قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: دراسة في تراث أقاصيص إدغار آلن بو (3)

حيدر عبدالرضاقصة (ليجيا) إنموذجا.. مرايا الذاكرة الأفيونية وتعددية نوبات اللاوعي الممكن


 توطئة: يمنحنا إدغار ألن بو في مجال حياة نصوصه القصصية الكبيرة، ذلك السارد العليم المتميز هي مواقع قصه، فالكاتب في كافة نصوصه لا يمنح نصه نفسه، سوى ذلك الوجود الضمائري المرتكز بوظيفة ثنائية (المؤلف ـ السارد العليم) فوق منظومة الأحداث وآفاق الحكي كفاعلية مخصوصة تنهض بالفكرة القصصية نحو أفعال وخطاب يؤطره الواصل المشدود إلى الماضي والتحيين به في ظروف علاقة مؤسطرة من واقع ذات أوجه فنتازية أو سوداوية تحكمها غالبا هوية آنوية مضمرة ترسل عادة عبر اداة الحكي كمتعينات ظلت تتراوح ما بين الحصول أو اللاحصول المقارب في منظور المادة المحكية الخاصة بصوت ومحققات السارد العليم ضمن مرآة الشخصية القصصية في النص.لذا وجدنا قصة (ليجيا) كحكاية اكتسبت في طابعها الممارس كوحدة نفسانية وعاطفية من شأنها تجميع وحدات اللقطات والمشاهد ضمن مصورات كاميرا ذاكراتية مشبعة بتأوهات الانسلاخ الفعلي عن شواهد الواقع العيني مرة، وتباينات العلاقة الواضحة في مشخصات رؤية العالم بطرائق قصدية متتالية مرات عديدة، وعلى هذا النحو من التقييم و المقاربة واجهتنا المدخلية الاستهلالية للنص محملة بآثار صوت (السارد ـ الشخصية) وكأنها تعاود مراجعة مستوى صياغة الذاكرة المستعادة بما يحقق للصياغة الحبكوية إطارية استهلالية مؤهلة عن عوالم هلوسة الأفيون، حيث تكمن من خلاله عشوائية الظروف الواقعية القلقة ورواسبها المندمغة في محافل أعيان الأحداث ومحافل صورية الأبعاد الكابوسية في فضاء النص الشخصاني.

ـ العلاقة الداخلية ودلالة المقاربة السيرذاتية للشخصية.

أن النظام الاستهلالي في طبيعة قصة (ليجيا) يفرض على المؤلف تكثيف اللحظة الأولية من نقطة وزاوية السير ذاتي للشخصية وتعاملاتها المختزلة في علاقة النص الداخلية المضغوطة، إذ إنها من جهة هامة أي ـ السيرذاتية ـ يشغل لذاته ذلك المكون الملازم في مجرى حدوثات الشخصية عبر أفق ملفاتها النفسانية المغرقة في مشاهد اللاوعي الشخوصي، بحكم كونه الصياغة الذاكراتية المخصوصة في مسار سلوك الشخصية ذاتها إلى جانب هواجسها المغمورة والمشوشة والبعيدة عن صفاء القابلية الواعية في تشخيص مواطن رغباتها الحقيقية التي بدت لنا وكأنها حالات انفعالية من تشوش الذاكرة وغياب صفاء اللحظة الزمنية المقررة في النص: (لا أقدر أن أتذكر كيف ومتى التقيت بالليدي ليجيا للمرة الأولى ولا أين تم ذلك اللقاء.. سنوات طويلة مضت منذ ذلك الحين وقد أوهنت النكبات والآلآم ذاكرتي.. أو لعلي لا أقدر الآن أن أتذكر مثل هذه الأمور.. لأن صفات حبيبتي وعلمها النادر، ومسحة الجمال والوداعة الفريدة التي كانت تتحلى بها ./ص37) من الواضح إن ألن بو لا يحسن في فقرته هذه، كيفية لملمتة فكرته المخصوصة في توحيد الزمن بالصورة الإنشائية الصادرة عن محمول اشارته الاستهلالية، فهو من ناحية ما لا يتذكر جيدا تأريخ لقاءه بشخصية ليجيا، وتارة أخذ يحصي لنا محاسنها وصفاتها الدقيقة وآثارها على ذاكرته المشوشة، فكيف هذا؟لاسيما وأن عملية الأحصاء أصعب من تذكر تواريخ زمنية محددة، قد يكون ألن بو من جهة ما، يسعى إلى خلق حالة تمهيدية لشيء متعلق بالذاكرة فحسب، خاصة وأن المتن النصي، يخبرنا بأن الشخصية يقوم بتدوين هذه الحكاية ولا نعلم شيئا عن طريقة ونوعية هذا التدوين سوى الكتابة على لسان الحادثة وأفعالها المتشكلة في مستوى قابلية خاصة من الحكي: (أعتقد أننا كنا نلتقي في مدينة كبيرة هرمة قرب نهر الرين.. وقد سمعتها تتحدث عن عائلتها، التي كانت عائلة قديمة ولا شك:ليجيا!ليجيا!تكفيني وأنا الغارق في دراسات تخفف من انطباعات العالم الخارجي./ص37) .

1ـ حيادية الفضاء المتخيل وخصوصية التداخل بالمسرود العرضي:

بهذا الشكل من التلقي لأحداث ضمير السارد، قد نتصور بأن اللغة المتعينة في مساحة الوحدات السردية حلت بروح جعلت تختصر الأشكال المكانية بهوية متكونة من ثنائية ذاكراتية ـ سير ذاتية ـ مفرطة في عوالمها الداخلية، وهذا ما لمسناه بدقة في الوحدتان (سمعتها تتحدث عن عائلتها ـ كانت عائلة قديمة) وما يميز هذا النوع من التخييل، قدرته على حكي الفضاءات الحيادية ضمن حدود مرسلة ومتحولة كما يتضح في شكل هذه الترسيمة المبسطة: (فضاء ذات واقعية حيادية ـ علاقة متخيلة = مغلقة ـ لغة مستعادة) وفي سياق تصعيد الثيمة كإحالة مؤشرة على صورة مسوغة من العلاقة السردية نقرأ ( تكفيني هذه الكلمة العذبة ليجيا، لأستحضر في خيالي صورة المرأة التي لم تعد في الوجود، والآن بينما أكتب ، تتجمع في ذهني أفكار كثيرة، منا أنني لم أتوصل قد إلى معرفة عائلتها، وهي التي كانت صديقتي وخطيبتي والتي أصبحت شريكة دراستي، وأخيرا زوجتي.. أكان ذلك عبثا من قبل ليجيا؟أم كان امتحانا لقوة حبي، أنني لم أفطن أن أتساءل عن هذا الأمر؟أم أن ذلك كان نزوة هوى مني./ص37) تحينا صنعة المتخيل في سلوكيات الشخصية إلى تساؤلات ملامسة لحقيقة جوهر الحكاية، ما يجعلنا نعلم بأن خصوصية الكتابة لدى تمثيلات الشخصية القصصية، أخذت تتلمس وظيفتها من خلال المعى الغائب في حافزية الدلالة المضمرة.فالشخصية تروي حكايتها ثم تتمرأى في كتابتها للنص المذكراتي كما يبدو لنا، وهذان الحدان هما خلاصة منظور (التحفيز الخطابي) وليس الحكائي بالضرورة، ذلك لأن المرسل في الحكاية يشكل حاضرا متجاوبا إزاء أفق مستعاد بالتذكر، ولطالما أن المستعاد يروى بصيغة المسرود، فذلك بناء وتشييد لزمن ماضوي متصلا وحدود ذاكرة خارج الخطاب النصي، على أية حال يروي لنا (السارد العليم) عن الضمير الشخوصي ، بمدى حبه إلى ليجيا، ولكنها الآن هي في غياهب الموت، وذلك ما يعكس لنا حال وقفة زمنية معطلة عن مفعولها الواصل بالموقع المتماثل شخوصيا، ولكننا رغم فعل الغياب للشخصية ليجيا، قد يمنحنا استذكارها من خلال المسرود القصصي، علاقة مخصوصة في سرية الأمكنة و الزمن المتسربل بروح الحكي المتتابع من قبل ضمير المتكلم العليم: (هناك موضوع واحد لا يمكن لذاكرتي أن تخونني في ما يتعلق به، ذلك هو الشخص ليجيا.كانت ذات قامة طويلة تميل إلى النحافة وفي أيامها الأخيرة، صارت نحيلة جدا.. أحاول العبث أن حاولت أن أصف الرشاقة والمهابة في حركتها، أو الخفة العجيبة التي تميز خطواتها.كانت تأتي وتذهب كالظل.لم أكن أستطيع أن أشعر بدخولها غرفة مطالعتي حتى تأتيني موسيقى صوتها العميق الحلو وهي تضع يدها الرخامية على كتفي.. أما في جمال الوجه فلم تكن تدانيها أية فتاة.. كانت تألق حلم أفيوني ـ رؤيا صوفية تجنح الروح، أكثر قدسية وغرابة من الخيالات التي ترفرف فوق الأرواح الهاجعة لبنات ديلومس.. /ص38) .

2ـ تمثيلات المشاهدة الحسية ومناجاة الدليل الحلمي:

قد لا يبدو من الغريب أن إدغار ألن بو، كان يحيا داخل إيهامات طاقة صورية ما مستلهمة من خلال أيقونة أو هيئة فكرة فنتازية ما، فهو عندما يصف لنا شخص ليجيا، تتضح لنا وكأنها لوحة مرسومة ومعلقة في أحدى متاحف القرون القديمة، أو أنها رمزية أيقونية شكلها بو في مساحة وصلات حكايته الأفيونية ، لتجسد له أسمى علامات المحورية للمرأة المثال، ذلك ما يقودنا بالدليل القاطع على أن وجود هذه الزوجة في حياة الشخصية كانت مقرونة بأوصاف مؤسطرة: (عينان لا مثيل لهما في أقدم الأزمنة ـ نعومة الذقن اليونانية وجلالها ـ كما كشفها الإله ابوللو في الحلم لكليومينس ـ أكثر قدسية وغرابة من الخيالات التي ترفرف فوق الأرواح ـ لم أكن أشعر بدخولها غرفة مطالعتي ـ تضع يدها الرخامية على كتفي ـ الظفائر الغرائبية الكثيفة ـ كانت الألوان تمتزج) بهذا المنحى تساورنا أساليب ألن بو في تشريح عوالم الصور وهيئات اللوحة وفضاءات المؤسطر الأيقوني، في مقابل ديمومة الفعل السردي المسرود وكثافة مشدوداته المموهة لصورة وخيال هذه المرأة الأيقونية.ومن هذا المنظور أيضا يطل الكون القصصي في متوالية زمنية سردية غير محسوسة ولكنها مفروضة من قبل ناصية رؤى الشخصية الغارقة في عوالم اللاوعي وتصوراتها الأفيونية، وصولا بها إلى خفايا تمثيلات ليجيا المتخيلة من قبل الشخصية المحور ضمن فواعل نصية تسعى إلى حد التوهيم بوظائفها ومكوناتها المتماهية في علامة أيقونية مشخصة في مادة المسرود القصصي.

ـ الواصف بين وقائع الفقد وسرانية التحول.

قد يكون استحضار زمن الحزن أشد ألما من حدوثه الواقع، هكذا تشخص لنا محكيات النصف المتوسط من النص، حكاية مرض وموت ليجيا، إلى درجة وصول الوصف في المتن النصي كعلامة ملحمية تتراوح ما بين الواقع والحلم والغرائبية، ولكن يبقى ثمة سؤال يطرح ذاته في خصوص أدب ألن بو القصصي: هل أن حياة المتخيل في نصوص بو عبارة عن مرآة مدمرة للواقع النصي، أم أنها معمارية رمزية غائرة في أسلبة التغريب والفعل السوداوي الناتج من حقيقة وهوية الذات الكاتبة؟أم أنها موضة تقانية عصر ألن بو ومركب ناظمها الأبداعي المهيمن انذاك؟تخبرنا حياة الشخصية بعد موت ليجيا عن انتقاله من مكان بيته القديم: (بعد أشهر قليلة من التجوال الضال الذي لا هدف له، أشتريت ديرا، لن أذكر أسمه، في أحدى الأماكن الغربية النائية من انكلترا الجميلة.الأبهة الحزينة والعظمة الشاحبة لذلك المكان، والغرابة الوحشية للمنطقة والذكريات القديمة الكئيبة.سأقصر كلامي على تلك الغرفة الملعونة التي قدمت إليها في أحدى ساعات النسيان، عروسي ـ بعد ليجيا التي لا تنسى ـ الليدي رووينا تريفانون أوف تريمان.. رووينا ذات الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين.. لا يمكن أن تغيب عن عيني قطعة أو جانب من غرفة العرس تلك./ص42) .

 

 

1ـ الثيمة الحكائية وفاعلية القرائن السردية المضمرة:

تشتغل الثيمة الحكائية في أواخر النصف من النص، وبعيدا عن أي تأويل إسقاطي ما، نقول أن النسيج السردي في هذا الحيز من النص، ذو ملامح موحية وجاذبة ومنقسمة على ذاتها لا تمتلىء بغير تراكم تشاكلات جملة قرائن إيحائية اختلافية، هي من الالتحام والانشطار النصي، ما راح يجعلنا نعاين دخول عناصر خاصة من الفنتازيا أو العجائبية في مثل هكذا وحدات من النص، ذلك بعدما مرضت الزوجة الثانية وغدت طريحة الفراش، تتلفظ حياتها المتسربلة ما بين غيبوبة الوعي وأطياف الموت: (حوالي مطلع الشهر الثاني لزواجنا أصيبت الليدي رووينا بمرض فجائي، لم تشف منه إلا ببطء شديد وقد عانت خلال المرض من ليال قلقة مضطربة بسبب ارتفاع الحرارة، وكانت تتحدث وهي بين النوم واليقظة عن أصوات وحركات في البرج، وهو ما عزوته إلى تشوش ذهنها، أو إلى تأثير الغرفة وأشباحها المتغيرة./ص44) ولما كان المكان (الغرفة.. البرج) مجالا ملمحا لكشف قرائن نصية معادلة في الشعور أواللاشعور في ظل تفاصيل حياة الزوجان، فيما ظل الفضاء النصي حمالا لأوجه مغايرة ومخالفة لحياة الزوجة الأولى المتوفاة ليجيا بالنسبة للزوج ، فهذه الزوجة الأخيرة ، لم تحب الزوج إطلاقا ، فيما كان الزوج يشعر ببرود علاقة زوجته به تماما، بيد أنه راح وفي كل لياليه ونهاراته يتوهم طواف شبح ليجيا في أرجاء غرفته، بدءا من الأثاث المرصوص في صالة الاستقبال، وحتى إلى السجادة في غرفته الزوجية: (غرقت من جديد في تأملاتي وتصوراتي لليجيا ـ ومن جديد ـ هل تصدقون أن القعشريرة تعتريني بينما أكتب هذا ـ من جديد بلغت أذني زفرة خافتة آتية من منطقة السرير الأبنوسي.. كان القسم الأكبر من الليلة المريعة قد مر.التي كانت ميتة تحركت من جديد ـ وهذه المرة بنشاط أكبر، مع أنها تنهض من موت مرعب بدا أن لا صحوة بعده.كنت قد توقفت منذ فترة طويلة عن محاولة أو حركة، وبقيت مسمرا على الأريكة غارقا في دوار من الانفعالات العنيفة، كان الرعب اللامتناهي أقلها فظاعة وهولا./ص46) أن المعاينة بالملاحظة منا بأن جسد هذه الزوجة يموت ثم يعود إلى الحياة، جاءت كحالة استباقية داخلية من الشخصية المتكلمة ذاتها متخذة هيئة وقالب اليقين بأن الزوجة تموت تارة وتحيا تارة أخرى، ما جعل عملية الترقب من جهة الشخصية من جهة الزوج، متفتحة في فعلها الباطني ـ اللاوعي ـ بأن الزوجة تموت وتحيا دون الاعتقاد منه بأنها قد تكون في اشد حالات نوبة غيبوبة الوعي مثالا، التي تلازم أصحاب الحمى الشديدة أما رؤيته وسماعه لخطوات ذلك الشبح، أو ملامسته خطفا من أمام وجهه، فهذا الأمر لا يعني بالضرورة أن روح زوجته السابقة تطوف حول أثاث غرفته الزوجية.أن من إشكاليات أقاصيص بوأنها لا تحترف بذاتها خلق الأوهام فحسب، بل أنها تسعى بالابتعاد عن المعقول في صنع المعادل الموضوعي المقنع في الحبكة القصصية فنيا.

ـ تعليق القراءة:

من أجل هذا النوع من نصوص الكاتب الأمريكي الرائد إدغار ألن بو، كدنا أن نقول بأن الفكرة القصصية لدى هذا الكاتب في مجمل مبرراتها ومؤشراتها النمطية من المعالجة هي أكمل وأسمى في النموذج القصصي الميلودرامي في مجال اللاوعي الأفيوني لدى شخوص هذا الكاتب القصصية، بل أنها تكاد أن تكون ممارسات فنية وأسلوبية حاذقة في نصوص أخرى من تجربة هذا الكاتب القصصي الكبير.

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم