قراءات نقدية

محمد المحسن: قراءة في رواية فيضان الثلوج للروائي التونسي عامر بشة

محمد المحسنلماذا نكتب.. لكي لا نهلك.. (دوسارتو)

إذا كان الأدب انعكاسا للواقع على الإحساس فإننا بدخولنا عوالم المبدع عامر بشة نطل على فضاءات تكون مسرحا لإتجاهات قرائية يكونها قضاء اللغة والشخوص والرؤى والحدث وفضاء السّرد.

النصوص الروائية –لعامر بشة– تلتمس تعدديتها بإختلاف القراءات وتنوعها، فتظهر مستويات كتابية جديدة، تضفي على النصوص آفاقا تأويليّة حسب استعداد الملتقي ومرجعيّته، غير ناسين حقيقة أنّ النصوص تحتوي على دوال تساعد على تفكيك النّص واستنطاقه يمكّن للقراءة الواعية استحضار ما خلف النص من إحالات، وإستثارة مرجعيات تثري النصوص وتحفّز المتلقي…

يواصل عامر بشة في روايته الثانية (فيضان الثلوج*) تلك الرحلة السّردية الشيقة التي قدّمها في روايته السابقة (البعيد**) أو بالأحرى يواصل بعدا سرديا من أبعاد هذه الرحلة وهو هذا البعد الذي يمزج الذاكرة بالتاريخ، ويستقطر من أبعاد هذا المزيج نوعا من السّرد الشعري الشفيف الذي تتميز به كتابته الروائية، فقد إستطاع عامر بشة أن يبلور لنفسه أسلوبا سرديا له خصائصه الشعرية ومذاقه السردي الخاص في الوقت نفسه، لأنّ شعر –عامر– السردي لا ينبع من معضلات اللغة، ولا من الجري وراء المفردات القاموسية، ولا حتى من الولع بالإستعارات والصور الشعرية، كما يحاول غيره من الكتاب، وإنما من الحساسية الرهيفة للتفاصيل الواقعية البسيطة والقدرة على استنطاقها بأقصى ما في طاقتها على البوح والتغيير فتبدو التفاصيل الواقعيّة عنده للوهلة الأولى وكأنها تقول الكثير وكأنها تفاصيل بالغة البساطة لا تخفي شيئا، ولكنك ما إن تتأمّلها قليلا حتى تجد أنّها في حقيقة الأمر التقطير المصفّى لعالم ثري من الرؤى والدلالات…

تمظهرات اللغة الإيحائية في المتن السردي :

يعتمد المؤلف لغة ذات طبيعة إيحائية ورمزيّة تعتمد المجاز مثل قول السّارد في الصفحة 55 : ”.. وأخشى أن تسقط الأرض في الفضاء المظلم.. بمتاهاته المجهولة، فقد ثقلت بما عليها.. وتلوثت.. وأوشكت على الإنهيار..”

و يتأكّد لدينا ذلك من خلال حضور معاجم للغة التشبيه والإستعارة كلغات ذاتية تتيح التوغّل (والإيغال) في الذات وإختراق عوالم الباطن، ويتحقق ذلك من خلال الصوغ الذاتي للغة Le subjectivation وهي تسترفد من شحنة الذاتيّة، وهذا ما تتميز به بعض المقاطع في الرواية تجعلها قريبة من لغة التأملات والخواطر والإيحاء الشعري مثل:

“وترفع رأسك.. لترسل بصرك إلى قمم الأشجار.. وإلى هالة الشمس المتسلسلة أشعّتها من خلال الأغصان الكثيفة وكأنها تراقبك أيّها القادم الغريب “الرواية ص 54.

– ”.. وسترى الشمس، بعد هذا، تختفي في عمق مظلم.. كالحزن.. كالتأزّم النفسي الذي يشمل روحك..” الرواية ص96.

– “..وتعب ثقيل يتعمّق في روحي.. وفي نفسي.. كما تتعمق الاحداث الماضية في الإدراك الباطني لدى الإنسان..” الرواية ص 22.

– “..وكنت في طفولتك تتأمل زبد الأمواج القادمة.. فيخيل إليك أنّها قطع من الثلج تطفو على سطح اليم.. متجمّدة.. كتجمّد عواطفك.. وباردة كبرودة مشاعرك ” ص91.

– “... والأعماق في النفس البشرية.. تجدها دائما مليئة بالأصوات المختلفة، المعبرّة عن كل ما يختلج داخلها.. تجاه الواقع بصراعاته.. وتجاه الموت بغموضه وتجاه الغيب بمفاجآته..“الرواية ص 20.

نجد أنفسنا من خلال هذه المقاطع إزاء لغة تحمل هواجس الذات وتنزاح نحو بنية لغة الشعر من خلال اقتصاد لفظي يضمن للخطاب الروائي شروط ودافعية الإنتقال نحو لغة تجعل من الحلم والإستيهام مرجعية أساسية في استبطان أغوار الذات السحيقة.. إنّه من شأن المقوّمات أن تكشف لنا عن حضور صوت المؤلّف كملفوظ لغوي وأدبي يحتفظ بإستقلاليته داخل الخطاب الروائي.

و يمكن أن تثار على ضوء هذه الإستقلاليّة إشكالية العلاقات النصية التلفظيّة التي تتأسس على ثنائيات: المؤلف السارد، المؤلف/ الشخصيّة، السارد/ الشخصية وذلك من حيث كونها لا تعرف استقرارا ثابتا ونمطيا داخل نص “فيضان الثلوج ” في ظل تنوع ملفوظه الروائي بين أصوات ولغات مختلفة إلى الحد الذي نتساءل فيه “من المتكّلم داخل النص (الملفوظ) ؟ “

فالمتلفظ في النص أحيانا هو السارد العليم وكأنّه راوي الرواة، أحيانا يتلببس صوت البطل الشخصية وكأنّه على دراية كاملة بالأحداث تسمح له بالتحكم فيها. فيأتي صوته أحيانا منصهرا مع صوت السارد الشيء الذي يعطي لحضور الزّمن الماضي الغالب على الافعال الحكائية الموظّفة تبريره النصي. وهكذا تحضر عبر هذا المكوّن لغة الذات المتكلمة تأتي لإدراج ملفوظاتها التثمينيّة هادفة إلى تحفيز ذهن القارىء واجتذابه لعوالمها الروائيّة وفضاءاتها التخييلية ولو عبر خطاب مونولوجي داخلي مباشر، يطلق فيه المتكلّم العنان لخياله وإحساساته كي تتداعى.

تقنيات السرد و الوصف في المتن الروائي:

عمد –عامر بشة– في نسج أحداث متن الرواية إلى طريقتين: طريقة السرد الكلاسيكي التي تأتي على لسان الراوي المتحكّم في تحريك مسارات الشخصيات

و توجيهها (الراوي يعرف أكثر من الشخصيات) وهي تقنية لم يلتجئ إليها السارد إلا في حالات نادرة. وطريقة السرد الحديثة التي يتخفى فيها الراوي و يترك الشخصيات تتحرك وفق حريتها ، فترسم مساراتها و تبوح عن مواقفها، أو تبتكر حوارات مع غيرها، إلى أن تصل إلى نهايتها الموضوعية تبعا لحمولتها الفكرية والنفسية والاديولوجية (الراوي لا يعرف الأعماق الداخلية للشخصيّات). وينطبق هذا التوجه في السرد على أكثر شخصيات هذه الرواية، وبخاصة شخصيّة حياة التي ظهرت كشخصية حرّة تلقائيّة، تعبّر عمّا يعتمل في وجدانها دون “رقابة“ من الراوي أو المؤلف، وقد ظهرت براعة القاصّ في هذا التقنية واضحة، فبدت شخصية بطل الرواية بعيدة عن كلّ وصاية، في تمثل نوازعها الفردية وطموحاتها الشخصية وعلاقتها بالآخرين، أو كما يقول جورج لوكاتش (الفنان هو الذي يبدع أوضاعا ووسائل تعبير يمكن بواسطتها أن يظهر حيّا كيف تشق هذه النوازع الفرديّة أطر العالم الفردي المحض.. وهنا يكمن سرّ نهوض الشخصية الفرديّة إلى مستوى النموذجي)(1). ويلاحظ أنّ السّرد يحتلّ مساحة كبيرة من نسيج الرواية على حساب الوصف، نظرا لما تتميز به الرواية من سمة استرجاعية، وتكثيف للأحداث، فيتلاحق السّرد في جمل فعليّة لا تكاد تترك للوصف أو الحوار حيزا وتعمل هذه التقنية على تأكيد المواقفوالرؤى ومحاولة تبريرها فنيا.

ومن هذه الرؤية السردية لا يكاد يلتجئ عامر بشة إلى تقنية الحوار إلاّ في مواقف محدودة، حين يتأزم السرد لتقريب وجهات نظرالشخصيات وعلاقاتهم المتصارعة.. كما يستعين السارد بالحوار أيضا في بعض الحالات لإظهار التباين الثقافي والفكري والأديولوجي، واختلاف وجهات النظر المتناقضة أو المتباينة.

أمّا الوصف، فلا مناص من أهميته في أي نص سردي، إذ يظل تقنية ضرورية لتجسيد المواقف، وتقريب ملامح الشخصيات وتحليل نفسياتها وتشيء الدلالات، في علاقة تواصلية بين الأشياء والطبيعة والنفس البشرية.

ويبدو أنّ عامر بشة في هذه الرواية، حاول أن يوفق بين السرد والوصف، فيضفي أوصافا على كائنات للطبيعة (بعد قليل.. ستنحرف الشمس بالتدريج لتغوص في الأفق، وسيتحول نورها في الأصيل إلى صورة شبيهة بحريق هائل..ص96).

وسرعان ما تنسحب إلى كائنات بشرية، وقد تأتي هذه الأوصاف في شكل تشبيهات واستعارات، تجسد عملية السرد، وتخدم مواقف السارد وتبرز الرؤيا التي يريد أن يثبتها أو يبثها في أفق انتظار المتلقي.

ومهما يكن، فإنّ الوصف في رواية – فيضان الثلوج– لا يتخذ مقاطع منفصلة بل يتداخل مع السرد، فالسارد وهو يصف، نراه فجأة يستنجد بالسرد لتطوير الحدث وما يكاد ينتهي من الصورة حتى يزاوج بين السّرد والوصف أو يهرع إلى الحوار والمفاجأة وتكاد تنطبق المقولة الشهيرة للناقد الفرنسي نيكولا بوالوNicolas Boileau (إنّنا نطنب إذا سردنا ونوجز إذا وصفنا) على تقنيات السرد في رواية-فيضان الثلوج– …

وعلى ما تميّزت به هذه الرواية من تقنيات حديثة وأساليب فنية راقية في تشكيل المتن السردي مما يلحق صاحبها بقائمة نخبة الأقلام، من كتّاب الرواية التونسية المعاصرة- تبقى أقرب إلى السيرة الذاتية، والإسترجاع التاريخي، منها إلى الرواية الفنية التي تجسد البعد الإنساني في مقوماته الحضاريّة والنفسية والإجتماعية، وترسم آلام البشر وآمالهم المشتركة في خضم الواقع وأطياف الصراع ومهما يكن من أمر هذا العمل، فإنّ الكاتب قد توسّل في الخطاب السردي بتقنيات خلقت تقاليد قصصية واعدة تمتاز بتكثيف الدال واللجوء إلى التكرار وتهشيم الزّمن وتقطيع السرد و الإتكاء على معجم حسي يطمح إلى احتواء غليان الداخل وتأججه..

 

محمد المحسن - ناقد تونسي

 

 

في المثقف اليوم