قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: فضاء الميلوتراجيديا في رواية (حلم العم) للكاتب فيدور دوستويفسكي

توطئة: نتفق كثيرا مع نقاد فن الرواية بأن الرؤية الروائية إلى العالم تشكل بذاتها أحدى البنى الفضائية الأساسية في علاقات وجوهر العرض السردي. وإذا تناولنا تجربة روائية خاصة بأحدى النصوص الكلاسيكية الروائية، لوجدنا بأن أغلب تمفصلاتها وآليات محاورها تنصب في قالب من الشكل التداخلي الاجناسي بما يوفر إلى مساحة تداعياتها وتواصلاتها الدلالية عناصرا مجملة من مقاربة التقابل والصوغ البنائي المدروس أثرا وتأثيرا. من هنا واجهتنا دلالات رواية (حلم العم) للكاتب الروسي فيدوردوستويفسكي، بما يوفر لنا حرية القول النقدي بأنها رواية ضمن حيز الفضاء الميلوتراجيديا، حيادا مع كون جل أدواتها تدخل في آليات الرواية طبعا، ولكن تبقى هذه الدينامية تصب لذاتها إطارا في موضعة بعض من أدوات الرواية داخل مسرحة العرض الفضائي المسرحي سردا، أو ما يمكن لنا تسميته، نظرا لأن الثيمة العنوانية لدراستنا جاءت ضمن ثنائية (ميلودراما + تراجيديا = الميلوتراجيديا).

ـ البنية الروائية بين الحوار الممسرح ومأزومية الماهية الشخوصية.

قد يبدو لنا من الصعب تناول رواية ما عائدة إلى سنة 1859 ولكننا بموجب الضرورة النقدية كما قلنا سابقا في دراسات لنا خاصة حول روايات و أقاصيص تعود إلى أزمنة وتواريخ أبعد من حدود زمن وعقد هذه الرواية موضع بحثنا. أردت أن أقول في مستهل مباحث قراءتنا هذه بأن هذه الرواية قد مثلت على خشبة المسرح عدت مرات خلال حياة الكاتب، رغم أن دوستويفسكي كان رافضا إلى تحويلها إلى مسرحية تماما، أعتزازا من الكاتب نفسه بفن الرواية ليس إلا. وعندما نبحث في أدوات وتشكيلات ومنظور هذه الرواية، حتما نجدها عملا روائيا جاءنا في حدود مقنعة ومؤثرة من الفن الروائي، ولكن الاحساس القرائي للناقد قد يختلف عن ذائقة الروائي نفسه خالق النص. فعندما نتابع مستهل عتبات الرواية ومحاور تماثلاتها الشخوصية في زوايا ساحة الأجراء السردي، نلحظ عظيم المتعة والشعور بالغبطة عند الاطلاع على المزيد من حكاية الرواية، ولكننا في الآن نفسه وقياسا إلى روايات الكاتب الأخرى، لا يمكننا عد هذه الرواية ضمن مؤثثات عالم رواية فيدور كرواية (الجريمة والعقاب) أو (الأبله ) أو (المراهق ) أو ( الأخوة كارامازوف ) فكل مجموعة أعمال دستويفسكي ذات بنى روائية لا غبار عليها إطلاقا. أما إذا أردنا في حال تناول رواية (حلم العم) فأول ما نواجه فيها هو ذلك الفضاء الميلوتاجيدي دون أدنى شك، ثانيا أن طبيعة الحوار السردي في هذا النص حل في حدود مطولة تأخذ صفحات عدة، وليس الأمر في ذلك من إشكالية ما فهناك روايات معاصرة عديدة تتخذ مجالات الحوار صفحات أيضا. أن الإشكالية في الحقيقة تكمن في نوعية الحوار وليس في طول وعرض فقراته، نلاحظ مثلا أن وقائع السرد تتمظهر في بنيات ممسرحة، أي أن مؤشرات واقعها السردي مأهولا بالحقيقة الحدثية الناتجة من لدن فضاء جعل يمسرح السرد كواقعة ثابتة ومتحركة ضمن حيز مكاني ذا دلالة لا تتجاوز الامتداد الدلالي المحدد لطبيعة الحدث والمشهد السردي في الرواية.

1ـ السارد كلي العلم وتراجيديا العرض الشخوصي:

أن مجليات واقع التقويم الروائي في رواية (حلم العم) يفتتح ساردها بدءا بتقديم عناصره الشخوصية بصفة التعريف والتلخيص التمهيدي لها، وليس في ما تفرضه صناعة الأحداث من ضرورات الكشف الروائي ـ ضمنا ـ وهذا الأمر ما يعد سببا في حد ذاته نحو الاعتقاد بأن فيدور دوستويفسكي كان يكتب روايته ضمن حيثيات الفضاء المسرحي الملازم إلى جانب الأفعال الشخوصية الممسرحة في حقيقة الموقع الزمكاني الموحد في تقديم الحدث الروائي.. تواجهنا من ناحية ما قدرة السارد كلي العلم ومن خلفه المؤلف الضمني، إلى الحديث التمهيدي حول شخصية ماريا الكسندر وفناموسكاليوفا، على أنها السيدة ذات المقام المرموق في مقاطعة مورداسوف. يوهمنا السارد بأشياء وحالات ومواقف كبيرة تخص هذه السيدة، وما يصل إلينا اعتقادا هو أن هذه الشخصية ذات موقعية متنفذة في حيز مجتمعها المتمثل بعدة عوائل روسية متقلبة في أحوالها الاقتصادية، وأغلب ما يصيبها هو ذلك الواقع الصراعي النفساني بالزهو بين عائلة وأخرى. الأهم في فضاء الرواية وأحداثها ودلالاتها (زمن الحكاية) الروائية وتحولات هذه الحكاية بدورها إلى فصول متعددة. يشير صوت السارد كلي العلم اهتماما ملحوظا في طرح كشف المواقع الشخوصية، وتنوعها رغم انحسار العلاقات على أوسعها ـ كشفا ممسرحا ـ في قابلية الأصوات في الحكاية الروائية: ( أن الناس لا يحبونها.. وأن أغلبهم يكن لها حقدا عميقا دفينا. غير أن ذلك يسمح لها بأن توزع الخشية في قلوبهم. / ص11 الرواية) يتميز الأدب الروائي لدى فيدور دويستويفسكي، بالانعكاسية المكثفة في أفعال الذوات الشخوصية التهكمية. ما أريد قوله إذا أخذنا بعين الاعتبار ندرة نادرة من كتاب رواية عقدة وفترة زمن الكاتب، لربما لاحظنا أن صيغ روايات فيدور مشحونة بأستراتيجية خاصة في صنع الشخصية الروائية دون باقي أقرانه من كتاب الرواية. فمثلا نعاين أن السياق الشخوصي في الرواية، ذا مخصوصية انعكاسية في استقراء احواله وأحوال غيره من الشخوص من خلال فقرة حوارية أو وصفية أو سردية أو مسرودة، تكون كفيلة بفهم ابنة ماريا زينا والخادمات في منزلها وما قرار الوصل أو الانقطاع بين السيدة ماريا وزوجها أساسا. نعم في هكذا سياقية انعكاسية ذاتية، نستفهم من خلال صوت السارد ما تترتب عليه أحوال ومواقف باقي شخوص الرواية، امتثالا من نقطة حديثه حول الشخصية الأم ماريا.

2ـ الحراك الشخوصي وموقعية الفاعل المنفذ:

تثير فينا شخصية ماريا ألكسندر مسألة محكومة بتميزها الموقعي في مقاطعة موردا سوف، ورغم توجهها في المجتمع على أنها السيدة الأولى والأخيرة، إلا أنها لا تنحدر في حقيقتها من طبقة ملوكية أو أسرة ثرية في حدود سلفها، ولكنها فعلت في حدود موقعها الاجتماعي ما ينبه إلى كل العوائل الساكنة في هذه المقاطعة بأنها امرأة ذات عبقرية أخاذة ولها عظيم الحجة والحجاج في الادلاء بسرعة وضع الأشياء في مقاديرها المناسبة ودون عناء أو جهدا جهيدا منها: ( أن الظرف الصعب كان يأتي ويمر ولا تتأثر بأي شيء على الإطلاق.. وتستمر الحياة على ما كانت عليه من قبل.. ما زال الناس يتذكرون ـ مثلا ـ كيف زوجها أتاناسي ماتفييتش غضب أحد المفتشين. ففصله من وظيفته بدعوى أنه مختل عقليا وغير كفء. / ص14 الرواية) في الحقيقة أثارت هذه الحادثة جلبة كبيرة ممن كانوا يتربصون مصير انكسار ماريا الزوجة، أو أنهم على أقل تقدير يرونها ذليلة متوسلة تارة ومتضرعة تارة، ولكن بقيت شامخة ولم تفقد نظرة المجتمع لها كونها المتربعة دائما، على عرش جبروتها الأسر. تكشف لنا الرواية عن شخصيات نسائية عديدة، منها تحديدا زوجة وكيل النيابة (آنا نيكولاييفنا) وهذه المرأة هي عدوة ماريا ألكسندر اللدودة، إذ أنها تبدو من ناحية ما صديقتها ظاهرا، إلا أنها سرعان ما تشيع بين الناس على أثر ما تعرض له زوجها من أن عزيمتها قد قضي عليها، وأنها هالكة لا محال. ولكن تبين للناس العكس من ذلك بعد فترة وجيزة من حادث فصل زوجها، لأنها امرأة قوية ولا يزعزع جذورها الضاربة في أعماق المجتمع أدهى رياح التغير والتحول. وعلى نحو ما من السياق الحكائي في الرواية، تعرفنا آليات صوت السارد كلي العلم بتفاصيل زوج ماريا وكيفية مجريات موقعه الاحوالي والموقفي من زوجته ومجتمعه: (ما دمنا قد أتينا على ذكر أسمه، فلنقل بضع كلمات عن أتاناسي زوج ماريا: إنه رجل مهيب الطلعة كما يبدو أول الأمر.. ولكنه يفقد سيطرته على نفسه في اللحظات الحرجة، فيبدو كخروف أضل طريق الخروج من حظيرته.. إنه لذو طلعة مهيبة بالفعل.. خاصة في حفلات أعياد الميلاد، حين يلبس ربطة عنقه البيضاء.. ولكن هذه المهابة وهذه الفخامة تنهاران بمجرد أن يشرع في الكلام.. إنه غير جدير بأن يكون زوجا لماريا ألكسندر حسب رأي الجميع. / ص14 الرواية) والأمر الأهم في سمات هذا الزوج أنه لولا زوجته فلا يمكنه أن يحتل لذاته أدنى مرتبة في مجتمع مورا داسوف، وما أدركناه من أحداث الرواية خلوصا، بأن ماريا بعد أن فقد زوجها كل امتيازاته الوظيفية ـ كضابطا ـ سارعت إلى ابعاده لأنه لم يعد في نظرها زوجا وإلى أن يكون مجرد كائنا اجتماعيا عاقلا، لذا أصبح كما تشير الأحداث يحيا في تلك القرية خارج مقاطعة مورداسوف.. حياة سكينة خالية من كل رقيب يكدر عليه وجوده الضال. ولعل من أهم خصائص السارد كلي العلم في روايات تلك المرحلة الزمنية، أنه يتخذ لنفسه وظيفة دمجية متى شاء داخل نسيج الرواية، دون أن يكون حتى (ساردا مشاركا) بل أنه يتوارى حال بناء ذلك الدور الصغير لنفسه ويتراجع ليكون مجددا ساردا كلي العلم، كما ظهر لنا مثال السارد في هذا المشهد: ( لقد زرته ذات مرة، وكنت أقضي برفقته في كل مرة ساعة كاملة لا تخلو من متعة. / ص15 الرواية) هكذا لاحظنا وجود السارد إقحاما بصوته وشخصه على متن الأحداث في الرواية، ولأنها رواية من الأدب الكلاسيكي فلم تكن حينذاك تقنيات السارد محددة ومقننة في بنيات المنظور الروائي حينذاك أيضا. وبذات النسج من السرد تتوارد لدينا كيفيات مشاركة السارد داخل نسيج السرد في الرواية وكأنه يحاول اقناع القارىء بأنه ذلك المحيط من الوعي الذي يملك زمام تقديم الموضوعة السردية من زاوية محضوضة وتشخيصية. ذلك ما نراه في مجرى هذه الوحدات مثالا: (هل تتذكرون تلك الحكاية الشنيعة التي أشيعت بيننا، قبل سنة ونصف السنة، عن زينايدا أفاناسييفنا، أبنة ماريا ألكسندر.. إن زينايدا فتاة جميلة هي دون شك، وحسنة التربية، ولكنها كانت قد بلغت ربيعها الثالث والعشرين ولم تتزوج بعد. / ص16 الرواية) على هذا النحو وغيره وجدنا كيفية مقتضى وظائف السارد كلي العلم، على العكس تماما من وظائفه الحداثوية التي تنص عليها مصادر و موارد النظريات والمناهج النقدية الحديثة. على أية حال فهمنا ما تحدث عنه السارد حول الشخصية زينا من مهام دورها التمثيلي في السرد، وكيفية إقامة المزيد من الشائعات حول علاقتها الناشئة بينها وذلك المعلم الشاب الذي كان يتكفل بإلقاء دروس زينايدا عليها شرحا وتحضيرا، كما ونشاهد في المقابل ما تم عليه دور السارد كلي العلم، من تساؤلات تبين بدورها وكأنه شخصا من شخوص الرواية، كقوله: (فما زال الناس يتحدثون عن رسالة غرامية أرسلتها زينايدا إلى ذلك المدرس، وانتقلت من يد إلى أخرى، حتى اليوم.. ولكني أتساءل: من رأى تلك الرسالة رؤى العين؟لقد سمع عنها الجميع، لكن لا أحد رأها.. أما أنا فلم ألتق بأحد رأى تلك الرسالة؟. /ص16 الرواية) في هذا الصدد كان السارد ذا قناعة تتعلق بوظيفته الانطباعية داخل النص، وامتدادا طبيعيا نحو سرد وقائع مستوى خاص من جدارة السيدة ماريا في كيفية تصديها إلى مصادر الاخبار التي تشيع عن ابنتها مثل هكذا شائعات. وتأتي أهمية ملامح البناء السردي في نسيج الوقائع الروائية في حركتها الخارجية بالمظاهر الشخوصية، وحتى عندما نواجه مسألة تتعلق بالداخل الشخوصي، فإننا نجدها تتم بوسيلة (تيار الوعي) وبطريقة ما تتحدد فيها وظيفة الاختيار الذاتي سرا عن باقي الشخوص، على حين غرة يكاشفنا السارد كلي العلم، بما قد يواجه هذه التفاصيل الداخلية من تيار الوعي الشخوصي، ضمن تصورات أو مبادرة عفوية أراد بها السارد نفسه اطلاعنا حول متغير ما في سيرة وقائع الشخصية في ماضيها أو حاضرها أو مستقبلها. أما شكل الحوارات الأخرى في نسيج النص، فهي من الكولاج المسرحي الذي يتعدى صفحتان أو ثلاث أحيانا.

3ـ المؤلف الجاد أو الضمني؟: مواقع رؤية السرد:

تتخذ علاقة المحاور الشخوصية والموقفية في مواقع رؤية السرد الخاصة والعامة، التي تحدد من خلالها مقاصد الايصال والارسال و وظائف الثلاثية من الاقطاب (مؤلف جاد ـ مؤلف ضمني ـ سارد عليم) لولا أنني لا أثق جيدا بوظيفة المؤلف الضمني وأعدها خرافة شاء في خلقها المنظرين والنقاد عبثا منهجيا لا طائل من وراءه، سوى ابتداع وظيفة لا أول لها ولا آخر، بل أنا شخصيا أطعن في وجودها الملموس ما حييت. أردت أن أقول أرتأينا مواقع تداخلية في فصول رواية (حلم العم) تتراوح ما بين صوت المؤلف الجاد ـ الضمني، وأخيرا صوت السارد كلي العلم اختيارا تطبيقيا ضمن فحوى دلالات الوقائع الفعلية في النسيج السردي العام والخاص. ما قد عثرنا عليه في أحدى وحدات الفصول ما يقر بصورة أو بأخرى بأن هناك حالة تداخلية كهذه مثالا: (ان كل ما قرأه القارىء الكريم إلى الآن كنت قد كتبته من حوالي خمسة أشهر، في لحظة عاطفية مميزة.. وأنني لأعترف للقارىء سلفا بأنني معجب قليلا بماريا ألكسندر.. لقد كانت لدي رغبة في أن أكتب بضع كلمات مديح في حق هذه السيدة العظيمة. / ص17 الرواية) ما يؤكد لنا جزما بأنه هو المؤلف فيدور المتخفي بهوية الكاتب المفترض في مسودة الرواية. لا أنكر أبدا من جهة ما بأن أغلب أدباء هذا العقد ممن يميلون إلى توظيف المؤلف أو لنفترض السارد الذي يقيم له علاقة مع مراسم الشخوص والأفعال والأحوال. ولكن هذا الأسلوب قد انتهى بانتهاء الحقبة الرومانسية والواقعية السحرية في الرواية.. ولكننا عندما فكرنا بالكتابة حول مثل هذه التجارب الرائدة، نظرا إلى ما فيها من ثراء واختزال وسرد مؤثر تفتقر إليه رواية المابعد حداثة بشكل كبير، فنحن اليوم نقرأ روايات فقيرة حقا رغم صرامة أصحابها الناطقة بلهجة الحداثة وما وراء الحداثة.. ولكننا حقا لم نجد إلا موت الرواية وشحوبها قياسا بأنتاجات الحقبة الكلاسيكية الرومانسية والواقعية السحرية من الرواية.. نحن اليوم نواجه انتاجات بصرف النظر عن الأوربية، وما أعنيه ها هو الرواية العربية الواهنة في نسختها الجافة والمستنسخة عن الأم الرواية الغربية قديمها وحديثها للأسف، بأستثناء روايات محفوظ وأمين معلوف والخراط وجبرا ابراهيم جبرا وبعض نادر من الروايات العربية. أعود إلى موضع بحثنا حول رواية (حلم العم)التي جعل منها فيدور دوستويفسكي رواية داخل فضاءات من المؤثث الميلوتراجيديا، وعند سؤال كيف تم ذلك أجيب: أن منظور الموضوعة في النسيج الروائي كانت خلاصة رؤية كوميدية ساخرة وتهكمية إلى حد ما، لذا بدت شخوصها المتكونة من الأمير العجوز والسيدة ماريا وزينا أبنتها وعشيقها بافل من طرف واحد، كل هذه الشخوص كانت تلعب دورا خاصا في اللعبة التبئيرية الساخرة للرواية، مما جعلها تحوم داخل رقعة زمنية ومكانية لا تحكمها سوى الاسترجاعات العابرة والتحركات الميلودرامية داخل عين المشهد الواحد مدلوليا. السيدة ماريا أرادت أن تفوز بأموال وحياة القصور والأبهة من خلال إقناع زينا أبنتها بالزواج من الأمير العجوز الذي حل ضيفا في منزلها ذات أمسية، ورغم أن زينا كانت تعشق ذلك المدرس الشاب طريح الفراش أثر مرض السل، بقيت رافضة للزواج من الشاب قريب الأمير رغم إلحاحه عليها بذلك الطلب في الزواج منها، ومع أن ماريا الأم كانت امرأة واسعة الحيلة والذكاء واللباقة خطرت في رأسها فكرة اقناع زينا بالزواج من هذا العجوز الأمير بطريقة تقترب من حكاية انتظارها لموته القريب والفوز بأمواله، حتى تبدو حينها أبنتها زينا هي الأرملة الشابة الجميلة التي يهفو كل أثرياء روسيا إلى الاقتران بها كزوجة: (كان موزغلياكوف شارد الذهن، ويستمع إلى ثرثرة العجوز الذي لم يكن قد صحا من نومه كل الصحو.. كان يتحين الفرصة التي ستسمح له بأن يعرج بالحديث إلى موضوع الزواج، وفجأة صرخ الشيخ صرخة مدهشة: ـ آه، ياصديقي ! كدت أنسى أن أقول لك أني قد تقدمت اليوم بطلب زواج؟: ـ طلب زواج ياعمي؟ صاح موزغلياكوف منتعشا. : ـ طبعا طبعا طلب زواج ؟. / ص157 الرواية ).

ـ حلم الأمير الضال وكوميديا الزواج المسوف؟

تتجاوز حدود مباحث قراءتنا إلى رواية (حلم العم) حول ما هو جوهري من وحدات وعلاقات الحبكة الميلوتراجيديا في نقطة مؤهلات العرض السردي. ذ أننا ارتأينا صرف الحديث حول فصول حديثة ليس بالضرورة من التعويل عليها داخل مساحة دراستنا، نظرا لكونها لا تتركز في الغاية المبحثية من قراءتنا وليس من أحداث تبئيرات الرواية ذاتها، فكلها عبارة عن خيوط متماسكة من الدهشة والإثارة والتهكم والغواية ولا أمني النفس سوى بدعوى القارىء إلى قراءتها، لأن فيها جملة تمفصلات سردية وحوارية وصفية بالغة الحمال والحنكة القويمة لهذا الروائي العملاق. أردت فقط أن أوضح بأن من سوء حظ هذا الأمير أنه دون ذاكرة تماما ولكنه طيب القلب ويمتلك الحنو الأنساني ما جعله يقع اسيرا في غضون ضيافة السيدة ماريا إلى شرب الخمر وسماع أشد لهجة من الفصاحة والاقناع من ماريا بالزواج من زينا ابنتها كما اسلفنا سابقا في القول.. نام الأمير في أحدى غرف المنزل متأثرا بسكره وقلة حيلته، إلى أن جاء إليه قريبه موزغلياكوف الذي كان بدوره طالبا إلى يد زينا إلى الزواج من أمها سابقا كما قلنا، رغم رفض زينا ذاتها على الاقتران به كزوجا، اخلاصا لذلك المدرس الشاب الذي هو الآن قيد الموت على فراشه في منزله.. وعندما أدرك موزغلياكوف بلعبة ماريا ذات المحاور المبطنة، أقنع الأمير العجوز الذي دون ذاكرة ما بأن ما أقدم عليه اليوم من فعل طاب زينا للزواج، ما كان إلا حلما من احلامه الكثيرة التي تراوده عند منامه، ولأن الأمير حديثا ما قد صحا من نومه تيقن بأن ما مضى عليه من وقائع هذا اليوم ما هي سوى رؤيا منامية ليس إلا.

ـ إضاءة القراءة وتعليق القراءة:

لاحظنا بادىء ذي بدء في دلالات رواية (حلم العم) بأن السارد كلي العلم جعل يسلط بؤرة حكيه على مشاهد يقف فيها شاهدا قريبا من الشخوص، وأفعالها دون أن يكون شخصا فاعلا فيها، وما تمتلكه عدة التأليف الروائي لا تتخطى إيقاعية الخلفية الميلوتراجيدية الممسرحة للشخوص والأحداث والزمن وليس المكان اطلاقا، لأن الوحدة المكانية في الرواية أخذت مرورا ديكوريا ليس إلا. وعلى هذا النحو يمكننا عد رواية (حلم العلم) بمثابة فضاء الميلوتراجيديا، الذي استثمره الروائي في خلق عناصر حكايته الروائية، وبخاصة وأن هذا العمل الروائي يصلح إلى أن يكون عملا دراميا على شاشة السينما أيضا، نظرا لكونه يحمل من العناصر والعوامل الصياغية للنص السينارستي والمسرحي، أكثر من ما تغلب عليه من الأدوات الروائية الكاملة إلى حد أقصى من التقدير والتقويم الشخصي لي، وليس المعياري النقدي منا.

***

حيدر عبد الرضا 

في المثقف اليوم