قراءة في كتاب

د. محمد عبد الرضا شياع: شموع لا تُطفئها الرياح

تقديم كتاب: شموع لا تُطفئها الرياح للكاتب: محمد حسين النجفي

يُعَدّ كتاب (شموع لا تطفئها الرياح) للكاتب محمد حسين النجفي نصّاً استعادياً كُتب في فصول متعددة، ينتظمها سياق الحكي الذي يتمحور حول شخصيّة الكاتب ذاته، وعلاقاته بالزمان والمكان اللذين تجري فيهما الأحداث، حيث يتفاعل الكاتب ومحيطه الخارجي مع الشخصيات التي شيّدت تاريخه الشخصي وفق جدلية التفاعل بين الذات والآخر، تفاعل ليس بالضرورة أن يكون إيجابياً.

لقد اعتمد الكاتب اللغة النثرية، مخلصاً في إيصال رسالته للقارئ المفترض، والذي أتصوّره يحكي له بأسلوب مشوّق، ويصمت عندما يجد قارئه المفترض شارد الذهن، أو متأمّلاً ناظراً في الأثر الذي تتركه الأحداث فيه، الكتاب سيرة ذاتية روائية كُتبت تفاصيلها بوعي عالٍ، والكاتب يحفر عميقاً في جدران زمن الحاكم الذي لم يتصالح معه في عهوده الملكية والجمهورية، وهو يقود العراق تاريخاً وشعباً، جغرافيّاً واقتصاديّاً من خندق إلى خندق، والشعب يدفع ثمن ولائه المطلق للوطن حياةً وحلماً.

ما استوقفني متبسّماً كيف أن الكاتب يقدّم، بشكل ساخر على امتداد صفحات الكتاب، مقولة (الزمن الجميل)، التي باتت لازمة تردّدها الأجيال ناقمةً من السلطات الزمنية المتعاقبة، وهي لم تعثُر على حلمها المهدور على يد الحاكم الجائر، فكلّما جاء ضوء فجر ظنّه الناس ضوءاً صادقاً، وإذا هو بداية ظلام ليل طويل، لقد تلمّس الكاتب محمد حسين النجفي مظان الخلل في الفهم الجمعي لموضوع (الزمن الجميل) قرأه وهو ينصت لجرحه الوجودي الأول، جرح ذاك الفتى الحالم حيث قيّدت يد السجّان الآثمة أفكاره المتطلّعة إلى وطن يشيّده فكر حر، وشعب يبني أحلامه برؤى تعانق آفاق الكلام.

أنجز الكاتب سرديّته بأسلوب السرد المباشر، فقلّما يوظّف تقنيات الاستباق والاسترجاع، بيد أن نصّه ظلّ معبّأ بالدهشة والانفعال، إذ أرى أن القارئ الذي عاش مثل هذه الوقائع المسرودة لا يملّ من متابعتها بعين ملؤها التفاعل والرغبة في الوصول إلى آخر الطريق، فهناك نقرأ ما هو سوسيولوجي مفرح ومؤلم في آن، وهناك ما هو أنثروبولوجي يفقس قشرة المحتجب والمحجوب وراء العادات والمعتقدات التي لم تفرضها الشرائع السماوية، ولا الأعراف الاجتماعية المعقلَنة، فالكاتب لا يقف موقفاً سلبياً من الدين أو المجتمع، بِقدْر ما يفضح عورات الاعتقادات البالية، والتصوّرات الخاطئة، التي برهنت الأيام على بطلانها.

أرى أن الكتاب يعرّفنا على عادات وتقاليد وألفاظ في بيئات عراقية لم نكن عرفناها أو سمعنا بها من قبل، فالكتاب تجسّدات ثقافية فكرية سياسية اجتماعية تاريخية، اجتهد الكاتب في تقديمها بالشكل الذي يدعو القارئ لمصاحبته بحميمية، حيث الأسواق والمقاهي والمكتبات والأزقّة والأعراس والسجون والمستشفيات والمدارس والمسابقات وقاعات الدرس وأروقة الجامعة ومدرّجاتها، والعلاقات العلمية البانية بين الأساتذة والطلبة، ووجود الدخيل في هذا الفضاء، شبكة من الأحداث الدرامية التي تشدّ القارئ إليها، وتأخذه إلى طرح الأسئلة على الذات والآخر، على الزمن المعيش والزمن الماضي، على استشراف المستقبل بروح يؤثّثها القلق والمشي  خلف الهديل.

يجد القارئ أن الكاتب هو الراوي، وهو الشخصية الرئيسة في كلّ الأحداث، وهو البطل في هذه السردية، لكنه ليس البطل المطلق، وإن لم يتنازل أمام عصرة القلب، وإن انتصر في نهايتها، لأنه قدّم ذاته ملبّدة بظلام الخوف من السلطان وأدواته، ينام مرتجفاً ويصحو مرتعباً، وهذا خوف إنساني، من هنا أراه قد اقترح ترجمة بديلة لكتاب سيمون دي بوفوار (قوة الأحداث) أو (تحكّم الأحداث) بدلاً من (قوة الأشياء)، وفي هذا اعتبار لصرامة الواقع وشراسته الذي عاشه الكاتب، وعاشه شعبه ويعيشه الآن، هذا ما نقرؤه في معظم فصول الكتاب، وهو يقارن بين الماضي والحاضر حين يتساءل كيف هي الحال الآن؟

إذا كان هذا الكتاب شهادة على عصر عاشه العراقيون بأفراحه وأحزانه، لا أغالي إذا قلت إنه رواية، على اعتبار أن كلّ رواية سيرة، هذا الكتاب، إذن، هو سيرة ذاتية روائية، هو خطاب أوتوبيوغرافي، أنجزته ذاتٌ متفاعلةٌ والشخصيات التي حضرت بأسمائها الصريحة موثّقةً بالصور، أو بالإشارة إليها خوفاً من أن يمسّها الأذى، سواء أكانت على قيد الحياة أم انتقلت إلى حياتها السرمدية، إذ نكش الكاتب ذاكرته النابضة بالوعي وبالحياة، وبالشواهد التي تبرهن على أن الأحداث واقع معيش، وأن بُناتها موجودون مثل جرح يحمله جسد الزمن القاسي، لكن هذه الواقعية ليست سكونية، وإن وظّف كاتبها الزمن الخطي، فهي واقعية حركية تفعّلها أصوات الحضور والغياب مثل صوت قطار يمزّق سكون الليل ودجاه.

***

الأستاذ الدكتور محمد عبدالرضا شياع

الولايات المتحدة الأمريكية

في المثقف اليوم