قراءات نقدية

محمد المحسن: نافذة مفتوحة على الإبداع الجزائري

القاص والمسرحي الجزائري القدير الأستاذ محمد الكامل بن يزيد:* "يبقى الإبداع سواء كان فنيا أو فكريا فعالية إنسانية تمتلك لغة فريدة.إنها لغة التحدي.."

المسرح العربي وبخاصة ببلدان المعرب العربي من المجالات الإبداعية الأكثر إثارة للانتباه من طرف السلطة ومن طرف المجتمع باعتبار المسرح من أهم روافد الثقافة الوطنية في تنوعها وغناها؛وهو بذلك واحد ومتعدد شكلا ومضمونا.

والمسرح باعتباره طيفا من أطياف التعبيرات الفنية الأكثر قدرة على النقد والتعاطي المباشر والجماهيري مع قضايا المجتمع العربي بشكل عام، فهو الأكثر عرضة للتضييق والمعاداة أحيانا.

في الماضي، لعب المسرح العربي أدوارا تعبوية وتحسيسية في مواجهة الاستعمار وواكب التحولات المجتمعية والسياسية التي شهدها المغرب العربي المعاصر كما انفتح مبكرا على الثقافات الكونية والتجارب المسرحية العالمية وتفاعل معها بما ساعده على الخروج من بنيات الثقافة التقليدية، ومن ثمة ساهم في تحديث الحقل الثقافي العام وإرساء دعائم بنيوية جديدة للممارسة المسرحية والفنية بكل من تونس والجزائر والمغرب..، بل كان أحد حمالي الفكر الحداثي وليس فقط التحديثي بمغرب اليوم.

ولكن، السؤال الذي أرّق الفلاسفة المعاصرين هو: هل يمكن أن تشكل الصناعة الثقافية والتقنية مرحلة حقيقية لتطوّر الفن والوعي به، وفي تجذر الفلسفة الجمالية في الخطاب الثقافي المعاصر؟

وبسؤال مغاير أقول:

إلى أي مدى تمثل الثقافة الجماهيرية باعتبارها سلعة تجسيدا حقيقيا لفكرة دمقرطة المعرفة والفنون في المجتمعات المعاصرة دون المس بوظيفتها الأصلية داخل المجتمع؟ غير أن فكرة الاستنساخ الآلي للأعمال الفنية بصفة عامة، والتي تحيل إلى علاقة الفن بالتقنية، قد تكون مضرّة بالفن، وقد تسبّب اضطرابا في علاقة الفن بجوهره، أو بصورته الأصلية، فلا يمكن على سبيل المثال أن نساوي بين حضور عرض مسرحي في قاعة مسرح أو مشاهدته عبر وسيط آخر… مثل الفيلم، يمارس العرض المسرحي النقد والديمقراطية على نطاق جماهري واسع، عكس الفنون الأخرى التي تعتمد على التأمل الفردي الهادئ… ولكن علاقة المسرح بالتقنية قد تكون مضرة بالمسرح رغم استيعابه لممكناتها باعتباره وسيطا موسعا يستوعب الوسائط الأخرى ويجدد آلياته باستيعاب آخر صيحات الميديولوجيا.. باختصار، استنساخ العرض المسرحي هو آفة (وليست صناعة)…وحينما يتعلق الأمر بمسرح يعاني هشاشة بنيوية ولا يزال يبحث عن جمهور تتضخم هذه الآفة..

وفي لقاء خاطف جمعني بالأستاذ المسرحي الجزائري القدير محمد الكامل بن يزيد قال لي هذا الأخير:"إن المسرح سيبقى فنا جماهيريا، وسيظل التلقي فيه ابن اللحظة، فالجمهور يصفق للعرض أو يستهجنه أثناء العرض نفسه أو يخرج قبل النهاية، فالجمهور المشاهد مكون أساسي في المشهد المسرحي” مضيفا” والعمل المسرحي تتوالى عروضه ولا تتكرر، فلو أعدنا العرض نفسه مرات بالممثلين والفنيين أنفسهم وفي القاعة ذاتها فلن نحصل على نسخ طبق الأصل من العرض، ودور الجمهور حاسم في إضفاء الخصوصية والتفاصيل على كل نسخة من العرض”.

ثم يضيف ضيفي: "عل الجميع يعتبر الثقافة المسرحية مكونا أساسيا من مكونات التنمية، ورافعة لها، باعتبارها من سبل تحقيق التنمية المستدامة، من خلال تأهيل الإنسان وتربية ذوقه ووجدانه. كما أن ازدهار الثقافة المسرحية ينعكس بشكل إيجابي على المكونات الأخرى للتنمية الاقتصادية والاجتماعية."

ثم يواصل الحيث قائلا ونبرة مرارة تلوح على شفتيه: "قد ساهمت الحداثة التقنية في جعل الفن جزء من دائرة صناعية تتحكّم فيها أجهزة ومؤسسات استوظفته من أجل تخدير العقول، وإبطال قدرتها على ممارسة النقد عن طريق ما أسماه أدورنو بآلية “المعيارية”، أو “نزوع السلع الثقافية إلى التشابه جراء صيرورة سلسلة الإنتاج التي تدفع المنتجات بصورة طبيعية باتجاه التشابه والتماثل..

إن تفشي ظاهرة مشاهدة المسرحيات عبر الحوامل المتاحة اليوم لا تساهم فقط في إفراغ المسارح من جمهورها لاقتسام لحظة اللقاء المسرحي، بل أيضا في تشييء الفرجة المسرحية. للأسف، مهرجانات عديدة تكرس هذا السلوك بنشر العروض المشاركة على الشبكة في اعتقاد خاطئ أنها تخدم الحركة المسرحية من خلال دمقرطة فعل المشاهدة..

ولكن، هل بالفعل نشاهد عرضا مسرحيا حينها؟.. هل نشارك في صناعة الحدث المسرحي بينما نحن إزاء مشاهدة نسخة من العرض على الحاسوب..؟"

أما بخصوص التعريف الإجرائي للإبداع المسرحي يقول الأستاذ الجزائري القدير محمد الكامل بن يزيد -الذي من خلاله أوجه تحية من خلف شغاف القلب إلى مبدعات ومبدعي الشعب الجزائري الشقيق:" لتقديم تعريف إجرائي للإبداع المسرحي والذي يهمنا بالدرجة الأولى في هذا المقام- فلابد من الإشارة إلى رفضنا المطلق لكل رؤية اختزالية تحاول "خندقة" هذا المفهوم في التأليف المسرحي أو غيره، فالأمر أكبر بكثير من حدود هذه الرؤية الضيقة، إن المسرح لا يستقيم الحديث عنه ما لم يتم اعتبار جميع مكوناته لأنه فن تركيبي بامتياز، وعليه فالإبداع المسرحي ما هو إلا إنتاج تجديدي وهو شيء غير النص فقط, إنه النتاج المركب من النص والتمثيل والإخراج وهندسة المناظر والأزياء والموسيقى والتشكيـل.." [1] وهذا الإنتاج لكي يكتسب الصفة الإبداعية يجب أن يخلع عن نفسه رداء التجديد والمغايرة لأجل تكسير الرؤى وتأسيس أفق جديد يتيح للفرد الموافقة بين حاجياته ومتطلبات العصر، هذا دائما مع التأكيد على أن ليس كل جديد يعد حتما إبداعا، لأن المبدع (وكما يشير إلى ذلك الدكتور المصري الراحل محمود العالم) هو الذي يكشف عن العلاقات والدلالات أو القيم غير المسبوقة.وهنا تلتهب الأسئلة الحارقة مرة أخرى في الخلد، مواصلة بذلك استفزازها "المبكي" ونقول بكل مرارة مكتومة في دواخل الجسد الدامي، هل ولى زمن الإبداع المسرحي؟! لماذا هذه الانتكاسة؟!

هل يمكن أن نحلم ولو سرا-وليس علانية-بغد يشرق فيه فجر الإبداع المسرحي الحق من جديد؟!.."

ويظل السؤال..حافيا عاريا ينخشر شفيف الروح..

أما بخصوص جدلية العلاقة بين المسرح والنقد، يقول ضيفي (الأستاذ محمد الكامل بن يزيد) :" في ظل انفتاح النقد العربي الحديث على المناهج النقدية والعلوم الإنسانية في الغرب، من خلال الترجمة، صارت تنهال عليه معارف ومفاهيم ومصطلحات شتى، أخذ النقاد والدارسون يتعاملون بها، أو يوظفونها في كتاباتهم ومقارباتهم سواء التنظيرية أو التطبيقية.

وقد شمل ذلك كل أنواع النقد (الأدبي والمسرحي والسينمائي، إلخ.). لكن ثمة إشكالية كبيرة نتجت عن ذلك هي غياب الدقة، والقصور المعرفي والمفهومي في استخدام المصطلح، وجهل دلالته أحيانا، والخلط بينه وبين مصطلح آخر له اشتغاله في حقل آخر غير الحقل الذي يشتغل فيه الناقد، أي توظيفه في منهج نقدي غير المنهج الذي تشكّل في رحمه، علما أن المصطلح وثيق الصلة بالمنهج، ويفقد شرعيته خارج توظيفه.

تُعزى مشكلة غياب الدقة في النقد المسرحي إما إلى ضعف في ثقافة الناقد والدارس ومحدودية خبرته، وإما إلى الفوضى في ترجمة المصطلحات إلى العربية وتعدد مرادفاتها إلى درجة التنافر أحيانا، بحيث يصعب على هذا الناقد الأخذ بالأدّق منها.."

ثم بختم حديثه معي بالقول:"نعي جيدا كم من الحواجز والجدران السميكة التي تقام ضد الجهد الإبداعي في هذه النقطة المتغيرة من العالم الثابت أو الثالث (لا يهم)..وبالرغم من كل شيء، يبقى الإبداع سواء كان فنيا أو فكريا فعالية إنسانية تمتلك لغة فريدة.إنها لغة التحدي، إنها لا تستكين ولا تعرف الخمول ولا تنتظر نسبة مائوية معينة (كيفما كانت) كي تشكل العالم وتخلق تصورات ورؤى جديدة.. فكفانا تمسكا بقشة تبن لن تدفع عنا الغرق..وإلى الإبداع.."

وأنا أختم:"

إن رعاية الإبداع المسرحي بمفهوم آخر تدعونا إلى التفكير في الطرائق التي يمكن أن تساعدنا على تكوين أناس مبدعين ليس فقط داخل المدارس والمعاهد, وإنما أيضا في البيت وعن طريق وسائل الإعلام. فعلا, هناك معيقات عدة تعرقل مسيرة الإبداع المسرحي في مؤسساتنا التعليمية التي تفضل مبدأ الحشو والتخزين بدلا من الاعتماد على منظور متفتح يتبنى النقد واستعمال الفكر الإبداعي التأملي في مطلق الأحوال، ولهذا فلكي نتجاوز حالات العقر الإبداعي المتناسلة بحدة في يومنا هذا فلابد من إشاعة وعي مسرحي ونشر ثقافة مسرحية أصلية بين جميع الفئات المجتمعية.

وهذه الرعاية التي نتمنى خروجها العاجل من الوجود بقوة إلى الوجود بالفعل يمكن أن تقود المجتمع عموما نحو التقدم باعتبار المسرح مدرسة كبيرة وفريدة من نوعها على حد تعبير "غوغول".*

***

محمد المحسن - ناقد تونسي 

في المثقف اليوم