قراءات نقدية

ثامر الحاج امين: صراع الحب والكرامة في رواية (كل شيء ضدي)

ثامر الحاج امينعن دار الدراويش للنشر والترجمة في جمهورية المانيا الاتحادية صدرت للروائي العراقي " سلام ابراهيم " روايته الجديدة (كل شيء ضدي) التي تشكّل الكتاب الحادي عشر في سلسلة اصداراته القصصية والروائية.

الذي يميز هذه الرواية عن سواها من الاعمال الروائية للكاتب " سلام ابراهيم " انها رواية تضع المشاعر في مقدمة اهتمامها فالكاتب يقدم تجربة انسانية يرصد فيها مشاعر الانسان امام متاعبه العاطفية والاجتماعية حيث تمكن بمهارة من رصد الغليان في قلب انسان عاش رهانا عاطفيا يدفع به في النهاية الى حافة الجنون، تبدأ الرواية التي صدرت في جزأين تجاوزا الـ (500) صفحة بمشهد البطل ــ الراوي ــ وهو يرهف السمع لضحكات زوجته المنبعثة من اسفل ُسلّم البيت الذي ضمهما في منفاهما الدنماركي والذي يجعل من هذه الضحكات بمثابة انهيار خزان اسراره وتدفق جريان الذكريات التي نطل منها على خفايا حياته واهوالها المتعددة بدءا من مسلسل اعتقالاته أيام النظام الدكتاتوري مرورا بأيامه التي قضاها جنديا في جبهة الحرب مع ايران وهروبه لاحقا ثم مشاركا زوجته حياتها النضالية، ان الكاتب وباستخدامه تقنية الاسترجاع الفني (الفلاش باك) يعود الى مرحلة مبكرة من حياة البطل حيث علاقة الحب الذي ربطه برباط الزوجية ومن ثم يومياته في الجبل بين ثوار لا تربطه بهم اية علاقة تنظيمية او عقائدية وصولا الى لحظة اجتراره تلك الحوادث وهو يعيش عذابات الشك والغيرة والهواجس المدمرة التي باتت تهدد استقرار حياته الزوجية...

ومنذ الصفحات الأولى للرواية نكتشف ملامح الصراع الذي يعيشه البطل بين حبه واخلاصه لزوجته وبين كرامته التي مرغتها أفعال الزوجة بالوحل والتي كان بعضها من صناعة وتنازلات البطل نفسه ومنها اكتشافه فقدان الزوجة لعذريتها وسكوته على ذلك وآخرها المبيت خارج البيت دون مراعاة لوجوده، فالبطل في خضم هذا الصراع غير المتكافئ لم يكن رجلا صلبا متماسكا امام ما يواجه من تحديات اخلاقية واجتماعية، انما كان مترددا وضعيفا امام الوله بجسد الزوجة وحاجته الجنسية لها، وهاتين المتلازمتين في شخصيته جعلته يعيش شعورا بالدونية نتيجة هاجس التخوين المدمر الذي ظل ينتابه بسبب علاقات زوجته المريبة وعدم مبالاتها بمشاعره، وكم حاول التخلص من ثقل وعذابات واقعه بالتسكع دون هدف (في الحقول يعبُ قناني البيرة في الحدائق والمحطات مصاحبا جموع المشردين الدنماركيين ص 23) وحتى السفر الى بلد آخر لزيارة رفيق قديم لم يثمر كل هذا الهروب في انقاذ حياته من الانهيار بعد ان أخذ الملل يتسرب الى فراش الزوجية.. وعن طريق تقنية الفلاش باك ايضا التي نجح الروائي في توظيفها لملء الفجوات عن حياة الشخصيات والعودة الى ماضيها وتسليط الضوء على نشأتها الاجتماعية يظهر لنا ان الانكسار واليأس حالتان رافقت البطل في مرحلة مبكرة من حياته وذلك بفعل الضغوط الاجتماعية والسياسة والفشل العاطفي المتكرر الذي (دفعه الى الوصول في لحظة غبطة الى قناعة بان الحياة رحلة عبثية.. لا معنى لها فيصرخ وسط العتمة الرطبة الحياة خرط ص 58) وأمتد هذا الحال الى المنفى الذي بدلا من ان يكون محطة نعيم واسترخاء له بعد تجربة عنيفة وقاسية فقد تركه يكمل مسلسل عذاباته بالأحلام المخيفة والهواجس والشكوك المدمرة للنفس البشرية وكأن لعنة الحرب وتجربة القتال وان انقضت فإنها لا بد ان تلقي بظلالها على حياة من عاشها وشهد اهوالها وهو ما أشار اليه الكاتب " اريك ماريا ريماك " في روايته (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) حيث جاءت شهادته بحق الخارجين من الحروب (هذا الجيل بأكمله قد دحر وهزم في الحرب حتى الذين نجوا من قذائفها) فبطل (كل شيء ضدي) وان خرج سالما من حرب الثمانينيات وتجربة ثوار الجبل الذي دأب على وصفهم بالعصابات الا ان الحرب وبعد انقضاءها قد نالت منه استقراره، فبعد ركونه في منفاه الدنماركي عاش فريسة الشك والمراجعة المريرة لعلاقة زوجته بالمحيط الذي عاشت وسطه حيث لم يكن محيطا صحياً ــ حسب وصفه ــ انما بؤرة للفساد الاخلاقي والخيانات العجيبة، وينهي الكاتب الجزء الأول من روايته في ايصال البطل الى ذروة الشعور بالمهانة عندما تبيت زوجته خارج البيت ويعيش ليلتها غاضبا يضرب الحيطان ويكسّر الاشياء ويرى نفسه في المرآة وقد تحول الى (سحلية قبيحة) واصفا بهذا المشهد عمق الشرخ في العلاقة الزوجية الذي احدثه الشك وكذلك الغيرة نتيجة اندفاع الزوجة اللامسؤول في علاقتها.

يستهل الكاتب الجزء الثاني من روايته بالحياة الجديدة التي انقاد اليها البطل صاغرا حيث حالة الانفصال عن زوجته وقد تم اقراره في بلدية المدينة وامام المشرفة الاجتماعية والذي يظهر لاحقا ان هذا الانفصال هو انفصال شكلي، فقوة الغريزة وعمق التجربة الحياتية بينهما اسقطت جدار الانفصال فهما وان اصبح لكل واحد منهما سريره الخاص في نفس البيت الا انهما بقيا يتواصلان بالقبل وممارسة الجنس وعند اشتداد تعنت الزوجة وعنادها واهمالها له كان يلجأ الى علاقات غرامية عابرة مع فتيات اخريات لتعويض الحرمان العاطفي ولكنه سرعان ما ينفر من هذه العلاقات ويعود نادما الى أحضان زوجته، والذي يثير التأمل في هذا الجزء وفي الرواية عموما ان الروائي " سلام ابراهيم " أولى اهتماما فائقاً بتجسيد المشاعر والعاطفة عند شخصيات روايته وتمكن بنجاح من الغور في اعماق النفس البشرية ورصد مشاعرها الداخلية بدقة متناهية فمشهد التوجه الى " الكومون " لإتمام اجراءات الانفصال يستغرق اكثر من ثلاثين صفحة من الرواية يقدم فيها الكاتب مشاعر مشحونة بالخوف والندم والتمثيل والتأرجح بين الصمود والانهيار وكأن الكاتب هنا يأخذ دور الاختصاص النفساني وهو يجسد ذلك الصراع بين طرف يحاول الهدم وآخر يقف بوجه الانهيار.

 ولكي لا يبقي القارئ حائرا في معرفة سر عنوان الرواية وهوية الذين وقفوا ضده يلجأ الروائي في الصفحات الاخيرة من الرواية الى الافصاح عن هويتهم فيشير اليهم صراحة (العائلة.. قسوة الأب.. قسوة الشارع ورفاق الطفولة العنيفين، قسوة المعلم الجلاد، قسوة الجلاد في مديريات الأمن.. قسوة الجيش العراقي في السلم والحرب.. قسوة رفاق السلاح.. كل شيء ضدي ص 217 ج2)

" سلام ابراهيم " بهذا العمل الروائي يجدد ثقتنا بأدواته السردية التي وظفها بشكل متقن في بناء الحدث والشخصية الى جانب سعة مخيلته التي وان ظلت تنهل من واحة سيرته الشخصية الا انها مخيلة خصبة تمكنت من المزج ببراعة بين الواقع والمتخيل بطريقة تبعث الحياة والنشاط سواء عند القارئ او عند شخوص الرواية.

 

ثامر الحاج امين

 

في المثقف اليوم