قراءات نقدية

محمد المحسن: قصيدة الومضة.. بين الإستسهال والاختزال والتكثيف

"جاء في «لسان العرب» أن الومضة لغةً من وَمَضَ البرقَ وهي قصيدة البيت الواحد، لها تعريفات كثيرة تلتقي كلها في الإيجاز والتكثيف. جرّب كتابتها شعراء وشاعرات نجح بعضهم في كتابتها بتمكن، واعتبرها آخرون مجرد تجربة في كتابة نوع جديد بالنسبة له على الاقل. وبين إتقان اللعبة واستسهالها تبقى قصيدة الومضة عصية على من لم يصل إلى حدود الإبداع الشعري.

وأنا أقول: إن الاختزال والتكثيف والإيجاز هي العناصر الاساسية، إذا ما سلمنا بأنها هي المرتكز الذي تستند إليه قصيدة الومضة، أو الدفقة الواحدة للوصول إلى مغامرة المعنى. الفكرة أساسا التي يبدع الشاعر في هندستها ارتجالا أو صنعة، هي جوهر الجملة الشعرية، فتثير السؤال وتبعث على التأمل والتأويل ومن هنا يمكن القول إن قصيدة الومضة كشكل بنائي حديث الظهور نسبيا في الأدب العربي والعالمي، القديم قدم الإنسان منذ عصر الإيماءة والمثل والأحجية مع اختلاف المتن، هذا الشكل يغيب عنه القياس، ولا نجد بنية تركيبية واضحة يمكن أن توضع في إطارها لتحديد قوتها أو ضعفها، وبالتالي أتاحت للعديد التعاطي معها بدون أدوات، أو حتى جهد إبداعي يذكر، فالنص المباشر الخالي من الإدهاش، الذي يفتقر للشحنة الدافقة التي تصنع طاقة الخلق والإبداع، يدفع بصاحبه الى المجاهرة بسهولة طرح المعنى وتقديمه خاليا من أي جماليات، بالاعتماد على المفردة المستهلكة والتوظيف المباشر، وكأنه ينقل صورة سلبية عن محيط يضج بالحيوات والكائنات. أما الشاعر فيختزل الموقف والمفردة والشعور، فتأتي القصيدة دفقة شعور واحــــدة تختصر ملاحم ومعلقات، وتعطي المعنى بعدا مغايرا، وتمنح الصورة روحا وتهب المتلقي تنهيدة الخلاص.

في ذات السياق تقول الشاعرة التونسية السامقة سميرة بنصر مستدلة عن هذا اللون من الشعر بومضة شعرية موغلة في الإبداع: "يمكن أن نسميها قصيدة التكثيف، أو المركب الصعب، هي أسهل ما تكون كتابة وأصعب ما تكون ملامسة لجوهر التكثيف الشعري.يعدها البعض سهلة بسيطة، ويراها آخرون صعبة، بل لتكاد تكون معجزة. الكثيرون يكتبونها، ولكن القليلين من يلامسون جوهرها النقي، الذي يصح أن نقول عنه إنه ومضة شعرية، لأن مصادر الجمال الفني في هذا النوع الأدبي ينبع بالدرجة الأولى من جدة الموضوع والقدرة الإيحائية والصدمة المتولدة عبر تشكيل الثورة الفنية المصاحبة، وكل ذلك منسكب بأسلوب لا يلامس المباشر، ولا يماشي المعتاد، لذا لم نشهد أديبا متمايزا في هذا النوع الأدبي، فقصيدة الومضة فخ بالدرجة الأولى لمن يقف شعره وكتاباته عليها، ومع ذلك ما زال الشك قائما إن كان هذا النوع من الكتابة يمثل الشعر، أم انه يدور في فلك آخر."

"نزلت من السماء آية

قال الشاعر: قصيدة

أيها العشاق..

لم يبق من النبوءات الا القصيدة."

***

سميرة بنصر

ويقول الشاعر التونسي الكبير د. طاهر مشي : " تضيق سبل التعبير عند الشعراء أحياناً، ومع المتغير الحياتي بفعل التحولات الكبرى التي يعيشها الإنسان تتغير الأساليب، ومع تعدد أنماط الكتابة الإبداعية تتعدد سبل القراءة والتلقي أيضاً، والشعر كفنٍّ قديم، جدير بتقبل التغييرات هذه، لذا يبحث الشاعر عن حريته وآلية جديدة في إيصاله لمادته، عبر أكثر من شكل إبداعي ونتعقب بوضوح ما طرأ من تحول على شكل القصيدة العربية منذ امرئ القيس والعصر الجاهلي إلى بدر شاكر السياب وأدونيس وسعدي يوسف، حتى آخر شاعر شاب يكتب الشعر اليوم. بدأت محاولات التغيير في شكل القصيدة العربية الحديثة قبل أكثر من ستين عاماً، في لبنان خاصة، ويمكننا اتخاذ جماعة أبولو أو مجلة «شعر» مرجعاً واضحاً في ذلك، وبفعل ترجمة الشعر من ثقافات أوروبية وغيرها إلى العربية صرنا نعثر على تجارب كتابية جديدة، ولعل (الهايكو)، المنقول عن اليابانية، من أوضح ما يمكن اعتماده في ما نعرفه عن قصيدة الومضة اليوم. شخصياً لا أعتمد الفكرة القائلة بوجود مرجعيات شعرية عربية لها، إذ أن الشعر العربي يعتمد القصيدة أولاً، ولا يعتمد البيت أو المقطع، بل يعيب على الشاعر إذا جاء ببيت واحد، وإن كان فريداً في فكرته، لذا أرجح أن قصيدة الومضة هي نتاج اتصال الشاعر العربي بما قرأه مترجماً من أشعار مكتوبة بلغات غير عربية.قد تكون الذائقة القرائية عند البعض اليوم ميّالة الى هذا النمط من الشعر، وهي بكل تأكيد تنسجم مع معطيات العصر، السريعة في كل شيء بفعل اتصالنا السريع بما يحيطنا، وهي استجابة لا تنفك عراها مع استجابات أخرى كثيرة في الرواية والموسيقى والأغنية، وربما وجدت من يجيد كتابتها من الشعراء، وباتت من نسيج تجربة البعض منهم، لكنني، ولكني أجد أن القارئ العربي ما زال راغباً في قراءة النمط التقليدي الشائع اليوم، معنى أن القصيدة الطويلة نسبياً هي الأقرب لروحه، والقادرة على إمتاعه وتلبية حاجاته.نعم، أحبُّ قراءة ما يكتبه البعض، مما يترجم من قصائد الومضة، لكنني، وبحدود ما أعرف لم أجد شاعراً عربياً تمكن من تأشير تجربته فيها، كواحد من الشعراء الكبار القادرين على جذب القارئ العربي لمنطقته هذه."

وفي الأخير تضيف الشاعرة التونسية الفذة جميلة بلطي عطوي قائلة:.. ومازال السؤال مستمرا رغم اختلاف الرؤى الشعرية بين الشعراء، إلا أن اللحظة الشعرية تجمعهم بهاجسها المشترك، هذه اللحظة المفتوحة والمشرعة على العالم، تضيف أحياناً الجديد للمشهد الشعري، وترسم أبجدية إبداعية تزيح الاحتباس الإبداعي وتنتشله من تحت ركام الارتهان والتقييد، ليكون الشعر لكل الناس في ومضة تشكل (هواءهم وماءهم وعصير همومهم اليومي). شعر يتنفسه الجميع وأعتقد لن يكون هناك تعريف واضح وجلي لمفهوم الشعر ليستمر معنا السؤال بين الحداثة والتقليد، إن المعاني اللفظية وحدها لا تحدد قيمة النص الشعري بل تقاسمها في ذلك الصورة الشعرية، باعتبار أن المعنى اللفظي يحمل فكرة موضوع النص الشعري، أما الصورة فتأتي مرئية ممزوجة وقسيمة للمحتوى، والمفاضلة بينهما ليست فنية، لذلك تتأكد قيمة الصورة الشعرية في قصيدة الومضة كنوع من الاختزال الرائع.هذا التوافق أكد بوضوح عمق التجربة الشعرية التي يتمتع بها بعضهم وقدرتهم في الجمع بين كثافة اللغة والصورة والتقاط المشاهد اليومية بفلاش أو ومضة بعمق الدلالة ومنتهى التوافق .

أما أنا فأختم بالقول:

يعني الحديث عن الومضة، أو التوقيعة حديثاً عن النزعة البلاغية الشعرية، وعن تقنية الانزياح، والإيحاء، والتكثيف اللوني، واستنطاق رموز الطبيعة وصورها.

وقد جنح الشعر العربي الحديث نحو القصيدة القصيرة، ونحو التكثيف والتركيز. فقد غدت القصيدة تعبيراً عن لحظة انفعالية محددة، وأضحت هذه القصيدة شديدة الشبه بفن التوقيع؛ لتكثيفها، وإيجازها.

ولعل أهم أسباب الانتقال إلى القصيدة الومضة أو التوقيعة انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، أو الانتقال من الشعر الذي يُلقى أمام متلقين في مهرجانات شعرية لغاية التوعية، والتنوير، إلى الدعوة إلى قصيدة تقرأ في جو خاص. وقد شهد عصرنا تواتراً في الأحداث الساخنة التي لم تعد تسمح بنظم القصائد الطوال، الأمر الذي أدى إلى وجود سمة الانفعالية والتعبير المقتضب والموحي. فظهرت قصيدة الومضة وهي ذات مجموعة من التوقيعات النفسية المؤتلفة في صورة كلية واحدة، وهو أمر يعني أن للصورة أهمية استثنائية في قصيدة التوقيعة.

ويتطلب هذا اللون من الشعر المأزوم ذي اللحظة الانفعالية المحددة فطنةً، وذكاءً من الشاعر، ونباهة من المتلقي؛ لأن قصيدة التوقيعة تُبنى بناء توقيعياً، أي بناء صورة كلية للقصيدة من خلال صورة واحدة تقدم فكرة، وانطباعاً بتكثيف شديد.

وقد أطلق النقاد مصطلح "التوقيعة" على القصيدة التي تبدو كالوميض، أو البرق الخاطف، وعلى الصورة الشعرية ذات الإشعاع القوي حين تتولد منها إثارة مفاجئة في اللاشعور. إنها تُلتقط في لحظة انبهار ضوئي يكشف جزئيات، وحساسيات ذهنية في غاية الحدة قد تكون ناقدة، أو ساخرة تهكمية."1"

ويرى بعض النقاد أن الشاعر عز الدين المناصرة واضعُ مصطلح التوقيعة في منتصف الستينيات في قصيدته " توقيعات". لكن المتتبع حركةَ الشعر العربي يرى أن د. طه حسين قد كتب في هذا النوع في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، ونقله إلى العربية نثراً في مقدمة كتابه "جنة الشوك"، ودعا إلى الاهتمام بهذا النوع الأدبي، والإضافة إليه؛ كونه يحتاج إلى قدر كبير من المعاناة، والتكثيف البلاغي، والمفارقة التي تعدّ روح التوقيعة أو الأبيجراما – على حد تعبير كولردج -.

أخيراً: قصيدةُ الومضة وميضُ برق خاطف في فضاء النص الشعري؛ لأنها تُلتقط في لحظة انبهار ضوئي يكشف جزئيات وحساسيات ذهنية في غاية الحدة. إنها لقطات سريعة مفاجئة يلتقطها خيال المبدع من مشاهدات الواقع بعد أن يشكلها فنياً وفق رؤيته ورؤياه، فتأتي حافلة بالغرابة، والدهشة، والإمتاع، والطرافة، والمفارقة.

***

محمد المحسن - ناقد تونسي

في المثقف اليوم