قراءات نقدية

محمد بوفلاقة: عبد الملك مرتاض وجهوده في دراسة الأدب الـجزائري القديم

محمد بوفلاقةليس يخفى أن الأدب الجزائري القديم لم يحظ بالعناية الكافية من لدن مختلف الدارسين، والباحثين، ولعل أحداً لا يحتاج إلى كبير عناء لكي يدرك هذا الأمر، فالملاحظة التي يخرج بها الكثير من المهتمين بقضايا الأدب الجزائري القديم، هي أنه لقي صدوداً، وإعراضاً من قبل جملة من مؤرخي الأدب، وهذا ما عبر عنه الباحث رابح بونار في مقدمة كتابه: «المغرب العربي: تاريخه وثقافته»، بقوله: «إن الباعث الحقيقي على تأليف هذا الكتاب هو إيفاء الحركة الثقافية، وتاريخها بالقطر الأول(الجزائر)، وقد أغفله مؤرخو الآداب إغفالاً، وجهل كثير من الدارسين نشاط علمائه، وأدبائه في مختلف العصور»(1).
ويؤكد الشيخ العلاّمة عثمان الكعاك هذه الملاحظة في كتاب يكتسي أهمية بالغة، وسمه ب: «بلاغة العرب في الجزائر»، حيث يذهب إلى القول: «إن العلماء قد اعتنوا بالتنقيب عن آداب اللغة العربية، وتاريخها، وتطوراتها في مختلف الأصقاع الإسلامية، إلا الجزائر، فإنهم أغفلوها، ولو سألت أحدهم أن يسمي لك أديباً جزائرياً لعجز عن ذلك، مع أن الجزائر قد أخرجت من الأدباء، وعشاق البلاغة، ورسل الفصاحة، والبيان ما يكون لها به الفخر، وما تسمو به مرتبتها في تاريخ الأدب العربي العام»(2).
ويبدو أن هذا الدافع، هو السبب الرئيس الذي دفع العلاّمة الجزائري، والناقد المعروف الدكتور عبد الملك مرتاض على إنجاز دراسة متميزة تعمقت في جذور الأدب الجزائري القديم، فهو واحد من الأساتذة الباحثين الجادّين الغُير على الأدب الجزائري، والثقافة العربية، وقد عرفنا الدكتور عبد الملك مرتاض على مدى أكثر من نصف قرن بصفته مؤلفاً مقتدراً، وباحثاً غزير الإنتاج، ومحاضراً جامعياً، وكل من خامر هذا العلاّمة الجليل، يلمس فيه التطلّع المثالي إلى المعرفة، والعمل الدؤوب لنيلها، ورغبته الشديدة في إفادة القارئ بثمار ما جنى من مطالعاته، وقراءاته المكثفة، فقد شكلت قضايا الأدب الجزائري القديم مادة خصبة، وحيوية، للنهوض بهذا العمل المتميز الذي وسمه ب: «الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-»، فهو ثمرة جهود جديرة بكلّ تقدير، درس فيه الدكتور عبد الملك مرتاض بمنهجية علمية لافتة للنظر، قضايا تكتسي أهمية بالغة، تتصل بالأدب الجزائري القديم، وحلل فيه بعض النصوص الأدبية التي تعد درراً تراثية ثمينة، وقد ساعد الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض على إنجاز هذه الدراسة شغفه، وانكبابه على قراءة، ومطالعة التراث الجزائري القديم، مستقصياً الأخبار، والنصوص الأدبية القديمة، حيث أفاد أيما إفادة من قراءاته المتنوعة عن تاريخ الأدب الجزائري القديم، وتناول الموضوع من وجوه عديدة، ومن ميزة الباحث الجاد عبد الملك مرتاض أنه لا يترك عنصراً من عناصر الموضوع، إلا بعد أن يوفيه حقّه من الدراسة، وقد استعان بمصادر، ومراجع كثيرة، ومتنوعة في الصنف، والمادة.
إن العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض يُدرك أهمية دراسة الأدب الجزائري القديم، وحاجة المكتبة العربية إلى مثل هذه الدراسات الجادة، حيث يحدد الأسباب التي دعته إلى تأليف هذا الكتاب بقوله: «أمّا ما حملنا على دراسة هذه الفترة المبكرة من عمر هذا الأدب الطويل، فقد يعود إلى ما رأيناه من تقاعس الباحثين الجزائريين، الشباب خصوصاً، وإصرارهم على التجانف عن مُدارسة التراث الوطني بحجج واهية، وعلل خاوية...»(3).
ومن باب النقد الذاتي، يرى الدكتور عبد الملك مرتاض أن من أسباب عدم الإقبال على دراسة الأدب الجزائري القديم، من قبل الباحثين الشباب، هو التقصير في التوجيه، والقصور في تدريس هذه المادة (الأدب الجزائري القديم)، التي قُررت في الجامعة الجزائرية منذ أكثر من ربع قرن.
في مقدمته التحليلية الشائقة تساءل الدكتور عبد الملك مرتاض: (الأدب العربي القديم في الجزائر: هل؟ وما؟ ولماذا؟ وكيف؟) .وهو يرى أنه لا يجوز أن نتحدث عن هذا الأدب دون إثارة مثل هذه الأسئلة، و يذهب إلى التأكيد على أن الأدب العربي القديم في الجزائر موجود ما في ذلك ريب، وأن قدمه ينطلق، أساساً، من تاريخ تأسيس الدولة الرستمية التي يرتبط بعض الشعر، والنثر بحكامها أنفسهم.
وقد أوضح الدكتور عبد الملك مرتاض أن الشاعر (بكر بن حماد)، هو الذي يمثل الأديب الجزائري الأول بحق، وذلك طوال عهد الرستميين، بحكم أنه أكثر الشعراء الذين ينسبون إلى هذا العهد، وهو أجملهم نسجاً، وألصقهم مكانة بالشعر، وهذا ما دفعه إلى القيام بدراسة تحليلية معمقة، وطويلة في قصيدته الشهيرة التي عُرفت بقصيدة (ذكر الموت) .
وبالنسبة إلى أهم المصادر الثمينة، التي استعان بها الدكتور عبد الملك مرتاض، وأفاد منها، فقد قام بتوصيفها، وقدم لمحة عنها، و من أبرزها:
1.البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري المراكشي، وقد عبر المؤلف عن رؤيته لهذا المصدر، وقيمته، بالإشارة إلى أنه«ولئن كان هذا المصدر من أقدم الوثائق التاريخية التي تحدثت عن الشعر الجزائري على عهد الرستميين، فإنه لم يكد يختص تيهرت وشعراءها، إلا ببضع صفحات من الجزء الأول.
وقد وقع ابن عذاري في خطإ تاريخي لدى ترجمته لبكر بن حمّاد(وهذه الترجمة هي التي عوّلت عليها، فيما بعد، جميع المراجع التي لها صلة بهذه المسألة)، حيث ذهب المراكشي إلى أن بكراً حين ألم على بغداد التقى فيها، من بين من التقى بهم هناك، بمسلم بن الوليد المعروف تحت لقب(صريع الغواني) الذي توفي سنة: 208هـ، في حين ابن حماد ولد بتيهرت سنة: 200هـ، ولكن الأغرب من هذا أن كل الذين ترجموا لبكر بن حماد وقعوا، هم أيضاً، في هذا الخطإ المتولد عن سهو من الشيخ المراكشي في إضافة هذا الشاعر إلى جملة الشعراء البغداديين الذين التقى بهم بكر بن حماد، في بغداد، ومنهم حبيب بن أوس أبو تمام الطائي، ودعبل الخزاعي، وعلي بن الجهم... »(4).
2- المسالك والممالك، لأبي عبيد الله البكري المتوفى عام: 487هـ
يرى المؤلف أن لهذا المصدر أهمية أدبية لا تقل عن أهميته الجغرافية، حيث إنه يثبت كثيراً من المقطوعات الشعرية، وقد أفاد منه الدكتور عبد الملك مرتاض، حيث وجد فيه ثلاث مقطوعات لها صلة وثقى بمدينة تيهرت، من بينها قصيدة في وصف مدينة تيهرت لبكر بن حماد.
3- الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية، لسليمان بن الشيخ عبد الله الباروني النفوسي
وهذا الكتاب مصدر مهم في دراسة الأدب الجزائري القديم على عهد الرستميين، حيث أورد هذا المصدر كثيراً من النصوص الشعرية، والنثرية المهمة التي تناقلتها المراجع الجزائرية المؤلفة، فيما بعد عهده، ومن أهمها:
- الدر الوقاد من شعر بكر بن حماد، لمحمد بن رمضان شاوش
- المغرب العربي: تاريخه وثقافته، لرابح بونار
- تاريخ الأدب الجزائري، لمحمد طمار
الأدب الجزائري القديم: نشأته ومضامينه ومستوياته الفنية
يظهر من خلال القسم الأول من الكتاب الموسوم ب: «الأدب الجزائري القديم (نشأته ومضامينه ومستوياته الفنية) »، أن الدكتور عبد الملك مرتاض وظف كثيراً من طاقاته الأدبية، واللغوية، ومعارفه المتراكمة على مستويات عديدة في أسلوب سلس، للغوص في عوامل نشأة الأدب الجزائري، ومن أبرز الأسئلة التي أثارها في هذا القسم: ما لغة الأدب الجزائري القديم الذي يسعى المؤلف إلى البحث في جذوره العميقة، ويؤكد في هذا الشأن أنها اللغة العربية، حيث إن اللغة العربية«هي اللسان الرسمي للدولة الرستمية مع وجود بعض التآليف الدينية الشعبية لمحاولة نقل بعض التعاليم الإسلامية، وشرحها لمن لم يكن لهم إلمام بالعربية من السكان الأصليين. ولكن تلك التآليف لم تندرج قطّ في إطار المنافسة، وإنما كانت تندرج في إطار التكامل الثقافي، وهي تآليف ضاعت في الفتن، أو تحت سلطان الإهمال...
ومع أن الدولة الرستمية انغرست في بيئة لغوية زناتية خالصة، وذلك على الرغم من ذهاب ابن خلدون، إلى أن أصل زناتة عربي، أو أنه قد يكون عربياً، فإن العربية ظلت هي اللغة الرسمية ...، ويمكن أن نفترض أن اصطناع العربية في الجزائر ابتدأ في الانتشار والشيوع بين السكان انطلاقاً من أواخر النصف الأول من القرن الثاني للهجرة، وذلك حين وقع تأسيس الدولة الرستمية التي آثرت لغة الدين الإسلامي الحنيف»(5).
وقد اجتهد الباحث الدكتور عبد الملك مرتاض في حصر أهم العوامل التي أفضت إلى انتشار اللغة العربية في إفريقيا الشمالية، ومنها هجرة بعض الفرق الإسلامية إلى بلاد المغرب، وتأثيرات تأسيس الدولة الرستمية في التمكين للعربية من الانتشار، إضافة إلى الرحلة إلى المشرق لطلب العلم، والتأثر بالثقافة العربية الإسلامية.
ومن عوامل نشأة الأدب الجزائري القديم، عامل الفتن والحروب، التي أسهمت في ازدهار الحركة الأدبية، حيث إن كل طرف كان يلجأ إلى الإبداع الأدبي بغرض الإقناع، والتأثير في الناس، وتوجهاتهم، فالجدال الشديد، والحوار العنيف، ساهم في الحركة الأدبية، كما ازدهرت نسبياً الحركة الثقافية، والعلمية إبان الدولة الرستمية، فقد كانت هذه الدولة تحرص على تعليم الناس مبادئ الدين الإسلامي بلغة القرآن الكريم، وتسعى إلى تحفيظ القرآن الكريم، ومن عوامل النشأة كذلك التي ذكرها المؤلف التطلع إلى الحرية، من قبل مختلف الفرق.
كرس الدكتور عبد الملك مرتاض مساحة لا بأس بها لمناقشة إشكالية الأجناس الأدبية التي سادت في عهد الرستميين، وتحدث عن الشعر الجزائري، وأنواعه، وتشكيله في ذلك العهد، وطرح بعض الأسئلة المتعلقة بوضعية الشعر الجزائري، وخصائصه على العهد الرستمي في الجزائر، ومن بين أهم الأغراض التي تجلت في الشعر غرض الوصف الذي يعد من الخصائص الجمالية، ويصدر عن طبع، وسليقة، ومن أبرز المقطوعات المتميزة التي عرفها الأدب الجزائري القديم في غرض الوصف، تلك المقطوعة التي يصف فيها بكر بن حماد مدينة تيهرت المعروفة بشدة البرد، وهطول الثلج، وهو وصف يندرج ضمن تسجيل وصف الحال دون قصد صريح للذم، أو المدح، إذ كانت الغاية من هذا الوصف هي تبيين برودة الطقس في هذه المدينة، ومن بين القصائد التي كتبت في وصف المدن وصف مدينة تنس برطوبة الجو، وسوء الطقس، وتلوث البيئة، وملازمة الحمى لها لسعيد بن واشكل التيهرتي.
ومن بين القصائد المجهولة التي وصفت برقة العاطفة، وعذوبة النسج قصيدة لشاعر مجهول في رثاء مدينة تيهرت أوردها ابن عذاري المراكشي.
وفي غرض المدح يبرز اسم الشاعر بكر بن حماد، فمن بين المقطوعات التي كتبها مقطوعة متميزة يمدح فيها أحمد بن سفيان بن سوادة التميمي، الذي كان عاملاً للأغالبة على إقليم الزاب، وممن مدحهم بكر بن حماد أيضاً الأمير أحمد بن القاسم بن إدريس صاحب مدينة كرت التي كانت تقع بين مدينتي فاس، وأصيلة بالمغرب الأقصى، وممن مدحهم أيضاً (أبو العيش عيسى بن إدريس) صاحب جراوة، وتلمسان.
وكما برع بكر بن حماد في غرض المدح، برع كذلك في الشعر الزهدي الذي يدعو«إلى الموعظة، وتوجيه الناس نحو التنسك والعبادة، معتبراً أن هذه الحياة ما هي إلا دار ممرّ إلى دار مقرّ، وما زينتها وبهرجها إلا خداع للمرء، وإغراء له، كي تنسيه خالقه، وتجعله عبداً لشهواته ونزواته.فإذا أراد الإنسان حياة هنيئة في الآخرة، فما عليه إلا أن ينبذ هذه الدنيا، ويعدّ نفسه لحياة أبدية..»(6).
وقد عُرف بكر بن حماد بأنه من الذين نزعوا في حياتهم نزعة زهدية، وهذا ما عبّر عنه الدكتور عبد الملك مرتاض بقوله: «لقد عُرف بكر بن حماد بشاعر الزهد، حتى إننا قد لا نُغالي إن أطلقنا عليه أبا عتاهية الجزائر، إذ لا نعرف شاعراً برع في هذا النوع الأدبي في بلاد المغرب كلها، على عهده على الأقل، مثل براعته هو، وإن كنا لنحسب أنه يُعد أيضاً من أكابر شعراء القرن الثالث للهجرة كله في أقطار المغرب، إن لم يكن أكبرهم إطلاقاً»(7).
ويُرجع الدكتور مرتاض عدم ضلوع بكر بن حماد في غرض الغزل إلى سببين اثنين:
أولهما: أنه كان راوية للحديث النبوي الشريف، عالماً به، مميزاً لرجاله، فقد كان من الوقار، والوفاء لهذه الصفة، أن لا يقول شعراً في الغزل، فيسئ إلى سمعته في الرواية، ويجلب على نفسه، ومنزلته بين الفقهاء، والمحدثين شيئاً من الأذى.
وثانيهما: أنه عرف بالزهديات، والوعظيات، وهذه الصفة تعد مكملة لرواية الحديث، وحفظه، ومدارسته، فكان من النشاز في شخصيته أن يقول في باب الزهد شعراً، وفي باب الغزل شعراً مثله.
وقد كتب بكر بن حماد مقطوعة في رثاء ابنه عبد الرحمن، تعد من أهم المقطوعات التي كتبت في هذا الغرض في الشعر الجزائري القديم.
وبالنسبة إلى غرض الحكمة والتوجيه، فمن بين الذين كتبوا في القديم سعيد بن واشكل التيهرتي، وأفلح بن عبد الوهاب، بالإضافة إلى بكر بن حماد.
شعرية النثر في الجزائر على عهد الرستميين
اهتم الدكتور عبد الملك مرتاض بإيضاح خصائص شعرية النص النثري الجزائري القديم، وتمثل دراسته في هذا القسم سعياً إلى مدارسة النصوص النثرية بعمق، وكشف خباياها من طريق تحليل المستويات الفنية، وأول ما نبه إليه في هذا الصدد، هو مكانة النثر على عهد الدولة الرستمية، حيث يذهب في هذا الشأن إلى القول: «وحين نجئ إلى الحديث عن النثر الأدبي على عهد الدولة الرستمية في الجزائر، وهو العهد الذي يمتد تقريباً من منتصف القرن الثاني إلى نهاية الثالث للهجرة(160هـ-296هـ)، نلاحظ أن الدور الأدبي لهذا النثر لم يك في شيء ثانوياً، بل إننا نرى أنه أسهم بشيء من الفعالية، والحركية في تأسيس الدولة الرستمية، وتطور نظامها، والتمكين لاتساعها، وتخليد معالم حضارتها»(8).
فخلال عهد الدولة الرستمية ازدهرت الخطابة أيما ازدهار، ومن بين الخطباء الذين اشتهروا في ذلك العهد: ابن أبي إدريس، وأحمد التيه، وعثمان بن الصفار، وأحمد بن منصور.
وفيما يتصل بخصائص الصياغة الأسلوبية للخطابة في الأدب الجزائري القديم، فقد كانت متأثرة بأسوب القرآن الكريم، وكانت تضم كثيراً من الاستشهاد بآياته، بالإضافة إلى الاقتباس من خطب الرسول محمد-صلى الله عليه وسلم-، كما أن النسج الفني للخطابة كان يجنح إلى السجع، فمعظم الجمل المستعملة مزدوجة الإيقاع، كما يُلاحظ أن النزعة الدينية بحكم طبيعة موضوع المضمون، ومناسبته، كانت تغلب على النزعة الأدبية، فالتصوير الفني، والتخييل يكاد ينعدم في هذه الخطب.
أما فن الترسل، أو أدب الرسائل، فمن بين الذين برعوا في كتابة الرسائل في عهد الدولة الرستمية، الأمير: أفلح بن عبد الوهاب، وابنه محمد بن أفلح، وأغلب الرسائل التي كتبت إبان ذلك العهد تتناول موضوع الوعظ، والترغيب، والترهيب، والتذكير بأيام الله، ويظهر على الرسائل التي كتبت، ووصلت إلى أيادي الباحثين أنها متأثرة بأسلوب القرآن الكريم، حيث يقول الدكتور عبد الملك مرتاض عن هذه الظاهرة: «ألفينا النثر الرسائلي، مثله مثل النثر الخطابي في الأدب الجزائري القديم، شديد الولع بالاغتراف من الاستشهاد العائم، والاقتباس المندمج من القرآن العظيم، ولعل ذلك يعود إلى طائفة من العلل، من أهم ما ينبغي أن يذكر منها، هنا:
أ.إن أولئك المثقفين، الأوائل، كانوا يلزمون تلاوة القرآن العظيم، على أساس أنهم كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، وكان حفظهم لديهم شرطاً جوهرياً في تحصيل الثقافة، والعلم، والقيام بالكتابة.
ب.إن تطلعهم إلى مثل تلك الاقتباسات، والاستشهادات، أو التناصات غير المعلنة(ولكنها لم ترد في نصوصهم على سبيل السطو، ولكن على سبيل التيمن، والتبرك، والتعبد) كان يُراد بها إلى تحلية نصوصهم، وتزكيتها بتلك الآيات الكريمات، التي كانوا يعومونها تعويماً في نصوصهم.
ج. إن ذلك السلوك الأسلوبي ربما يحدث تلقائياً في بعض الأطوار فيندرج، إذن بحق وفعل، ضمن إطار التناص المكشوف، والمباشر طوراً، والتناص العائم طوراً آخر.
د.إن الأديب الكبير، كان في رأيهم، هو من يستطيع أن يُوفق إلى بعض تلك الاستشهادات المندمجة، أي التي كان كلامهم يرقى إلى الاندماج فيها، فيتحلى بها، فإنما كان ذلك من كمال التوفيق، واكتمال الأدوات الكتابية، وانصقال القريحة المبدعة»(9).
في القسم الثاني من الكتاب قام الدكتور عبد الملك مرتاض بتحليل نص شعري جزائري قديم مجهول القائل، وهو يتألف من سبعة أبيات، وصفها الدكتور مرتاض بأنها تتسم بلغة«شعرية رقيقة، ومتمكنة، وناضجة، ومتوهجة، مما يجعلنا نذهب إلى أن مثل هذا النسج الفني لكتابة الشعر يوحي باحترافية حقيقية، لقرض الشعر، على ذلك العهد المبكر من تاريخ الأدب الجزائري القديم...، وتنهض اللغة الفنية لهذه المقطعة على طائفة من البنى التي تتحكم داخلياً في هذا النص، وتطبعه بطابع فيه من الاحترافية الشعرية ما يقف الناقد أمامه حائراً من أمر هذا التطور المبكر الذي جعل الشعر الجزائري القديم يختص بتلك الخصائص الفنية الأنيقة، واللطيفة»(10).
في حين كرس القسم الثالث لتحليل قصيدة «ذكر الموت» لبكر بن حماد، وهو يبتغي من انتقائه لهذه القصيدة، أن يبرهن على أن النص الأدبي نص في كل الأطوار، وقدمه لا يمنع دراسته بطرائق معاصرة، وكاتبه هو أحد أكبر الشعراء الجزائريين على وجه الإطلاق، ودراسة نصه هي من باب إحياء هذا الشعر، والوفاء لشاعر جزائري كبير(بكر بن حماد)، أسمع صوت الجزائر في عهد مبكر في أكبر مدينة، وأشدها تأثيراً في العالم، وهي مدينة بغداد.

***

بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقــــــة
كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر
.......................
الهوامش:

(1) رابح بونار: المغرب العربي: تاريخه وثقافته، منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981م، ص: 05.

(2) عثمان الكعاك: بلاغة العرب في الجزائر، نقلاً عن: رابح بونار: المغرب العربي: تاريخه وثقافته، ص: 07.

(3) د.عبد الملك مرتاض: الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-، منشورات دار هومة للنشر والتوزيع، الجزائر، د، ت، ص: 10.

(4) د.عبد الملك مرتاض: الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-، ص: 18.

(5) المرجع نفسه، ص: 30.

(6) فواز محمد الشعار: الموسوعة الثقافية العامة: الأدب العربي، منشورات دار الجيل، بيروت، لبنان، 2010م، ص: 154.

(7) د.عبد الملك مرتاض: الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-، ص: 65.

(8) المرجع نفسه، ص: 81.

(9) المرجع نفسه، ص: 100-101.

(10) المرجع نفسه، ص: 110.

في المثقف اليوم