قراءات نقدية

مفيد خنسة: الشاعرة التونسية هند محمد تقتفي ظلال امرأة واحدة

مفيد خنسة[ظلال لامرأةٍ واحدة
ظلّ أول "شهرزاد"(1)
وجاءتْ تجرُّ من الروح خيباتِها.
وتصنعُ من عشبها الأزليّ
وسائد للمتعبينْ.
وكانت تهزُّ بأنهارها نحو أرضٍ بعيدهْ.
لتحضن طفلاً شريداً على باب قلبٍ
يمدّ أكفّ اشتياقٍ
ويطلبُ ملحَ الحياة
وصارت تلمّ من الغيمِ أنخابهُ
وتنثرُ في الجدبِ ظلّ السحابِ الحزينْ
وقد تستحي أن تلمّع ليلاً غريباً
يمرّ بقريةِ ماءٍ تحاذي تفاصيلَها.
ولا يشتهي قطرَها.
ولا بئرَها اليوم قد تستكينْ
وكانت تعبّئ تلك المصابيحَ في صدرِها.
تسيل كضوءٍ تخثّر من عطر أسمائكم.
فكيف اعترتكم تواريخُها؟
وكيف على ضفّة الأمنياتِ تنامت جراحُ يديها
ستأوي الطيورُ إليها
خطاك ترافقها أينما تنشبُ الشمسُ فيها احتراق السدى
وحتى تؤرشفَ أفراحك العارية
ستنسى الطريقَ القريبَ المؤدي إليها
ستزرع بين الغياهبِ أشواقَها
وتقتل كلَّ الأفاعي التي تشتهي ظلّها.
سيغرقُ فيك السديمُ
ويكبرُ فيك المدى..
ظل ثانٍ "راعيل"(2)
تهشّ
بكفِّ الخطيئةِ موجَ سنابلِه المترعهْ.
وتهفو إلى باب دمعٍ
تكاثفَ فيه ارتيابُ المعاني
وجنت سماءٌ على ضفّتيه
وكانت كصيفٍ قديمٍ يرتّلُ اسماً يجفّ بنهر الكلامِ
وكانت تمدّ جداولَها دون ريبٍ لتطلعَ منها رياحُ المدنْ.
غريبٌ عليها الجفافُ
غريبٌ هباءُ المرايا وجدبُ الشفاهِ
بقلبِ المدينة ريحٌ تراودُها عن خطاها
وعند السكونِ إليها تفرُّ إليه
وتبحثُ وسط الذنوبِ القديمةِ عنها
بقلبِ المدينةِ طفلٌ تعجّ رؤاهُ بعمرِ جديد
ويسكبه الغائبون ضياءً
إليها...
إلى صوتها المستميتِ يعودُ
ليفتَح في الروحِ باباً جديداً
تحجُّ الحكايا إليه
ظلٌّ ثالث " هيبوليتا "(3)
بشوقٍ طويلٍ لأرض الرجالِ
تطلّ عليها السماءُ
وتسكبُ فيها ارتعاشةَ موجٍ
تأجّلَ فيه الصراخُ
تكسّر حتى انعطبْ
لسيفٍ يقطّعُ جمرَ الحكايا
" تميثيرُ" ترثي خطاها الغريبةَ
أم تنتحبْ
ستزرع بين الكفوفِ سهاماً ودرعاً
يقي الروحَ من عطرها واللهبْ
ولكنّ " أمَّ القمورِ" تغني على قبرِ أنثى اشتراها الغيابُ
ودقّ مساميرها فوق قفر المرايا
سماواتها الآن موعودةٌ بالبكاء
نهاراتها السمر لا ضوءَ قد يرتديها
ولا بابَ في الروح يدخلهُ الفاتحون
بشوقٍ قتيلٍ لأرضِ الذكورِ
أطلّت ذئابٌ عليها تلطّخُ ثوباً جريحاً
بدمعِ الأغاني يفيضُ
ويثقبُ جسمَ القصيدةِ حدّ العظام
ظلٌّ رابع: "نور بارق"(4)
تعوّدَ سهو الصحارى عليها
تعوّد ذاك السرابُ البعيدُ تجاويفها
ستسري إليها الظلالُ
وينبتُ عشبُ الغيابِ على راحتيها
وتاهتْ
-" بنت دريدٍ "-
بأرضٍ طواها السّكاتُ
وكانتْ
-" المتخبلة في شعورها "-
تهيّئُ نزفاً أخيراً لجرح المكان
ترصّفُ دمعَ الأغاني
وتفتحُ لحناً كبرق
ستصحو سماءٌ كجرحٍ وتصعدُ تلك اللغات إليها
سيحفظ كلُّ المجاذيب أشواقها.
وتجري تراتيلها في جفاف المعاني
فيا ليتها تحفظ البحرَ في روحها
ويا ليتَ ما قدمتهُ يداها يصوغُ من الموجِ أنفاسها ويقتلُ
فوضى الدماءِ
أطلّ عليها مع التائهين بدربِ الحكايا
هي الآن صوتُ المرايا
هي الآن اسمي الذي أسقطته المرايا
ضفافي التي خانها النهرُ يوماً ونزفُ المخاضِ الطويلُ

في سيرة امرأةٍ لها كلّ الظلال (5)
أنا بعض تلك الظلال التي يتّمتني
ورحتُ بكلّ الموانئِ حيث تحط جراحي
أرمم صوتَ البكاءْ
أنا بعض اسمي القديمِ
تلاشى به الضوءُ حتى استطابَ المقامْ
أنا بنت بعض الحكايا
وماءٌ تلبّس بالليل حتى السهادْ]
***
هند محمد .. تونس
............................
هل عرف التاريخ مجتمعاً خالياً من النساء؟ طبعاً هنا لا أقصد المجالس أو الهيئات أو الأحزاب في المجتمعات والدول، في حدود معرفتي لم يعرف التاريخ البشري مجتمعاً خالياً من النساء، ولكن يروى في الأسطورة أن قبيلة الأمازونيات، لم يكن فيها سوى النساء اللواتي يتمتعن بجمال فائق، وحسن خلاب.
وأمازون: تعني من دون رجال، وهي مشتقة من الأمازيغية التي تعتبر لهجة البربر الذين عاشوا منذ فجر التاريخ، ومن هذه القبيلة تختار الشاعرة التونسية هند محمد ظلّاً للمرأة التي تشكل مفهوماً ذهنيّاً، في قصيدتها التي حملت مجموعتها الشعرية عنوانها (ظلال لامرأة واحدة) الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول عام 2019، ثم تختار زليخا واسمها راعيل زوجة عزيز مصر ظلّاً للمرأة أيضاً، ثم تختار شهرزاد بطلة ألف ليلة وليلة ظلّاً آخر للمرأة، كما تختار (نور بارق) الجازية الهلالية ظلّاً رابعاً لها، ثم تختتم قصيدتها بالمرأة التي لها كل الظلال، فما سرَ هذا الاختيار؟ وما هي المضامين التي تريد الشاعرة أن تعبر عنها من خلال تلك الظلال؟ وكيف تمكنت من إحداث العلاقات الجديدة بين جملها الشعرية في التركيب الشعري الواحد؟ وكيف أجدت صيغ العلاقات بين التراكيب في الفرع الواحد؟، سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من خلال هذه الدراسة التي تعتمد منهج النقد الاحتمالي.
الفرع الأول: ظلّ أول "شهرزاد"(1)
تقول الشاعرة:
(وجاءتْ تجرُّ من الروح خيباتِها.
وتصنعُ من عشبها الأزليّ
وسائد للمتعبينْ.
وكانت تهزُّ بأنهارها نحو أرضٍ بعيدهْ.
لتحضن طفلاً شريداً على باب قلبٍ
يمدّ أكفّ اشتياقٍ
ويطلبُ ملحَ الحياة
وصارت تلمّ من الغيمِ أنخابهُ
وتنثرُ في الجدبِ ظلّ السحابِ الحزينْ
وقد تستحي أن تلمّع ليلاً غريباً
يمرّ بقريةِ ماءٍ تحاذي تفاصيلَها.
ولا يشتهي قطرَها.
ولا بئرَها اليوم قد تستكينْ
وكانت تعبّئ تلك المصابيحَ في صدرِها.
تسيل كضوءٍ تخثّر من عطر أسمائكم.
فكيف اعترتكم تواريخُها؟
وكيف على ضفّة الأمنياتِ تنامت جراحُ يديها
ستأوي الطيورُ إليها
خطاك ترافقها أينما تنشبُ الشمسُ فيها احتراق السدى
وحتى تؤرشفَ أفراحك العارية
ستنسى الطريقَ القريبَ المؤدي إليها
ستزرع بين الغياهبِ أشواقَها
وتقتل كلَّ الأفاعي التي تشتهي ظلّها.
سيغرقُ فيك السديمُ
ويكبرُ فيك المدى..).
تبين الشاعرة في هذا الفرع صورة المرأة التي استطاعت أن تخلص نساء المملكة من جبروت الملك شهريار وعقدته (وجاءت تجر من الروح خيباتها)، وشعابه الرئيسة هي: (وتصنعُ من عشبها الأزليّ / وسائد للمتعبينْ.) و(وكانت تهزُّ بأنهارها نحو أرضٍ بعيدهْ.) و(وصارت تلمّ من الغيمِ أنخابهُ) و(وتنثرُ في الجدبِ ظلّ السحابِ الحزينِ) و(وكانت تعبّئ تلك المصابيحَ في صدرِها.) و(تسيل كضوءٍ تخثّر من عطر أسمائكم.)، أما شعابه الثانوية فهي: ((لتحضن طفلاً شريداً على باب قلبٍ / يمدّ أكفّ اشتياقٍ / ويطلبُ ملحَ الحياة) و(وقد تستحي أن تلمّع ليلاً غريباً / يمرّ بقريةِ ماءٍ تحاذي تفاصيلَها.) و(ولا يشتهي قطرَها. / ولا بئرَها اليوم قد تستكينْ) و(فكيف اعترتكم تواريخُها؟) و(وكيف على ضفّة الأمنياتِ تنامت جراحُ يديها) و(ستأوي الطيورُ إليها) و(خطاك ترافقها أينما تنشبُ الشمسُ فيها احتراق السدى/ وحتى تؤرشفَ أفراحك العارية) و(ستنسى الطريقَ القريبَ المؤدي إليها) و(ستزرع بين الغياهبِ أشواقَها) و(وتقتل كلَّ الأفاعي التي تشتهي ظلّها.) و(سيغرقُ فيك السديمُ / ويكبرُ فيك المدى..).
قصة شهرزاد والملك شهريار:
عندما تأكد الملك شهريار أن زوجته التي كان يحبها حباً شديداً تخونه، تشكلت لديه عقدة نفسية من النساء، حتى أصبح يعتقد أن جميع النساء في العالم خائنات، ولم يكتفِ بقتلها وحسب، بل قرّر الانتقام من النساء جميعاً من خلال الزواج في كل يوم من فتاة من فتيات المملكة، ومن ثم يقتلها في اليوم التالي بهدف عدم السماح للفتاة التي تزوجها أن تخونه كما فعلت زوجته الأولى، وجاء اليوم الذي تعرف فيه شهريار على شهرزاد التي قررت أن تضحي بنفسها وتتزوجه من أجل إنقاذ النساء في المملكة من بطش شهريار، واتبعت معه أسلوباً فريداً بأن تقص للملك شهريار في كل يوم قصة خيالية مثيرة ومشوقة، ثم تتوقف عند حدث يثير دهشة الملك ويدفعه حبه لسماع تتمة القصة إلى العفو عنها وإمهالها إلى اليوم التالي، وهكذا تستمر حكايات شهرزاد حتى تبلغ حكاية وألف حكاية، وقد تطلب ذلك منها أن تجمع عدداً كبيراً من قصص الملوك والأساطير، بالإضافة إلى دراستها للفلسفة والعلوم ومختلف أنواع الفنون، وقد كانت تتصف شهرزاد بالحكمة والذكاء واللطف والتهذيب، وكانت ذات أخلاق حميدة، لذلك كانت محبوبة من الجميع،.
في المعنى (1):
الأسلوب في هذا الفرع خبري كما هو واضح، والصفات التي ذكرت عن شهرزاد في القصة التي حرصتُ على ذكر ملخصها الشائع تغفل صفات أساسية أخرى لها، ومنها الشجاعة والثقة، والأهم من هذا كله هو امتلاكها موهبة فريدة في القص، تمكنها من جعل الملك شهريار في حالة من الإثارة والتشويق إلى درجة تجعله يعفو عنها ويؤجل قتلها إلى اليوم التالي من أجل أن تكمل له القصة، وتصبح رغبته في معرفة تتمات الحكايات وسيلة للتخلص من عقدته تجاه النساء رويداً رويداً، حتى يتوقف عن الانتقام منهن بالقتل، أما مغامرة شهرزاد من حيث القيمة الإنسانية فهي صورة حية للتضحية بالنفس دفاعاً عن المرأة عموماً، ودفاعاً عن نفسها من أجل تحقيق وظيفتها في الوجود وهي الأمومة، إنها تدافع عن الطفل المنتظر، إنها تدافع عن الوجود الإنساني، وهي باختصار تدافع عن الحياة، وهذا العرض مازال يشكل مناخاً عاماً للدخول إلى عوالم مكونات هذا الفرع من القصيدة، فقولها: (وجاءتْ تجرُّ من الروح خيباتِها.) يبين أن الافتتاح بواو الاستئناف، أو واو العطف على محذوف يفيد بأن الشاعرة قد افتتحت الفرع بأسلوب شهرزاد التي تمثل ظلاً أول من ظلال امرأة واحدة، وهو أسلوب القص الفريد، أي كأن حرف (الواو) يشير إلى أن حدثاً استثنائياً أو أن أحداثاً استثنائية كانت قد وقعت، تستدعي من شهرزاد أن تجيء، والفعل (جاءت) يبين أن مجيئها كان مجيئاً إرادياً، ألم نر قول الله سبحانه وتعالى: (وجاءَ من أقصى المدينة رجلٌ يسعى قال يا قومِ اتبعوا المرسلين سورة يس الآية 20)، كيف يبين أن هذه الواو استئنافية، وتفيد أن حدثاً أو أحداثاً استثنائية قد حصلت وهي إرسال الرسل للناس وكفر الناس بهم! وهذا استوجب من الرجل في أقصى المدينة أن يقرر المجيء، ولكن لماذا؟ والجواب تتضمنه تتمة الآية الكريمة: (قال: يا قومِ اتبعوا المرسلين) أي جاء ليقول لقومه الذين يكفرون أن يتبعوا المرسلين، لنستدل أن معنى قول الشاعرة: (وجاءت) أي قررت المجيء في ظروف قاهرة من دون أن تذكرها، لأن الذاكرة الجمعية تحتفظ بمعرفة تلك الظروف من خلال قصة ألف ليلة وليلة الشهيرة. وقولها: (تجر) يفيد في وصف الحالة التي جاءت عليها، كما يفيد بأنها لا تقوى على حمل ما تجر، وقولها(من الروح) أي من حقيقة وجود المرأة، ومن سر خلقها كي تستمر دورة الحياة، وقولها: (خيباتها) أي إنها تتحمل هذا الإرث التاريخي الكبير من الانكسارات والخذلان والمعاناة والعذاب، وهل أصعب من أن تُقتل امرأة بسبب خيانة امرأة غيرها، فكيف وقد كان الملك شهريار يقتل كل يوم امرأة انتقاماً من زوجته الأولى التي خانته؟!. وقولها: (وتصنعُ من عشبها الأزليّ / وسائد للمتعبينْ.) أي إن شهرزاد مثالٌ للمرأة التي تضحي بأعظم ما تختزنه خلال تجربتها من أجل سعادة الآخرين وراحة المتعبين، وقولها: (وكانت تهزُّ بأنهارها نحو أرضٍ بعيدهْ.) أي كان عطاؤها يتدفق كالأنهار التي تمتد بعيداً حتى تصل إلى الأرض العطشى، وقولها: (لتحضن طفلاً شريداً على باب قلبٍ يمدّ أكفّ اشتياقٍ/ ويطلبُ ملحَ الحياة) أي من أجل أن تروي عطش الأطفال الفقراء والمساكين، فتضمهم إلى صدرها وتغمرهم بحنانها، كما تغمر مياه الأنهار وجه الأرض، وتقدم إليهم ما يحتاجون في كل مكان تحل فيه، من أجل أن ينعموا بحياة آمنة كريمة، وقولها: (وصارت تلمّ من الغيمِ أنخابهُ / وتنثرُ في الجدبِ ظلّ السحابِ الحزينْ) يشير استخدامها للفعل (صارت) إلى التحول الذي طرأ على فعلها وسلوكها، من أجل أن تحقق هدفها الأعلى، أي بعد أن كانت تهز بأنهارها نحو الأرض البعيدة، أصبحت تبحث عن أسباب تشكل هذه الأنهار أصلاً، وهو المطر الهاطل من الغيم، لذلك صارت تلم أنخاب الغيم، ثم ترش الماء الذي يحمله السحاب فيتلاشى حزيناً على ظلّه فوق الأرض القاحلة المجدبة، وقولها: (وقد تستحي أن تلمّع ليلاً غريباً /يمرّ بقريةِ ماءٍ تحاذي تفاصيلَها. /ولا يشتهي قطرَها. /ولا بئرَها اليوم قد تستكينْ) أي على الرغم من أنها تفعل كل ما تقدم ذكرُه، فقد تبدو خجولة وهي تضيء ظلمة الليل الطويل الذي يبدو غريباً وهو ينقضي بقرية ماء تحاذي تخوم الجسد المبلل من عرقها وكدّها من دون أن يشتهي بللها المثير، وعلى الرغم من تجاهله لها، فإن فيضَ بئرِ مشاعرِها الملتهب لا يهدأ، بل يبقى متجدداً بالرغبة، وقولها: (وكانت تعبّئ تلك المصابيحَ في صدرِها.) أي ومن شدة حيائها كانت تضطر أن تكتم مشاعرها وتخفي مصابيحها التي كانت تلمّع بها ذلك الليل في أعماق صدرها الذي كاد أن يمتلئ من كثرتها وشدة توهجها، وقولها: (تسيل كضوءٍ تخثّر من عطر أسمائكم.) أي إنها تنتشر كالضياء المنبعث من حسن سير الرجال الذين أنجبتهم وولمعت أسماؤهم كالمصابيح المضيئة، وقولها: (فكيف اعترتكم تواريخُها؟ / وكيف على ضفّة الأمنياتِ تنامت جراحُ يديها) أي هلّا تساءلتم كيف حملتُم تواريخ تلك الأسماء التي صنعتها؟!، وكيف استطاعت أن تحقق الأحلام بفعل تضحيتها ورحلة شقائها وجراح يديها المتعبتين؟!، وقولها: (ستأوي الطيورُ إليها /خطاك ترافقها أينما تنشبُ الشمسُ فيها احتراق السدى) أي ستنجذب الطيور إليها لتحتمي بها، وخطاك أيها الرجل كيفما كنت ترافق خطاها في كل مكان تشرق الشمس عليه، وقولها: (وحتى تؤرشفَ أفراحك العارية /ستنسى الطريقَ القريبَ المؤدي إليها /ستزرع بين الغياهبِ أشواقَها) أي حين ينشغل الرجل بتوثق ذكريات أفراحه من دون المرأة، سينسى أقرب الطرق التي يعبرها للوصول إليها، لأنها ستكون قد دفنت أشواقها في الظلمات، وعندئذ سيعجز عن الظفر بها، وقولها: (وتقتل كلَّ الأفاعي التي تشتهي ظلّها. /سيغرقُ فيك السديمُ /ويكبرُ فيك المدى..) أي وستتمكن من قتل كل أفاعي الرغبة التي تريد افتراس جسدها، حينها سيضنيك التعب وتكبر المسافات بينك وبينها.
في المعنى (2):
أول ما يتبادر للذهن سؤال رئيس وهو أين تجلت شخصيّة شهرزاد التي حكت حكاية وألف حكاية خيالية حفظت في الكتاب الشهير (ألف ليلة ولية) في هذا الفرع من القصيدة؟ والإجابة تحتاج إلى تأملٍ وصبر، لأن الشاعرة اعتمدت على رموز متعددة قد تجعل الصورة غير واضحة كفاية، لذلك تحتاج هذه القصيدة إلى إعادة القراءة مرة بعد مرة لمن يريد أن يستقصي المقاصد والدلالات للمضامين والمعاني فيها.
أولاً: الشخصيات
في الفرع عدد من الشخصيات التي تعنيها الشاعرة وهي:
(1) الراوية التي تمثل ذات الشاعرة وهي تقص سيرة شهرزاد. ويتجلى ذلك بقولها: (وجاءت ..، وتصنع..، وكانت تهزّ..، وصارت..، وتنثرُ..، ....الخ).
(2) الجماعة التي توجه خطابها لهم، ويتجلى بقولها: (تسيل كضوءٍ تخثّر من عطر أسمائكم. /فكيف اعترتكم تواريخها؟..) .
(3) الرجل الذي يمثله شهريار
(4) شهرزاد التي تمثل ظلّا للمرأة التي تعنيها الشاعرة في القصيدة.
ثانياً: التحول
شهرزاد التي تمثل ظلّاً أول في القصيدة هي شخصية متحولة، ويمكن تتبع ذلك التحول على النحو التالي:
(1) تمثل المرأة المثقلة بالخيبات والانكسارات، عبر تجربتها وتضحياتها من أجل أن تحقق السعادة المفقودة لدى المتعبين، ويشير إلى ذلك قولها: (وتصنعُ من عشبها الأزليّ /وسائد للمتعبينْ.).
(2) تمثل الأم الحاضنة للطفولة، وهي تبذل ما تستطيع من أجل أن تؤمن مأوى لكل طفلٍ شريد يحلم بحياة آمنة كريمة. ودليل ذلك قولها: (لتحضن طفلاً شريداً على باب قلبٍ /يمدّ أكفّ اشتياقٍ /ويطلبُ ملحَ الحياة).
(3) تمثل شهرزاد التي تقص على شهريار حكاياتها بحياء في ليلها الغريب من دون أن تثيره تفاصيلها التي تفيض أنوثة واشتهاءً، حيث تقول: (وقد تستحي أن تلمّع ليلاً غريباً /يمرّ بقريةِ ماءٍ تحاذي تفاصيلَها. /ولا يشتهي قطرَها.).
(4) تمثل المرأة التي تكتم أشواقها وتدفنها في الظلمات لتكون القطيعة بين الرجل (شهريار) والمرأة (شهرزاد).
ثالثاً: ظل الخيانة
وإن كان باهتاً، فقد أشارت إليه بقولها: (وحتى تؤرشفَ أفراحك العارية)، والمقصود هنا الرجل عموماً، وشهريار الذي خانته زوجته التي أحبها، وعاش معها أجمل الأفراح، ولكنه حين يمعن في توثيق أفراحه التي بدت عارية بفعل خيانتها له، سيكون ذلك سبباً كافياً لكي ينسى الطريق المؤدي إلى شهرزاد التي تمضي أيامها معه على جمر الخوف والرعب والانتظار، وهي تحلم بالطفولة والحب والأمان، وهكذا سيستمرّ شهريار في تتبع حكاياتها، وينسى حضور عواطفها ونداءات تفاصيلها الأنثوية حتى يغرق فيه السديم وتتسع المسافات بينهما.
الصورة والبيان:
تعتمد الشاعرة على المعاني المجازية في جملها وتراكيبها الشعرية، فتحتشد الصور البيانية الجزئية في سياق البناء العام للقصيدة، فقولها: (وجاءتْ تجرُّ من الروح خيباتِها.) استعارة، وقولها: (وتصنعُ من عشبها الأزليّ /وسائد للمتعبينْ.) استعارة، فيصبح التركيب: (وجاءتْ تجرُّ من الروح خيباتِها. /وتصنعُ من عشبها الأزليّ /وسائد للمتعبينْ.) صورة بيانية ثنائية البعد لأنها تتضمن استعارتين بآن واحد، وقولها: (وكانت تهزُّ بأنهارها نحو أرضٍ بعيدهْ.) استعارة، وقولها: (لتحضن طفلاً شريداً على باب قلبٍ) استعارة، وقولها: (يمدّ أكفّ اشتياقٍ) استعارة، والتركيب: (لتحضن طفلاً شريداً على باب قلبٍ /يمدّ أكفّ اشتياقٍ /ويطلبُ ملحَ الحياة) يمثل صورة بيانية ثنائية البعد، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصور البيانية تدعي قصيدة السطح، أو قصيدة مستوية، لأنها تمتلك درجتين من الحرية. وقولها: (وصارت تلمّ من الغيمِ) استعارة، وقولها: (تلم من الغيم أنخابهُ) استعارة، ويصبح التركيب: (وصارت تلمّ من الغيمِ أنخابهُ) صورة ثنائية البعد لأنها تضم استعارتين بآن واحد، وقولها: (يمرّ بقريةِ ماءٍ تحاذي تفاصيلَها.) استعارة، وقولها: (ولا يشتهي قطرَها.) استعارة، وقولها: (ولا بئرَها اليوم قد تستكينْ) استعارة، والتركيب: (وقد تستحي أن تلمّع ليلاً غريباً /يمرّ بقريةِ ماءٍ تحاذي تفاصيلَها. /ولا يشتهي قطرَها. /ولا بئرَها اليوم قد تستكينْ) يمثل صورة بيانية ثلاثية الأبعاد لأنها تتضمن ثلاث استعارات بآنٍ واحد، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصور تدعى قصيدة عميقة لأنها تمتلك ثلاث درجات من الحرية. وقولها: (وكانت تعبّئ تلك المصابيحَ في صدرِها.) استعارة، وقولها: (تسيل كضوءٍ تخثّر من عطر أسمائكم.) تشبيه واستعارة، وقولها: (وكيف على ضفّة الأمنياتِ تنامت جراحُ يديها) استعارة، وقولها: (وحتى تؤرشفَ أفراحك العارية) استعارة، وقولها: (ستزرع بين الغياهبِ أشواقَها) استعارة، وقولها: (سيغرقُ فيك السديمُ /ويكبرُ فيك المدى..) صورة بيانية ثنائية البعد.
التحول ودلالة حروف الجر:
نلاحظ أن التركيب الأول في هذا الفرع يبتدئ بالفعل الماضي الناقص (كانت)، ثم يليه مباشرة الفعل اللازم(تهزّ)، ومن ثم يتضمن ثلاثة أفعال متعدية (لتحضن، يمدّ، يطلبُ)، ثم تفتتح الشاعرة التركيب الثاني من هذا الفرع بالفعل الناقص (صارت)الذي يشير إلى التحول الذي تحدثنا عنه، وتجعله يتألف من جملتين اثنتين، الأولى: (تلمّ من الغيمِ أنخابهُ) و(تنثرُ في الجدبِ ظلّ السحابِ الحزينْ) وبينهما أداة الربط (وَ)، والمهم هنا أن نلاحظ أن التحول الذي أشرنا إليه يرافقه تحولٌ في استخدام حرف الجر (من) في الجملة الأولى بدلاً من (عن)، والأصل (تلم عن الغيم أنخابهُ، وكذلك يترافق مع تحول حرف الجر (في) بدلاً من (على)، والأصل (تنثر على الجدب ظلّ السحاب الحزين) أي يتعدى الفعل(تلمُّ) بحرف الجر (عن) فنقول: (تلم عن)، كما يتعدى الفعل (تنثر) بحرف الجر (على)، فنقول: (تنثر على)، والسؤال: ما الحكمة من هذا التوظيف؟، وما الهدف من هذا التحول؟، والسرّ يكمن في المعنى، فعندما قالت: (تلم من الغيم أنخابه) فذلك يعني أن الأنخاب ما زالت في حالة الكمون في الغيم، وهي بذلك تصطفي وتختار من الغيم أفضله وأحسنه، ولذلك استبعدت الشاعرة استخدام حرف الجر (عن) لأن القول: (تلم عن الغيم أنخابه) يعني أن الأنخاب موزعة ومتناثرة على الغيم، وهذا يفسد المعنى الذي تريده الشاعرة وإن كان المعنى ممكناً، وعندما قالت: (وتنثرُ في الجدبِ ظلّ السحابِ الحزينْ) فهذا يعني أنها تبذر وترش داخل الجدب ظل السحاب الحزين، ليصبح ما تنثره من الماء وغيره من ذلك الظل ممتزجاً بالأرض والأنفس والتكوين، ولوقالت: (تنثر على الجدب ظل السحاب الحزين)، فهذا يعني أن ما تنثره من ظل الغيم يكون على السطح من دون أن ينفذ إلى الأعماق، وهذا المعنى لا يرقى إلى ما ذهبت إليه الشاعرة. وهنا نلاحظ أن اللغة تطيع المعنى وهي قابلة للتحول من حيث الدلالة بما يساعد على التعبير عن المعاني التي يريد إحداثها الشاعر. أما عن أهمية أدوات الربط بين الجمل والتراكيب الشعرية فذلك أوضحه في فقرة (المنطق وأدوات الربط).
الفرع الثاني: ظل ثانٍ "راعيل"(2)
تقول الشاعرة:
(تهشّ
بكفِّ الخطيئةِ موجَ سنابلِه المترعهْ.
وتهفو إلى باب دمعٍ
تكاثفَ فيه ارتيابُ المعاني
وجنت سماءٌ على ضفّتيه
وكانت كصيفٍ قديمٍ يرتّلُ اسماً يجفّ بنهر الكلامِ
وكانت تمدّ جداولَها دون ريبٍ لتطلعَ منها رياحُ المدنْ.
غريبٌ عليها الجفافُ
غريبٌ هباءُ المرايا وجدبُ الشفاهِ
بقلبِ المدينة ريحٌ تراودُها عن خطاها
وعند السكونِ إليها تفرُّ إليه
وتبحثُ وسط الذنوبِ القديمةِ عنها
بقلبِ المدينةِ طفلٌ تعجّ رؤاهُ بعمرِ جديد
ويسكبه الغائبون ضياءً
إليها...
إلى صوتها المستميتِ يعودُ
ليفتَح في الروحِ باباً جديداً
تحجُّ الحكايا إليه).
تبين الشاعرة في هذا الفرع صورة المرأة التي نذرت نفسها للحب الطاهر المقدس وعقدته (تهشّ / بكفِّ الخطيئةِ موجَ سنابلِه المترعهْ.) وشعابه الرئيسة هي: (وتهفو إلى باب دمعٍ/ تكاثفَ فيه ارتيابُ المعاني/ وجنت سماءٌ على ضفّتيه) و(وكانت كصيفٍ قديمٍ يرتّلُ اسماً يجفّ بنهر الكلامِ) و(وكانت تمدّ جداولَها دون ريبٍ لتطلعَ منها رياحُ المدنْ.) و(وعند السكونِ إليها تفرُّ إليه) و(وتبحثُ وسط الذنوبِ القديمةِ عنها)، أما شعابه الثانوية فهي: (غريبٌ عليها الجفافُ) و(غريبٌ هباءُ المرايا وجدبُ الشفاهِ) و(بقلبِ المدينة ريحٌ تراودُها عن خطاها) و(بقلبِ المدينةِ طفلٌ تعجّ رؤاهُ بعمرِ جديد) و(ويسكبه الغائبون ضياءً / إليها...) و(إلى صوتها المستميتِ يعودُ / ليفتَح في الروحِ باباً جديداً / تحجُّ الحكايا إليه).
قصة (راعيل) زليخا:
من أكثر القصص شهرة، قصة حب زليخا لسيدنا يوسف (ع)، واسمها راعيل زوجة بوتيفار عزيز مصر، بعد أن ربته في بيتها أحد عشر عاماً، حتى أصبح شاباً جميل الوجه، حسن الخلق، شجاعاً قويّاً، ذا علم ومعرفة، وقد ذكر القرآن الكريم هذه القصة في سورة يوسف(ع)، وكانت كل يوم تزداد حبّاً له وشغفاً به، حتى راودته عن نفسه، بارتكاب الخطيئة لكنها لم يستجب لها وهرب منها فوجد سيدها بوتيفار في الباب، وعلم أنها هي التي راودته عن نفسه، وتتمة القصة معروفة لا داعي لذكر تفاصيلها، لكن المهم أن زليخا بقيت وفية لهذا الحب بعد أن مات زوجها، واكتشف ملك مصر حقيقة ما جرى مع يوسف فأطلق سراحه ووضعه مكان بوتيفار عزيز مصر، وبقيت تقضي أيامها بالبكاء عليه، وانتظاره على أمل أن تلتقي به، حتى أنفقت كل ما تملك على الذين كانوا يأتونها بأخباره، وأصبحت عجوزاً هرمة، وتنتهي القصة بزواج سيدنا يوسف (ع) من زليخا بوحي من الله، ورد الله إليها بصرها لترى حبيبها، وأعاد إليها جمالها وشبابها.
في المعنى:
الأسلوب في هذا الفرع خبري، وفيه تختار الشاعرة "راعيل" وهي زليخا كظلّ ثان للمرأة الواحدة، إنها المرأة التي وقعت في الحب وهمت بارتكاب الخطيئة ظناً منها أن يوسف الذي تربى في بيتها سيوافق، غير أن الأمر جاء على غير ما تتمنى، وبدلاً من أن تعتذر لزوجها بوتيفار عزيز مصر عن خطيئتها فقد دعت النسوة، فقطّعن أيديهن، وفرضت عليه السجن، حتى أطلق سراحه الملك بعد حصحص الحق وثبتت براءة يوسف(ع)، وفسر للملك رؤياه وجعله خلفاً لعزيز مصر، والشاعرة تقدم زليخا بأسلوبها الشعري كأنموذج فريد في الحب الإنساني، فقولها: (تهشّ /بكفِّ الخطيئةِ موجَ سنابلِه المترعهْ.) يشير إلى الاعتراف بالخطيئة، وذلك حين راودته عن نفسه، كما يشير في الوقت نفسه إلى أنه نضج كالسنابل الممتلئة، وأصبح جماله مدهشاً، لقد غدا حضوره لديها كالموج الذي يكاد يغرقها ولم يبق أمامها سوى أن تدفعه بالخطيئة، فغلّقت الأبواب وقالت: هيت لك، وقولها: (وتهفو إلى باب دمعٍ /تكاثفَ فيه ارتيابُ المعاني) يشير إلى الباب الذي حاول أن يهرب منه، لكنه فوجئ ببوتيفار عزيز مصر الذي وجد قميصه قد قُدَّ من دبر، وهنا تعددت التفسيرات لديه وتكاثفت، وقولها: (وجنت سماءٌ على ضفّتيه)، بفعل خطيئتها، ورفضه لها أمضت حياتها بكاء وحسرة عليه، وكاد أن يمسها الجنون من فرط حبها له وشغفها به، وقولها: (وكانت كصيفٍ قديمٍ يرتّلُ اسماً يجفّ بنهر الكلامِ) أي كانت زليخا تردد اسم يوزرسيف وهي تتجول عبر الطرقات والأمكنة كفصل الصيف الحار الذي تجف به الينابيع والأنهار كما يجف صوتها بالحديث عن اسمه شوقاً وعشقاً وهياماً، وقولها: (وكانت تمدّ جداولَها دون ريبٍ لتطلعَ منها رياحُ المدنْ.) أي كانت زليخا تفيض عيونها بالدمع على يوسف حتى تغدو كالجداول التي تمدها بعيداً من دون أن يراودها شكّ بلقائه، وتأمل بريح تهب من المدن فتحمل لها رائحته كي تهتدي إليه، وقولها: (غريبٌ عليها الجفافُ /غريبٌ هباءُ المرايا وجدبُ الشفاهِ) أي إنها تمر بطور غريب من حالة الجفاف التي تعتريها، والمرايا لم تعد تقدم لها شيئاً، الوجوه شاحبة، والشفاه ذابلة، وقولها: (بقلبِ المدينة ريحٌ تراودُها عن خطاها) أي ثمة ريحٌ منبعثة من قلب المدينة تدفع خطاها للسير نحوها، وقولها: (وعند السكونِ إليها تفرُّ إليه) أي وعندما تسكن تلك الريح إليها، تتوقف عن الخطى بحثاً عنه تتملكها ذكراه، وتبدأ بالمناداة له، وقولها: (وتبحثُ وسط الذنوبِ القديمةِ عنها) أي وحين لم تعثر عليه، تعود للبحث عن تلك الريح التي تهتدي بها إليه، في خضم الخطايا التي تتراكم عليها منذ أن وقعت في حبه وراودته عن نفسه، وقولها: (بقلبِ المدينةِ طفلٌ تعجّ رؤاهُ بعمرِ جديد /ويسكبه الغائبون ضياءً /إليها...) أي وبقلب المدينة يوجد طفلٌ إضافة إلى تلك الريح التي تراودها عن خطاها، وهذا الطفل يمكن أن يكون يوسف الذي اشتراه عزيز مصر من التاجر في السوق، وجاء به إلى بيته وقال لزوجته زليخا أكرمي مثواه، كما أوضح البيان الإلهي: (وقال الذي اشتراه لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذهُ ولداً... سورة يوسف (21)) وهو الذي طلب من الله سبحانه وتعالى أن يكتب لها عمر جديد بعد أن التقته وعاد إليها بصرها وشبابها وحسنها وجمالها وتزوّج منها، وقد كان بالنسبة لها الضياء الذي سكبه عليها بعض السيارة الذين أخرجوه من البئر وباعوه بثمن بخس، وقولها: (إلى صوتها المستميتِ يعودُ /ليفتَح في الروحِ باباً جديداً /تحجُّ الحكايا إليه) أي ضياء الحب يعود إليها بعد نداء صوتها الحزين خلال رحلة الوجد والشوق والبحث والانتظار، ليفتح لها حبيبها يوسف(ع) باب الهداية والإقرار بما جاء به لعبادة الإله الواحد بدلاً عن عبادة الأوثان، فكانت برهاناً قاطعاً ليوسف أمام آمون ومن كان معه، حين استجاب الله لدعائه فعاد بصرها وعاد شبابها، حتى غدت قصة حبها أحسن الحكايات التي تتالت من يومها إلى وقتنا هذا.
الفرع الثالث: ظلٌّ ثالث " هيبوليتا "(3)
تقول الشاعرة:
(بشوقٍ طويلٍ لأرض الرجالِ
تطلّ عليها السماءُ
وتسكبُ فيها ارتعاشةَ موجٍ
تأجّلَ فيه الصراخُ
تكسّر حتى انعطبْ
لسيفٍ يقطّعُ جمرَ الحكايا
" تميثيرُ" ترثي خطاها الغريبةَ
أم تنتحبْ
ستزرع بين الكفوفِ سهاماً ودرعاً
يقي الروحَ من عطرها واللهبْ
ولكنّ " أمَّ القمورِ" تغني على قبرِ أنثى اشتراها الغيابُ
ودقّ مساميرها فوق قفر المرايا
سماواتها الآن موعودةٌ بالبكاء
نهاراتها السمر لا ضوءَ قد يرتديها
ولا بابَ في الروح يدخلهُ الفاتحون
بشوقٍ قتيلٍ لأرضِ الذكورِ
أطلّت ذئابٌ عليها تلطّخُ ثوباً جريحاً
بدمعِ الأغاني يفيضُ
ويثقبُ جسمَ القصيدةِ حدّ العظام).
تبين الشاعرة صورة المرأة الملكة التي تقع في حب رجل تعتبره قبيلتها التي لا تسكنها إلاّ النساء عدوّاً لها وعقدته (بشوقٍ طويلٍ لأرض الرجالِ)، وشعابه الرئيسة هي: (تطلّ عليها السماءُ) و(وتسكبُ فيها ارتعاشةَ موجٍ/ تأجّلَ فيه الصراخُ / تكسّر حتى انعطبْ) و(لسيفٍ يقطّعُ جمرَ الحكايا)، أما شعابه الثانوية فهي: (" تميثيرُ" ترثي خطاها الغريبةَ / أم تنتحبْ؟) و(ستزرع بين الكفوفِ سهاماً ودرعاً) و(يقي الروحَ من عطرها واللهبْ) و(ولكنّ " أمَّ القمورِ" تغني على قبرِ أنثى اشتراها الغيابُ / ودقّ مساميرها فوق قفر المرايا) و(سماواتها الآن موعودةٌ بالبكاء) و(نهاراتها السمر لا ضوءَ قد يرتديها / ولا بابَ في الروح يدخلهُ الفاتحون) و(بشوقٍ قتيلٍ لأرضِ الذكورِ / أطلّت ذئابٌ عليها تلطّخُ ثوباً جريحاً / بدمعِ الأغاني يفيضُ) و(ويثقبُ جسمَ القصيدةِ حدّ العظام).
لمحة تاريخية:
تذكر كتب التاريخ أن الأمازونيات كنّ محاربات لا يشق لهن غبار، ويذكر أن المرأة الأمازونية كانت تظلّ على ظهر الحصان ليوم كاملٍ، وإن اقتضت الحرب فإنها تبقى على ظهر حصانها عدة أيام متتالية من دون أن تنزل عنه، ويكون طعامها وشرابها وهي على ظهر الحصان هو دماء الحصان الذي تمتطيه، حيث تجرحه جرحاً صغيراً وتمص دماءه من خلاله. ويذكرأنهن أول من روض الخيل وامتطاها من بني البشر، وقد خضن حروباً كثيرة ضد المدن الإغريقية القديمة، وذكر أن مملكة الأمازونيات تقع جنوب نهر الأناضول، كما قيل بأنها تقع في شمال أفريقيا، وكن يتمتعن بجمال أخّاذ وحسن فتّان، وعرف عن الأمازونيات كرههن الشديد للذكور، لذلك كانت المملكة خالية من الذكور، ولا يسكن فيها إلاّ النساء فقط، وكانت نقطة ضعفهن هي إنجاب الأطفال من أجل استمرار المملكة، ومن أجل ذلك خصصن يوماً واحداً من العام من أجمل الجماع مع الرجال وعدم محاربتهم، حيث تذهب الباغيات من الأمازونيات إلى تخوم المدن المتاخمة لحدود مملكتهن ويخيمن فيها، ثم يأتي إليهن الرجال الذين باتوا يعرفون موعد ذلك اليوم الذي كان يدعى يوم الزواج عند الأمازونيات، وبعد فترة حملهن، إذا كانت المولودة أنثى تستقبل بالفرح الشديد وتعكف الأم على تربيتها وتدريبها على فنون القتال منذ طفولتها لتدخل في عداد المقاتلات، أما إذا كان المولود ذكراً، فعلى الأم أن ترميه في الغابة حتى يموت من الجوع أو تفترسه الوحوش، وإذا كان قلب الأم رقيقاً فإنها كانت تهرب فيه إلى أطراف المدن القريبة من المملكة وتضع طفلها ليأخذه أحدهم ويربيه.
هيبوليتا:
في الأسطورة يروى أن ملكة الأمازونيات هيبوليتا كانت قد أغرمت بأحد الأبطال الإغريق، وهربت معه، ويقال: إنه خطفها، ثم تزوجا وأنجبا طفلاً، وكان ذلك سبباً في اندلاع الحرب بين الأمازونيات وسكان مدينة أثينا.
في المعنى:
تستمر الشاعرة بأسلوبها الخبري في هذا الفرع من القصيدة، وقد وجدتُ من المفيد أن أقدم بما سبق لسبر معانيه، فقولها: (بشوق طويلٍ لأرضِ الرجالِ / تطلّ عليها السماءُ /وتسكبُ فيها ارتعاشةَ موجٍ /تأجّلَ فيه الصراخُ /تكسّر حتى انعطبْ)، أي بعد أن أمضت هيبوليتا زمناً طويلاً في مملكتها التي لا يسكن فيها إلاّ النساء تشاء إرادة السماء أن تصب في أعماقها رعشة موج من المشاعر الخالية من العنف والصراخ الذي اعتادت عليه زمناً طويلاً ليكشف عن شوقها العارم للأرض التي يعيش عليها الرجال، وقولها: (لسيفٍ يقطّعُ جمرَ الحكايا) أي ويكشف عن شوقها للسيف الذي يحمله فارسها ويقطع به جمر حكايات العشق والانتظار، وقولها: (" تميثيرُ" ترثي خطاها الغريبةَ /أم تنتحبْ) أي ماذا يمكن أن تفعل المملكة التي كانت عليها هيبوليتا هل ترثيها وتعدها من الميتات بخروجها عنها ونكران انتمائها إليها، أم أنها تبكي على فقدانها وغيابها؟، وقولها: (ستزرع بين الكفوفِ سهاماً ودرعاً / يقي الروحَ من عطرها واللهبْ) أي في الأحوال جميعاً فإن الأمازونيات المقاتلات سيبحثن عنها وينتشرن في كل الأماكن التي يمكن ل(هيبوليتا)أن تعبرها هاربة مع عشيقها، كما أنهن سيكن متأهبات للحرب بالسهام والدروع والسيوف وهن يفتشن عنها بين الكهوف التي يمكنها أن تختبئ بها، من أجل أن يمنعن البطل الإغريقي من أن يظفر بها، وسينتقمن من سكان أثينا لهذا الاعتداء على ملكتهم، وقولها: (ولكنّ " أمَّ القمورِ" تغني على قبرِ أنثى اشتراها الغيابُ /ودقّ مساميرها فوق قفر المرايا) أي الأرض التي تقوم عليها مملكة الأمازونيات فإنها تبكي على هيبوليتا التي غابت عنها إلى غير رجعة، وقولها: (سماواتها الآن موعودةٌ بالبكاء /نهاراتها السمر لا ضوءَ قد يرتديها /ولا بابَ في الروح يدخلهُ الفاتحون) أي حتى سماوات مملكة الأمازونيات باختطاف ملكتهم أو هروبها مع حبيبها قد أصبحت على موعد مع الحزن والبكاء قهراً عليها، وأصبحت نهارات المملكة مظلمة لا ضوء فيها من هول المصاب الذي حل بها، وما من سبيل أمام ساكناتها الأمازونيات إلا إعلان الحرب وإغلاق أي باب للمهادنة أو المساومة، مهما كانت النتيجة، ولم يبق حتى ل(هيبوليتا) باب يمكن أن تطمئن له بالعودة إلى المملكة، وقولها: (بشوقٍ قتيلٍ لأرضِ الذكورِ /أطلّت ذئابٌ عليها تلطّخُ ثوباً جريحاً /بدمعِ الأغاني يفيضُ /ويثقبُ جسمَ القصيدةِ حدّ العظام) أي إنها حالة فريدة تلك التي جسدتها هيبوليتا فشوقها العارم إلى أرض الذكور لم تكتب له الحياة بل قتلوه واستنكروا فعلها وهجموا عليها كالذئاب المفترسة لتلطخ سمعتها بعار يجرح كبرياءها ويجعل دموعها تفيض وتنهمر مشكّلة حالة تتمكن من أن تخترق القصيدة إلى أعماقها، فتعبر عنها الشاعرة بكل صدق وإحساسٍ عالٍ بالقيمة الاستثنائية لظل امرأة فريد.

الفرع الرابع: ظلٌّ رابع: "نور بارق"(4)
تقول الشاعرة:
(تعوّدَ سهو الصحارى عليها
تعوّد ذاك السرابُ البعيدُ تجاويفها
ستسري إليها الظلالُ
وينبتُ عشبُ الغيابِ على راحتيها
وتاهتْ
-" بنت دريدٍ "-
بأرضٍ طواها السّكاتُ
وكانتْ
-" المتخبلة في شعورها "-
تهيّئُ نزفاً أخيراً لجرح المكان
ترصّفُ دمعَ الأغاني
وتفتحُ لحناً كبرق
ستصحو سماءٌ كجرحٍ وتصعدُ تلك اللغات إليها
سيحفظ كلُّ المجاذيب أشواقها.
وتجري تراتيلها في جفاف المعاني
فيا ليتها تحفظ البحرَ في روحها
ويا ليتَ ما قدمتهُ يداها يصوغُ من الموجِ أنفاسها ويقتلُ
فوضى الدماءِ
أطلّ عليها مع التائهين بدربِ الحكايا
هي الآن صوتُ المرايا
هي الآن اسمي الذي أسقطته المرايا
ضفافي التي خانها النهرُ يوماً ونزفُ المخاضِ الطويلُ).
تبين الشاعرة صورة المرأة الصحراوية الأصيلة الجازية الهلالية، وعقدته (تعوّدَ سهو الصحارى عليها)، وشعابه الرئيسة هي: (تعوّد ذاك السرابُ البعيدُ تجاويفها) و(ستسري إليها الظلالُ) و(وينبتُ عشبُ الغيابِ على راحتيها) و(ستصحو سماءٌ كجرحٍ وتصعدُ تلك اللغات إليها) و(سيحفظ كلُّ المجاذيب أشواقها.) و(وتجري تراتيلها في جفاف المعاني) و(هي الآن صوتُ المرايا) و(هي الآن اسمي الذي أسقطته المرايا)، أما شعابه الثانوية فهي: (وتاهتْ / -" بنت دريدٍ "- / بأرضٍ طواها السّكاتُ) و(وكانتْ / -" المتخبلة في شعورها "-/ تهيّئُ نزفاً أخيراً لجرح المكان) و(ترصّفُ دمعَ الأغاني/ وتفتحُ لحناً كبرق) و(فيا ليتها تحفظ البحرَ في روحها) و(ويا ليتَ ما قدمتهُ يداها يصوغُ من الموجِ أنفاسها ويقتلُ / فوضى الدماءِ) و(أطلّ عليها مع التائهين بدربِ الحكايا) و(ضفافي التي خانها النهرُ يوماً ونزفُ المخاضِ الطويلُ).
قصة الجازية الهلالية (نور بارق):
هي الشخصية الأساسية في الملحمة الشعبية العربية (تغريبة بني هلال) من هضاب نجد بعد سبع سنوات من الجدب إلى مشارف إفريقية بحثاً عن بلد خصب، وذلك في القرن الحادي عشر الميلادي، وهي أخت رئيس الحلف الهلالي (الحسن بن سرحان بوعلي)، كانت جميلة ذكية ومدبّرة، وقد تميّزت بصدق انتمائها لأهلها والوفاء لهم، ورضيت بالزواج من الشريف ابن هاشم والإقامة في مكة في وسط حضري خدمة لذويها بعد أن نزلت بهم محنة القحط، وعندما تفاقم الوضع وقررت قبائل بني هلال الرحيل إلى إفريقية طلبوا منها أن تترك حياة البذخ والرخاء، وأن تعود إلى مضارب أهلها، فاستجابت وتركت زوجها وولدها، ورحلت مع أهلها إلى مصير مجهول، وكان الجميع يعترفون لها بمكانتها وهم مبهورون بجمالها وحكمتها وحصافة رأيها، وبصدق انتمائها، وكان لها الثلث في الحكم إلى جانب أخيها وزوجته أم البنين الثلاثة مرعي ويحيى ويونس الذين أقاموا مع خالهم بو زيد في تونس، لكنها عند الملمات تصبح هي قطب الرحى في اتخاذ الموقف الجماعي الحازم، وهي التي أنقذت قومها عند محاولتهم اجتياز نهر النيل، وخلصتهم بحكمتها وحسن تدبيرها واستثمار حسنها وجمالها المدهشين من أمير مصر الذي اعترضهم وحاول منعهم من العبور، وهي التي دعت قومها للتفاهم والمهادنة عند الوصول إلى إفريقية، واستطاعت أن توازن بين موقف بو زيد الذي اختار المساومة مع والي مدينة تونس، وموقف دياب الذي كان يدعو إلى الاحتلال بالقوة، فكانت فترة السلم بين قومها ووالي تونس نتيجة لذلك التوازن، ولكن حين غدر الوالي ببني هلال عرفت أن السياسة لا يمكن أن تحقق حلاً سلمياً، طلبت دياب ودعته لمبارزة خليفة الزناتي، وانتصر عليه.
في المعنى:
الأسلوب في هذا الفرع عموماً خبري ما خلا جملتين إنشائيتين، وفيه تقدّم ظلاًّ آخر لامرأة واحدة متمثّلاً بالجازية الهلالية، فقولها: (تعوّدَ سهو الصحارى عليها /تعوّد ذاك السرابُ البعيدُ تجاويفها) أي بعد أن اعتادت غفلة تلك الصحارى التي سكنتها في ربوع نجد على (نور بارق) الجازية الهلالية، وبعد أن ألف السراب على رمال تلك الصحارى خطاها إليه وظمأ تجاويف أحشائها للماء، وقولها: (ستسري إليها الظلالُ /وينبتُ عشبُ الغيابِ على راحتيها) أي بعد ذلك ستسري تلك الظلال التي تركت علاماتها في الأمكنة التي درجت عليها إلى ذاكرتها بعد أن تغرّبت عنها، وطال غيابُها حتى نبت العشب على راحتيها من كثرة الدموع التي كفكفتها على فراقها للأهل والربع والديار، وقولها: (وتاهتْ /-" بنت دريدٍ "- /بأرضٍ طواها السّكاتُ) أي أصابها شيءٌ من الضياع في ربوع نجد التي ماتت بسبب الجدب والقحط وقلة المياه فيها، وقولها: (وكانتْ /-" المتخبلة في شعورها "- /تهيّئُ نزفاً أخيراً لجرح المكان) أي كانت الجازية التي أفسدت مشاعرها تجاه تلك الأمكنة المحنةٌ التي امتدت لسنوات سبعٍ تهيّئ نفسها لنزف آخر من جراح الرحيل المحتمل، والهجرة المجهولة، وقولها: (ترصّفُ دمعَ الأغاني /وتفتحُ لحناً كبرق /ستصحو سماءٌ كجرحٍ وتصعدُ تلك اللغات إليها) أي سوف تذرف الدموع وهي تغني حزينة مقهورة على الهجرة والفراق، لكنها ستحاول أن تجترح حلاًّ لكل معضلة يمكن أن تواجههم في تغريبتهم الطويلة، وستحاول أن تشق ظلام المحنة بنور حكمتها ورجاحة عقلها، فلا بد من أن تفتح السماء عليها ببرقٍ يبدد ذلك الظلام، فتضيء بأنوار المعرفة التي حملتها اللغات على اختلاف أنواعها، وقولها: (سيحفظ كلُّ المجاذيب أشواقها. /وتجري تراتيلها في جفاف المعاني) أي كل من انجذب إليها وأعجب بها سيبقى محتفظاً بالمشاعر التي كانت تبادله إياها، لأن من طبعها الحب لأهلها والوفاء لهم، غير أن البعد يجعل تعابيرها عن هيامها وأشواقها شحيحة المعاني وهي تتدفق من غير انقطاع أو توقف، وقولها: (فيا ليتها تحفظ البحرَ في روحها /ويا ليتَ ما قدمتهُ يداها يصوغُ من الموجِ أنفاسها ويقتلُ /فوضى الدماءِ) أي كم تمنت لو كان بإمكانها أن تحفظ مياه البحر في قلبها وروحها من أجل أن تسكبه على ربوع أهلها وتغنيهم عن الهجرة المريرة القاسية، وكم تمنت لو أن ما قدمته لأهلها من تضحيات مادية ومعنوية أن يفيض كالموج عليهم ويحميهم من دماء الحرب التي دارت بين أهلها وبين والي تونس في ذلك الوقت، وهذه إشارة إلى أنها هي من كانت وراء فترة السلام والهدنة بين الطرفين، وقولها: (أطلّ عليها مع التائهين بدربِ الحكايا /هي الآن صوتُ المرايا /هي الآن اسمي الذي أسقطته المرايا /ضفافي التي خانها النهرُ يوماً ونزفُ المخاضِ الطويلُ) أي إن الشاعرة هند تقرأ كغيرها سيرة الجازية التي تعددت الروايات عنها وتباينت، حتى جعلتها كغيرها لا يهتدون إلى حقيقة تفاصيل تلك السيرة، وعلى الرغم من تعدد الحكايا عن (نور بارق) الجازية الهلالية فإنها تمثل الآن صورة المرأة التي بلغت شأواً كبيراً بين أهلها، بحكمتها وذكائها وجمالها وحسن تدبيرها وقدرتها على المشاركة في الحكم، إنها صورة المرأة التي تمثل الشاعرة هند محمد في تجربتها المعاصرة، فقد تجاهلتها أضواء الشهرة، وأسقطت اسمها من الاهتمام الذي تستحقه، لا بل فإن سيرة (نور بارق) الجازية الهلاليّة في إخفاقاتها ومعاناتها وتضحياتها تشبه سيرة هند اليوم فقد خانها الصحب والأهل كما يخون النهر ضفافه إذ يجف أو يفيض، وطالت معاناتها في الهجر والبعد والحرمان.
الفرع الخامس: في سيرة امرأةٍ لها كلّ الظلال (5)
تقول الشاعرة:
( أنا بعض تلك الظلال التي يتّمتني
ورحتُ بكلّ الموانئِ حيث تحط جراحي
أرمم صوتَ البكاءْ
أنا بعض اسمي القديمِ
تلاشى به الضوءُ حتى استطابَ المقامْ
أنا بنت بعض الحكايا
وماءٌ تلبّس بالليل حتى السهادْ)
تبين الشاعرة في هذا الفرع ظلها الذي يمثل بعض الظلال السابقة، ويمثل المرأة التي ورثت صفات النماذج النادرة للمرأة وعقدته (أنا بعض تلك الظلال التي يتّمتني)، وشعابه الرئيسة هي: (ورحتُ بكلّ الموانئِ حيث تحط جراحي) و(أرمم صوتَ البكاءْ) و(أنا بعض اسمي القديمِ / تلاشى به الضوءُ حتى استطابَ المقامْ) و(أنا بنت بعض الحكايا / وماءٌ تلبّس بالليل حتى السهادْ).
في المعنى:
أسلوب الشاعرة في هذا الفرع خبري، حيث تبين فيه الملامح المشتركة بين الظلال الأربعة التي اختارتها، وهي كما تقدم: [ شهرزاد، (راعيل) زليخا، هيبوليتا، نور بارق (الجازية الهلاليّة) ]، فقولها: (أنا بعض تلك الظلال التي يتّمتني) أي إن سيرة الشاعرة هند تشبه سير تلك الظلال، فشهرزاد قضت جلّ وقتها وحيدة تنسج الحكايات التي حمتها من الموت على يد شهريار، وزليخا قضت زمناً طويلاً وحيدة في رحلة البحث عن خلاصها، وهيبوليتا بعد هروبها مع حبيبها قضت حياتها وحيدة بعيدة عن أهلها، و(نور بارق) قضت حياتها بعيدة عن زوجها وابنها بعد أن اختارت العودة إلى أهلها لتكون معهم في تغريبتهم الملحمية، وقولها: (ورحتُ بكلّ الموانئِ حيث تحط جراحي، أرمم صوتَ البكاءْ) أي إنها قضت شطراً كبيراً من عمرها في التنقل والترحال، وفي كل محطة من محطات سفرها كانت لها قصة تضيف إلى جراحها جرحاً جديداً، في الحب والغربة والخيبة والخذلان، وعبر هذه المحطات كانت تحاول أن ترمم صوت بكائها على من فارقت وفقدت وهجرت، وقولها: (أنا بعض اسمي القديمِ /تلاشى به الضوءُ حتى استطابَ المقامْ) أي إنها صورة المرأة التي انتهت إليها عبر تاريخ كفاحها الطويل، صورة المرأة التي خفتت فيها جذوة الريادة والتفرد، فاعتادت على النمطية حتى ألفت واقعها وقبلت به، وقولها: (أنا بنت بعض الحكايا /وماءٌ تلبّس بالليل حتى السهادْ) أي لم يبق من المرأة اليوم سوى بعض القصص التي يحفظها التاريخ في بطون الكتب وعلى ألسنة الرواة، كالماء في قميص الليل تلبّسه حتى غفا من غير هطول.
تقاطع الأزمنة:
الأزمنة في القصيدة ممتدة إلى الماضي البعيد، ولا تخلو من الزمن الافتراضي لأن بعض الشخصيات هي شخصيات خيالية، وتتجلى هذه الأزمنة الرئيسة على النحو التالي:
الزمن الأول: (زمن شهرزاد)
وهو زمن قديم لم تحدده الرواة، حيث تبتدئ الرواية ب(في قديم الزمان)، وهذا يشير إلى أن زمن الرواية غير محدد، حتى أن أصول رواية ألف ليلة وليلة غير متفق عليه، فمنهم من يقول إنها هندية، ومنهم من ينسبها إلى الفارسية، ولا ننسى أنها تتضمن حكايات تنسب إلى بغداد، والمهم هنا أن شخصية شهرزاد التي اتخذتها الشاعرة هند محمد هي بطلة كتاب ألف ليلة وليلة، وهي الراوية لها، وإن كانت هذه الشخصية تعتبر شخصية خيالية، فقد كانت بنت أحد وزراء الملك شهريار وهي من تقدمت للزواج منه من غير خوف أو وجل بخلاف كل فتاة كان يتزوجها، لأنه كان يقتلها في اليوم التالي لزواجه منها، لكي يضمن عدم خيانتها له كما فعلت زوجته الأولى، واسم شهرزاد، مركب من (شهر) و(زاد) ويعني بنت البلد، وزمنها نفسه تتداخل فيه أزمنة متعددة، وأهمها زمن القص، وهو زمن كان يفرض على الملك شهريار حالة من الترقب والانفعال والتوتر، لأن تلك الحكايات كانت غرائبية خيالية مثيرة للدهشة والاستغراب، وبسبب هذه الحالات المتجددة في كل ليلة مع حكاية جديدة كان يعفو عنها إلى ليلة أخرى، لكي يتمتع بالاستماع إليها وهي تروي له غرائب القصص عن الملوك والأمراء والمغامرات المخيفة، إلى أن وقع في حبها، ولم يقتلها، ويمكننا أن نلاحظ كيف افتتحت الشاعرة قصيدتها بقولها: (وجاءت) لتشير إلى أن زمن الفعل مستمر في الماضي لاستخدام حرف الاستئناف (وَ)، ويمكن اعتبار الواو حرف عطف على فعل محذوف، والتقدير (كانت .. وجاءت)، في إشارة إلى أن فعل المجيء كان إرادياً وهي من اختارت المجيء، والمعنى يصبح واضحاً، أي كانت في بيتها وهي بنت أحد وزراء الملك، ثم جاءت إليه وقررت الزواج منه، أما قولها: (وصارت) يشير إلى التحول في الزمن الماضي، وتأتي الأفعال مضارعة في الزمن الماضي أيضاً، أما قولها: (ولا بئرها اليوم قد تستكينْ) فاليوم لا يشير إلى يومنا هذا الذي نحن فيه، إنما يشير إلى اليوم الذي كانت هي فيه، وهو يوم مرور الليل بقرية ماء تحاذي تفاصيلها من دون أن يشتهي قطرها، أما المخاطب فهو شهريار نفسه، الذي يشاركها زمن الاستماع إلى القص، وهو الزمن الذي تتقاطع فيه الأزمنة الحكايات في ألف ليلة وليلة، مع زمن أبطال تلك الحكايات، ولا ننسى البطلة الثانية في القصة وهي دنيازاد أخت شهرزاد، التي رافقتها في تلك الليالي عند الملك، أما زمن المستقبل الذي تختتم فيه، يشير إلى المستقبل في الماضي أيضاً.
الزمن الثاني: (زمن راعيل) زليخا
وهو زمن يعود إلى (1444 ق.م)، وشخصية زليخا فيه هي شخصية حقيقية، وهو زمن مستمر في الماضي أيضاً، لذلك نرى الشاعرة تفتتح هذا الفرع بالفعل المضارع (تهشّ) ومن ثم (تهفو) ثم الأفعال الماضية، (تكاثف، جنت، كانت، كانت) لتشير إلى أن الفعل حاضرٌ في الماضي، وأهم مكونات هذا الزمن هو زمن الخطيئة، حيث يتجلى ضعفُها وغلبة حبها المتراكم حين تستسلم وتستجيب لشغفها وانجذابها إليه وهي تراوده عن نفسه بعد أن غلّقت الأبواب، لتشير الشاعرة إلى هذا الزمن بقولها: (تهشّ /بكفِّ الخطيئةِ موجَ سنابلِه المترعهْ.) ومن ثم زمن الانتظار والبحث عن الحبيب العفيف الغائب، حتى أنفقت ثروتها كلها على الذين يتتبعون أخباره وينقلونها إليها، وفقدت بصرها من شدة بكائها عليه، والشاعرة تشير إلى ذلك الزمن بقولها: (بقلبِ المدينة ريحٌ تراودُها عن خطاها /وعند السكونِ إليها تفرُّ إليه)، وأخيراً زمن المعجزة وانتصار الحب، حين يستجيب الله لدعاء سيدنا يوسف، فيعود بصرها، ويعود شبابها وجمالها وتتزوج منه، والشاعرة تشير إلى هذا في خاتمة الفرع الثاني من القصيدة بقولها: (بقلبِ المدينةِ طفلٌ تعجّ رؤاهُ بعمرِ جديد /ويسكبه الغائبون ضياءً /إليها... /إلى صوتها المستميتِ يعودُ /ليفتَح في الروحِ باباً جديداً /تحجُّ الحكايا إليه).
الزمن الثالث: (زمن هيبوليتا)
وهو زمن شوق المرأة إلى الرجل وأرضه، بعد أن كانت ملكة في أرض لا يسكنها إلاّ النساء، والشاعرة تشير إلى هذا الزمن في مطلع الفرع الثالث بقولها: (بشوقٍ طويلٍ لأرض الرجالِ /تطلّ عليها السماءُ)، ومن بعده زمن غيابها عن المملكة التي بدت حائرة بين أن ترثيها أم تبكي عليها؟، لقولها: (" تميثيرُ" ترثي خطاها الغريبةَ /أم تنتحبْ)، ثم زمن الحرب والانتقام، لقولها: (بشوقٍ قتيلٍ لأرضِ الذكورِ /أطلّت ذئابٌ عليها تلطّخُ ثوباً جريحاً /بدمعِ الأغاني يفيضُ /ويثقبُ جسمَ القصيدةِ حدّ العظام).
الزمن الرابع: (زمن نور بارق، الجازية الهلالية)
وهو زمن الغياب والهجرة، ويتضمن هذا الزمن، مدة زواجها في مكّة وغيابها عن الأهل، ويشير إليه قولها: (ستسري إليها الظلالُ /وينبتُ عشبُ الغيابِ على راحتيها)، ومن ثم زمن القحط الذي دام سبع سنين، ويشير إليه قولها: (وتاهتْ /-" بنت دريدٍ "- /بأرضٍ طواها السّكاتُ)، بالإضافة إلى زمن الحرب وفوضى الدماء، ويشير إليه قولها: (ويا ليتَ ما قدمتهُ يداها يصوغُ من الموجِ أنفاسها ويقتلُ /فوضى الدماءِ)، وأخيراً الزمن المشترك بين الشاعرة ونور بارق، ويشير إلى هذا الزمن قولها في خاتمة الفرع الرابع: (هي الآن اسمي الذي أسقطته المرايا /ضفافي التي خانها النهرُ يوماً ونزفُ المخاضِ الطويلُ).
الزمن الخامس: (زمن امرأة لها كل الظلال)
وهو الزمن المشترك، الذي تتقاطع أزمنة تلك الظلال فيه، وهو زمن افتراضي، لأن الشاعرة تمثل بعض تلك الظلال لقولها: (أنا بعض تلك الظلال التي يتّمتني)، لأن تجربتها تتقاطع مع بعض تجارب تلك الظلال الأربعة، من حيث الحب والفراق والهجرة والفقدان.
الزمن السادس: (زمن الشاعرة)
ويمتد هذا الزمن، من الإرهاصات الأولى لتشكل القصيدة لديها إلى وقت إعلانها للعامة عبر وسيلة رسمية، مروراً بزمن الكتابة الذي يعتبر الزمن الأصعب على الشاعرة،
الزمن السابع: (زمن اللغة)
ويتجلى هذا الزمن بأزمنة موسيقا الشعر الداخلية والخارجية، وبأزمنة الأفعال، إضافة إلى أزمنة الحركات على الحروف، الذي يتعلق بعروض الشعر, باختصار شديد فإن زمن القصيدة يمثل تقاطع أزمنة مكوناتها الحسية والمعنوية.
المعنى الاحتمالي والتعدد الدلالي
المقدمة النظرية لمنهج النقد الاحتمالي تساعد على توضيح المقصود من (المعنى الاحتمالي)، وسأحاول هنا التوضيح من خلال هذا التطبيق على قول الشاعرة:
(تهشّ
بكفِّ الخطيئةِ موجَ سنابلِه المترعهْ.)
هذه الجملة الشعرية الصدارة فيها للفعل (تهش)، وقد ورد مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة طه، قال تعالى: (قال هي عصايَ أتوكأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى الآية 18) فهذا الفعل له أثره في الثقافة العربية الإسلامية، وله حضور في الذاكرة الجمعية، واستخدام الشاعرة لهذا الفعل في صدارة الجملة التي تفتتح بها الفرع الثاني من القصيدة، ينقلنا إلى إجابة سيدنا موسى عليه السلام التي وردت في الآية الكريمة، على السؤال الذي تلقاه (وما تلك بيمينك يا موسى سورة طه .. الآيه 17). وإذا بحثنا في المعجم عن معنى هذا الفعل نجد المعاني التالية:
(1) هشّ هشّا وهَشاشةً وهُشوشةً وهَشاشاً وهُشُوشاً، فهو هَشّ .
(2) هشّ: رق وجفّ، فنقول: هشّ الخبزُ أي رقّ وجفّ حتى صار سريع الكسر.
(3) هشّ: ضَعُفَ، فنقول: هشّ الشيءُ أي صار ضعيفاً.
(4) هشّ: ضرب، فنقول: هشّ الشجرة أي ضربها بالعصا ليتساقط ورقُها.
(5) هشّ: تكسّر، فتقول: هشّ العود أي تكسّر.
(6) هشّ: نشط، فنقول: هشّ الولدُ أي نشطَ.
(7) هشّ: صال، فنقول هشّ الراعي أي صال بعصاً.
(8) هشّ، انشرح وتبسم وارتاح، فنقول: هشّ إلى المعروف/ أو / هشّ بالعروف أو/ هشّ للمعروف، أي انشرح صدره فرحاً وسروراً به، وتبسم وارتاح له.
إن كل معنىً من المعاني الواردة يمكن أن يستخدم في سياق مناسب، وما من شك أن السياق على درجة بالغة من الأهمية في تحديد معنى المفردة الواحدة، فيمكن اعتبار كل معنى منها (معنىً احتمالياً)، أي معنىً ممكناً.
وقولها: (كف الخطيئة) يبين أن مفردة (كف) معرفة بالإضافة، ومن المعلوم أن التعريف بالإضافة يفيد في تعيين المعنى الحقيقي وتحديده، فلمفردة الكف معنى ذهني، ولها معنى خارجي يدعي في علم المنطق (المصداق)، فإذا قلنا: (كف أحمد) يدل على تحديد الكف من يد أحمد، وإذا قلنا: (كف عدس) نعني معنىً حقيقيّاً، وهو ملء كف من العدس وهكذا...، لكن قول الشاعرة: (كف الخطيئة) له معنىً مجازي، لاستخدام (كف) في غير ما وضعت له، فالخطيئة ليس لها كف، وهذه هي الاستعارة، لأنها تكون قد شبهت الخطيئة بالإنسان، فحذفت المشبه به وتركت شيئاً من لوازمه وهو (الكف). والسؤال هل الإضافة هنا في قولها: (كف الخطيئة) ضيقت المعنى أم وسعته؟ من دون شك فالمعنى اذاد اتساعاً، لأن الدلالة تعددت، وحسب النقد الاحتمالي يستخدم (تحررت) بدلاً عن (تعددت)، والاستعارة تكسب الصورة الشعرية درجة واحدة من الحرية، وإذا بحثنا في المعنى القاموسي نجد:
(1) كفّ: اسم والجمع، كفوف وأكفّ.
(2) كفّ اليد: راحة اليد مع الأصابع، الراحة مع الأصابع في اليد.
(3) الكفُّ: الرّجلةُ.
(4) الكف (في العروض): إسقاط الحرف السابع الساكن، كحذف النون من مفاعيلن وفاعلاتن.
ونقول:
(5) استدرّ الأكفّ: طلب المساعدة
(6) ضرب كفّاً بكفّ: أبدى دهشته، وحيرته، وندمه.
(7) على كفوف الراحة: مرتاح
(8) نديّ الكفّ: يدلّ على الكرم والسخاء والغنى والسعة.
(9) وضع حياته على كفه: خاطر، غامر، جازف.
(10) يابس الكفّ: شحيح، بخيل.
(11) الكف الرجعي: (في علم النفس): النسيان الجزئي أو الكلي لما كان الإنسان قد تعلمه سابقاً، وهو ينتج عن حادث لاحق.
وسأكتفي بهذه المعاني لأنها متعددة وكثيرة. فإذا عدنا إلى قول الشاعرة هند: (كف الخطيئة) فيمكن أن تحتمل عدداً كبيراً من المعاني تعدد الخطايا نفسها، كأن نقول: (كف النميمة، كف الغدر، كف الحسد، .... الخ) فكل هذه المعاني تندرج تحت معنى(كفّ الخطيئة) وهنا سنتبين أهمية شح العبارة بالكلمات عندما تتسع الدلالة أو المعنى، وهذا ضرب من البلاغة في التعبير، ويمكننا أن نعتبر كل معنى لهذا القول: (كف الخطيئة) هو معنى احتمالي لأنه ممكن، وإن كان ذلك افتراضياً، فإذا اخترنا عشرة معاني ل(كف الخطيئة)، تصبح عدد إمكانات المعاني لقولها: (تهشّ بكف الخطيئة) هو عشرة ضرب ثمانية ويساوي ثمانين معنى، ولنا أن نتخيل كيف أن المعنى المجازي يساعد على تعدد المعنى وتنوّع الدلالات.
وقولها: (موج سنابله المترعة) ينطبق عليه المبدأ نفسه في المناقشة السابقة، مع ملاحظة، أن (المترعة) في صفة السنابل، والضمير الغائب الهاء يعود إلى سيدنا يوسف عليه السلام، و(موج السنابل) له معنى مجازي، فالسنابل ليس لها موج، وهي استعارة ثانية، أي أصبحت الصورة ثنائية البعد لامتلاكها درجتين من الحرية، وقولها: (تهش بكفّ الخطيئة) استعارة، فتصبح الجملة الشعرية: (تهش / بكفّ الخطيئة موج سنابله المترعة) تشكل صورة شعرية ثلاثية الأبعاد لأنها تتضمن ثلاث استعارات معاً، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصورة تدعى وفق النقد الاحتمالي قصيدة عميقة، أو قصيدة فراغية. أما التركيب الشعري الذي يتضمن أكثر من ثلاث استعارات معاً يشكل صورة حرّة، والقصيد التي تتسم بهذا النوع من الصورة تدعى قصيدة حرّه، لامتلاكها أكثر من ثلاث درجات من الحرية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار المعنى القاموسي لقولها: (موج سنابله) سنجد أن المعاني الاحتمالية للتركيب الشعري (تهش / بكفّ الخطيئة موج سنابله المترعة) ستتضاعف، وعلى اعتبار أنه معنى مجازي ستضاعف المعاني الاحتمالية أكثر فأكثر. بقي أن نسأل: اكتفت الشاعرة بالقول: (تهش / بكفّ الخطيئة موج سنابله المترعة)، أي لماذا اكتفت بهزّ موج السنابل المترعة بكف الخطيئة، من دون أن تقول على ماذا؟ كما جاءت الصياغة في البيان الإلهي (أهشّ بها على غنمي)، لنتبين أن المعنى في الآية هو: يضرب الشجر بالعصا فتتساقط أوراقها على الغنم فتأكله، وليس كما يُظن أنه يضرب الغنم بالعصا، فالمعنى مقدّر تقديراً للآية الكريمة، ونستدل أن الشاعرة قد اكتفت بهزّ سنابله المترعة من دون أن تحدد على من تهزها، لتترك المعنى مقدراً تقديراً، فالسنابل المترعة خيرها عامّ عليها وعلى أهل مصر. وإن كانت تشير السنابل إلى تفسيره لرؤيا الملك، كما تشير سنابله المترعة، إلى اكتمال شبابه ورجولته، وكمال حسنه وجماله في بيتها.
المعنى الاحتمالي المختزن:
ما المقصود بذلك؟
إذا عدنا إلى الجملة الشعرية، (تهش / بكفّ الخطيئة موج سنابله المترعة) فهي تتألف من (تهشّ (1)) و(بكف الخطيئة (2)) و(موج سنابله المترعه (3)) مرتبة على هذا النحو((1)، (2)، (3))، ويمكن إعادة الترتيب على الشكل التالي: ((1)، (3)، (2)) و((2)، (1)، (3)) و((2)، (3)، (1)) و((3)، (1)، (2)) و((3)، (2)، (1)) فنحصل على ست جمل شعرية، واحدة منها تلك التي جاءت على الترتيب الأساسي الذي أحدثته الشاعرة، وكل جملة من الجمل الست هي جملة احتمالية، لأنها جملة ممكنة، ومعاني تلك الجمل هي معاني احتمالية مختلفة، وإن كانت جملاً افتراضيّة، والشاعرة لا تعترف بأيٍّ منها، وإن كانت ناتجة عن إعادة ترتيب جملتها الأصلية.
إن الهدف من هذا التوضيح الذي سبق هو المبدأ في الفهم والمناقشة، وسيكون ضرباً من العبث أن نجري مثل هذا التوضيح على جمل القصيدة كلها، لأن الدراسة ستطول وستصبح مملة ومن غير فائدة ترتجى.
التوازن وتمثيل القصيدة:
إن مركز توازن القصيدة هي المرأة التي تمثلها الظلال المذكورة في القصيدة، فهي تمثل مركز انطلاقها ونقطة انبثاقها، ولعلها تمثل ذات الشاعرة، ويمكن اعتبار كل عقدة من عقد الفروع في القصيدة نقطة توازن بالإضافة إلى النقاط التالية.
(1) الروح: هي نقطة تقاطع بين الفروع، الأول والثاني والثالث والرابع، فهي تشكل نقطة توازن.
(2) الظل: هي نقطة تقاطع بين الفروع، الأول والرابع والخامس، فهي تشكل نقطة توازن.
(3) المرايا: هي نقطة تقاطع بين الفروع، الثاني والثالث والرابع، فهي تشكل نقطة توازن.
(4) الحكايا: هي نقطة تقاطع بين الفروع، الثاني والثالث والرابع والخامس، فهي تشكل نقطة توازن.
(5) الجرح: هي نقطة تقاطع كل من الفروع، الأول والثالث والرابع والخامس، فهي تشكل نقطة توازن.
(6) النهر: هي نقطة تقاطع بين الفروع، الأول والثاني والرابع، فهي تشكل نقطة توازن.
(7) الباب: هي نقطة تقاطع كل من الفروع، الأول والثاني والثالث، فهي تشكل نقطة توازن.
فإذا مثلنا مركز توازن القصيدة بدائرة مركزية صغيرة، ومثلنا عقد الفروع على محيط دائرة متمركزة مع الدائرة السابقة، ثم مثلنا نقاط التوازن على محيط دائرة أخرى متمركزة مع الدائرتين السابقتين، ثم مثلنا الفروع بأشعة منطلقة من المركز إلى عقد الفروع، وبعد ذلك إذا مثلنا الشعاب الرئيسة والفرعية بأشعة منطلقة من كل عقدة من فروع القصيدة إلى نهايات المسارات لكل فرع، نكون بذلك قد حصلنا على تمثيل دائري للقصيدة، وهذا التمثيل سيبين بوضوح كيف أن القصيدة تميل إلى التوازن.
المفردة المنوالية:
لعل الكلمة الأكثر تكراراً في القصيدة هي (الروح) ومرادفاتها، فهي تمثل كلمة منوالية، ويمكن اعتبار الكلمات (الظل، المرايا، الحكايا، الجرح، النهر، الباب،..) مفردات منوالية، لأنه يجوز أن يكون في القصيدة الواحدة أكثر من مفردة منوالية، والمفردة المنوالية ذات دلالة هامة في بنية النص، وتشير إلى مدى حضور هذه المفردة في القاموس الشعري لدى الشاعر، وتشير إلى مدى حضورها في لاوعيه، فالمفردة المنوالية إحدى أهم مكونات الجملة الشعرية ذات المعنى الذي يريده الشاعر ويشير إليه . من هنا يصح أن تكون نقاط توازن القصيدة هي مفردات منوالية .

 

مفيد خنسة - سورية

 

في المثقف اليوم