قراءات نقدية

محمد الأحبابي: التكرار في الشعر العراقي الحديث، شعراء السبعينيات، دراسة أسلوبية (5)

محمد الاحبابيتستمد الصورة الفنية في الشعر أهميتها إلى ما تمثله من قيم إبداعية وايحائية وتعبير متوحد مع التجربة ومجسد لها، وهذا يعني أن الشعر في جوهر بنائه ليس مجرد محاولة لتشكيل صورة لفظية مجردة، لا تتغلغل فيها عاطفة صاحبها، فهي في جانب كبير منها سعي لإحداث حالة من الاستجابة المشروطة بفنية البناء الشعري(1) و(الصورة أخطر أدوات الشاعر بلا منازع )(2) إذ كانت الصورة الشعريّة أحد الأركان الأساسيّة التي خضعت للنقد والتحليل، لأنّها تعدّ إحدى أهمّ الرّكائز التي تُبنى عليها القصيدة العربيّة، وإحدى مكوّناتها الإبداعيّة والفنّيّة، لما يكمن فيها من طاقة جماليّة وإيحائيّة تولِّدها أحاسيس الشاعر، وتعكس بدورها أفكاره ونظرته إلى الحياة والإنسان والكون (3) .

والصورة عند الدكتور إحسان عباس هي (تعبير عن نفسية الشاعر وأنها تشبه الصور التي تتراءى في الأحلام، وأنَّ دراسة الصور مجتمعة قد تعين على كشف معنى أعمق من المعنى الظاهري للقصيدة، وذلك لأن الصورة وهي جميع الأشكال المجازية، إنما تكون من عمل القوة الخالقة، فالاتجاه إلى دراستها يعني الاتجاه إلى روح الشعر)(4) والصورة عند الدكتور جابر عصفور هي(طريقة خاصة من طرق التعبير أو وجه من أوجه الدلالة تنحصر أهميتها فيما تحدثه في معنى من المعاني من خصوصية وتأثير)(5)

أمّا في ما يتعلّق باللغة الخاصّة بشّعراء الدراسة، فهي ترتبط بطبيعة التّجربة التي يعيشونها، فيمكن لهم أن يبنوا لغتهم على الصّراحة والوضوح، ويرسموا صورهم على أساسها، أو قد تتفاوت صورهم في مجالات البلاغة، ولغة الشّعراء الخاصّة هي الوسيلة التي يُعبّرُ الشّعراء من خلالها عن آرائهم وأفكارهم وخيالاتهم، لذلك، فإنّها تتجاوز الصّور التّقليديّة التي كانت في غالبها تقوم على الملموسات، بينما نراها في الشّعر الحديث تتجاوز ذلك المدى الذي يتحرّك الشّعراء في أرجائه (6) .

وفي دراسة الصورة يعتمد الشعراء على عدة عناصر، من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز ورمز وتعبير حقيقي،  وقد كانت الصورة في الشعر (رسم قوامه الكلمات) (7) ومجالاً لتأدية المعنى، وليست عنصر زخرف أو تزيين، ولقد وظف شعراء عينة البحث أنواع الصور في أشعارهم .

المجاز

يُعدَّ المجاز ظاهرة رافقت التطور اللغوي وهي المرتكز الذي تكون عليه بنية النصوص الإبداعية وقد تجاوز مفهوم المجاز الحدود اللغوية، وإذا تأملنا الجانب اللغوي فيه نرى أن اللغة المجازية في تطور دائم.

يُعرّف المجاز بأنّه (ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه)(8) لأسلوب المجاز أهمية إذ يعبّر به الشاعر عن أفكاره ورؤاه التي تترك أثرها في القارئ عندما يتقصى بنى النصّ للوصول إلى المعنى الحقيقي، وهنا تَكمْن بلاغة أسلوب المجاز، أما قيمته فتكمن في وِلَادة المعنى الثاني الذي يفهم من اللفظ الأصلي، عندما يدخل على بنيته الانزياح (9)،

عمد الشاعر يحيى السماوي الى تجسيد إحساساته في النخيل، ولكنه جرده من كثافته الحسية، فتعامل معه بوصفه قوة معنوية، ترمز للشموخ والإباء والرفعة تارة، وتارة أخرى رمز لبلده العراق (10) وارتباطه بذكريات الطفولة وهو في أرض غربته، لأنَّ (النخل رمزٌ للعراق، لشهرته به، وقد يستعمل هذا اللفظ للدلالة على السمو والشموخ والكبرياء)(11). فتنوع الدلالة الرمزية للفظة النخيل تبعاً للسياق الذي ترد فيه، فالنخلة تحتل مكانة خاصة ومتميزة في نصوصه الشعرية، كما أنها تحتل مكانة في الموروث الديني في قوله تعالى ﴿فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ١١﴾ ﴿ سورة الرحمن: أية11﴾ ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ١٠﴾ ﴿سورة ق:أية 10﴾ وتبوَّأَت مكانة رفيعة في الأدب العربي، بحيث لا نجد مجموعة شعرية من مجاميعه تخلو من هذه المفردة ودلالاتها، ومنها قوله في قصيدته (إنَّهم يقتلون النخل) (12)

هم يقتلونَ النخلَ  !

إنَّ النخلَ مُتهَمٌ برَفضِ الإنحناءِ

وبالتشبُّثِ بالجذورِ..

وباخضرارِ السَّعفِ..

مُتهَمٌ بإيواءِ العصافيرِ التي

لا تحْسِنُ استقبالَ:

أعداءِ الطفولةِ..

والطواغيتِ الكبارْ..

والنخلُ مُتهمٌ

بتأليبِ المياهِ على الطحالبِ

في بحيراتِ الدهاقنةِ الصغارْ

للكافرينَ بعشقِ نخلتنا القرارْ

نلحظُ أنَّ الشاعر جسد صورة رمزية من خلال تكرار لفظة (النخل)، صور فيها النخيل بأنَّه رمز للشموخ والقوة والثبات (13)، وهذه قيمٌ يعتز بها العراقي ويتمسك بها فهو يرفض الانحناء والخضوع للقوى الغاشمة في كل العصور، فالشاعر عندما يكرر هذه المفردة في شعره أرتفع بدلالة اللفظة من مدلولها المعروف إلى مستوى الرمز، فحاول بوساطة رؤيته الشعرية أنْ يشحن اللفظة بمدلولات شعورية خاصة وجديدة (14)، لأنَّه وجد فيها دلالة سياسية، عمقت من دلالة موقفه الرافض للمحتل.

وقد أحسن تصوير ذلك كله من خلال مقطع (النخل ُ متهمٌ برفضِ الانحناء)، (وبالتشبث بالجذور) ويعود إلى تكرار لفظة النخيل وتحميلها مدلولات رمزية متعددة من خلال ارتباطها بذكريات الحنين إلى وطنه بقوله في قصيدة (إنَّها السماوة فأدخلي آمنة مطمئنة)(15) .

يا نخلةَ اللهِ

السلامُ عليكِ يومَ وُلِدتِ من  قلبي بَتولاً..

والسلامُ عليكِ

يومَ أموتُ فيكِ مـُـضـرَّجاً

بلظى الصّبابةِ والتغــرُّبِ..

والسلامُ على جذورِكِ يومَ أبْعَثُ في الفسيلةِ..

والسلامُ على الفراتينِ..

السلامُ على السماوةِ..

والسلامُ على السلامْ

يجسد الشاعر ثنائية الماضي والحاضر في توحده بـ (نخلة الله) التي يصنع منها رمزاً للحنين أثر إحساسه بالوحدة وهو في ظل غربته. فيعمق دلالة اللهفة والشوق إلى وطنه من خلال استدعائه النخلة رمزاً لذاته المغتربة (16). وكذا فإنَّ استعمال الشاعر لأسلوب النداء بحرف (يا)، الذي يستعمل لنداء البعيد وفيه مد صوتي، خيرُ دليل على أنَّه في ضيق ومعاناة شديدة، واستخدامه التكرار الرأسي من أول المقطع حتى نهايته بلفظ (السلام) سبع مرات بحيث أصبح التكرار منطقاً لتنوع الصور الفنية وجرساً جميلاً، فهو كمن يستنجد بالأحبة والخلان والوطن، ثم أنظر كيف يحن حنيناً شديداً إلى (الفراتين)، وهكذا يجمع الشاعر عدداً من الصور التي جذبته إلى وطنه على الرغم من كل المعاناة، ويجعلها كلها مصدر إلهامه بما في ذلك أيام صباه في مدينته التي صرح بلفظها ومجاورتها نهر الفرات.

وربما شاهد السماوي نخلةٌ في بلد الغربة، فأوحت له ما أوحت به نخلة الأمير الشاعر عبد الرحمن الداخل - وهو في الأندلس بعيداً عن النخيل وبلد النخيل – فهو عندما نظر إليها مفردة هاجت شجنهُ وتذكر بلد الشرق فقال: (17)

تبدَّت لنا وسط الرصافة نخلة           تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرب والنوى        وطول  التنائي عن بنيِّ وعن اهلي

نشأتِ بأرض انت فيها غريبة             فمثلك في الاقصاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي  المزن في المنتأى الذي   يصح ويستمري السماكين بالوبل

إن قدرة التشبيه على التصوير والتجسيم وإفراغ المعاني الروحية والأحوال النفسية في صور محسوسة ينطق فيها الأخرس ويحيا بها الجماد ليطرب النفس ويمنح التشبيه قيمة تظل دائماً موضع استحسان الجميع ومنهم  النقاد والبلاغيون ومحل إعجابهم، فالهدف من التشبيه هو نقل الأثر النفسي للمشبه من وجدان الشاعر إلى وجدان القارئ فيستطيع بذلك الوصول لما أراد توضيحه دون أي عناء، وتظهر تقنية الشعراء في إضفاء لمسات إلى التشبيه مثل، الحركة واللون والشكل، فالتشبيه (أوضح الفنون وأكثرها تعبيراً عن واقع الشاعر، وهو أداة الشاعر التي يستعين بها في التعبير عما يعنيه إزاء مواقف الحياة وتلوين ذلك بمشاعره الخاصة)(18) .

وفي مقطع رائع للشاعر السماوي من قصيدته (عيناي نائمتان..لكن النوافذ ساهرة)(19) يقول:

وعرفتُ

أنّ جميعَ آلهةِ المدينةِ

والدُعاةَ إلى الصّلاةِ

سَماسِرةْ

والقائمين بأمرِ أرغفةِ الجياعِ

أباطرةْ

لقد اتكأ الشاعر في نصه على الوصف المباشر والتشبيه في بناء صوره بأركانه المعروفة: المشبه والمشبه به ووجه الشبه، إذ شبه (آلهةِ المدينةِ، والدُعاةَ إلى الصّلاةِ) بالسماسرة، دون أنّ يستخدم أداة التشبيه، وكذلك شبه القائمين على الحكم وأرزاق الناس بقوله(والقائمين بأمرِ أرغفةِ الجياعِ) بأباطرة متخمين من أموال الفقراء والمساكين من أبناء البلاد، وفي الصورتين تشابه واضح وهو ممارسة الغش والخداع لتضليل الناس.

ونلحظ كثافة التشبيه عند يحيى السماوي في قصيدته (سفر نشيد الأناشيد):(20)

أيتّها الرشيقة كرمح أنكيدو

الفرعاء كالنخلة

المنتصبة كالمئذنة

الناعمة كالندى

الهادئة كالنعاس

الصاخبة كشغفي:

إذا لم يكتبْ في دفتركِ

فما فائدته قلمي؟

يبدو واضحًا أنّ التشبيه طاغٍ في بنية الصورة كلها في تكرار رأسي يوحي بالتأثر بالتقليد، حيث جاء التشبيه بذكر صفات المحبوبة (رشيقة، فرعاء، منتصبة، ناعمة، هادئة، صاخبة) يقابلها المشبه بها (الرمح، النخلة، المئذنة، الندى، النعاس، شغفي) باستخدام أداة التشبيه (الكاف)، أما وجه الشبه فهو الجمال والرقة، حيث عَمدَ الشاعر من خلال تلك التكرارات إلى إقناع المتلقي بالعناصر المشتركة بين المشبه والمشبه به .

الاستعارة

تلعب اللغة دورا بارزاً في إحداث التكرار، ذلك أن طبيعتها التركيبية قائمة على النمطية فالتكرار والتماثل أمران لازمان في لغة البشر، ومرد هذا إلى عوامل كثيرة، لعل من أبرزها أن مدى المعاني متسع أكثر من الألفاظ، وهذا يستدعي إعادة الألفاظ على أوجه مختلفة من الهيئات، والدلالات الرمزية لاستيفاء المعاني، (وقد أدرك القدماء ذلك بثاقب بصرهم، وعمق نظرتهم للمسألة، فاعتبروا التكرار سُنْة من سنن العرب في كلامهم، وأن ليس لأحدٍ علا أدراكه في فصاحة اللسان وبلاغة القول أن يجاوزها) (21)، وأن للطبيعة الإنسانية دورًا فعالًا في إحداث التكرار، ( لأن صيرورة هذا الكون قائمة على التكرار وبالتالي لها تأثير على لغة الشاعر التي هي فاعل من فواعل التكرار، لأن المعنى متسع واللفظ محدود، لذا تكون العلاقة، بين اللغة والشعر، تشبه العلاقة ما بين الواقع والوهم، الجسد والروح، الإنسان والله، ولكي نقترب أكثر نقول، ما بين النهر ومنبع النهر) (22) .

ومثال ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي في رثاء ابنائه بقوله : (23)

وإذا المنية أنشبت أظفارها  ...... ألفيت كل تميمة لا تنفع

فقد شبه المنية بحيوان مفترس له أظافر، وقد حذف المشبه به هنا، والقرينة إثبات الأظافر للمنية، ومن أمثلة الاستعارة في القرآن الكريم قوله تعالى ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا٤﴾ (سورة مريم آية4) فالاشتعال لا يقصد منه ظاهره، وإنما يقصد شبهه (24)

وقد تميز الشاعر يحيى السماوي بهذا النوع الفني في كثير من قصائده (25)، وفي قصيدته (أنجديني)(26) يقول:

مُذنباً جئتكِ

أستجديكِ صفحا..

حاملاً جثمان أمسي

فانجديني من ذنوبي..

في يميني

دمعةٌ تستعطفُ العفوَ وقلبٌ يتشظى...!

ويساري

تشتكي ثقلَ كتابي المُستريبْ

في هذا المقطع مارس الانزياح دوره فقد جسد النصوص وخرجت عن نسيجها المعتاد بقوله (حاملاً جثمان أمسي) حيث أضفى على الزمن صفات مادية، وكأن تاريخ الشاعر قد مات، وهذا يدل على مأساته في الماضي والذي ينوء جاهداً بحملهِ أو نسيانه، وفي انزياح لغوي بديع يصور لنا مقدرة الشاعر في تطويع اللغة حيث استعار بقوله (دمعةٌ تستعطفُ العفوَ وقلبٌ يتشظى) فأعطى الدمعة صفة من صفات الأنسان، وأسبغ على القلب صفة التشظي والتحطم .

واذا ما نظرنا إلى قصائد الشاعر يحيى السماوي نجد ان ذاته العاشقة تتجلى بصور ومستويات كثيرة ومتنوعة،  ففي قصيدة تضاريس القلب يقول(27).

لثرى الأحبة .. لا الثريّا

يممت قلبي .. واستعنت بأصغريّا

جسراً

يشدُّ إلى ضفافك ناظريّا

ليْ أن أحبك

كي أصدق أنني ما زلت حيّا

نلحظ أنّ الشاعر قد استعمل أسلوب التضاد أول المقطع، فأبتدأ بلفظ الثرى، أي التراب، وقد أنتهى بلفظ الثريا أي الأجرام السماوية، وهذا جناس غير تام (الثرى، الثريا)، وقد أعطى الجناس أساس البنية النصية التي يحتاجها المعنى، وأراد بهذا الجناس أن يبين الفرق بين الثرى والثريا وما بينهما من اختلاف مكاني وقيمي، وقد كرر(الياء، الف) فأكسب التكرار المقطع ايقاعاً جميلاً، وقوله(يممتُ قلبي) وقد أنتج هذا الابدال اللغوي انزياحاً أحدثه الاداء الاستعاري لتأكيد حبه والإرتقاء به.

ويعود يحيى السماوي لتأكيد تسامي روحه إذ يقول في مقطع آخر من قصيدة(تضاريس قلب):(28).

ليْ ان أكون على الخطيئةِ

حين تَطرُقُني عصيّا...

ليْ أن اذودَ عن الحمام

وأن أصيّرَ أضلعي فنناً

وعُشَاً مقلتيا

ليْ أن أرشَّ بكوثر الصلوات أيامي

ليبقى عشبُ عاطفتي بلا دغلٍ

وزهرُ غدي نديّا

كيما أكونَ مؤهلا للعشق

والصبَّ التقيّا.

شكل الشاعر صورة تجريدية تحصلت من أضافة ما هو محسوس (الكوثر) إلى المجرد (الصلوات) ليبقى حبه نقياً بلا شوائب، حيث عمد إلى استعارة الدغل ليعبر به عن كل ما يشوب حبه فيؤثر في نقائه، لقد وظف الشاعر الطبيعة في تشكيل صورة ذاته المتعففة، فأسند العشب بلا دغل إلى حبه لما يمثله من نقاء، كون الدغل رمزاً للشوائب وعدم العفة، وقد استعمل السماوي التكرار الاستهلالي (لي أن) الذي يَمُد النص الشعري بنية مُنسقة، إنّ كل تكرار  قادرٌ على تجسيد الإحساس بالتسلسلِ والتتابعِ والتوقع لدي المتلقي (29).

ولا ينسى يحيى السماوي أبداً قضية  العرب المركزية فلسطين فيقول:(30)

يحدثُ أن أطهر الحقولَ من كل الجراد البشري

في بساتين الفراتين

وفي الجليل ... يافا ... ورياض الناصرةْ ...

وأسرجَ الخضرة في القفار

حتى تستجيل جنة ارضيةً

ضاحكةَ السلالِ...

الشاعر يريد تطهير بلاده من الجراد البشري ممثلاً (بساتين الفراتين) ويريد كذلك تطهير فلسطين من دنس الاحتلال، وهنا تتجلى مهمة الشاعر الوطنية، فالشاعر يريد أن يحيل تلك الأراضي المقفرة جنات وارفة الظلال وافرة الخير بدلالة (ضاحكة السلال) وهي هنا استعارة رامزة لتمثيل الإنسان الآمن والمستقر، فالشاعر يختار رموزه من مساحات مفتوحة وهذه الرموز في متناول  جميع الشعراء(لكن نسق العلاقات التي تربط هذه الموضوعات بالرمز هو ما يحقق للشاعر خصوصيته، ويخلق له لغةً تميزه، وتخصُ عالمه الشعريّ دون سواه)(31)  وقد أستعمل الشاعر الفعل المضارع (أطهّر، أسرج) بمعنى التطهير والاشتعال لتغيير الحال فتتحول الأرض الجرداء إلى خضراء، وقد تكرر حرف الجر (في) ثلاث مرات، مما زاد في تماسك النص وترابطه .

وحين يقول: (32)

هم يبصرونكِ في عيوني غيمةً خضراءَ

في شفتيَّ قافيةً

ونبضاً في عروقي

وهديل فاختةٍ على شجري

وشمساً في طريقي

ويرون أنك آخر الأخبار

في كتب الهوى

الشاعر يحيل هذه المحبوبة إلى كل ما هو جميل، الذي يصيرها غيمة خضراء ويضفى عليها جمال الإخضرار، دلالة على الخير والإعطاء، ويوظف الشاعر عنصري الحيوان (الفاختة) والنباتي الشجر، فيشكل صورة حسية صوتية، هي صورة الحبيبة ممثلة بالفاختة وهي تحط على أغصان حياته، ثم يوظف الشمس فيشبه تلك المحبوبة بالشمس التي تنير حياته، وإن توظيف الشاعر للطبيعة جعله يشكل نصًا استعاريًا، إذ أن هذا الأسلوب(تمتد فيه مشاعر الشاعر إلى كائنات الحياة من حوله، فيلتحم بها ويتأملها كما لو كانت هي بذاته، ويلغي الثنائية التقليدية بين الذات والموضوع) (33)

وقوله في قصيدة (ستسافرين غداً):(34).

سأدخل كهف صمتي

ريثما تخضرُ صحرائي

بوقع خطى إيابكْ

لا عودَ ثانيةً سؤالا حائراً

كيف الوصولُ إلى سحابكْ

انْ قد عجزتُ

من الوصول إلى ترابكْ

سأنيم حنجرتي

فما معنى الغناء

بلا ربابكْ

يكرر الشاعر حرف الاستقبال(السين) ويدخله على الفعل المضارع، ليثبت عدم جدوى الحنجرة على المستوى الزمني، ويظهر ذلك من خلال التشكيل الشعري (سأدخل كهف نفسي) ذلك الشاعر وظف الاستعارة بإضافة ما هو محسوس (كهف) إلى ما هو مجرد (الصمت) فجعل للصمت مكاناً ليدخله، ولكي يسمو بهذا الصمت جعل ذلك المكان كهفاً، ثم يرسم الشاعر صورة بالأسلوب الاستعاري جاء من أسناد ما هو مجرد (النوم) إلى ما هو محسوس (الحنجرة)، ويعلل الشاعر سبب ذلك (فما معنى الغناء بلا ربابك) فالمقطع يمثل حالة متقدمة من حالات العاطفة .

" يتبع "

 

د. محمد الأحبابي

......................

(*) من البحث الذي حاز به الباحث شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث .

(1) انظر، الرؤى النقدية في ملامح الدراسات الحديثة، د حافظ الشمري، مركز الكتاب الاكاديمي، الاردن، ط1، 2019م، ص51.

(2) تطور الشعر العربي الحديث في العراق، د علي عباس علوان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، (د-ط)، 1975م، ص41.

(3) انظر، بنية الصورة في الشعر العربيّ الحديث، مطوّلة غسّان مطر “عزف على قبر لارا” أنموذجًا، د. خليل بيضون، مجلة الأداب والعلوم الانسانية (اوراق ثقافية)، بيروت، 2019م، العدد الأول .

(4) فن الشعر : الدكتور إحسان عباس، ص 238.

(5) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، د جابر عصفور، دار تنوير، بيروت، ط2، 1993م، ص10.

(6) انظر، بنية الصورة في الشعر العربيّ الحديث، مطوّلة غسّان مطر “عزف على قبر لارا” أنموذجًا، د. خليل بيضون.

(7) الصورة الشعرية،  سيسل  دي لويس، ترجمة أحمد نصيف الجنابي وآخرون، مؤسسة الخليج، (د-ط)، 1984م، ص81.

(8) الإيضاح في علوم البلاغة، الشيخ العلامة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن المعروف بالخطيب القزويني، راجعه وصححه وخرّج آيه، الشيخ بهيج غزاوي، دار إحياء العلوم، بيروت، ط1، 1998م، ص 254.

(9) أنظر، عبد القاهر الجرجاني بلاغته ونقده، تحقيق  د. احمد مطلوب، وكالة المطبوعات، بيروت، ط1، 1973م، ص146 .

(10) انظر: التصوير الشعري الحالة الشعورية وأدوات رسم الصورة، عدنان حسين قاسم، المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والاعلان، طرابلس، ط1، 1980م، ص138.

(11) تجليات الحنين في تكريم الشاعر يحيى السماوي، د. ماجد الغرباوي، دار الينابيع، سوريا، ط1، 2010م، 1/ 96.

(12) ديوان (البكاء على كتف الوطن )، يحيى السماوي، دار تكوين، دمشق، ط1، 2008، ص 171- 172.

(13) انظر: صورة النخل في العصر العباسي حتى نهاية القرن الرابع الهجري، صالح علي سليم الشتيوي، مجلة جامعة الملك سعود، الرياض،2007م، مجلد 19، 2 / 279.

(14) انظر: الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، د عز الدين اسماعيل، دار الفكر العربي، ط3، 1978م، ص 219.

(15) ديوان (تعالي لأبحث فيك عني)، يحيى السماوي، مؤسسة المثقف العربي، ط1، سدني، استراليا، 2012م، ص 46- 47.

(16) انظر، صورة النخل في العصر العباسي حتى نهاية القرن الرابع الهجري، صالح علي سليم الشتيوي، ص285.

(17) عبدالرحمن الداخل (صقر قريش)، قصة وتاريخ، د. سيمون الحايك، القاهرة (د -ن)، 1982م، ص173.

(18) الصورة الفنية في شعر عبدالله الوايل الإحساني، د. خليل عبد السادة هلال و د. محمد عبد الرسول السعدي، مجلة الدراسات الإسلامية، جامعة الكوفة، 2012م، العدد /5، ص53.

(19) ديوان (أطفئيني بنارك)، يحيى السماوي، ص9.

(20) ديوان (مناديل من حرير الكلمات)، يحيى السماوي، دار تكوين، ط1، ص23.

(21) التكرار في شعر محمود درويش، فهد ناصر عاشور، دار الفارس  للنشر والتوزيع،عمان، الاردن، ط1، 2004 م، ص 31 .

(22) نحو تأصيل لمفهوم الانزياح، أحمد محمد ويس، مجلة الفيصل، رياض، 1999م، العدد 274، ص11 .

(23) أبو ذؤيب الهذلي حياته وشعره، نورة الشملان، جامعة الرياض، 1980م، ص57.

(24) أنظر، المجاز في البلاغة العربية، د مهدي صالح السامرائي، دار ابن كثير للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 2013م، ص91.

(25) انظر ديوان ( مناديل من حرير الكلمات)، يحيى السماوي، ص110، 112، 117، 123، 127، 124، 153 .

(26) ديوان (أطفئيني بنارك)، يحيى السماوي، ص63.

(27) ديوان (قليلك لا كثيرهن)، يحيى السماوي، ص10.

(28)  المصدر نفسه، ص10.

(29) أنظر، التكرار في الشعر الجاهلي، دراسة اسلوبية، موسى ربايعة، مجلة مؤتة للبحوث والدراسات، الأردن، 1990م، العدد الأول، مجلد 5/ 179.

(30) ديوان (قليلك لا كثرهن)، يحيى السماوي، ص 53.

(31) الرمز الشعري عند الصوفية، د. عاطف جودة نصر، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1978م، ص57.

(32)  ديوان (قليلك لا كثرهن)، يحيى السماوي، ص 48.

(33) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، جابر عصفور، ص224.

(34) ديوان (قليلك ولا كثيرهن)، يحيى السماوي، ص20.

 

 

في المثقف اليوم