قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: مباحث قرائية في رواية (أغنية هادئة) للكاتبة ليلى سليماني

حيدر عبدالرضاحساسية المركز التبئيري وتقانة الدلالة المؤجلة

المبحث (1)


 توطئة:

حين نطالع مداليل اشتغالات رواية الكاتبة المغربية ـ الفرنسية، ليلى سليماني (أغنية هادئة: ترجمة محمد التهامي العماري) قد نسرح في نظرنا التأملي حول صور ووحدات فقرات وفصول هذا النص الروائي المثير حقا والحائز على جائزة غونكور لعام 2016، إذ إننا إزاء أفعال ومواقف وحالات ووظائف ميلودرامية لا نستطع الكف عن جنوح توقعاتنا القرائية من الخوض في سلسلة مقاربات ومقارنات في شتى تراكيب ومقولات الوحدات النصية السردية، التي منحتنا حبكة روائية ذات ملامح تأطيرية مكرسة في ماهية جدوى التمويه وتقانة الدلالة الذروية التي أجلت عبر تمفصلات حكائية روائية مشوقة ومغايرة في الوظيفة والوصلات المتخيلة من منظومة التراسل المشهدي المونتاجي الملغز.

ـ عنف الفضاء الاستهلالي وتقاطع فضاء العتبات المناصية

تتعدد ثيمات المواقف العلائقية في معطى جدل المتخيل المناصي في مستهل عتبات الرواية المدخلية، بما راح يكشف لنا عن تفاعلات مناصية عضوية ما بين منطقة العتبة والفضاء التشخيصي من متن علاقات موضوعة الحكي، بما جعل توافر صورة القراءة تكمن في حدود تحكمها ثنائية (التمويه ـ التقاطع)امتدادا سرديا نحو حصولات وقائعية من شأنها رسم المجال السردي على لسان ضمير المتكلم وعبر مسار ارتدادية واقعية متخيلة تتراوح ما بين قطبي (فضاء الداخل ـ فضاء الخارج) وعلى هذا النحو أخذت توافينا بادىء ذي بدء جملة تمظهرات خاصة من وقائع حادثة مشهدية ذات مؤشرات استباقية، أو هي بالأحرى من جهة ما الرغبة التأليفية من الكاتبة ذاتها في بث جملة ارتدادات من الشكل الحكائي المنصوصة في مواقع النص الروائي، عبر أشكال غيرية قادرة على الإيهام بالقارىء ثم بالواقعة السردية بواسطة تقانة (التأخير ـ التهدئة ـ التقديم) ولهذا وجدنا المتخيل الروائي معبرا في شرائط أولى من أفعاله النواتية كحقيقة مشهدية راحت تضمها جملة خيارات من العلاقة الارتدادية والعكسية من آفاق الواقع والمتخيل والمساحة الحكائية الممنوحة للشكل المسرود ضمن واصلات دينامية متقاطعة المساحة واللقطة الصورية وزاوية المشهد التركيزي وحدود حجم الصياغة التبئيرية في مستوى المسرود: (توفي الرضيع.لم يستغرق موته سوى بضع ثوان .. وأكد الطبيب أنه لم يتألم .. وضعوا جثته المفككة الأوصال، التي كانت تطفو فوق الماء مع اللعب، في كيس رمادي وأغلقوه .. أما الطفلة الصغيرة، فكانت لا تزال حية عند وصول النجدة .. دافعت عن نفسها بشراسة وقد عثروا على ما يدل على مقاومتها: قطعا من البشرة تحت أظافرها الطرية . / ص 9 الرواية) تخبرنا أولى وحدات المتن الروائي من حكاية الموضوعة الإطارية، فكرة موقع وقوع جريمة قتل لطفلين لا تتلاءم وأحادية وضع مبررات المشهد بكل دوافعه ومجسداته وأسبابه ضمن حيثيات واقعة الجريمة تحديدا. على حين غرة تظل شواخص الحادثة الروائية في حدود مستفهمة وحدية في عين شواهد الاداء والإيصال على النحو الذي بات يشعرنا بأننا إزاء عقدة غريبة في خيوط التأثير المرحلي من السرد الأول في مسرود الحكاية .

1ـ مؤثثات مسافة الحادثة الجنائية وتعليق مسافة المروي:

و تتخذ وصلات المكان وجودا مستقلا في علاقته بالشخوص، كما رأينا في وحدات المشهد المعروض قاب قوسين، إذ أن واجهة الواقعة للجريمة بدت وكأنها شريطا أخباريا منقسما بين وجهة نظر الراوي والموقف السردي، فلا يبدو هنا السارد كلي العلم، وأنما هي عين الكاميرا التي أخذت تنقل لنا كل ما يقع عليه بصرها عبر مسافة المشخص التوصيفي من قلب الحادثة: (كانت الأم مصدومة. هذا ما قاله رجال المطافىء، ورددته الشرطة وكتبته الصحافة. حين دخلت الغرفة التي كان يرقد فيها طفلاها بلا حراك ندت عنها صرخة آتية من الأعماق، أشبه بعواء ذئبة، أهتزت لها الجدران.. وحين خيم الظلام تلك الليلة من ليالي مايو تقيأت.. وقد اكتشفتها الشرطة على هذا الحال، بملابسها المتسخة، مقرفصة وهي تشهق كالمخبولة . / ص10 الرواية) وعلى ضوء تفاصيل هذه الواقعة الحاصلة من أنساق الجريمة، نتوصل إلى السؤال القلق منا بشأن مسرح هذه الفاجعة قولا: إية دوافع ثابتة تكمن خلف هذه الجريمة؟ وما طبيعة بناء وتقديم الروائية سليماني لحادثة القتل بدءا فالاعتبار الأولي من زمن مستهل النص المدخلي؟ وما هو المتعلق الموضوعي في بناءات المواقف والمشاهد المتممة لمقدمات حكاية الرواية كونها الأسباب الحاصلة أعتقادا في خلق وحدات التقارب والتدليل للوصول إلى مرحلة القتل أنتهاء بالمعنى الأحداثي في النسق السردي؟ في الواقع تتبين لنا في الفصول اللاحقة من الرواية، ثمة علاقة تمهيدية وتأطيرية من شأنها تبرير عملية عرض واقعة القتل استظهارا استهلاليا حتى تتبين أواصر العلاقة التدويرية من النص، ولكننا عندما نتوجه بالنظر إلى عتبات الرواية كقيمة مناصية تتوضح لنا الصورة الارتباطية في النص العتباتي كقيمة مرتبطة في دليل مؤشر وتحولات مراحل النص البنائية. فعلى سبيل المثال نعاين هذه العتبة المقتطعة من رواية الجريمة والعقاب لدوستوفسكي: (وتبادرإلى ذهنه فجأة السؤال الذي طرحه عليه مارميلادوف في الليلة السابقة: أتفهم يا سيدي؟ أتعرف معنى ألا يكون للمرء مكان يذهب إليه؟ لأنه يلزم كل شخص مكان يأوي إليه) وقد وقد أتخذت عتبة مناصية أخرى شكلا إيحائيا بذات المنحى من الدلالة تخبرنا تمفصلاتها عن هذه المروية المقتطعة: (جاءت الآنسة فيزي من وراء الحدود للعناية بأطفال أحدى السيدات [...] وصرحت السيدة أن الآنسة لا تصلح لشيء، خمولة وغير نظيفة، لم يخطر في بالها قط أن الآنسة فيزي حياتها الخاصة وشؤونها التي تؤرقها . / حكايات بسيطة من التلال ـ روديار كيليبنغ) لعل ما تحمله دلالات هاتين العتبتين من بداية فضاء المناصات النصية في أولى مقدمات الرواية، ذلك بأستثناء عتبة العنونة، التي سوف نتحدث عنها في مرفق مبحثي خاص في مباحثنا الدراسية القادمة، أقول أن الدليل والمؤشر في مدخلية الفصل الأول من الرواية كان مثارا شكوكيا حول واقعة وموقع شخصية المربية في مسار الحكاية الروائية، ومدى علاقتها الوطيدة بمواقف وحياة عائلة المحوران المركزيان في عائلة الطفلين المقتولين . ولكننا قبل الشروع بتحليل تمفصلات البناء الروائي في حكاية (ليلي سليماني) أجد يحق لنا القول بأن مجسد التقديم إلى هذا الفصل الأول أهو بمثابة المدخل إلى متن حكاية الرواية عبر خصوصية ما أو تقانة حكائية تأطيرية ما؟ أم أن سليماني أرادت بث لواعج الوالدان للطفلين المقتولين كمقدمة تتخطى من خلالها كل عوائق الوصول إلى قلب الوضوح البيني في حبكة الرواية، خصوصا ونحن نصادف مثل هذه الوحدات من مدخل الرواية كحالة استباقية للزمن الروائي: (هكذا مرت على المخبزة قبل أن تدخل إلى الشقة، واشترت خبزة وحلوى للأطفال وكعكة بالبرتقال للمربية، فهي تعشق هذا النوع من الكعك / كانت تنوي أخراجهما ليلعبا في الأرجوحة الدوارة، ثم تأخذهما معا لشراء ما يلزم للعشاء، ستطالبها ميلا بأن تشتري لها لعبة وسيمص آدم قطعة خبز وهو في عربته . لكن آدم مات، وميلا تلفظ أنفاسها الأخيرة . / ص11: مدخل الرواية) على هذا الحد من مأساوية هذه المدخلية الروائية التي باتت تصف لنا أطفالا أمواتا لا تعرف لهم سببا ولا أية دلائل مصدرية من شأنها الإفصاح عن أوجه المسبب المباشر للقتل، لذا فنحن إزاء أفعال إيمائية تمويهية ذكية أخذت تؤشر لنا حبكة الرواية عبر مساحة مقطوعة من التمهيد والتدليل، ودون حتى معرفتنا سوى أن والد الطفلين أسمه بول في بداية الفصل اللاحق الذي يخبرنا على لسان السارد بأنه يجد بالبحث عن مربية لطفليه آدم وميلا، دون أن تكون هذه المربية على وجه من الدقة تحيا في كنف فئة المهاجرين، خاصة وأنه يتعامل مع مسألة رعاية الأطفال في أشد محمولات التحفظ والسرية، ذلك لأن الزوجة مريم هي أيضا غير متفرغة إلى عملية الرعاية مؤخرا، وهي الموظفة الناشطة في قاعة المحاكم الجنائية مؤخرا . إذن الزوجان بول ومريم الأثنان بحاجة إلى مربية متفتحة وواعية في شؤون رعاية الأطفال بطريقة خاصة، لذا وجدنا مستقبل الزوجان والطفلين مرهون بوجود تلك المربية المثالية: (بينما كانت مريم تتحدث مع صديقتها أيما عن أبحاثها قبل ذلك بأيام، أشتكت لها من المرأة التي تتكفل بأطفالها ـ المربية لها ولدان هنا ومن ثمة لا تستطيع أبدا أن تتأخر أو أن تعتني بالأطفال خارج أوقات عملها ـ لذا فهي غير مناسبة، لا تنسي هذا الأمر خلال المقابلات، أن كان لها أطفال فمن الأفضل أن يكونوا في بلدها / شكرتها مريم على النصيحة، لكن هذا الكلام أزعجها في الواقع، فهي تستفظع فكرة حرمان امرأة من العمل بسبب أطفالها . / ص12 ص13 الرواية) هكذا كانت تعلق مريم مصير خيباتها على مسؤولية إعالة طفليها، ذلك لكونها الناشطة في وظيفة المحاماة الجنائية، التي قيدتها حياة أمومتها إلى أبعد الحدود عن ممارسة مهنتها المحببة إلى نفسها، لذا نجدها على خلاف دائم مع زوجها بول الذي يرتضيها كأما مسؤولة، دون الحاجة الماسة إلى وظيفة المربية إطلاقا: (لم تقدر خطورة كلامها .. فقد عقد وجود الطفلين كل شيء: التسوق والتحميم وزيارة الطبيب وأشغال البيت وتراكم الفواتير .. وأظلمت الحياة الحياة في عين مريم وصارت تكره الخرجات إلى الحديقة .. شرعت تبدو لها نهارات الشتاء طويلة بلا نهاية، وبدأت نزوات ميلا تضايقها . /ص15) تخبرنا الأحداث في الرواية على حال لسان الراوي، أن الطفلة ميلا لم تكد تبلغ عامها والنصف حتى تمكنت بفضل الله مريم من الحمل مجددا، فيما بقيت تبرر لصديقاتها خطأ حملها هذا بذريعة أن عقاقير مانع الحمل لا تقي من وقوع الحمل بالنسبة الأكيدة، وفي وقت تخبرنا الرواية في بأنها هي من تعمدت هذا الحمل ببساطة، ذلك لأن وليدها آدم كان بالنسبة لها أشبه بالذريعة التي تجعلها لا تفارق دفء البيت عند أول حياتها الأمومية مع الطفل الأول، ولكن مع مرور الزمن، أصبحت مريم ترغب في معاودة حياتها المهنية مجددا بعد رفضها لها سابقا: (ثغثغات آدم لم تعد تبالي بها .. ويوما بعد يوم كانت رغبتها في المشي وحيدة تتزايد .. ودت لو تخرج إلى الشارع وتصرخ كالمجنونة .. كانت تقول في نفسها أحيانا: إنهم يفترسونني حية . / ص16 الرواية) وما لبثت مع الزمن الضيق بجوار طفليها متوترة وعلى أقصى درجة من الغيرة من زوجها بول الذي يعمل كمساعد في استوديو لتسجيل أشهر أصوات الفنانين في الغناء والموسيقى، إذ أصبح منشغلا طوال نهاراته ولياليه، فيما كان يغط في الليل إلى جانبها في منامات غائرة، ذلك النوم الذي يشف عن مدى أرهاقه المرير في العمل طوال يومه .

ـ تحولات المسار الشخوصي من فضاء المغلق إلى الخارج

في الحقيقة أن مستوى خيارات الزوجة مريم في دوامة عزلتها الأمومية داخل فضاء البيت المغلق، خلقت لديها عادات غريبة، أولها كان شعورها بالتوتر المزمن على مدار الساعة، وثانيها أكتسبت مؤخرا عادة ذميمة وشاذة لا تتصف بها سوى من مارس سوء الطالع التربوي والأخلاقي تماما، فعندما كانت تتسوق عادة في المتجر الموجود في شارع مؤاخم إلى منزلها بمسافة قصيرة، لاحظت بأنها تختلس الأغراض من رفوف المتجر اختلاسا دون معرفتها ما تشكله حقيقة هذه العادة السيئة في نفسها من نشوة خاصة . كانت تسرق الجوارب وعلب الشامبو أو المعاجن أو قطعة رخيصة من مسحوق أحمر الشفاه، في حين كان أغلب ما تقوم بسرقته لا تستعمله في عادتها اليومية، ولكن حصولها على نشوة السرقة، هو ما يجعلها متحررة إلى حد بعيد من قالب حياتها النمطية المكررة: (ولما ألتقت صدفة بباسكال وهو زميل لها بكلية الحقوق، تطيرت منه . لم يلحظها لأول وهلة . كانت ترتدي سروالا واسعا وحذاء باليا . أما شعرها فأمسكته بعقيصة . كانت واقفة قبالة حصان خشبي رفضت ميلا أن تتركه، وراحت تردد في كل مرة تمر أماما أبنتها: هذه آخر دورة؟ رفعت بصرها فإذا بها ترى باسكال يبتسم وقد فتح ذراعيه أبتهاجا بلقائها / لكن باسكال بالكاد نظر إلى الطفلين .. لم يسألها عن أسميهما .. حتى آدم النائم في عربته، بوجهه الهادىء الرائع، لم يثر ـ فيما يبدو ـ حنانه، ولم يؤثر في مشاعره . / ص17 ص18 الرواية) .

1ـ المبأر من الداخل وعمقه من الخارج:

من خلال وحدات مساحة السرد التي أعقبت حادث لقاء مريم بزميلها باسكال، أخذت تفكر طوال ليلتها إلى درجة أنها لم تنم وباتت تسرح بها تخيلاتها في كل إطار الأحاديث التي ربما قام الآن نقلها باسكال بسخرية مريرة إلى أصدقائه القدامى في الجامعة حول مظهر زميلتهم مريم، فهي كم تتصور بألم بالغ وجوههم الهازئة الآن وباسكال ضاحكا يصف لهم منظر مريم بثيابها الرثة بصحبة طفليها، وعلى هذا النحو المفترض، جعلت مريم تحتمل حدوث السخرية وسط زملائها في الجامعة سابقا من جراء منظهرها العاق، خاصة وأنها لم تحقق أدنى درجة من حياتها المهنية التي كانت عازمة في الوصول أليها يوما ما بكفاءة كبيرة، ولكن هناك ما حدث وقد غير كل توقعات مريم على حين غفلة: (بينما هي خارجة من الحمام سمعت اشارة رسالة نصية على هاتفها: لست أدري ما إذا كنت تفكرين في العودة إلى المحاماة .. كادت تهتف من الفرح .. مضت تقفز في الشقة وتقبل ميلا التي قالت لها: ماذا جرى يا ماما؟ لماذا تضحكين؟ .. وتساءلت فيما بعد عما إذا كان باسكال لاحظ عليها علامات الإحباط، أم أنه أعتبر العثور على السيدة مريم شرف بالصدفة، الطالبة التي لم ير في حياته من تفوقها . / ص19 الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

قد لا تقدم الفصول الأولى من رواية (أغنية هادئة) للروائية القديرة ليلى سليماني كل أبعاد ومشخصات دلالاتها الحبكوية الحاذقة بادىء ذي بدء، بل أننا نسعى إلى تقديم في مباحثنا القادمة أهم ثيمات هذه الرواية الكبيرة في لغتها وجموح أبعادها السردية المعمقة من الناحية البنائية والأسلوبية، لذا أخترنا ورقة هذا المبحث الأولي والتمهيدي، لأجل الأشارة التعريفية فحسب إلى علاقات الوحدات السردية في هذه المدخلية الأولى من النص، والتي هي بمثابة الإحالة التمهيدية في رسم أوليات الموضوعة الروائية التي تستحق منا كل الإحاطة التامة بكل زوايا وأشكال خصوصيتها البنائية والخطابية والمنظورية الموغلة في تعددية وسائل الحبكة الواصلة إلى أقصى مواقع متواليات التشويق والدهشة والانتظار والاستجابة إلى مفاتيح الدليل الروائي المكثف .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم