قراءات نقدية

طارق بوحالة: من ذاكرة الينابيع إلى ينابيع الذاكرة

طارق بوحالةعبد الرزاق بوقطوش كاتب جزائري معاصر يعد من الجيل الجديد الذي يختار خوض تجربته الأولى في جنس الرواية من خلال نصه الموسوم بـ: "هجرة الينابيع الحارة". الصادر عن دار خيال، الجزائر، ط1، سبتمبر 2021.

تفتح هذه الرواية حوارا عميقا يرتبط بملامح صراع الأنساق الثقافية داخل المجتمع الجزائري المعاصر، وكيفية إعادة إنتاجها في الخطابات المختلفة المرتبطة بمجالات الحياة المختلفة، سياسيا وثقافيا ودينيا واجتماعيا. ولهذا فإن الروائي قد اختار لهذه العملية فضاء خاصا يتنقل فيه بين الحياة وأنماطها في الريف، وما يقابلها في المدينة، مبينا كثيرا من العلاقات الاجتماعية عبر مراحل خاصة من تاريخ الجزائر المعاصرة.

ويختار الروائي لمسرحة هذه الأحداث فضاء ولاية قالمة المتواجدة بالشرق الجزائري، وذلك من أجل رسم أهم مواطن هذا الصراع. لهذا نعثر في هذه الرواية على سردية خاصة تتعلق ببنية الأماكن، فالأولى تخص فضاء الريف وتمظهرات العيش فيه، وذلك باستدعاء نموذج تمثله قرية لعلامة من قرى منطقة قالمة، باعتبارها تحيل على الريف الجزائري، بينما تتمثل الوجهة الثانية في النمط الحضري الذي يرتبط بطريقة الحياة ويومياتها في مدينة قالمة، وما جاورها من مدن صغيرة على شاكلة هليوبوليس التي لا تبعد كثيرا عن مركز المدينة.

ويتخذ الكاتب في هذه الرواية مسلكا واقعيا يهدف عبره إلى الابتعاد قدر الإمكان عن التجريد والتعالي الفني، الأمر الذي جعلنا نستكشف كثيرا من الملامح التي تملك مرجعها في الواقع الاجتماعي، خاصة وأنه وظف في كثير من مواضع عمله الروائي شخصيات لصيقة بالواقع اليومي، معبرة عنه بشكل مباشر.

ويستدعي الكاتب لهذا الغرض شخصيات عديدة مثل إكسيل وقيوش وولي الدين وكويطة، والنوي الروج،وغيرهم من الشخصيات ذات المنحى المتباين، فهناك شخصيات بسيطة، وأخرى مركبة لها مواقف غير ثابتة من الحياة، ومن قضايا عصرها، ولعل أبرزها شخصية "ولي الدين" التي تحيل على موقف قلق جعله يتنازل على كثير من قناعاته الفكرية والدينية،مما يعرضه لغضب عائلته.

ويبدو أن هذه الشخصية لا تعبر على تجربة فردية معزولة بقدر ما تحيل على حالة جيل بأكمله، عاش فترة مخاض سياسي وديني واجتماعي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، جعل الكثير من أفراده يراجعون كثيرا من قناعاتهم إلى درجة تغيرها نهائيا.

بينما يمثل "إكسيل" نموذج لفئة معينة تمثل بدورها صورة أخرى للجيل نفسه، فئة لم يسعفها الحظ للالتحاق بالدراسة المنتظمة، مما خلف عندها عقدة نقص سرعان ما وجدت نوعا من التعويض عبر التعبئة التي مارستها بعض الأصوات الدعوية سياسيا وعقديا.

وتقف الرواية عند محطات مفصليّة مرّ بها الإنسان الجزائري، خاصة خلال سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أين لعبت هذه المحطة التاريخية دورا حاسما في رسم معالم الواقع وملامح المستقبل الذي سيعيشه هذا الإنسان، فالرواية تتحدث مثلا عن دور المؤسسات التعليمية والدينية في بلورة نمط التفكير آنذاك، وتذكر نموذج المسجد والصراع على زعامته من قبل الأحزاب الحركية.

كما لا تغفل الرواية على تصوير الهامش الاجتماعي باستحضار نماذج بشرية عنه، نذكر منها شخصية كويطة المسبوق قضائيا الذي ينتج لنفسه حيزا حياتيا يعيش داخله، رفقة كلبه الوفي الذي يشرف على حراسته  حراسة مشددة . هذه الشخصية التي تجد قبولا لدى ولي الدين المثقف بعيدا عن الصور النمطية التي تروج داخل المجتمع عن كويطة وأشباهه.

قد يظهر للقارئ أن رواية هجرة الينابيع الحارة تثقل عليه بتفاصيلها الكثيرة، ذات الصفة التقريرية  وأحداثها المتداخلة والمتشابكة، إلا أن ذلك يتلاشى بسبب اللغة السردية ذات البعد الواقعي المتخففة من سلطة الإيديولوجيات المختلفة سياسيا وتاريخيا ودينيا. وتتجلى هذه الميزة في مدى وصف الرواية للأماكن والقرى والمقاهي والأرياف والشخصيات والملامح والطبيعة والحيوانات وغيرها. نعثر مثلا على وصف دقيق للقرية التي عاش فيها الراوي قبل الارتحال إلى المدينة، حيث يصف البيوت ونمط البناء وطرق العيش اليومي وصعوبة المناخ شتاء وجمال الطبيعة ربيعا...ووصف دقيق لشوارع مدينة قالمة خاصة وسط المدينة، ومعالمها التاريخية وبعدها الرمزي عند أبنائها. لهذا فإن رواية هجرة الينابيع الحارة ترصد عبر هذه التفاصيل أهم التحولات الاجتماعية التي عرفتها المدن الجزائرية.

وتستحضر الرواية كثيرا من النقاشات المعرفية والاجتماعية والقضايا التاريخية الشائكة انطلاقا من رؤى ومواقف شخصياتها، خاصة النقاش الدائم بين ولي الدين وبطل الرواية. وتتوزع هذه السجالات بين قضايا دينية وسياسية وتاريخية ومعرفية ولغوية ويومية أفرزتها المرحلة التاريخية المفصلية التي عاشتها الجزائر في العقود السابقة خاصة في نهايات القرن الماضي.

ويظهر عبر فصول الرواية نوع من الصراع الفني الخفي بين الرصد التصويري للأحداث والتعبير عنها بعدسة ذات منحى خطي ومباشر، وبين عملية التمثيل الواقعي التي تهدم الواقع المادي والحياتي وتعيد  تشكيله مرة ثانية بطريقة مخالفة للسائد، مما يجعل الروائي يكتب ما يجب أن يكون انطلاقا من هدم ما هو كائن. وقد وفق عبد الرزاق بوقطوش في كثير من مواضع روايته في الجمع بين الميزتين.

 

د. طارق بوحالة - الجزائر

 

 

في المثقف اليوم