قراءات نقدية

تجلِّياتُ شِعريَّةِ الحَداثةِ الفنيَّة والجَماليَّةِ لقَصيدةِ النَّثرِ الإبداعيَّةِ

في مدونةِ (شَجرٌ منْ مِحنَةِ الوَقتِ*)، لِنَصيرِ الشِّيخ

حين ننظر بتأملٍ فكريٍ ومنظارٍ نقدي منصفٍ عادلٍ في توصيف قصيدة النثر الشعرية الحديثة عبر مسار عَصرنة التطوِّر (الزمكاني) التراتبي لحقول الشعرية العربية القديمة والحديثة الثلاثة، (الشعر العمودي التشطيري التراثي، والتفعيلي الحُرُّ، وقصيدة النثر الحديثة، أو النصُّ الشعري المفتوح)، نجدها من حيث القيمة الإبداعية لبنائها التركيبي والفنِّي أصعبَ هذه الأجناس الشعرية الثلاثة، وأكثرها حداثةً فكريَّةً، ومنظوراً فنيَّاً جمالياً، وتركيباً وإبداعاً وتخليقاً.

والشاعر المبدع الحقيقي الذي يكتب قلمه الإبداعي قصيدة النثر الحقَّة تأصيلاً وتأثيثاً وممارسةً فنيَّةً باشتراطات عناصرها التركيبية اللُّغوية الصوتية والإيقاعية الداخلية والدلاليَّة والفنيَّة والبلاغية الجمالية الانزياحية، ليس استسهالاً سياحياً معرفياً مفتوحاً منه لبنيتها التكوينية الوجودية في الفضاء الشعري الزماني، ولا إحساساً شعورياً متفرِّداً فيها بالراحة الكبرى عن مثيلاتها أو نظائرها الشعرية الأخرى، وإنَّما هو إحساسٌ نفسيٌ عميقٌ طافحٌ بحُريَّة التعبير الفكري، وبغمرة الإبداع الذاتي؛ نتيجةً لِسعةِ المِساحةِ التعبيرية الفنيَّة التي توفرها قدرة الدفقة الشعورية النفسية والجمالية لواقعة الحدث الموضوعية الراهنة في قصيدة النثر الحديثة الراعية السعة لهذا الفضاء المفتوح إبداعاً.

وجزماً يقينياً -مُحقَّاً- أنَّ هذا التعبير الفنِّي الجديد لا يُعدُّ بحدِّ ذاته هروباً جمعياً من لزوميات الشعر الواجبة، وتقنيات القصيدة وآلياتها البنائية الفنيَّة الأساسية المهمَّة. وأعني بذلك الإمكان الذاتي والتمكُّن البنيوي النصِّي من أداء تقفيتها الشكلية، وتشكيلها الموسيقي الوزني المتمثِّل بجماليات وحدات التركيب الإيقاعي الصوتي لموسيقى الشعر الخارجية، بل الشاعر المُجدِّد الحديث هو من يبحث راسخاً في تأثيثاته الشعرية المتواصلة بصدقٍ وروحٍ متفانيةٍ صبور عن مواضع الجِدَّةِ المهمَّة، وإنْ كانت تنقيباً حفريَّاً في مكامن التراثية القديمة؛ لأنَّ الجِدَّة والتجديد الشعري الإبداعي لا يَكمنانِ حصراً في مرجعيات الجديد المعاصر للحياة، بل الجدَّة الحقيقية في تجليِّات الأثر القديم والجديد.

وهذا الكشف الحداثوي عن لثام الشعر الأصيل يتطلَّب من شاعره أنْ  يتجلَّى صناعة الابتكار الإبداعي، وعناصر التخليق الفنِّي في تمظهرات هذه القصيدة ومثاباتها الموضوعية المفتوحة، ذات الوشم التعبيري المُختلف، والبصمة الحضورية الخلَّاقة المغايرة لحقول الشعرية القديمة في التخليق. فضلاً عن ذلك سيَّادة الروح الجمالية الفنيَّة لعنصري (الإبداع والابتداع) في رسم خصوصية إنتاج النصِّ الشعري المنثور، وتوزيع نقاط إضاءاته المشعَّة، وتشظياته الإبداعية على فضاء أديم خريطته التَّشكُّليَّة. فتبدو القصيدة النثرية جسداً روحياً مُترَّعاً بأفانين التدفق الروحي المتجدِّد رؤىً بتقنيةِ السَّبك اللُّغوي والتماسك النصِّي. وتغدو -نَصيَّاً- مهمازاً ثريَّاً مَكيناً بوهج جماليات الحَبك الدلالي المعنوي.

ويُحيلنا هذا المهاد التنظيري الوصفي لفنيَّة التعبير في قصيدة النثر الحديثة إلى النظر برويَّةٍ في قراءة نصوص المدوَّنة الشعرية (شجرٌ من مِحنةِ الوقتِ) لشاعرها المثابر الدؤوب، والإعلامي الأنيق لغةً وأصالةً نصير الشَّيخ والتي تعدُّ بحقٍّ في منظور مجسَّات النقد العراقي الحديث غيمةَ نورٍ شعريَّةً من الجمال السحري الإبداعي الهاطل سحَّاً وتسكاباً في مرافئ الشعرية المتجدِّدة، وأرخبيلاً جُزريَّاً مضيئاً في عتبات قصيدة النثر الحديثة شكلاً ومضموناً ومعنىً.

وَنصيرُ الشَّيخ على الرغم من جذوره الشعرية المُمتدَّة، وبداياته الضاربة تاريخياً في أطناب جيل الثمانينيات، يُعدُّ  إبداعياً واحداً من أبرز شعراء الجيل التسعيني الشباب الناشطين القلائل في العراق، ومن اللَّذين لم يُسلط الضوء عليهم كثيراً باستحقاقٍ في شعريَّة النثر، وتحديداً في قصيدة المجايلة التسعينية، ولم تَرَ ثمارُ تجربته الإبداعية الشعرية الناضجة المِساحةَ النقديَّةَ الكافية التي يستحقها إبداعياً بشكلٍّ لافت في زحمة هذا الكم العددي الهائل، لا النوعي الكيفي من شعرية (الإسهال اللَّفظي) الفارغ، وجعجعة رحى  طنين الخاطرة الصوتي الأعجف الطحنِ لهذيانات قصيدة النثر التي يَغرقُ بها المشهد الشعري العربي عموماً، والعراقي خصوصاً على وجه التحديد دون مراعاةٍ فنيَّةٍ واعيةٍ لمنظور الشعرية الحديثة، أو دونَ فهمٍ حقيقي جدِّي لتجلِّيات الإبداعية الشعرية النثرية؛ نتيجةً لتمسُّك الكثير من شعرائها الشياب الجُدد بذرائع  بُوهيمية طلسميِّة غامضة لا وحدة ربط لها، ولا تَمُتُّ إلى مسوغات روح الحداثة بصلةٍ إبداعيةٍ.

فمن بين مجايليه الكُثُر يقتفي الشاعر نصير الشَّيخ في تقنياته الشعرية ومنحوتاته النصيَّة آثار قصيدة النثر الحقَّة الرصينة المبتكرة الفاعلة الأثر في تثويرها الجمالي والفكري، وذات الذائقة الأدبيَّة والفنيَّة الموقَّعة التأثير في نفس المتلقِّي، وليس إتباع ضبابية الحُجب التشاعريَّة، أو امتطاء شعريَّة الهلامية المطاطية، عديمة الرؤيا الصورية المخيالية أو البصرية، والفاقدة فنيَّاً لعنصر التكثيف اللُّغوي البنائي، وعنصر الوحدة الموضوعية أهم عناصر قصيدة النثر الحديثة الذي يرتبط فنيَّاً وجمالياً بالوحدة العضوية الكبرى لشعرية الحداثة من خلال تحكُّم الشاعر الشيخ بتلابيب أطراف نسيجها الفنِّي الموضوعي بدءاً من لوحة التصدير الاستهلالي وانتهاءً بخاتمة حسن التخلُّص في مخرجاتها .

ولا يتمُّ ذلك الإبداع إلَّا من خلال فلسفته الشعرية الذاتية ووعيه الفكري الثقافي الخلَّاق لاشتراطات قصيدة النثر وآلياتها الموضوعية والفنيَّة بدءاً من محاولات قصيدة النثر البودليرية حتَّى يومنا هذا كما يرى سوزان برنار في تنظيراته الشمولية، وما يعتقده أدونيس في إيضاحاته النقدية لقصيدة النثر الحداثوية. وهذا التضامن الاشتراطي الفنِّي الجمالي الرؤيوي السوسيو ثقافي النوعي يضمن لها خلودها الروحي وبقاءها الشعري الجمالي المستديم بستمولوجياً وفكرياً عبر منظومة الشعرية الحديثة:

تُوقِدُ الوَجدَ عَلى النَوافذِ صَباحَاً

تَمسَحُ غُرَّةَ الفجرِ،

كَي يَتدَثَّرَ أبناؤُها بِأفيَاءِ أَحلامِهم

وَحِينَ يَهبِطُ المَسَاءُ ...

تُمَسِّدُ وَاحَةَ النُّجُومِ

وتَسحَبُ أغطِيَةً مِن حَنِينٍ

لِقَامَاتِهم اليَافِعَةْ

(غصنُ آسٍ، ص 28)

وفي ظلِّ هذا الجوِّ المشحون بالحنو الأمومي الرؤوم للرمز التراثي الديني الموصوف لفعل السيِّدة العذراء وحراكها الصوري الإنساني النبيل، أسهمت أفعال الحاضر والمستقبل النصيَة الأربعة، (تُوقِدُ، تَمسحُ، تُمسِّدُ، تَسحبُ) التي اكتنزت بها الدفقة تأكيداً في تكثيف ذاتية وحدة الحدث الموضوعية، وترصين جمالية صورها الفنيَّة، وتجميل بلاغة انزياحاتها التعبيرية المجازية عبر هذه المتشاركة الفعليَّة المتجدِّدة في فعل حدثيتها الزمانية، وتقنية تكرارها الصوتي الداخلي المتوالي لحرف التاء، وصوت السين الذي يعزفُ صَدى صَفيرهِ الصوتي نغماً حرفياً مُتراتباً، وتؤدِّي وسوسته الصوتية الانتشارية لحناً لغويَّاً عذباً مُتَّسقاً. كونه يُلقي بسحر تأثيره النفسي على القارئ المتلقِّي في مشاركته الإصغائية لجماليات هذا التدفق الحضوري اللُّغوي المتساوق.فالحضور المتدفق بإيقادُ الوجد ضياءً، ومسحُ غُرةِ الفجر الصبوح بياضاً، وتمسيدُ وجه النجوم عطفاً دافئاً، وسحبُ الأغطية حنيناً تُمثِّل ثورةُ تفجيرِها الانزياحي الحركية صوراً جماليَّة مجازيةً تُعوِّض عن إلزاميات الشكل الخارجي قافيةً وبحوراً، تلك التي ورَثتها القصيدة الكلاسيكية والحُرَّة.

والمعجم الشعري لنصير الشَّيخ يؤكِّد لمتلقِّيه النابه الواعي بجلاء ناصع لا يقبل الشكَّ أو التسويف الفكري أن الشعر عنده انغماس الخيال الصوري بالواقع الحدثي الجمالي، وجلاء الحقيقة الظاهرة في المشاعر الإنسانية بشتى تجلياتها. وأنَّ قصيدة النثر لديه لم تكن اجتراراً شعرياً مكرَّراً لتجارب غيره من الشعراء الآخرين من الذين سبقوه في مضمار تشعير قصيدة النثر، وتعميق أُسس جذورها الحداثوية الجديدة الراكزة. ولم تكن أيضاً محاولاته الإبداعية صدى مدويَّاً لإعادة إنتاج شعري مستهلكٍ تالفٍ غيرِ مُبرَّرٍ لصناعة  شعرية الحداثة التي تُعاني اليوم من أزمةٍ نصيِّةٍ حقيقيةٍ عنوانها  الرئيس (قصيدة النثر) على المستوى الإبداعي الفنِّي والجمالي العصري، بل كانت تجربةُ نَصير الشَّيخ الشعريَّة بكل فخرٍ وتواضع نحتاً نثريَّاً لغويَّاً نديَّاً مُخلَّقاً بعناصر الجِدَّةِ، وفتحاً جمالياً معماريَّاً مُهُنْدًسَاً في مثابات الشعرية الحديثة.

وإنَّ قراءات رؤيته الشعرية تشي بأنَّها رهاناتٌ مخياليةٌ واقعيةٌ للإبداعية الجمالية من أجل النهوض بها أمام تحديات هالة قصيدة الموروث الشعري العمودي ذي النسق الإيقاعي الموسيقي الموحَّد الأوزان الثابت التقفية؛ وإلَّا ستكون ملامح أُسلوبيته الشعريَّة هذياناً لغويَّاً محموماً بركاكة التعقيد المعنوي العدمي، وفجاجة التسريد الشكلي المُبهم الذي لا جدوى من حداثته الشعرية سوى ملء الفراغ الشعري بتخبُّطاتٍ خاويةٍ وتداعياتٍ خاطريَّةٍ جوفاء الروح مُهَلهَلَةِ الجسدِ اسمها قصيدة النثر. وأنَّ هذا التمايز الشعري في الفرادة الأُسلوبية يضعنا في النقدية الشعريَّة أمام مسؤوليةٍ كبيرةٍ ومهمَّةٍ خطيرةٍ اسمها العريض شعرية الإبداع الفنَّي، وإبداعية النصِّ الشعري المنثور تشعيراً فنيَّاً وروحياً جمالياً لا يقبل التهويم السطحي العائم، أو يجنح إلى اعتماد لغة السفسطة البلهاء أو لعبة الترميز الطلسميَّة التعجيزية الشكلانية:

مِنْ نَهارَ اللُّصُوصِ

أُخَبِّئُهَا

مِنْ عَسَسٍ يَتخَطُّونَ أسمَاعَهُم

مِنْ مَنافِي الجَليدِ ...

مِنْ مَنافضِ الغُبَارِ...

مِنْ سِنينَ الرَّمادِ.

مِنْ تُخُومِ الجَسَدِ

تُشعِلينَ الخَرَائطَ أُغنيةً

فِي مَرَافِئ الأَلَمِ

تُحرقِينَ الرَّسائلَ

وَالمُدنَ النَاصعةْ

(طَعنةُ النَّرجسِ، ص 59، 60)

بهذه التبعيضات الحرفية المائية المتوالية الاتساق التركيبي لفاعلية التكرار الصوري لحرف الجر (مِنْ) التي حفلت بها سطور مدونته (طعنةُ النَّرجسِ) الدالة على فنيَّة عتبتها، أسهم وقع دلالاتها الفنيَّة القريبة والبعيدة في تنظيم وتجسيم مسارات الدفقة الشعورية لتلك الطعنات النرجسية العابقة الأثر، وَأَثرَى تَجسيرَ روابطها النصيَّة الفاعلية مع بؤرة الحدث الواقعية بشكلٍ نثري ممتنع مُحبَّب أظهر القيمة الجمالية الشعرية والفنيَّة لوقع سحر تلك المدلولات اللَّفظية البيانية التي نُسِجَت بها صياغة التركيبات الجُمَليَّة الخبرية المتتابعة النحو الآتي: (نهارِ اللُّصوصِ، عَسسِ اللَّيلِ، مَنافي الجليدِ، مِنافضِ الغُبارِ، سنينِ الرمادِ، تُخومِ الجَسدِ)، فضلاً عن الإيثار الدلالي اللُّغوي الكبير لِفعلَي المشاركة الحركية ( تُشعلينَ، وتُحرقينَ) اللَّذينِ جعلا من حركة ثيمةِ القصيدة غنيةً بشعريتها النثرية وبدفئها الشعوري العاطفي الحميم.

لم تكن (شجرٌ من محنةِ الوقتِ) إلَّا مصفوفةً شعريةً لمتواليةٍ إبداعيةٍ متواشجة الانثيالات، متجدِّدة المثابات نثرياً. وإن مِساحةَ فضائها الشعري تضمَّنت نحو (22) نصَّاً شعريَّاً مختلفاً بهندسة معمار تعدُّد رؤيته الفكريَّة الذاتية والموضوعية والإنسانية على المستوى الجمالي الفنِّي لتجارب الحياة الواقعية والمخيالية، وهي الأسلوبية الشعرية التي ميَّزت نصير الشَّيخ شعريَّاً. وإنَّ كلَّ نصٍّ فكري إبداعي من نصوص شجر نصير الشيخ  يُشكِّل عتبةً عنوانيةً موازيةً إزاء النصِّ الإبداعي الأصلي، وكلَّ عتبةٍ بارزةٍ مُصاحبةٍ لبنية النصِّ المُرسل تمثِّلُ قيمتُها جمالياً محنةَ حضورٍ حقيقي لافت وتحمل هاجساً فكريَّاً قلقاً، ونسغاً روحياً نابضاً بالحيوات لشجرةٍ قارَّةٍ مُثمرةٍ أتتْ أُكُلَّها المكاني الناضج في بستانها الشعري من ظلال أفياء أحداث الزمن الحياتي العابر للمكانية في توارد تجلِّياتها وخصوبة موضوعاتها.

وإنَّ ما يُميِّز السمات العنوانية لنصوص هذه المجموعة من حيث القيمة الفنيَّة والجماليَّة ثمانية نصوصٍ كانت بحقٍّ ثريَّا لنصوصٍ عنوانية فنيَّة مائزة الدهشة في التركيب الجمالي، فضلاً عن عتبات النصِّ الأربع الأخرى الماثلة واقعاً، (عتبة العنوان الرئيسة، وعتبة موحيات لوحة الغلاف الخارجي الأولى، وعتبة التصدير الاستهلالي، وعتبة الغلاف الثانية). تلك عتبات جيرار جينيت التضامنية التي تنأى بهذه المدونة الشعرية عن كل أشكال تنميط الفجاجة الاعتبارية والتقريرية والمباشرة المملولة. وأنَّ اللافت المثير من بين هذه العتبات الأربع موحيات (عتبة التصدير) الرمزية التي وظَّفها وعي  الشاعر الشَّيخ الرهيف في مفتتح اشتغالات مجموعته الشعرية هذه،وأعني جيِّداً التصدير اللُّغوي الجمالي الذي أدَّى جميع حمولات وظائفه (الإخبارية والدلاليَّة والتأويلية والثقافية) الأربع على أكمل وجه تبليغي جمالي لفكِّ شفرات النصِّ الرسالي، وتحليل لغته الشعرية الخطابية بمنظار منهجي تأويلي هرمنيوطيقي جلي ٍواضحٍ وجديد.

وذلك إيماناً بموحيات التصدير وإشاراته السيميولوجية والدلالية من أنَّ الكلمات تتصيِّر أساطيرَ خالدةً مع سيرورة التاريخ الزمني، وقد تغدو في خلودها الأبدي أُساً شبيها بآسِ المُوتى ظنَّاً منه بما يطرحه فكر (دسنوس) الفلسفي في إشهار تساؤله الطلبي الذي ينتظر فيه جواباً شافياً للفكر العقلي في ندائه الخطابي المأثور، (أيَّتُها الكلمات هل أنتِ أساطيرٌ؟ وَهَل تُشبهينَ آسَ المُوتى؟). هكذا ينظر الشَّيخ بِعمقٍ غائرٍ بعيدٍ إلى أثر فعل كلماته الدلالية، وسحر تأثيرها الجمالي فيمنحها بُعداً أسطورياً روحياً خالداً مخضَّباً بعطر الآس ورائحته الزكية عبر امتدادها التاريخي الزمني:

عَلَى رَصَيفِ الغَانيَاتِ فَضَاعَ عَنكَ تَحولُ السَّهمِ المُجبَرِ،

ضَاعَ تَشكيلُ الحَقَائِقِ مِن فَضاءاتِ الخَمِيلَةْ..

فَزَّتِ الشُّرُفاتُ، دَاع ٍ مِنْ غَياهِبِ جَمرِنَا /  لَا سيفَ يَصهِلُ

"سَربروسُ" تُراكَ عُدتَ بِلا نِيُوبٍ

حَامِلاً تَقطِيبَةَ التَّاجِ المُسَوَّرِ بِالصُّراخِ ،

أُفقٌ يَنَامُ عَلَى سَرِيرٍ يَرتَمِي لِلغَائِب العُذْرِي،

مَا مَنَحَتْ يَدَاكَ مَجُوسَ رَاياتِ اللَّغطِ...

(آهٍ نَاقوسِي، ص 90).

فسربروس نصير الشيخ لا يُمثِّل رمزية الواقع العياني (المَا حَوْلِي) الراهن للمشهد السياسي الوطني العراقي، ولا ينتمي دلالياً إلى دائرة الخراب وخطره المُحدق؛ كونه رمزاً أسطورياً عصرياً محليَّاً شعبياً مُعطَّلاً الفعلية الحدثية، فمرسلات صورته الإيحيائية (الإمجية) بلا نيابٍ تكشيرية حادة الأثر، ولا يحمل رمزه الصوري الجديد سوى تكشيرة خواء الصراخ العاوي الذي يُحيل صورته الضعيفة المهادنة إلى ملاذٍ وديعٍ آمنٍ من غلبة السكوت والسلام على أمره الحركي مما يجعله صدىً لفعلٍ قويٍّ محكيٍ. فهذا التماهي يمنح سربروسه صفة الوفاء العشقية لا الصورة الوحشية.

لكلٍّ هذا الإيحاء المرئي المنظور وغير المرئي اللَّا منظور لم يكن سربروسُ الشيخِ السربروسَ الحقيقيَ المعروف في أدبيات تاريخ الأسطرة بذلك الكلب الأُسطوري الوحشي المُخِيف ذي الرؤوس الثلاثة الذي يحرس العالم السفلي الأرضي في الأساطير اليونانية  الذي قتل تموز إله (الحياة والموت)، ورمز الخير والحياة المتجدِّدة، وليس شبيهاً بسربروس السيَّاب في بابلَ. ذلك الرمز الأسطوري العنيف الذي يحرس مملكة بابل من واقعة فعل الخراب السياسي المُؤدلج. فهو في انثيالات الشاعر الشيخ النصية يوحي بأنَّه رمز المحبة للعاشق العذري الذي يشكو ألم الجراح في أُفق واقعه الهادئ. والشاعر في محاكاته وتماهيه الأسطوري أراد أنْ يعطي لسربروسه العشقي صورةً جماليةً مُغايرةً لصورة الواقع الحقيقي. وقد يُحيل الشاعر الشيخ الفعل الحضوري لنظم الكلمات من خلال تركيبها البنائي الدلالي إلى مفارقةٍ شعوريةٍ شعريةٍ مُذهلةٍ، وعنصر إدهاش ذهني وبصري يُفاجئ به أسماع القارئ ويباغته فكرياً وجمالياً؛ لكسر توقع جدار سمت المألوف الاعتباري الصُلب المعتاد، وتحطيم سياق صورته النمطية التداولية تجديداً وتحديداً، وتحويل عناصره الفنية الثريَّة إلى مفارقة شعريةٍ نصيَّةٍ صادمةٍ للشعور الذاتي في الإمتاع النفسي والروحي الجمالي:

بِأصابعَ تَيَبَّستْ مِنْ فَرطِ غُربَتِهَا

وَقَلبٍ لَا يَسعُهُ حُزنَ الكَربَلَاءاتِ

عَلَّقتْ صُورتَهُ عَلى حَائِطٍ مُتَهَدِّلٍ

وَبِشرائطَ حَريريةٍ سَودَاءَ طَوَّقَتْ اِبتسامَتَهُ

بِرِذَاذِ مَدَامِعِهَا مَسَّدَتْ إِطارَ لَوعَتِهِ

(مِحنةُ الوَقتِ ص 87)

لم ألمسْ أثرَاً بصريَّاً أو دليلاً حسيَّاً يشير إلى صور التداولية في تيبُّس الأصابع من فرط كثرة غربتها الداخلية، ولا إلى صورة القلب المكلوم الذي لا يسعه على وجه التهويل والمبالغة الشعرية الحزن الكربلائي الحسيني الكبير المأثور استدامةً. وكان الأجدر بنصير الشَّيخ أن يذهب بتوصيفه الذاتي القلبي إلى الصورة الـ(بعضية) الجزئية لا إلى الصورة الكُليَّة المَهولة للحزن الكربلائي في الموروث العظيم، فكان الأولى بالشاعر نصير الشَّيخ في تركيب مفارقته الشعرية الصادمة أنْ يقول:(وقلبٍ لا يَسعُهُ بَعضٌ مِنْ حُزنِ الكَربَلَاءاتِ)؛ لأنَّ واقعة الألم الطفيَّة الكربلائية أكبر سعةً وحزناً من معاناة وألم قلب الشاعر الرهيف صُغراً النازف عطفاً جرَّاء محاكاته العشقية الحدثية لمثابات هذه الواقعة الجمالية.

والشاعر المثابر المُجدِّد الذي يُنشد ناصية الحداثة الشعرية، ويمتطي بشجاعةٍ جماح صهوتها الفروسية الجسور حين يجوس أرض الشعرية الحداثوية لقصيدة النثر، وتطئ أقدام مهمازه الشعري المؤثِّر الفضاءَ النصِّي الفاعل  لعناصر هذا العالم الكوني الساحر عبر تطوُّر سُلم الشعرية لا يلبث وعيهُ الفكري قبولَ صفة الركوز أو الاستقرار دون تغييرٍ أو تحرُّرٍ من براثن قيد النمطية النصوصيَّة المُستهلكة القبول في التلقِّي الجمعي، بل يسعى شاعرها الفارس المِقدام جاهداً في مضمار تحرره الذاتي الإبداعي إلى خطى المثابرة الإجرائية برؤيته الشعرية ومنجزه الفني التخليقي الابتكاري إلى البحث عن مناطق جِدَّةٍ ثريةٍ باعثةٍ بديلةِ الشكل حديثة المعنى جديدة الرؤية الإبداعية لمكنونات قصيدته.

وسواءٌ أكان هذا البديلُ المختارُ تراثياً قديماً مُجدَّداً، أم جديداً فنيَّاً حديثاً مُخلَّقاً؟ ولابُدَّ من وجوب الإلزام الذاتي بالعمل الدؤوب على استنطاق عناصر تلك الحداثة البنائية وتفعيل دور حيواتها الفنيَّة في القصيدة من غير أنْ يتخطَّى وحدتها الموضوعية الكبرى، أو يتجاوز خطوط نسيج فروعها الداخلية أو روافدها المغذّية المنسابة في جريانها البؤري المتوافق مع هذه الوحدة العضوية التي تمثل نقطة الانتشار الضوئي المعنوي والتشظي الدلالي لانثيالات موضوعة القصيدة النثرية وتدفقاتها المقطعية. مرتكزاً في الوقت نفسه على بسالة التكثيف اللُّغوي وشجاعة الإقدام الدلالي المجازي الممنهج وفق رؤيةٍ فنيَّةٍ جماليةٍ تحافظ وعلى التوازن الخطي  لتركيب سير هذه الشعرية وتناميها الجُملي. والرغبة الجادة في خلق مساحاتٍ فنيَّةٍ تعبيريةٍ رصينةٍ تمنحه القدرة البنائية الفذَّة على الانحراف البلاغي اللُّغوي وتحملهُ فنيَّاً وحداثياً على التمسك بمفاهيم السعة الجمالية في بسالة الإقدام، وضرورة المناورة الفنيَّة على فهم تقنية الإحجام الإنزياحي الصوري البلاغي الجديد الذي يكسب النصَّ الشعري لقصيدة النثر قوةً من هالة الإبداع الفنِّي والجمالي الذي يسعى إليه الشاعر نصير الشَّيخ في إطار شعريته الإنسانية:

يَا هَذَا ..

إنِّي جَاعِلٌ مِنْكَ خَلِيفَةً عَلَى القَلبِ ..

لِمَ أغرَقْتِ الرُّؤيَا

وَاِعتَلَّتْ فِيكَ دُرُوبِي ..؟

بَعثَرتَ خُطُايَ عَلَى مَقرَبَةٍ مِنْ وَجْدَكْ

...وَأَنَا الصَّباحَاتُ جَعَلتَهَا  تُسَبِّحً فِي حَمْدَكْ

وتُقدِّسُ وَهجَ النُّورِ الطَّالِعِ فِيْكَ

وَإنِّي .. عَالِمٌ بِكَ مَا لَمْ يَعلَمْهُ الآخَرْ..

(نَكايَا الوجدِ ص 22، 23)

دون شكٍّ أنَّ محمولات هذه الدفقة الشعورية التناصيَّة تُشير بوضوح وتجلٍّ تامٍ إلى أنَّ الشاعر الشيخ في انحرافه اللُّغوي الجمالي قد مالَ إلى التناصِّ مع النصِّ التراثي القرآني الديني لسورة البقرة تناصَّاً فنيَّاً تحوليَّاً وفقاً لقوله تعالى: (وإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيْفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيُسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنقدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعلَمُونَ). (البقرة، الآية: 30).

فإذا كان الخطاب الديني القرآني موجَّهاً في ألواح مرجعياته وأنساقه الدينية في الدرجة الأولى إلى صورة الإنسان الأول أبي البشرية (آدم)-عليه السلام- سبب الخراب والفساد الأرضي؛ نتيجةً لتمرُّده الذاتي وخروجه المفاجئ عن سُنن الطاعة الإلهية، وإلزامه بالهبوط الأرضي عقاباً لفعلته الإغوائية؛ فإنَّ رمزيَّة الخطاب الشعري النثري الحداثوي كان موجَّهاً بمقصدياته الدلالية والإشارية السيمائية بدالة (ذا) المُتَّصلة بها التنبيه اللافتة في جملة المنادى التصديرية (يا هذا...) إلى الحبيب المعشوق الذي نُصِّبَ خليفةً على عرش القلب مركز الإيمان والتُّقى والعاطفة. ذلك الكائن الحركي الذي عاث برؤيته المغرقة فساداً في اعتلال صيرورة الدروب، واضطراب حركة مَيْدِهَا التوازني، وبَعثرَ خُطى الحبِّ ودروبه المتعثِّرة على مقربة من ذلك الوجد الحزين الذي يكنه الحبيب العاشق للمعشوق المقدَّس الروحي.

ولم يكتفِ نصير الشَّيخ بذلك التناصِّ الجُمَلي في متناصته الشعرية مع هُويَّةِ الآخر الأنوي الذي أدخل فيه الشاعر نصَّهُ الشعري الجديد بِنصٍّ تُراثيٍ دينيٍ قديمٍ من سُورة البقرة، بل ذهب مِقدَاماً في بسالته الإبداعية إلى استخدام هالةٍ دينية خاصَّةٍ من ملفوظات لغة(التسبيح والتحميد والتقديس والتنوير) الإلهي، وروحانيات(عَالِم ومَا لا يَعْلَم).تلك هي  صفات وغيبيات الذات الإلهية المقدَّسة التي نُعِتَ بها الله تعالى، وخصَّ بها الإنسان(خليفته) الأرضي المُختار تَوصِيفَاً.

وبقصدياتٍ فنيَّةٍ عاليَةٍ جاءت اشتغالات الشاعر الرُّوحية الواعية تماهياً مع جماليات المخلوق (العاشق) لذات الخالق (المعشوق) الذي يَعلمُ ما لا يَعلمهُ المخلوق الأرضي فتصيَّرت صباحات الحبيب العاشق المخلوقة حركياً ورمزيَّاً كلّها تُسبِّح بحمد ربَّها له وتقدِّس بجلالٍ وطاعةٍ نورَهُ الإلهي السَّاطع على الأكوان ظلَّلاً ظليلاً لا ينقطع أبداً رجاؤه المأمول.

وإنَّ اللَّافت المثير على سطور هذه الدفقة الشعرية المتراتبة التناسق الشعوري، والتي تشكِّل المقطع الأول من نصِّ قصيدته الموسومة (نكايا الوجد) أنَّها جاءت غنيةً بأفانين الموسيقى الداخلية والترادف الصوتي لحرف الكاف الذي شكَّل نهاياتٍ صوتيةً متشابهةً القفل كقافية رويٍ مُوحَّدةٍ تكرَّرت فيها الكاف صوتياً نحو(16) مرَّةً على التوالي في مقاطع القصيدة، فشكَّلت نهاياتٍ مُتشابةً توحَّدت فيها السطور حرفياً وإيقاعيَّاً بلغةٍ روحيةٍ هادئةٍ خاشعةٍ.

ولعلَّ هذا الانسجام الصوتي المتواشج حرفياً قد منح الدفقة المقطعية لحناً نغمياً جمالياً متناسقاً أشدَّ عذوبةً،؛ وذلك من خلال مفردات التقفية اللَّفظية الأربع في المقطع الأول الآتية: (وَجْدَك، حَمْدَكْ، فِيكَ، بِكَ). والتي تكرَّرت في المقطع الثاني تسع مراتٍ، وتكرَّرت مرةً واحدةً في المقطع الثالث، ومرتين في ثنايا المقطع الأخير الرابع، فضلاً عن التكرار الصوتي الخطابي لحرف الكاف الذي تعدَّد ثلاث مرَّاتٍ أخرى عند اقترانه بحروف، (مِنْكَ، فِيْكَ، عَنْكَ، بِكَ). وأنَّ هذا الترادف الخطابي الصوتي لدلالة حرف الكاف أضفى على الجوِّ الداخلي لجسد القصيدة النثرية روحاً سحريَّةً نابضةً بالحياة؛ وذلك تعويضاً مستديماً عن لزوميات اشتراطات موسيقى الشعر الخارجية في الشعر النظامي القديم.

وفي مشهد صوري لافتٍ أخر من مشاهد الشعريَّة العربية الجمالية نلحظ بعين ثالثة على اشتغالات الشاعر الشَّيخ النثرية في نصِّه الشعري الموسوم بعتبته (عُشبةُ الرُّوحِ) الخلوديَّة ثمَّةَ اِنثيالاتٍ روحيَّةً قدسيَّةً جماليَّةً متوهِّجةً تفيض بها روح الشاعر الهائمة، وذاته الشاعرية القلقة بدءاً من إشهار لوحة العتبة العنوانية الرئيسة التي تمثِّل (ثريا النصِّ) الموازي، مروراً بجماليات الاستهلال التصديري لمفتتح القصيدة المُضمَّخ بالروح الغنائية الشفيفة، وقوفاً عند ناصية مرافئ هذا التمظهر البنائي الفنِّي من تقنية الترادف التكراري الإشاري الداخلي المتوالي الجُمل ذات الالتقاطات الفنيَّة والموضوعية المترابطة روحاً وجسداً بفضاء القصيدة. والتي تؤكِّد علامات موحياتها الإشارية السيميولوجية القريبة، ودلالاتها البلاغية البعيدة أنَّ ثمَّةَ نسقاً ثقافياً خفيَّاً مُضمِرَاً، وآخر ظاهراً متجليَّاً حاضراً برؤيته البصرية أو الحُلُميَّة، مُتعدِّداً البنية النسقية لتمظهرات الشاعر الحضورية في تجلِّيات وحدتيه (المكانية والزمانية) الرُّوحية والجماليَّة؛ وذلك من خلال البنية التكراريَّة للتعدُّد الأيقوني الاسمي الإشاري لدالة المشير اللَّفظي (هذا)، والإقرار بها إقراراً ذاتيَّاً لافتاً:

مِنْ فُوقَ مَآذنِ عِشْقِكِ

ذَرْتْكِ الأَزمِنَةُ رَمَادَاً كَونِيِّاً

هَذَا دَربِي أَولُهُ الكَلِمَةْ..

هَذَا لَيليِ يَتَهَجَّد بهِ الصَالِحُونَ ..

وَدَمِي..

هَذَا الهَارِبُ أَبَدَاً

يَتَعَشَّقُ مَملَكَةَ النُّورِ

وَأَقَالِيمِي يَنْبُوعٌ يَتَغَوَّرُ فِي الجَلمُودِ

وَفِيَّ سَبَبُ الظُلُمَاتْ

(عُشبَةُ الرُّوحِ، ص 47، 48)

هذه اللَّوحة التجريبية من التكرارات الجُمليَّة الإشارية المتجدِّدة الأربعة توحي بيانات مُضمراتها النسقية، وإنْ كانت صفتها المعنوية مِخياليةً تشعيريةً لا حِسيَّةً بَصريَّةً ملموسةً أنَّ (الكلمة) الحقَّة التي هي شرف المعرفة، وجوازها المروري الحقيقي المعنوي عبر جسور المتوالية الزمانية السائرة عمقاً في التغوِّر، هي مكانيةُ دربِ الحياة، وأنَّ زمانية اللَّيل الطويل هي سفر تهجُّد الصالحين من العباد، وأنَّ الجسد الفاني مفتاح السرِّ الروحي وآيته الدلالية البارزة، وأنَّ الهروب الأبدي قربانُ زمكانية الدم المسفوك على جسر هاوية الحقيقة العشقية، وأن الأقاليم الروحية ينابيع عيون مكانيةٍ مُنبجسةٍ في صخر جلمود. وأنَّ أفعال المستقبل المضعَّفة الثلاثة،(يَتهجَّدُ، يَتعشَّقُ، يَتغوَّرُ) أسهمت دلاتها الجمعية بمشاركتها الحدثية الزمانية في رسم حدود موضوع الدفقة الشعورية، وبتوزيع مثاباتها بهذا التعضيد النثري المتدفق.

إنَّ تقنية (التكرار الفعلي) من الخاصيَّات الفنيَّة الإبداعيَّة المتعارف عليها في أنساق الشعريَّة العربية قديماً وحديثاً تمنح الجملة الشعرية الراكزة في قصيدة النثر الحداثية ضرباً فنيَّاً لغوياً مُذهلاً من جماليات الروح الإبداعية السامية. فتنفخ في جسدها الشعري الذاوي نفخاً روحيَّاً مُستديماً، يُحْيي فيها رميمية العظام المتهالكة الميَّتة الروح، فَتُعِيدُ صورتها الشكلية المُخلَّقة إلى حيواتٍ من الروح الشعرية الجديدة الدافقة الحضور، النديَّة الامتاع الباعثة على السرور.

وعلى وجه الخصوص إذا كان التكرار اللَّفظي في شعرية نصير الشَّيخ تكراراً فعليَّاً داخلياً في بنيته الإيقاعية ومستشرفاً زمانية غد المستقبل، ومؤكِّداً فعليته الحدثية بتسويفاتٍ سينيةٍ حرفيةٍ مستقبليةٍ تَعضد تعدُدية هذا التكرار يقينيَّاً وتقوِّي معناه الأصلي من نوازع الشكِّ الافتراضي الزمني المستشرف بهذه الآلية الجمالية من التمظهرات الفنيَّة المتتابعة التساوق في إيقاعها الأسلوبي التعبيري الفني المتراتب النظم عبر انثيالات الشاعر ورؤاه التداولية، ومثيرات التقاطاته الجمعية لموضوعات الحياة التعدُّدية اليومية التي وظَّفها الشاعر الشَّيخ على شكل اعتذاراتٍ فعليةٍ متواليةِ الوحداتِ الموضوعية في المقاطع الخمسة لقصيدته (خريفٌ مؤّجَّل) الدالة فنيَّاً على سمت عنوانها الوظيفي الإشهاري.

وعند الذهاب لقراءة المقطع الأول من القصيدة ذاتها تُشير دلالة الاعتذار السيني المستقبلي وصورته الفنيَّة بأنَّه كان

موجَّهاً في تضمينه نفسياً إلى خوف العصافير خشيةَ تقويض حريتها وتبديدها من خلال دلالة التصدير الفعلي الحركي

الحدثي (سأعتذرُ) الذي تَمُرُ به اشتغالات الشاعر المترادفة؛ كونه مسوغاً حدثياً مقنعاً ومبرراً يعكس فعل الواقعة:

سَأَعْتَذِرُ

لِخَوفِ العَصَافِيرِ، وَنَحنُ نَهِمُّ بِاِفتِضَاضِ

حَبَّاتِ السُّنبلِ الأَخْضَرِ قَبْلَ اِنْقِضَاضِهَا.

 (خَرِيفٌ مُؤجَّلٌ، ص 50)

وتأتي لغة الاعتذار الفنِّي في تلافيف المقطع الثاني ظاهرةً في قصديتها الشعورية الذاتية الموجَّهة بوصلتها الخطيَّة لمرآة وجهه العاكسة لموضوع حقيقة الواقعة الحياتية المؤلمة لواقعة دماء كربلاء الحسينية وفاجعة هيروشيما اليابانية:

سَأعْتَذِرُ

لِمَرْآةِ وَجْهِي تَتَلَبَّسهُ دِمَاءُ كَرْبَلَاءَ

وَآلامُ هِيْرُوشِيْمَا البَعِيدةْ

 (خريفٌ مؤجَّلٌ، ص 51)

وتمضي خاصية هذا الاعتذار الفعلي التكراري في تصدير المقطع الثالث من القصيدة ذاتها سائرة نحو قطارات القيظ اللَّاهب المشحونة حمولتها الحسيَّة والمعنوية بأكياس طحين القوت اليومي، ومكابدات الحنين الذاتي الروحي:

سَأَعْتَذِرُ

لِلقِطِارَاتِ المُحَمَّلَةِ بِالقِيظِ وَالحَنِينِ وَالطَحِينِ

وَأَغَانِي عَجَلَاتِها الصَدِئَةْ

(خَرِيفٌ مؤجَّل، ص 52)

ولكنَّ المدرج التكراري الإيقاعي الداخلي لتقنية الاعتذار التداولي في المقطع الرابع من هذه المتوالية المقطعية الشعرية كانت مرسلاته الصورية وتداعياته الداخلية هذه المرَّة تخصُّ أحد عناصر الطبيعة الكونية الخالدة، وأعني بها موجة البحر الهادئة الثائرة صورتها، والقارَّة رسماً جمالياً طبيعياً في لَهْوِ طفولة الشاعر وفي مخياله الفنِّي الشعوري:

سَأَعْتَذِرُ

لِمُوْجَةِ البَحرِ لَهْو طُفُولَةِ مَخَيَّلَتِي

 

وَأَصْدَافِ قَصَائِدِهَا الهَارِبَةْ

 (خريف مؤجَّل، ص 53)

أمَّا عنوان الاعتذار الفعلي الحدثي التكراري المُجدَّد في المقطع الخامس فكان تصديره الاستهلالي موجَّهاً لتاج الحبِّ وعلامته الأيقونية الفريدة البارزة في الوجود المرأة عاشقةً أم معشوقةً رمز الخصب والعَمارة والتكاثر الحياتي:

سَأَعْتَذِرُ

لِلَّتِي تَجِيءُ مُحَمَّلَةً بِالعِطْرِ تَارَةً

وَبِالشَّظَايَا وَانْشِطَارِ تَارِيْخِهَا المِنْهَارِ

تَارَاتٍ أُخَرْ

(خَرِيْفٌ مُؤَجَّلٌ، ص 54)

كلُّ هذا البوح الذاتي الصريح لثقافة الاعتذار اللُّغوي الإبداعي الشعري الممنهج فنيَّاً وجمالياً الذي همست به رؤية الشاعر نصير الشَّيخ الصورية واتَّسعت به مخيلته الفكرية في مثل هذه الانثيالات الشعورية المقطعية المكتنزة الخمسة لقصيدة النثر قد يُعَوِّضُ قصيدةَ النثر الحديثة –داخليَّاً- بشيءٍ عن خسارات الوزن المفقود والقافية الشعرية المعدومة.

يُحاول نصير الشَّيخ في مصفوفته الشعرية (مُدونةُ السَّحاب) إحدى قصائد هذه المجموعة النثريَّة الدالة فكريَّاً على تركيبها العنواني الثوثيقي الصوري الخروجَ مُجَدَّدَاً من فضاء محجره الشعري المألوف -تناظراً وتباصراً- وكسره بآفاقٍ إبداعيةٍ أخرى تجدُّديةٍ رحبةٍ، واسعةِ المدى، عاليةِ النظرِ، جليلةِ القدرِ، كثيرةِ الأثر والتأثُّر بمعطيات التحوِّلات السريعة للشعر والنهوض بتجلِّياته إلى ميادين وأكوان عالمٍ شعريٍ حداثويٍ جديدٍ في رؤاه البصرية، ومتحرِّكٍ في أثر انزياحاته المخيالية. بعيداً عن نثريَّة فنِّ الخاطرة والابتعاد عن خط التقريرية المملولة وحسابات إشكالياتها الفنيَّة الضيقة الركية التي تسيءُ إلى الأدبيات الحداثية لفن قصيدة النثر الشعرية التجدُّدية الناضجة. وديمومة المواكبة مع روح العصر ومتغيراته الفنيَّة المرحلية التي هي رأس مهام المبدع الحقيقي الذي يسعى فيها نصير واثباً ووئيداً إلى تجسير خيوط روابطها الموضوعية وفق معاييرٍ فنيَّة تكامليَّةٍ مقبولةٍ في تنظيرات مناهج النقدية الحديثة وتطبيقاتها.

وعلى وفق هذا النشاط الإبداعي التفاعلي المنظور لقصيدة النثر الحديثة ينأى نصير الشَّيخ بنفسه بعيداً عن مآخذها النقدية الكثيرة القادحة، ويسعى في مثابرته الإبداعية من خلال تاريخ منجزه الشعري، ورفادة تجربته الفنيَّة إلى تفعيل حراكه الفكري والإبداعي بحثاً عن عناصر الجِدَّةِ الموضوعية، وتنقيباً آثارياً مُتئداً عن حفريات مرجعياتها التأصيلية القارَّة التي يجدُ فيها مَعيناً خزنيَّاً ثرياً، وباعثاً نفسيَّاً كبيراً على تنشيط شحناته الشعرية وديمومتها في معجمه الشعري الحديث دون المساس أو الإلغاء بمخرجات مرجعيات الموروث الشعري، والاستئناس باشتراطاته الفكرية والجمالية:

مِنْ شُبَّاِكِ العَدِمِ

وُلِدَتُ..

هَذَا أَنَا ..

أَنامُ بِأغْطِيَةِ الحَرْبِ

أَشرَبُ نَخْبَ الوَصَايَا

وَأَتلُو خِلْسَةً سُورَةَ الضَيَاعْ

(طَاعِنٌ فِي الرُّخَامِ، ص 7)

الولادة الشعرية للشيخ كانت مخاضاً فنيَّاً عدمياً عسيراً، لكنَّ الحضور الأنوي للذات الشاعرية كان مُجربَّاً في أوقات الحرب والسلم والتِّيهِ والضياع (أكون أو لا أكون) شاعراً، كضخرة سيزيفٍ أنهكها الحَمل الثقيل والمسافة المتباعدة. ولكنَّ وقع الفعلية الحدثية(أنامُ، أشربُ، أتلو) وصداها المحكي كان أقوى من فعل العدمية وتأثيرها النفسي على الذات.

المعجم الشعري لقصيدة النثر الشعرية يؤكِّد باصرار يقيني ثابت لا يقبل العجب أنَّ الخطاب الشعري لنصير الشَّيخ قد تعدَّى في ميزان النقدية العراقية الحديثة حدود وآفاق التجريب التلقائي غير المُعَنَّى، وعبرَ بمساراته التحوِّلية الكبيرة رهانات التجديد الشعري الماكث فكرياً وروحياً في المضمونية الشعرية. وحجيتنا النقدية في ذلك التوصيف التنظيري الممنهج هو ذلك المارد الذي يخرج بشعرية النصِّ المنثور من عباءة أطلال الثابت الصنمي المنمط الجذور سياقياً عبر تاريخ وزمن الشعرية العربية الطويل إلى مِعطفِ شجرة التجديد الثوري التحوِّلي للشعرية الإبداعية.

وهذا كله يشي بأنَّ الشعر -رغم محنته النثرية-  لدى نصير الشَّيخ قبل وبعد التجديد هو موقف إنساني شعوري نبيل لا يخرج في إشكالياته الفنيَّة والإنسانيَّة عن رهانات طبيعة الواقعة الحدثية المكانية، إلَّا بفنيَّة التعبير في مخرجات متغيرات موضوعاته الحركيَّة والجماليَّة المستحدثة شكلياً ومعنوياً. والتي تماهي الواقع الحياتي المعيش وتحاكيه، وَتُسلِّطُ  الضوء علية وتعكس وجهه الإنساني الحضاري الكبير بأصغر صورةٍ فنيَّةٍ من صور بلاغة النصِّ الشعري :

هَكَذَا

تُعَلِّمُكَ رُؤَايَ

أنَّ لِي وَطَنَاً..

يَقْطِرُ حَرْبَاً

مُنُذُ أَّوَّلِ رُمْحٍ

شَذَّبَتْهُ أَعْمَارُنَا

وَحَتَّى مَصَبَّاتُ أَعْمَارِنَا

(حُرُوفُ المَلَاكِ، ص19، 20)

وإنَّ العودة إلى تجلِّيات (مُدونةُ السَّحابِ) الشعرية تفي بمصداقية تلك الروح الشعرية الثائرة في حراكها التجديدي  التفاعلي المتأصِّل والعابر لجغرافيا تضاريس النمطية الصورية المعهودة. وإنَّ تلك الحدود القاريَّة لبنية النصِّ الداخلية التي حرص فيها الشاعر الشيخ جليَّاً من خلال ثقته الشخصية الثقافية القويَّة وموهبته الشعرية الواعدة بالكثير تؤكِّد   استحضار تقوِّلات الذات الشاعريَّة المتسامية وتعدُّداتها الأنويَّة الخفية الغائبة عن الوجود المكاني المحيطي وفق  متواليةٍ جدليةٍ من التدوين النصِّي للجمل الفعلية الخبرية بصيغتها الذاتية الحالية، والتي بدورها التركيبي تسند من فاعلية الذات الشاعرية للمتكلِّم بضمير (الأنا) المستتر الحضوري، وتهبه سلطة التحكُّم والهيمنة الشعورية الذاتية العليا. كونه يُخبر بكل ثقةٍ في مقصدياته التدفقية المنسكبة انثيالاً أنَّه الصائح المحكي (أنا) والطرف المُخْبِرُ عنه صدىً:

مُنْذُ أَلفٍ مِنَ الطَّعَنَاتِ

أُزَيِّنُ الفِضَةَ بِالجُغْرَافيَا القَدِيمَةِ،

أَزِنُ الخُبْزَ أَرْغِفَةً بِمَحَابِرِ الكَتَبَةِ،

أَزِنُ الجَوَاهرَ الثَمِينَةَ بِطَوَابِيرِ الاِنتِظَارِ،

أُورِقُ اللَّيلَ بِفَانُوسٍ نَحِيلٍ،

 

أَطْمُرُ النِّجْمَ بِأَكْدَاسٍ أَرَقٍ،

أُقَرِّبُ الجَمْرَ لِدَائِرَةِ الخُطَى،

أُوقِدُ الشَّمْسَ نَهَارَاتٍ ذَبِيْحَةً،

أُبَدِّلُ العُشَّ بِأَغْصَانٍ تُكْسَرُ،

أَصِلُ الحّرَّ بِذَيلِ  الأَزْمِنَةِ،

وَالبَرْدَ أُودِعُهُ عِظَامَاً آفِلَةْ

(مُدَونَةُ السَّحابِ، ص 62، 63)

أسلوبياً فالجُمل الفعلية الخبرية التسع بعد جملة المُستهل التصديري الخبري لمفتتح القصيدة، تُشير في تراتبها الحدثي الزماني أنَّ الشاعر الشيخ عمدَ قصدياً في تركيبه الجملي الداخلي للشعرية النثرية على تقنية التتابع الفعلي في هذا المنوال الجمالي المتصاعد في تساوقه التفاضلي لمسميات الأشياء ومقاربتها مع بعضها في ثنائيات جُمليَّة ٍ تجمع بين المحسوس البصري المرئي واللامرئي المخيالي أو غير البصري الذي  يضفي عليها شيئاً من بلاغة التضاد.

وهذا التتابع الزمني الحركي للفعلية يكشف بجلاء أنَّ الشاعر زيَّنَ الجغرافيا الكونية بجمال الفضة، ووازن قيمياً بين محابر الكتبة الغنية بالمعرفة الروحية بعطاء أرغفة الخبز الجسدي، وساوى في مقاربته الحسيَّة بين طوابير الانتظار البشرية، والجواهر الثمينة لهذه الأعراض الإنسانية المنتظرة، وأضاء صورياً الفانوس النحيل بضوء اللَّيل المورق جمالاً، ومن باب تغليب توهج صفة الفانوس الصغير من مصدره اللَّيل الكبير تضوءاً، وأخفى النجم طمراً بأكداس أرقَّ من توهجه، وقرَّب دائرة الخطى من لظى الجمر، وأشعل النهارات المذبوحة بإيقاد ضوء الشمس، وأبدل العشَّ الواهن بالأغصان المتكسرة بيتاً للأمان، وأوصل الحَرَّ نقيض البرد بذيل الأزمنة المنتهية، وأودع في ثنائيته البرد متضاد الحرِّ بالعظام الآفلة عن الروح. فبهذه المقاربات اللَّفظية التواصلية تُحيي قصيدة النثر وتجدِّد روحها الشعرية.

إنَّ تأطير صور الشعر بالغموض المُغلق المُستحكم، وتقييد معطيات حدوده وفضاءاته الداخلية والخارجية بسياجات سطحية من الغموض القسري أو العدمي البوهيمي المُعَقَّد، يُعدُّ أمراً حرجاً غير مقبولٍ على مستوى الإبداع الشعري ذاته، وعلى مستوى الجِدَّة في قصيدة النثر الإبداعية على وجه الخصوص تحديداً. وإنَّ لجوء الكثير من شعراء الشباب في قصيدة النصِّ النثري ممن لا يُدركون بفهمٍ وإتقانٍ كُنه آلية واشتراطات الشكل الإيقاعي الخارجي للقصيدة العمودية والتفعيلة إلى لغةٍ غير مفهومة أو مستساغة من ظلال التعقيد المعنوي والغموض العدمي غير الفنِّي أو المُبرَّر مما يُشكِّل صدمةً كبرى، وَهِزَّةً ذائقيةً نفسيةً عنيفةً عند المتلقَّي العادي أوَّلاً، والقارئ الواعي النخبوي ثانياً للشعرية الحداثية الفنيَّة. لذلك لا نرى مسوغاً فنيَّاً للغموض سوى التمويه الذي يحمل صاحبه بأنه شاعر قصيدة نثر.

فالغموض قصدياً من أجل الغموض لا يُحسبُ للشاعر الواعد فنَّاً شعريَّاً راسخاً رائقاً في المشهدية الشعرية الجديدة، بل يعدُّ هروباً قصدياً مُقنَّناً، وعجزاً قصوريَّاً واضحاً عن خسارات الوزن والقافية؛ كي لا يُقال عنه ليس شاعراً انمازت لغته الشعرية وأسلوبيته التعبيرية المُعجمية بهذا الشكل من الغموضية الطلَّسميَّة التي أُبتليْت بها شعرية النثر الحديثة. والتي يعجز عن فكِّ رموزها وشفراتها حتَّى شعراؤها المُضلَّلون أنفسهم برداء الضبابية.وبالمطاف فإنَّ السير بهذا التبطين النمطي المُمَنَهج  يُسيء كثيراً إلى حداثة القصيدة النثرية ولسمعتها الفنيَّة الاعتبارية في الشعريَّة العربية.

أنا فنيَّاً لست ضد الغموض الإبداعي المكين؛ ولكنَّ شريطةَ أنْ يكون هدف الغموض الرئيس تقنيةً فنيَّةً وجماليةً ومعرفيةً إشاريةً سيميولوجية صورية مبتكرةً لها بصمتها البلاغية الإبداعية وجمالها الشعري الإبداعي الأخاذ الذي يحفظ لها وزن هيبتها البهيَّة ووجها الفنَّي، ويزين رؤيتها الفكرية من هنَّات التشويه الجمالي، ودواعي الانحلال المبطن وصور التصدُّع الفكري. ومعلوم فنيَّاً أنَّ الإيقاعَ الشعري جملةُ شعريةٌ وزنيةً تربط جملة أخرى بوحداتها التفعيلية، وأنَّ الشعر نظم جُملي متراتب الرؤى يربط بعضه جُمَلِيَاً بمزايا شعوريةٍ فنيَّةٍ وجماليةٍ غايةٍ في الأسلوب.

إنَّ الشاعر في الأفق النقدي الإبداعي إنسان مصيري كوني استثنائي غيرُ عادٍ يحمل في طياته الفكرية هموماً نفسية ومواصفاتٍ إبداعيةً ثرَّةً كبيرةً لا تجدها عند الإنسان السوي المجتمعي العادي المألوف وجهاً وسمتاً سياقياً. لذا وجب أنْ تكون لغة الشاعر الحقيقي لغةً مملوءةً ضاجَّةً بالروح المُفعمة بالحيوية وبالحياة المعرفية، والمُترَعة برؤىً  جماليةٍ فنيَّةٍ وبأفانينَ الحراك الصوري الذي يرتقي بميزان الشعرية الحديثة نحو التسامي؛ وإنْ كان الغموض الفنِّي هدفه  الرئيس الأوحد. وهذا لا يمنع في الرؤية النقديَّة من فكِّ مقصدياته ومرموزاته وشفراته اللُّغوية، ومستوياته الصورية الجمالية؛ لأنَّ الشعر فنٌّ مخيالي صوريٌ إشاريٌ جميلٌ قبل أنْ يكون فنَّاً واقعياً حسيَّاً مقبولاً لدى مُتذوقي الأدبِ الرفيعِ.

ونصير الشيخ طاقةٌ شبابيةٌ مُكتنزةٌ جماليةً، وَفَلَتةٌ إبداعيةٌ من فلتات زمن الشعرية الحديثة التي أُغْرِقَ بها النصُّ الشعري الأدبي بِمساحاتٍ انفتاحيةٍ واسعةٍ ومَأهولةٍ بالصور الفنية والجمالية التي يُكمِّل بعضها بعضاً بالتكثيف اللُغوي الصوري المدهش، و بصدمةِ المُفارقة الشعورية المذهلة في كسر توقُّع جدار الصمت الشعري، ويتمُّ ذلك التمايز الفنِّي   بالتحليل الابستمولوجي المعرفي لشعرية النصَّ المفتوح، والتأويل الهرمنيوطيقي لمعمياته اللُّغوية والدلالية التي تتطلب جهداً استثنائياً ملحوظاً لِفهم جميع مستوياته اللُّغوية، (التركيبية والصرفية والإيقاعية الصوتية والدلالية المعجمية).

وحين نُدقِّقُ النظر بإمعانٍ عميقٍ في التجربة الشعرية لنصير الشَّيخ نجد ثراءً فنيِّاً في تجربته بلغتها الصورية الجميلة  والتي ميَّزت شخصيته الشعرية الناضجة في معجمه الشعري الإبداعي الذي تأثَّر كثيراً بجماليات لغة التشكيل الفنَّي في رسم هندسة معمارية لوحاته التجريبية الإبداعية والتجريدية الفنيَّة على مستوى شعرية الفن الجمالي الروحي. فلا تجد لديه شعراً من غيرِ رؤيةٍ فنيَّةٍ راسخةٍ في فنِّه الشعري، ولا فنَّاً بصريَّاً أو مخيالياً من غير شعرٍ يُظمِي عَطشَ الحياة رواءً. ولعلَّ هذا الرواء الروحي، هو الرئة الشعرية الفارقة التي يتنفس بها الشيخ حُلُمه الفنِّي الواعد بصور الأمل والجمال الكوني مثل ما حفلت به سطور هذه الدفقة الرمزية الماتعة التي تؤكد أنَّه من روَّاد الشعرية الجمالية:

مَغَاِورٌ أودَعَتْهَا البَرقُ تَتَنَضَّدُ فِيهَا:

(عِظَامُ الغُوايةِ/  سِفرُ المُلُوِك / خَطَايَا النِّسَاءِ/  صَدَأُ السُّيُوفِ / زُمُردَةُ الحُبِّ/  طِعَانُ الظَهِيرَةِ/

قَوْسُ الهِدَايةِ/  نَجمُ السَّوَاحلِ/  أَيْقُونَةُ الرَّبِ/ غَمَدُ السَّلَامِ/  تَاجُ الوَصَايَا/ عَرْشُ السُّكُوتِ/

وَقَصَاصَاتَ أَحْلَام ٍ يَابِسَةْ ..)،

(رِمَالٌ، ص 37، 38)

***

د. جبَّار ماجد البهادلي

..........................

* شَجَرٌ من مِحنة الوقتِ: مجموعة شعرية لنصير الشَّيخ، دار الينابيع سورية، دمشق، ط1، 2010م. 

في المثقف اليوم