحدد الحروب الأهلية بشكل خاص، لأن من هذه الحروب تنشأ المذابح، والعزلة، والافتقار الى كل شيء، لكن سبب الحرب ليس هو أن الناس يريدونها، بل لأن الناس تجهل أسباب الحرب وأسباب السلم أيضاً. فالحروب الأهلية تحول دون كل صناعة، وكل زراعة، وكل رفاهية، وكل علم، وكل أدب، وكل نشاط اجتماعي، بل انها تخلق ما هو أسوأ من هذا كله، الخوف المستمر من الموت العنيف. إن الحياة " متوحِدة وفقيرة وفظة وحمقاء وقصيرة " ولهذا ينبغي الخروج من هذه الحالة، لئلا يتم دمار الجنس البشري، والإنسان يملك إمكانية الخروج من هذا الخراب، إذا ما استطاع أن يضع بنوداً للسلام يتفق عليها مع الناس الآخرين، ويناقش هوبز موضوعة التنافس على الثروات التي يجد أنها الدافع إلى النزاع والعداوة والحرب، وهو يؤكد أن الناس المعجبين بحكمتهم يملكون استعداداً للطموح، والجهل بالأسباب، والتكوين الأصلي للحق والإنصاف والقانون والعدالة يجعل الإنسان مستعدًّا لأن يتخذ من العادة والمثل قاعدة لأفعاله، والجهل بالأسباب البعيدة يجعل الناس مستعدين لنسبة كل الأحداث إلى اسباب مباشرة وذرائعية، والجهل بالأسباب الطبيعية يجعل عند الإنسان استعداداً للسذاجة؛ فيصدق أشياء مستحيلة: " حين يكون المرء متأكداً من أن هناك أسباباً لكل الأشياء التي حدثت في السابق وستحدث فيما بعد يكون في حالة قلق دائم ".

وبناءً على طبيعة الإنسان وغرائزه ينشئ هوبز فهماً للحق والحرية وقانون الطبيعة، فالحق بمقتضى الطبيعة هو حرية الإنسان في أن يستخدم قوته وفق ما يشاء هو نفسه من أجل الحفاظ على طبيعته، وبعبارة أخرى الحفاظ على حياته، وبالتالي في أن يفعل كل ما يرى بحكمه وعقله أنه أفضل السبل لتحقيق ذلك. والحرية هي غياب المعوقات التي تمنع الإنسان من استخدام القوة طبقاً لما يمليه حكمه وعقله. وقانون الطبيعة هو مبدأ يتخذه العقل لمنع الإنسان من فعل ما هو مدمر لحياته، أو ما يقضي على وسائل الحفاظ عليها.

يعالج هوبز علاقة الحكومة المدنية بالكنيسة، وذلك لان كتاب " اللفياثان " وضع في ظل حروب أهلية سياسية ودينية معقدة، فالناس كما، يقول هوبز يجب أن يطيعوا قوة تضبطهم، فلا يمكن أن تترك مصالحهم وأعمالهم لتنظم فوضوي، وهكذا تتشكل الأمم حول التعهد بين الناس لمنح طاعتهم لشخص واحد هو الحاكم وليس النظام السياسي، او الكنيسة، لأجل أن يعيشوا بسلام !. ويعطي هوبز مفهوماً جديداً حول الطاعة الضرورية التي يجب أن يقدمها المواطن لبناء الدولة، وهو بهذا يقترب من ميكافيللي الذي ربط عجلة الدولة وازدهارها بما يقدمه لها المواطنون من طاعة وتنفيذ للقانون.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم