قراءات نقدية

أسامـة نور: ديناميكية الطبيعة بين الأثر والتوافق

دراسة نقدية تحليلية لقصيدة "قهوةٌ بالنَّعناع"

للشاعرد. جمال مرسي.. نقد وتحليل

***

"قهوة بالنعناع"

شعر: د. جمال مرسي

..

و كَأَنَّنِي..

إذ شَقشَقَت أَطيارُ قَلبِكِ في الصَّباحِ

رَشَفتُ فِنجانِي مَعَكْ.

و جَلَستُ أَنظُرُ مِن نَوَافِذِ مُقلَتَيكِ

إلى حَديقةِ قَلبِكِ المَزرُوعِ بالنَّعناعِ

و النَّسرِينِ

يا ما أروَعَكْ.

لا تَجلِبِي " الكِيكَ " المُحَلَّى

لا تُضيفِي سُكَّراً للبُنِّ

يكفي لو يُلامِسُ.. في اْشتياقٍ.. إصبعَكْ.

فِنجانُ قهوتِنا،

و طَاوِلَةُ " الفرَندا "،

مَقعدانِ على ضِفَافِ الحَرفِ،

نَبضُ مَشَاعِرٍ

و عَنَادِلُ الشِّعرِ المُصَفَّى كُلُّهَا تَدعُو

لأنْ تُصغِي إليَّ، وأَسمَعكْ.

بُوحِي بِسرِّ القَلبِ يا عُصفُورَةَ الرُّوحِ الطليقةَ

حلِّقي

في ذا الفَضَاءِ

تَأَرجَحِي

كَصَغِيرةٍ زَانَت جَدَائِلَها الشَّرَائطُ

دَاعِبِي

بِبراءَةِ الأَطفَالِ سَمْعِي

ثَرثِري إنْ شِئتِ

لا، لن أمنَعَكْ.

فَلَقَد سَكَنتِ القَلبَ،

يا سُبحانَ مَن.. كَالسِّرِّ.. في قَلبِ المُغَنِّي أودَعَكْ.

قُصِّي عليَّ حِكايةً تِلوَ الحِكايةِ

و افتحي دِيوانَ دَرويشَ

اقرئي " لوركا "

و " نازكَ "، و" الشَّهاويَّ "

ارجعي بي " لابنِ زيدونَ "

اعزفي ألحانَ " قَيسٍ "

إنَّ أعذبَ ما سَمَعتُ وما قَرَأتُ من القَصائدِ

كانَ ما يُتلى معكْ.

هذي صحيفةُ صَدريَ البيضاءِ مِن لألاءِ وجهكِ

فارسُمِي قلباً عليهِ حُروفُنا

و تَرَفَّقي

و تَأنَّقِي

فُرشَاتُكِ الزَّرقاءُ حِين تٌداعِبُ الأَوراقَ

تَعزفُ لَحنَ صبٍّ

صاح من أشواقَهُ:

ما أَبدَعَكْ.

إنَّ الذي جَعَلَ الجَمالَ سجيَّة في مُقلتيكِ

هو الذي زَرَعَ البَرَاءَةَ فِي رُباكِ

و بالفضيلةِ مَتَّعَكْ.

يا ربَّة النَّهرِ الذي شَقَّ الجَوانحَ

مُنذ آلافِ السنينَ

و صَبَّ في قلبِ المُغَنِّي أَريَهُ

باللهِ قولي:

أيُّ نَبعٍ في الجِنانِ غذا قديماً منبعَكْ.

و بأيِّ لونٍ كانَ للنَّسرين أن يَغترَّ

إن يوماً أَشَحتِ بوجِهِكِ القَمَريِّ عنهُ

و كانَ يَسكنُ أَضلُعَكْ.

و بأيِّ وجهٍ يَضحكُ التُّوليبُ

يبتسمُ القَرَنفلُ

إن بَكَت وَردَاتُ خَدِّكِ كلَّما ألقي الرَّحيلُ ظِلالَهُ

فوقَ المكانِ

فَلَم يُكَفكِف أَدمُعَكْ.

فنجانُ قهوتِنا يُخَيِّم فوقَهُ صَمتٌ

و رَنَّةُ هَاتِفِي المَحمُولِ تَقطَعُ ما تَبَقَّى مِن ثَوَانٍ

فَاترُكِينِي أطبعُ الحَرفَ الأخيرَ

على جَبِينِكِ

كي أَعُودَ فأقرأ الذِّكرى معكْ

***

مقدمة

تعددت أشكال الكتابة، واتخذ المضمون أبعادًا كثيرة..

وظهر المؤيدون لشكل ما، والرافضون لذات الشكل،

المتمسكون بأخر.. فنشأت المدارس الشعرية والأدبية

التي كان لها- في رأيي- الفضل الكبير في الحفاظ على اللغة العربية وعلومها، والمحافظة على جوهر الإبداع وتحريك الفكر وبعث الإبداع..

ورغم تعدد الأشكال، يبقى الإبداع هو الفيصل والحكم الذي نستند إليه، فطالما توافق الإبداع وحضر الإمتاع، وتوافرت فنيات الشكل الشعري.كان للنص هيبته ووقاره

وأصبح في بوتقة الشعر وواحته الغناء.

.. ومنذ ظهور الشعر الحر " شعر التفعيلة " على يد" نازك الملائكة" وقصيدتها "الكوليرا".ووجد الشعر الحر صراعًا بين المؤيدين والمعارضين..

.. ولم يكن الصراع حول ماهية الإبداع وحضوره أو عدمه، وإنما كان صراع حول الشكل،

ووقف المعارضون عند تعريف الشعر على أنه "كلام موزون مقفى " وهذا تعريف جاء ليوافق زمنه. وتناسى الواقفون عند هذا الزمن، أن الإبداع لا يعرف الحدود، بل يجب أن يتجاوزها سواء كان في شكله القديم أو تجاوز هذا الشكل.

.. ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛.. .

رمزية العنوان دلالته

إنَّ للعنوان أهميةً كبيرةً فهو مدخل لقراءة النص، وبوابة العبور إليه، وأصبح العنوان في الأدب الحديث، مكونًا رئيسًا، من مكونات النص الأدبي، وقد أعتبره الناقد الفرنسي "جيرار جينت "عتبة رئيسة من عتبات النص،

والعنوان هنا "قهوة بالنعناع" عنوان محير يبعث على التساؤل والتفكر رغم خبرية العنوان، لكنه يشعرك بالرغبة في التساؤل

والانتباه مع النشوة، التنبيه الذي تحدثه القهوة والنشوة من رائحة النعناع.

القهوة توحى بالجلوس وترمز إلى عمق التفكير والتأمل، والتخيل، وإضافة النعناع لها البعد النفسي والروحي.

ويرمز للطبيعة وتجاوبها مع الحالة النفسية الشعورية للشاعر.

وقد عنون الكاتب الأستاذ أحمد توفيق كتابه بعنوان (شاي بالنعناع).. وله كتاب آخر بعنوان "قهوة باليورانيوم "

ومن هنا فالعنوان " مؤثر، جذاب، يبعث على التساؤل ويحرك الذهن بايحاءاته ورمزيته "

مما جعل القارئ تواقًا لقراءة النص واكتشافه.

-----؛؛؛؛؛؛؛-------

** "من حيث الشكل والموسيقى الخارجية "

كتب الشاعر قصيدته على "الشكل التفعيلي "الشعر الحر

فقد التزم تفعيلة البحر الكامل "متفاعلن "واختلف تكرارها

في كل سطر شعري. ولم يلتزم القافية بالفعل، ولكنه التزم قافية دوارة أو حرف رويٍّ.. ينتهي به كل مقطع شعري

وهو حرف العين المفتوحة..

ومن صفات حرف العين الجهر، والاستفال، والتوسط، والانفتاح وهو أعمق الحروف مخرجًا ؛لهذا يوحي حرف العين بالعمق الفكري الوجداني مما يتناسب مع الجو النفسي للقصيدة.

فتشكلت الموسيقى الخارجية من تفعيلة بحر الكامل الرقراقة الجزلة المناسبة للحالة والرؤية، ومن حرف الروي" العين " المنتهية به مقاطع القصيدة، وبعده كاف الخطاب.

فيقول الشاعر:

كَأَنَّنِي..

إذ شَقشَقَت أَطيارُ قَلبِكِ في الصَّباحِ

رَشَفتُ فِنجانِي مَعَكْ.

و جَلَستُ أَنظُرُ مِن نَوَافِذِ مُقلَتَيكِ

إلى حَديقةِ قَلبِكِ المَزرُوعِ بالنَّعناعِ

و النَّسرِينِ

يا ما أروَعَكْ

ويقول في المقطع الاخير:

فنجانُ قهوتِنا يُخَيِّم فوقَهُ صَمتٌ

و رَنَّةُ هَاتِفِي المَحمُولِ تَقطَعُ ما تَبَقَّى مِن ثَوَانٍ

فَاترُكِينِي أطبعُ الحَرفَ الأخيرَ

على جَبِينِكِ

كي أَعُودَ فأقرأ الذِّكرى معكْ

ونلاحظ هنا حرف العين في معك في نهاية السطر الثاني

وفي ما أروعك في نهاية السطر السابع.

وكذلك كلمة معك في نهاية القصيدة

وقد وفق الشاعر في موسيقاه فجاءت قوية مناسبة للحالة النفسية والشعورية.. ذات إيقاع عذب مطرب متناغم يتهادى فيجذب السامع والقارئ.

والشاعر هنا يدرك دور الموسيقى، يبدع فيها ويشكلها، ولكنه لا ينساق وراء التداعي اللفظي، بل يقود أوركسترا النص بمهارة وخبرة فائقين.

-------؛؛؛؛؛؛؛------

*** "من حيث اللغة والمضمون، والتجربة الشعرية" للمفردات والتراكيب في الشعر الحر أهمية كبيرة، فيجب أن تحمل القوة والدقة، والدلالة والرمز، والانسجام الصوتي والتوافق الإيقاعي.

وبالنظر في مفردات النص نجدها، تسير في وحدة واحدة تشكل بنية صاغها الشاعر بحرفية عالية وإتقان، وبعاطفة وصدق شعوري.. لهذا فهي تجمع بين الفكر والخيال والعاطفة

والوجدان، وتعكس الحالة التخيلية التي تعايشها الشاعر مع محبوبته.في حضرة الحب والقهوة بالنعناع.

الشاعر يعبر عن حالة الحب والذوبان في العشق، وتجاوب الطبيعة معه، فالطبيعة تتراقص على إيقاع محبوبته، وتتجمل بجمالها، وتتزين ببهائها.

فيقول الشاعر:

و كَأَنَّنِي..

إذ شَقشَقَت أَطيارُ قَلبِكِ في الصَّباحِ

رَشَفتُ فِنجانِي مَعَكْ.

و جَلَستُ أَنظُرُ مِن نَوَافِذِ مُقلَتَيكِ

إلى حَديقةِ قَلبِكِ المَزرُوعِ بالنَّعناعِ

و النَّسرِينِ

يا ما أروَعَكْ.

بدأ الشاعر بقوله "وكأنني " الواو هنا تدل على عمق الفكر، والإحاسيس التي سبقت ذلك الشعور الذي عبر عنه الشاعر فالواو هنا تعبر عن دراما وصراع ومشاعر متأججة، وعالَم قبلها. فيجد الشاعر، في "قهوته بالنعناع" هدأة النفس وكأن حبيبته تشاركه الجلسة، فتحيل العالَم جناتً وارفة، وتصبغ الكون بضيائها، وجمالها. كل ذلك مبعثه عيني حبيبته، وقلبها الغض.

** كأن أداة تشبيه، وهي حرف ناسخ ناصب، وياء المتكلم ضمير مبني في محل نصب اسمها.

وجملة رشفت فنجاني معك جملة فعلية في محل رفع خبر كأن.. وهكذا فما بعد كأن هو الأخبار التشبيهي، هو تخيل، وعالَم نسجه الشاعر، وتعايشه، وجعلنا نتعايش فيه. وقد نسج الشاعر عالمه بدقة، فهو مزج من الفكر والعاطفة والصور الرائعة، والمشهدية، والطبيعة، فجعله واقعًا فكريًا شعوريًا.يفوق الواقع المادي المحسوس.

** ويظهر في النص الوحدة العضوية، والانسجام اللغوي والصوتي، رغم أن الشاعر كتب النص في مقاطع، فيمثل كل مقطع دفقة شعورية تخيلية، وتأثر الطبيعة بمحبوبته وتوافقها مع الخيال الخصب وتجاوبها معه، فحبيبته هي التي أضفت على الطبيعة هذا الجمال الفريد،

وينتهي كل مقطع بحرف روي هو العين بعدها كاف الخطاب.. مما أحدث جرسًا موسيقيًا، وإيقاعًا منتظمًا.

فيقول شاعرنا

يا ما أروَعَكْ.

لا تَجلِبِي " الكِيكَ " المُحَلَّى

لا تُضيفِي سُكَّراً للبُنِّ

يكفي لو يُلامِسُ.. في اْشتياقٍ.. إصبعَكْ.

فِنجانُ قهوتِنا،

و طَاوِلَةُ " الفرَندا "،

مَقعدانِ على ضِفَافِ الحَرفِ،

نَبضُ مَشَاعِرٍ

و عَنَادِلُ الشِّعرِ المُصَفَّى كُلُّهَا تَدعُو

لأنْ تُصغِي إليَّ، وأَسمَعكْ

فالرابط هنا الحالة التخيلية الحالمة المسيطرة على الشاعر

والتصوير الطبيعي الرائع، واللغة الرقيقة الحداثية المرنة.

ثم يعبر الشاعر بأن أجمل الأشياء ما يقوم بها رفقة محبوبته بل إنها عالمه، طفلته المدلله بصفائها، ونقائها، وضفائرها،

فيقول شاعرنا:

حلِّقي

في ذا الفَضَاءِ

تَأَرجَحِي

كَصَغِيرةٍ زَانَت جَدَائِلَها الشَّرَائطُ

دَاعِبِي

بِبراءَةِ الأَطفَالِ سَمْعِي

ثَرثِري إنْ شِئتِ

لا، لن أمنَعَكْ.

فَلَقَد سَكَنتِ القَلبَ،

يا سُبحانَ مَن.. كَالسِّرِّ.. في قَلبِ المُغَنِّي أودَعَكْ.

قُصِّي عليَّ حِكايةً تِلوَ الحِكايةِ

و افتحي دِيوانَ دَرويشَ

اقرئي " لوركا "

و " نازكَ "، و" الشَّهاويَّ "

ارجعي بي " لابنِ زيدونَ "

اعزفي ألحانَ " قَيسٍ "

إنَّ أعذبَ ما سَمَعتُ وما قَرَأتُ من القَصائدِ

كانَ ما يُتلى معكْ.

فالشاعر يذوب في محبوبته، يتقبل منها لهوها، براءتها، ثرثرتها، ويؤكد ذلك بقوله لا لن أمنعك.

فالنفي للتأكيد.. وكذلك فلقد سكنت القلب.. وهو يرى ويقرأ في عينيها، ويسمع معها كل حكايات الشعر، وكل الشعراء الذين هاموا بالحب والطبيعة..

فيذكر الشاعر الفلسطيني الكبير "محمود درويش "وقد كان درويش عاشقًا للقهوة يعتبرها حياة وعالَم فريد من الجمال والابداع، فيقول درويش:

" القهوة؛ فنجان القهوة الأول، هي مرآة اليد. واليدُ التي تصنع القهوة تُشيع نوعية النفس التي تحركها. وهكذا، فالقهوة هي القراءةُ العلنية لكتاب النفس المفتوح.. والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار"

ثم يذكر " لوركا " الشعر الإسباني الذي ناضل من أجل الإنسان والجمال. "ونازك الملائكة " التي جددت في شكل القصيدة العربية، والشاعر الكبير. "محمد الشهاوي" وقديمًا ابن زيدون وعشقه لولادة بنت المستكفي.. وقيس.. مجنون ليلى.. فهذه الأنثى هي الرابط بين أحاسيسهم ومشاعرهم، جمعهم العشق والافتتان بها، والبحث عن الجمال.

فالمرأة بكل ما تمتلك، بعينيها الساحرتين، تمنح العالَم الجمال

فهي ربة النهر، ومقدسة منذ القدم، وتأثيرها مستمر عبر العصور والأزمان.

ويؤكد ذلك قول شاعرنا:

فُرشَاتُكِ الزَّرقاءُ حِين تٌداعِبُ الأَوراقَ

تَعزفُ لَحنَ صبٍّ

صاح من أشواقَهُ:

ما أَبدَعَكْ

إنَّ الذي جَعَلَ الجَمالَ سجيَّة في مُقلتيكِ

هو الذي زَرَعَ البَرَاءَةَ فِي رُباكِ

و بالفضيلةِ مَتَّعَكْ.

يا ربَّة النَّهرِ الذي شَقَّ الجَوانحَ

مُنذ آلافِ السنينَ

و صَبَّ في قلبِ المُغَنِّي أَريَهُ

إنها ربة النهر الأنثى الحامية، المانحة الخصوبةَ والجمال، التي تضفي على الطبيعة سحرها وفتنتها..

وهنا إشارة إلى "تاروت" عند القدماء المصريين..

** ثم ينهي الشاعر قصيدته بنهاية فنجان القهوة، ورنه الهاتف المحمول في استخدام حداثي رائع.. ويتناسب مع الموقف والحالة.. فقد أخراجاه من عالَمه الخلاب، ومن التأثير الفكري العاطفي، لكنه حتمًا سيعود لذكرياته ؛ فهي التي تمنحه السعادة والرغبة في الحياة.

فيقول:

فنجانُ قهوتِنا يُخَيِّم فوقَهُ صَمتٌ

و رَنَّةُ هَاتِفِي المَحمُولِ تَقطَعُ ما تَبَقَّى مِن ثَوَانٍ

فَاترُكِينِي أطبعُ الحَرفَ الأخيرَ

على جَبِينِكِ

كي أَعُودَ فأقرأ الذِّكرى معكْ

وقد استخدم المفردات المعبرة عن الحالة.. طاولة الفرندا، النسرين ,التوليب

التى حملت المعني وتجاوزت المحسوس إلى العمق النفسي والعاطفي والدلالي.

--------؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛-------------

**"الفنيات والأساليب والصور "

قصيدتنا من الشعر الحر (شعر التفعيلة ). وقد تحققت فيها فنيات وآليات الشعر الحر فنجد الالتزام بالتفعيلة الواحدة

والتناغم الموسيقى، دلالة اللفظ، واستخدام الصور الكلية الجديدة والجزئية أيضًا، كتابة القصيدة على شكل مقاطع، قد تنتهي بقافية وروي مثل قصيدتنا هذه، الوحدة العضوية في القصيدة والترابط بينها، استخدام اللغة السهلة الفصيحة الحية،

التجديد في التشكيل اللغوي والموسيقي.، استخدم الرمز والإسقاط التاريخي. الإيحاء وعدم المباشرة، وفي رأيي "إن الإبداع تلميح لا تصريح "ودقة التعبير عن الحالة بما يتجاوز الواقع والامتزاج بالطبيعة، وهناك البعد الفلسفي والفكري

البحث في الميتافيزيقا"

لهذا فكان شاعرنا مدركًا لتلك الفنيات، فجمع بين العاطفة والخيال، والفكر والفلسفة والإيحاء،

ويظهر ذلك ما خلال مايلي:

أولا: الأساليب:

استخدم الشاعر الأسلوب الخبري للتقرير والتأكيد والإخبار وكذلك استخدم الأسلوب الإنشائي بكثرة لإثارة الذهن وجذب الانتباه، ومزج أساليبه بالصورة الطريفة، وتعدد الدلالة، وإشراك المتلقي في الحالة ليتماس معها وجدانيًا وفكريًا، قد امتزجت الأساليب بالصور الطريفة وبالرمز وتعدد الدلالة، ورقة الأسلوب وجماله:

من الأساليب الخبرية..

كَأَنَّنِي..

إذ شَقشَقَت أَطيارُ قَلبِكِ في الصَّباحِ

رَشَفتُ فِنجانِي مَعَكْ.. / فلقد سكنت القلب التوكيد باللام وقد /هو الذي زَرَعَ البَرَاءَةَ فِي رُباكِ وبالفضيلةِ مَتَّعَكْ /.

للقصر والتأكيد، /فنجانُ قهوتِنا يُخَيِّم فوقَهُ صَمتٌ

و رَنَّةُ هَاتِفِي المَحمُولِ تَقطَعُ ما تَبَقَّى مِن ثَوَانٍ.

جمل خبرية لها أغراض بلاغية تصعد بالحالة،

**لكن الأسلوب الإنشائي كان حاضرًا بقوة.

فنجد النداء التعجبي في ياما أروعك/ وفي يا سبحان للتعجب والتعظيم / يا ربة النهر للتعظيم./ يا عصفورة الروح الطليقة. للتدليل وإظهار الود والحب وإظهار مكانتها عنده.

وكذلك الأمر في قوله بوحي / حلقي/داعبي / قصي /اقرئي

/ فارسُمِي قلباً عليهِ حُروفُنا/و تَرَفَّقي/و تَأنَّقِي/وكلها للالتماس والتمني.

والنهي في قوله لا تَجلِبِي " الكِيكَ " المُحَلَّى

/لا تُضيفِي سُكَّراً للبُنِّ للالتماس والتمني

والاستفهام في قوله::

أيُّ نَبعٍ في الجِنانِ غذا قديماً منبعَكْ.

و بأيِّ لونٍ كانَ للنَّسرين أن يَغترَّ/ وبأي وجه يضحك التوليب.وكلها هنا للتعجب،

والقسم في قوله بالله قولي

** الصور والخيال:

امتلأت القصيدة بالصور الخيالية الطريفة والجديدة، التي تجاوزت أبعادها، فاتخذت البعد الحركي، وتجاوزت الإطار القديم ؛فجاءت حداثية متأجحة،

وهي تعتمد على الرمز، والأسطورة، وتنبع من ذات الشاعر وعاطفته، وقد تشكلها ذات المحبوبة وتلهمها للكون فيتجاوب معها في سيميائية، لها أبعاد عديدة،

فنجد القصيدة في بدايتها تعتمد على أداة التشبيه.. كمدخل للتصوير والتخيل وكأنني.

ويتوقف التشبيه والصورة، لتظهر صورة أخرى أقوى

فتتداخل معها.. "إذ شَقشَقَت أَطيارُ قَلبِكِ في الصباح " صورة طريفة جذابة، ثم يكتمل التشبيه بقوله رشفت فنجاني معك، وكذلك في وجَلَستُ أَنظُرُ مِن نَوَافِذِ مُقلَتَيكِ

إلى حَديقةِ قَلبِكِ المَزرُوعِ بالنَّعناعِ والنسرين.

فالصورة مبعثها حبيبته.. صورة طريفة حداثية يتداخل معها الرمز "قلبها المزروع بالنعناع والنسرين"..

وفي قوله مقعدان " على ضِفَافِ الحَرفِ،

نَبضُ مَشَاعِرٍ

و عَنَادِلُ الشِّعرِ المُصَفَّى "

صور حية متحركة تمتزج بالطبيعة في أبهى صورها تعكسها

المحبوبة ووجدان الشاعر،

"فُرشَاتُكِ الزَّرقاءُ حِين تُداعِبُ الأَوراقَ

تَعزفُ لَحنَ صبٍّ"

صورة رمزية جمالية جديدة، تتداخل فيها الحركة واللون والصوت.

وكذلك "بأيِّ وجهٍ يَضحكُ التُّوليبُ، يبتسمُ القَرَنفلُ

إن بَكَت وَردَاتُ خَدِّكِ كلَّما ألقي الرَّحيلُ ظِلالَهُ

فوقَ المكانِ"

صور طريفة متداخلة عميقة، رمزية فزهرة التوليب ترمز إلى الحب والود.. وكذلك القزنفل يرمز إلى شدة الارتباط ورائحته تنشر البهجة والسعادة.

ويستمر هذا التصوير الفريد حتى نهاية النص الرائعة في قوله

" فَاترُكِينِي أطبعُ الحَرفَ الأخيرَ

على جَبِينِكِ

كي أَعُودَ فأقرأ الذِّكرى معكْ"

فهنا الطباعة توحى بالثبات، وقراءة الذكري توحي بالتعمق فيها، والرغبة والاستمتاع في تعايشها.

نجد هنا استخدام مغاير في اللغة، والتصوير، فالشعر مجدد في التناول، والتشكيل الدرامي داخل النص، وفي الأساليب والتصوير والرمز والإيحاء.مما يجعل النص يسير في ركاب الحداثة، وما بعدها، وقد تجاوزت الصورة المستوى السمعي إلى المستوى البصري.

-------؛؛؛؛؛؛؛--------

** الموسيقى الداخلية:

تقوم الموسيقى الداخلية بدور كبير في الشعر الحر، فهي التي تحدث التشويق والاستمتاع، وتظهر من خلال حسن اختيار الكلمات، وحسن التقسيم، وتوازن الجمل والعبارات، واستنطاق الجملة وصياغتها بما يتناسب مع الحالة الشعورية واستخدام التقطيع الصوتي، والجناس، السجع، وغير ذلك من المحسنات البديعية، وجميل المعاني.وكلما استخدم الشاعر ذلك دون تكلف، وتصنع ازدادت القصيدة جمالًا وتشويقًا، ويكون لها صدى في النفس.

وبالنظر في قصيدتنا هذه " قهوة بالنعناع"

نجد الموسيقى الداخلية محسوسة، من خلال حسن صياغة الألفاظ، وتناسق الجمل ذات الإيقاع المتناغم، والتقديم والتأخير، مثل قوله:

وكَأَنَّنِي..

إذ شَقشَقَت أَطيارُ قَلبِكِ في الصَّباحِ

رَشَفتُ فِنجانِي مَعَكْ.

و جَلَستُ أَنظُرُ مِن نَوَافِذِ مُقلَتَيكِ

وكذلك في قوله:

سُبحانَ مَن.. كَالسِّرِّ.. في قَلبِ المُغَنِّي أودَعَكْ.

قُصِّي عليَّ حِكايةً تِلوَ الحِكايةِ

نجد هنا تقديم الجار والمجرور كالسر، وكذلك عليَّ

وتكرار حكاية في حكاية تلو الحكاية.

وتكرار المعنى في" وترفقي وتأنقي"

ونجد حسن التقسيم في:

و افتحي دِيوانَ دَرويشَ

اقرئي " لوركا "

و " نازكَ "، و" الشَّهاويَّ "

ارجعي بي " لابنِ زيدونَ "

اعزفي ألحانَ " قَيسٍ "

ونجد التضاد بين " بوحي: بسر" وبين" يضحك: بكت"

وبين "صمت: رنة"

وتكرار الاستفهام في قوله:

باللهِ قولي:

"أيُّ نبعٍ في الجِنانِ غذا قديماً منبعَكْ

و بأيِّ لونٍ كانَ للنَّسرين أن يَغترَّ

إن يوماً أَشَحتِ بوجِهِكِ القَمَريِّ عنهُ

و كانَ يَسكنُ أَضلُعَكْ.

و بأيِّ وجهٍ يَضحكُ التُّوليبُ"

---------؛؛؛؛؛؛؛-----------

** المؤثرات داخل النص:

استخدم الشاعر الحركة وكانت حاضرة في الصورة والبنية

مثل رشفت فنجاني / جلست / حلقي / تأرجحي/ شق الجوانج /نبع في الجنان /

وكذلك مؤثرات الضوء مثل الصباح / وجهك القمري / صحيفة صدري البيضاء/

ومؤثرات الصوت في شقشقت/ نبض مشاعري / تدعو /ثرثري/ اقرئي/ اعزفي / رنة هاتفي المحمول / اقرأ الذكرى معك/

إنَّ لهذه المؤثرات دورًا كبيرًا في إظهار النص، والتفاعل معه بحيث يحدث تماسًا مع الآخر، ويشكل مع الفنيات عالمًا فريدًا نسجه الشاعر، دخلناه لنكتشف إبهاره وجماله، فأسرنا بسحره.

--------؛؛؛؛؛؛؛؛---------

** "التجديد والحداثة في النص "

إذا استطاع الشاعر التعبير عن أفكاره ومشاعره بطريقة مغايرة، واستخدم اللغة الحية في صدق فني وشعوري بحيث

يحقق الدهشة والهزة النفسية والإعجاب والإمتاع، فإنه بذلك حقق الإبداع،

ونجد في قصيدتنا هذه التجديد والحداثة، رغم أن الشاعر التزم الشعر التفعيلي والوزن، إلا أنه يرسل رسالة أن التجديد

والحداثة يكونان من خلال المضمون، وليس الشكل فقط..

ويظهر ذلك فيما يلي:

** الابتكار اللغوي، وتناسق المفردات الموحية الواسعة الدلالة

التي تعتمد على التلميح، وتتجاوز الواقع.. وقد تمت الإشارة وذكر أمثلة لذلك.

** الصور.. وهي من أهم عناصر الشعر وفنياته، وقد كانت الصور في الشعر العمودي جزئية في معظمها ؛لاتخرج عن إطار البيت الواحد، ولكننا نجد هنا الصور الكلية، فإن الشاعر يعبر عن تجربته في صورة فنية، فيبدع في التصوير.

وتعتمد الصور هنا على اللقطات الموحية المتتالية ويطرزها

بالرمز والإيحاء.. فهي صور متلاحقة مرئية مسموعة.

** توظيف الرمز الاسطوري مثل

"يا ربَّة النَّهرِ الذي شَقَّ الجَوانحَ

مُنذ آلافِ السنينَ"

وكذلك استمد كثيرًا من الرموز من الطبيعة ومن محبوبته..

مثل النعناع / عنادل/ النسرين / التوليب / القرنفل/

امتزج الرمز بالصورة مما جعلها تتوغل في الكون الوجداني وتسهم في توسيع طاقات اللغة، وإمكاناتها الإبداعية.

**الموسيقي تتجاوب مع الحالة النفسية، فالموسيقى الخارجية والداخلية، شكلتا عالمًا من النشوة والاستمتاع..

-----؛؛؛؛؛--------

** قصيدة تتماس مع المتلقي، تخترق وجدانه، وترتبط بذهنه

وتحقق الإمتاع والإبداع في أقصى صوره.

***

تحياتي أسامـه نــور

في المثقف اليوم