قراءات نقدية

أبو الخير الناصري: تجليات المسخ في "عوالم" رضوان بنصار

حدثني صديقي الكاتب رضوان بنصار، ونحن بمقهى الضاية بأصيلا، ذات مساء، عن أسباب نزول مجموعته القصصية القصيرة جدا "عوالم" الصادرة في مارس 2020م، وأخبرني أنها تضم بين دفتيها خمسين نصا قصيرا جدا.

ومع أني كنت قرأت هذا العمل قبل صدوره، وكتبت عنه كلمة موجزة أُثبتتْ على ظهره، فإني لم أحدّث نفسي بتَعداد نصوص المجموعة يومَ استلمتها مرقونة أول مرة. لذلك أثار انتباهي العدد خمسون حين أخبرني الكاتب به، ووجدتني أستحضر عنوانا رائدا في تاريخ القصة بالمغرب هو "خمسون أقصوصة في خمسين دقيقة" لمؤلفه الأستاذ محمد إبراهيم بوعلو، وهو كتاب صدر عام 1983، ويمكن عَدّ صاحبه أباً من آباء القصة القصيرة جدا ببلادنا تتلمذ على نصوصه كثيرٌ من كتابها.

وإنما استحضرت مجموعة ذ.بوعلو دون غيره لأمرين:

أحدهما: الاشتراك في عنصر التكثيف والاختزال كما يدل عليه تذييل ذ.بنصار عمله بكلمة "قصص قصيرة جدا"، وإشارة ذ.بوعلو في العنوان إلى أن كل قصة من قصص عمله تُقرأ في دقيقة.

وثانيهما: التطابق في عدد نصوص المجموعتين، مع اختلاف بينهما في القضايا والموضوعات واللغة. ومَن شابه أباه فما ظلم!

ولقد ظهر لي وأعيد قراءة "عوالم" الأستاذ رضوان بنصار أن هناك خيطا ناظما يربط أغلب نصوصها اخترتُ أن أسميه "المسخ".

ما المراد بالمسخ؟ وما تجلياته في هذه المجموعة؟

يقول ابن منظور في لسان العرب: "المسخُ تحويل صورةٍ إلى صورة أقبح منها، وفي التهذيب: تحويل خلْقٍ إلى صورة أخرى؛ مسَخَه الله قرداً يمسَخُه وهو مسْخٌ ومَسيخٌ، وكذلك المشوَّه الخلْق. و[المسْخُ] قلبُ الخِلْقة من شيء إلى شيء".

يبدو من هذا النص أن المسخ هبوطٌ من الأعلى إلى الأسفل، أو هو انتقال من الحسن إلى القبيح، مثال ذلك أن يُنسخ الإنسانُ قرداً كما ذُكر.

كما يبدو ارتباط المسخ بخلقة الإنسان، أي بصورة جسده الظاهرة للعين؛ لذلك مُثّل له، في كلام ابن منظور، بالانتقال من صورة بشر إلى صورة قرد.

غير أن هذا المعنى لا يمنع من صرف كلمة "الصورة" الواردة في تعريف "لسان العرب" إلى الدلالة على الصورة النفسية للإنسان. قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) [التين/04]، وقد فسره بعض العلماء بأن المراد به "حُسنُ الصورة، وانتصابُ القامة، وتناسبُ الأعضاء"، وفسره آخرون بقولهم: "المراد أنه تعالى خلقه على الفطرة السليمة المستقيمة والدين الحنيف وهو التوحيد".

إذاً ليس هناك ما يمنع من القول إن من معاني المسخ تحويلَ فطرة الإنسان السليمة وأخلاقه الكريمة إلى فطرة فاسدة وأخلاق ذميمة. وبهذا المعنى يحضر المسخ في قصص "عوالم" لرضوان بنصار.

ولعل من خير ما يجسد هذا المعنى في هذا العمل القصصي نص عنوانه "زمن لا كالأزمان" أورده كاملا لقصره:

"أفقده حبُّها صوابَه، لم يقو على المواجهة، خانته الكلمات، احترف الشعر لينفذ إلى أعماقها. التهم المعلقات..طاف الأرجاء مرددا قول الشاعر:

أحبكِ يا ليلى محبة عاشق      عليه جميعُ المُصْعِبات تهونُ

شاع الخبرُ كما تشتعل النار في الهشيم. ضرب الكلُّ حصارَه على ليلاه. توبع العاشق الولهان بتهمة التحرش الجنسي" (عوالم، ص53).

يقدم هذا النص صورة من صور المسخ الذي لحق حياة الإنسان. فقد صار المحب الصادق متهما بالتحرش الجنسي مع أنه لم يَأت من الأفعال ما يستوجب ذلك.

ويعمّق النص الإحساسَ بالمسخ من خلال ارتكازه على عنصر الموازنة، هذه الموازنة تبدو في جوانب من أبرزها العنوان "زمن لا كالأزمان" الذي يشير إلى اختلاف بين الزمن الحاضر والأزمنة الماضية.

كما تظهر في استحضار بيت الشاعر قيس بن الملوح الذي هام بحبيبته وقال فيها شعرا تناقله الناس دون أن يتهموا صاحبه بالتحرش، وموازنته بالعاشق المعاصر الذي وجد نفسه في موضع اتهام بالتحرش مع أنه لم يفعل شيئا سوى أنه استحضر بيت قيس وصار يردده.

إنه المسخ الذي لحق تفكير الناس وجعلهم يهبطون بالعاشق من منزلة الشخص الذي يُعذر؛ لأن الحبّ لا يستأذن قلبَ أحد، إلى منزلة المجرم المستحق للمحاكمة والعقاب.

على أن من أغرب الأمور هنا أن ما قاله قيس بن الملوح ولم يؤاخَذ به هو نفسُه ما قاله العاشق المعاصر فاستحق المتابعة القانونية، لقد صار "ناقل كلام الحب" مذنبا، وهذا مسخ مقيت لأصل من الأصول المتفق عليها، وهو قولهم "ناقل الكفر ليس بكافر"، وفي حالتنا هاته "ناقل الشعر ليس بمذنب".

إن هذا المسخ المشوِّه والمشوَّه في آن يجد امتداداته في كثير من نصوص المجموعة.

ففي القصة المسماة "في خدمتكم" (ص45) تحصل على الوظيفةِ موضوعِ المباراة شابةٌ شقراء "اختُزلت سيرتُها في قَدّ ممشوق وكعب عال" فيما أُقصي مرشح "له سيرة ذاتية جامعة مانعة". وهذا مسخ لمفاهيم الكفاءة والاستحقاق، وهو مسخ معيش يكتوي بناره الكثيرون في هذا البلد الحبيب.

وفي قصة "شخصية مبهمة" (ص51) نتابع مشهد شخص يتجاوز جموعا غفيرة داخل مصلحة إدارية ويسبقهم في المصادقة على وثائقه، مستغلا أناقة هندامه وتواطؤ "الشاوش" معه. وفيه إشارة إلى الانتقال من فضيلة احترام الآخرين المصطفّين المنتظرين دورهم إلى رذيلة الاحتيال عليهم. وهذه صورة من صور المسخ الذي لحق كثيرا من الناس في هذا الزمان.

وفي قصة "هدية" (ص62) يعود الزوج إلى منزله باكرا وقد "قرر أن يفاجئ زوجته بهدية راقية في عيد ميلادها"، لكنه يفاجأ عند اقترابه من غرفة النوم بـ"دردشة حميمية على الهاتف" بينها وبين أحد الأشخاص. وفي ذلك بيان لضرب من ضروب المسخ التي لحقت الحياة الزوجية في كثير من صورها ووقائعها المعاصرة.

تلكم نماذج من مضامين نصوصٍ تُجلي صورا من المسخ الذي أصاب حياتنا المعاصرة واهتمت المجموعة بكشفه وبيانه.

على أن من تجليات المسخ في هذا العمل أيضا إغفال تسمية الشخوص؛ فباستثناء قصة "01:30 بتوقيت غرينتش" – وهي القصة الوحيدة التي سُمّي فيها السي قدور تسمية مفارقة للمسمى إذ لا قدرة له أمام سلطة زوجته – فإن باقي نصوص المجموعة لم يُسمَّ أيٌّ من شخوصها.

والواقع أنه ليس من السهل تسمية كائن ممسوخ؛ وذلك لأن أسئلة صعبة تعترض سبيل الراغب في تسميته وتجعله يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فيكف عن المحاولة ويؤثر السلامة.

ماذا نسمي الإنسان الذي مُسخ قردا مثلا؟ إنه إنسان باعتبار ما كان عليه، وهو قردٌ باعتبار ما صار إليه. وصيرورته قردا لا تُلغي هويته السابقة إلغاء تاما، لأن الذات الممسوخة لم تمُت، بل ما زالت حية مع تغيرات لحقتها فأفقدتها كثيرا من خصائص هويتها الأصلية.

ما العمل إذاً أمام هذا الكائن الجديد الممسوخ الهجين؟

هذا هو السؤال الذي أظن أنه اعتمل في أعماق الكاتب، بوعي منه أم دون وعي، فارتأى أن يترك شخوص قصصه دون تسمية لأن الأسماء، كما نعلم، تمنح المسمى دلالة ومعنى، وقد تُسكبه هوية من الهويات في نظر المتلقي، وقديما قالت العرب: "لكل من اسمه نصيب".

وفي ضوء هذا التفسير نفهم السخرية التي تنطوي عليها تسمية "السي قدور" هذا الاسم في القصة المذكورة آنفا، مع أنه عديم القدرة أمام زوجته الآمرة الناهية.

هذا بعض من تجليات المسخ في هذه المجموعة.

وإن مما يحسن ذكره أن هذا العمل لا يكتفي بتصوير المسخ الذي لحق حياتنا المعاصرة، بل يرفع في وجهه لافتة احتجاج تدل على عدم الرضا. يكشف هذا الاحتجاجَ أمورٌ أذكر منها طبيعة العناوين التي اختارها الكاتب لبعض القصص، وهذه أمثلة لها:

- "فصبر جميل" (ص25).

- "أمك ثم أمك" (ص59).

- "الجهل قاتل" (ص28).

- "كما تدين تدان" (ص38).

- "ليس كل ما يلمع ذهبا" (ص41)...

إن هذه العناوين المستقاة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأمثال والحكم تنتصب شعاراتٍ منبهةً على خطورة أنماط من السلوك المعيش، وهي بذلك تكشف البعد التربوي والقيمي لهذه المجموعة القصصية، وهو بُعْدٌ لا يُستفاد من العناوين فقط، ولكنه واضح في كثير من قصص العمل، خصوصا في نهاياتها الداعية إلى الاعتبار.

تلكم ملاحظات نقدية حول المجموعة القصصية الأولى للصديق العزيز الأستاذ رضوان بنصار، أرجو أن تساعد على تقريبها وتقديم مفتاح من مفاتيح قراءتها وفهمها وحسن تفسيرها، راجيا لصاحبها مزيدا من الاجتهاد والعطاء.

***

أبو الخير الناصري

 

 

في المثقف اليوم