قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: مباحث قرائية في رواية (أغنية هادئة) للكاتبة ليلى سليماني (6)

حيدر عبدالرضاتعرجات الزمن السردي وارتداد التبئير في تمفصلات الكينونة الشخوصية، المبحث (8)

توطئة:

أن طبيعة بنية النظام السردي في منظومة خطاب ودلالات وزمن رواية (أغنية هادئة) من المكونات الزمكانية التي تفرض العلاقات والاحوال والمواقف ضمن خطة استراتيجية من شأنها التعريج بالسرد في حدود واصلات ومقاربات متكونة من خطوط (الاسترجاع ـ الاستباق ـ تعرجات الزمن السردي ـ ارتدادية التبئير ـ مخاتلة الكينونة الشخوصية ـ النواةالتكوينية) وهذه العناصر بدت في فصول ومشاهد الرواية، وكأن الغاية منها عرض السرد من زوايا متعددة من التصاعد والتراجع والانعكاس التأثيري في تمظهرات السرد الظاهر والمضمر.

ـ المتباينات والمتخافيات في دلالة النظام السردي.

في سياق تدعيم هذه الدلائل العاملية في مسوغات المنظومة السردية المتعبة في مخطط الرواية، لاحظنا ثمة ثنائية هامة وموجزة وغير موجزة من (المتباينات ـ المتخافيات) في مؤشرات المعلن والمكتوم الدلالي.إذ إن (ليلى سليماني) من جهة ما نجدها تعول على حالات اخبارية تقريرية من وحدات الزمن والمكان والشخصية من ناحية قصوى، وعلى حين غرة نلحظ بأنها لا تبلغ منفردات حكاية بعض مواقفها إلا من جهة تتقصد التشفير أو الأرجاء في المكبوت وإعادة صوغ الاحداث بطريقة جرعات مقننة من الكشف السببي.فعلى سبيل المثال، نحن نعلم جيدا بأن طبيعة المبنى الروائي لديها كان ذا مشخصات واضحة من (الرواية الإطارية) ولكن هذا الفعل البنائي من الرواية ذاتها، صار لا يمنع من أن تحمل النص أجزاءا كبيرة من متغيرات ما في طبيعة هذا البناء الإطاري الروائي، ذلك وحتى مرحلة متأخرة من الأحداث الروائية التي ما زلت تظهر لنا قضايا متشعبة في تعرجات سردها الروائي، ولعل الأهم من كل هذا هو كيفية توظيف الأشياء والعناصر بموجب محكيات متأرجحة (ارتدادا ـ استباقا) في الآن نفسه.على أية حال أنا أعلم أن جائزة غونكور لم تمنح لموضوعة هذه الرواية فحسب، بل إنها منحت إياها ـ أي سليماني، لأجل رحلتها الشاقة مع نسيجها الروائي، أي أن مجالية الاشتغال والاداء في هذا المنجز من النادر جدا، بخاصة ما يتوفر فيه من مجال العلاقات التبئيرية الكبيرة التي تكمن في صفات ونوعية ما تقدمه سليماني من جرعات غابطة في حقول تمفصلات الجسد الروائي.

1 ـ واقعة الافتراق الآنية وحيثيات وحدة الذات:

وفي سياق من الانفتاح حول الأمكنة والزمن التكويني، بتأشرنا عودة العائلة بول ومريم والطفلان والمربية من رحلتهم التي سلخوها جمعيا في الجزر اليونانية..وعند العودة في المطار فارقت المربية الزوجان مع طفليهما متوجه إلى موقع شقتها القديمة.وكما نعلم جيدا بأن من أكثر الآفات التي تسلب المربية لب وجودها الحياتي، هو في ما يترتب على شكل انطباعاتها في شعورها المتزايد بالوحدة والوحشة والفقدان لذاتها شكلا ومضمونا..لدرجة أن هذه المربية وصلت إلى حدود خارج المألوف، عندما قد لا تتصل عليها تلك العائلة في يوم الاجازة لهم، حيث تكون الحاجة إلى خدماتها شاغرة نوعا ما، فيما والزوجان هامان والطفلان في إحدى المطاعم يتناولون وجبة الغداء مثلا، ففي مثل هذه الأثناء تكون المربية مضطجة داخل جدران شقتها الواهنة، تبحث في فكرها كل الاسباب والمتعلقات التي قد جعلت من الزوج أو الزوجة لم يفكرا في الاتصال بها مثلا: (كانت عربة القطار خالية، فالتصقت بأحدى النوافذ وراحت تلعن منظر الأرصفة التي تتسكع عليها جماعات من الشباب، والعمارات المقشرة والشرفات..ووجوه رجال الأمن العدائية.أغمضت عينيها وأخذت تستعيد شريط ذكريات الشواطىء اليونانية وغروب الشمس والعشاء قبالة البحر..ولما فتحت شقتها الضيقة، أخذت يداها ترتعشان، واستحوذت عليها رغبة عارمة في تمزيق غلاف الأريكة، وتكسير زجاج النافذة..وأحست بدواخلها تغلي وبألم يمزق أحشاءها..ووجدت صعوبة في تمالك نفسها من الصراخ./ص84 الرواية).

2ـ الحوامل التوزيعية في أوجه الخصائص الشكلية المتواصلة:

إلى حد ما تثبت لدينا ثمة (علاقة اندراجية) في مستحدثات الفصول السردية.وقد قلنا سابقا في الفرع المبحثي اعلاه أن ثنائية (المتباينات) قد تبدو شكلا ظاهرا وسطحيا من مبئرات النص النسبية أو الهامشية، ولكن هذا لا يمنحنا الاعتقاد الأكيد بأن هذه المتباينات ، ما هي إلا حوامل توزيعية في خصائص أوجه شكلية هامة من العلاقة الاندراجية التي تقودنا نحو البنيات الأولية من التدليل السردي.وعلى هذا النحو نفهم ما أسباب ومتعلقات المربية عند عودتها إلى سكنها الرث كما تراه هي في عادتها.في الواقع أن من إشكاليات هذه الأنسانة إنها عاشت مراحل عمرية جعلت منها امرأة سوداوية المزاج والطبع، حادة في حواسها، جادة في شكل انفعالاتها مع الأشياء الخارجية والداخلية من حياتها الضاجة بفوبيا الوحدة والافتقاد إلى حيوات كريمة.وبناء على ما تقدم وتأخر من كشوفية الأحداث الروائية، عاينا كيفية مجرى المنطقة الدلالية في مكونات أولياتها وتراتيبية إطار اندراجها في علاقة حميمة مع عالم عائلة الزوجان بول ومريم إلى جانب احتضانها لطفليهما بطريقة يشوبها تارة الحنان وتارة ذلك الأثر من عدم كفايتها في كبح روادع هستيريتها المضمرة في مستوى شخصها.قد يكون التدليل الروائي من جهات عديدة في مناطق الرواية، لم يوفر لنا التقاط ما يسوغ لنا كل الظن والاعتقاد بأن المربية امرأة شريرة حقا، ولكن لو دققنا في مستويات البنية العلائقية جيدا، لوجدنا ما هو عكس ذلك من مقولة أن لويز المربية ذات سمات انطوائية لا تكشف عنها بذلك اليسر من التسمية في حد ذاتها.ولكننا مع كل هذا ووفق البنية الأولية من الرواية، تتضح لدينا ثمة تحفظات خاصة في إطلاق الأحكام المبكرة على هذه الشخصية، بخاصة وإنها لا تطمح في دالها المقترح سوى الاحتفاظ لنفسها بمكانتها داخل هذه العائلة إلى فترة من الزمن، خوفا على ذاتها من التشرد في الشوارع أو العمل في بيوت عادة ما يكونوا أصحابها من ذوي الكبرياء الاستقراطي الخشن.لذا فإنها بقيت طيلة يوم السبت بعد عودتها من المطار مع العائلة في هذا اليوم التالي على أمل أن تتصل عليها العائلة في مبادرة منهم في دعوتها إلى الانضمام إليهم إلى وجبة الغداء مثلا في أحدى المطاعم، وبما إنه يوم أجازة الزوجان من العمل وأجازتها هي أيضا في رعاية الطفلين، فلا يمكنها بمكان ما المبادرة منها في الذهاب تطفلا عليهم في يوم أجازتهم العائلية.لذا بقيت صراعا مع أثاث مسكنها الشاحب ولا تمنع نفسها من أن تقول في ذاتها: ( ـ لربما نادوا عليها ؟ هي تعلم أنهم يتغدون يوم السبت أحيانا بالمطعم، وهو خبر استقته من ميلا..يذهبون إلى حانة صغيرة حيث يكون من حق الطفلة الصغيرة أن تطلب ما تشاء، ومن حق آدم أن يذوق، تحت نظرات والديه المشبعة بالحنان، رأس ملعقة من الخردل أو الليمون.هي أيضا تود لو تفعل مثلهم./ص85 الرواية) هذا ما كنا نتحدث عنه من ثنائية (المتباينات ـ المتخافيات) خلوصا في ذلك الانطباع الظاهر من سلوكيات ودوافع هي ظاهرة ولكنها في ذات الوقت مخفية إلى أقصى الحدود.فهل من الممكن لنا أن ندرك ما جدوى خدمة المربية إلى العائلة في يوم عطلتها مثلا؟الإجابة عن هذا السؤال ليس تشخيصا مخمننا في اعتبارية فكرته الواضحة، بل مادة هذه الدوافع تحرز لدينا البعد النفسي في محامل هذه الشخصية.هي تود على ما يبدو أن تحيا وسط العائلة، لكونها امرأة عاشت مرحلة عصيبة من تفكك الأسرة وشروطها القيمة، ولأنها لم تحظ بالزوج فإنها تعيش بالمعادل التعويضي دور الزوجة السعيدة بوجود زوجة سعيدة تجلس إلى جوار زوجها فيما هي تلقي النظرات السرية مع ذاتها كونها الأم التعويضية عن مهام الأم الأصل، وبذلك فهي تهنىء بدور الأم والزوجة في خيالها وحوارية جدواها المنجزة وهما في قرارة نفسها.قبل كل شيء علينا أن نتذكر أن صورة الأفكار لا تنفصل عن صورة وقائع الممارسة، لو تمعنا فيها من ناحية تصورية حلمية فحسب.هكذا كانت المربية تعيش تفاصيل مفقوداتها الكلية بأفعال تعويضية داخل أفق ذاتها ، فهي المربية والأم والزوجة في دليل حضورها الشكلي.غير أن المهم في الأمر أن المربية قامت من تلقاء ذاتها في ارتداء فستانها الأزرق تحسبا لاحتمال (أرادت أن تكون جاهزة إذا ما أحتاجوا إليها، وطلبوا منها اللحاق بهم إلى مكان ما بسرعة..فات وقت الغداء، وتلبدت السماء بغيوم داكنة، وهبت ريح قوية على شجر الجميز ثم شرع المطر يسقط..فبدأت لويز تشعر بالضيق..فكرت في أن تخرج لشراء الخبز واستنشاق الهواء والمشي قليلا بما أنهم لم يتصلوا، لكن ماذا عساها تفعل في هذه الأزقة المهجورة؟ والمقهى الوحيد الموجود في الحي لا يعدو أن يكون ملاذا للسكارى. / ص86 الرواية) أن العلاقات المختزلة التي تحيط بمحكي المربية، قد يلوح لنفسه من جهة ما إلى ذلك (الفضاء المغلق) بكافة أوضاعه وسكناته المتمثلة في المسكوت عنه والمكبوت السيرذاتي المتاح من سياقات ذاكراتية معاشة إلى حد اللوعة والمأساوية المريرة.

ـ الفراغ الحسي وعقدة الآحاد في ذاكرة الدال السردي.

من هذا الفرع المبحثي لعلنا نتعرف على مواجيد نفسانية مؤلمة في مركب الذات الشخوصي المتعلق بسيرة الدال السردي المتجسد في حيوات المربية.فهي كما تطلعنا أخبار الرواية في أحدى أجزاءها، بأنها كانت تمقت أيام الآحاد تحديدا، نظرا لكونها تظل أسيرة ذلك الفضاء المغلق من سياق حياتها الفارغة من الاهتمامات الحسية والعاطفية كونها تلك الأم والزوجة في سابق عهدها: (تكره لويز عطلة نهاية الأسبوع.لما كانت ستيفاني لا تزال تسكن معها، كانت تشتكي من الفراغ يوم الأحد، ومن أنها لا تحظى بما تنظمه لويز من أنشطة للأطفال الآخرين.لذلك ما إن لمست في نفسها القدرة على الاعتماد على نفسها، حتى بدأت تتغيب عن الشقة.كانت تقضي ليلة الجمعة خارج البيت مع المراهقين، ولا تعود إلا في الصباح بسحنة شاحبة، وعينين محمرتين تطوقهما هالة سوداء..تعبر الصالون مطأطأت الرأس وهي تموت من الجوع./ص87 الرواية) من هذا المنطلق بالذات أختارت ستيفاني وجودها خارج سيطرة ومراقبة الأم والأب، ليصبح محورها متماثلا في غياهب التيه والتشرد والضياع العمري في شوارع العبث والمأزومية الذاتية التي لم تجد لها من ملاذا ما أمنا لا من جهة لويز ولا من جهة الأب جاك نفسه الذي وافاه الأجل بعد حياة دامية قضاها في مطالبة المحاكم عن حقوقه القانونية بوظيفته التي تم طرده منها، لذا بقيت لويز بعد موته مثقلة بالديون ووثائق دعوى المرافعات في الدور القانونية تملأ غرف المنزل الذي تركه للويز وحيدة بائسة، لا تقوى حتى على تسديد جزء من مستحقات إيجار هذا المنزل، ما جعلها الأمر أخيرا أن تقوم بحرق أغراض أبنتها ستيفاني بعد غيابها الأخير عن المنزل وحرقت جميع تلك الوثائق مسرعة بالمغادرة عن البيت البائس، وقد استأجرت لنفسها غرفة صغيرة في فندق بصورة مؤقتة:  (باتت تلك الليلة في غرفة بأحدى الفنادق أدت إيجارها قبل أسبوع من ذلك..وكانت تعد لنفسها ساندويشات تأكلها أمام التلفاز..وتبدت لها الوحدة مثل هوة سحيقة رأت نفسها تغور فيها..وبدأت هذه الوحدة التي التصقت ببشرتها وملابسها، في تغيير ملامحها، وتحويلها إلى عجوز صغيرة..أنقضت عليها مع حلول الظلام حين تعالت ضجة الناس الذين يعيشون مجتمعين تحت سقف واحد./ ص99 الرواية) فالسارد كلي العلم هنا أو هناك داخل فضاءات الشخوص والمسار السردي، يبدو واقفا عند حدود الرؤية النقلية التي لا تتخطى عينية المشاهد الخارجية والداخلية، وهو ما لم يبد معه أية حافزية استنباطية ما في النفاذ إلى الدواخل الشخوصية بطريقة فاعلة، وكلما أتى به هذا السارد هو تجسيد لملامح من الصورة الخاصة والمركزة من هيمنة الدال التأليفي.ولكن لا بأس به كونه حافظ على موقعه التحييني بمسارات حكيه عبر أزمنة وأمكنة وذوات راح يدعمها بذات الضمير من الخطاب المسرود.يظهر لنا في الوحدات السابقة من الفصول حادثة خروج لويز مع الطفلان إلى المتنزه، وما حدث في هذه النزهة كان خارج توقعات المربية التي أخذتها الإغفاءة والطفلان معها..ولكن ما حدث كان غريبا وذلك بعد أن استيقظت المربية والطفل آدم لصق جسدها، لفت انتباهها إلى عدم وجود الطفلة ميلا، فما كان عليها سوى النهوض فزعة تحمل الطفل والصراخ يتجمع في صدرها لا تقوى حتى على السير إثر هول ردة الفعل التي أحدثها غياب الطفلة، ورغم كل شيء فإنها أخيرا عثرت عليها قرب سيدة عجوز تتناول المثلجات، وما كان على المربية سوى حمل الطفلة بقوة غير مصدقة أنها عثرت عليها أخيرا، ورغم ذلك أيضا كان على المربية أن تتحمل ما سمعت من توبيخات تلك العجوز لها إثر اهمالها للطفلة عن قصد أو دون قصد.في غضون كل هذا عادت المربية بالطفلة إلى حيث ما كانوا سابقا، ولكنها فجأة وهي تحمل الطفلة شعرت بما يشبه الوخزة منها إلى العضة في لحم رقبتها: (صرخت وحاولت أن تتخلص من الطفلة التي عضتها إلى أن سال دمها.نفذت أسنان ميلا في اللحم، وظلت متشبثة بذراع لويز كحيوان هائج..أخفت لويز عن مريم ذلك المساء حادث الهرب والعضة.ولزمت ميلا أيضا الصمت من دون أن تتوعدها المربية أو تهددها.ومنذئذ نشأ تواطؤ خفي بينهما.وشعرا بأن هذا السر يوحد بينهما أكثر من أي رابط آخر. / ص94 الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

متعددة هي الأسباب والعلامات والمؤشرات التي يعنيها الروائي على امتداد خارطة فصول ومشاهد ووحدات روايته، فهناك أفعالا تستحضر من خلال تقاطع واستدعاءات خاصة في أبعاد اللعبة الروائية، كما وهناك بالمقابل مواقع تحليلية خاصة من رؤية الناقد لها قد تكون أحيانا بعيدة عن حرفية واملاءات التأليف القصدي من الروائي نفسه..أقول أن ليلى سليماني في الواقع لم تكترث كثيرا إلى لغة شخوصها ولا إلى مساحة سردها في الرواية، بقدر ما كانت منصرفة إلى إظهار موضوعاتها الروائية بطريقة غير نمطية تماما.لذا فأننا وجدنا في مواضع السرد للنص ثمة خارطة أخذ السرد من خلالها يبدو متعرجا في حوادث زمنية ومكانية ذات ارتدادية تبئيرية واصلة في أعلى تمفصلات الكينونة الشخوصية التي بدت لنا من التباينات والمتخافيات مقرونة بأبعاد دلائلية احتفظت لذاتها بإشكالية المكتوم والاظهاري في محكيات علائقية مسرودة من منظور مؤجلات المدلول أو عدم تأجيله في محافل مقاربة وقائعية ذات حيازات تشويقية مسبوكة في أحسن مراسم التفعيل السردي المتعرج في فواصل وواصلات القصدية الروائية المثيرة.

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم