قراءات نقدية

محمود السيد أمير النثر وشاعر النشيد

رحل الشاعر محمود السيد قبل بداية الثورة العظيمة لشعبه السوري بسنة واحدة.. وكان على سهر وحمى وانتظار وقد أقام مملكة القصيدة والنشيد، وأقام مأدبة المجد العظيم لولادة شعبه عنقاء من الرماد والموت والأسى...

وهو شاعر المونادا دمشق الملحمة  التي أخذ بها قصيدة النثر إلى مملكة العلا بعدما عمّدها بالوجع والسهر والصوم، ودم الأساطير والأمجاد.. فجعل منها أدويسا للشعر والعشق والولادة من الموت...

محمود السيد شاعر قصيدة النثر بإطلاق وأحد الرواد العظيم الذي يوقع الشعر من الألم ويسرح به من مملكة الأرض إلى مملكة الرؤيا فينشده في رحلة تقتضي العمر كله والأعمار ولا يحدد بحدود البلاد بل بعنفوانها وابداعها واشتعال الفروسية والحضارة فيها ..

فإن عُدّ فرسان في قصيدة النثر فيعد السيد مع توفيق صايغ وأنسي الحاج وأدونيس وسركون بولس وسليم بركات بل هو في الريادة بما أسسه وابتكره وأنجزه، عنده لا تنفصل اللغة عن مجازها واشتعالات خيالها وصورها بل تشكل بكلها مونادا كلية لا تتجزأ، ونشيد يعصى عن التفكك والنسيان وحدة مشدودة على أوتار كمان عاشق وقلب موحد خلاق..

من آخر نشيده سهر الورد أراه يطلق صرخة حنجرته الأخيرة:

آه كم يوجعني الإنتظار يا حبيبي

لوطنه بلده سوريته التي نذر عمره لها وافناه سهراً ونشيداً وحمى لمجده البعيد.. وهو المغني المبشر والراعي.. هو الرائد الذي لا يكل غناءً لمعشوقه:

كيف أكون كل هذا الاشتهاء، ولا يكون بي الصباح

كيف أكون كل هذا الوله، ولا يقوم بقيومتي البحر

كيف أكون كل هذا الجسد، ولا يأكل خبزي الفقراء

كيف أكون كل هذه الأمومة، ولا يخرج أطفالي بالنهار على الليل

كيف أكون وتكون حبيبتي

ويغلبنا النوم والظلام

ألا فليقم بك التأهّب:

ما كان وردة كأنها الدم

ما كان سنبلة كأنها الجرح

ما كان حجراً مسكوناً بالألم

ألا فليقم بك الرميم

مامات واغتسل بالموت من شقاء كان فيه

رحل شاعر مونادا دمشق كشمعة ذابت بعذاباتها عن آخر ثمالة فيها وهو ينشد لمجد الحبيب بلوعة العاشق الموله الذي لا يخالطه شك ولا فتور وهو يعلن انتظاره وبلواه الذي لا ينفصل عنه..

آه كم يوجعني الانتظار يا حبيبي

وفي استعاراته عن السهروردي المتصوف العاشق المقتول.. لنشيده سهر الورد يستعير من الدكتور عبد الرحمن بدوي: أن السهر وردي قال: ان العالم قهر، القهر للإنسان تحت سلطان قوة مستورة جبارة

وأنه عالم سلب يضع الحدود في وجه كل اتساع أمام الممكنات، فلا تلبث أن ترتد إلى سردابها.. وفي هذا السرداب تتفجر عيون الخطيئة، لكن الوجود خطيئة، وتضطرم الشهوات، لكن الشهوة سرّ الحياة، ويسود اللامعقول، ولكن اللامعقول هو المنطق الأكبر.. وهذا اللامعقول الأكبر من معايير وقيم إن صلحت للأنذال فلا تصلح للممتازين الحريصين على التفرد وتحقيق المعنى الصحيح المليء للحرية..

إذا محمود السيد وهو يستوحي نشيده الثاني «سهر الورد» نص بتجليات السهروردي في الورد والدم دمشق-بيروت 1998- بعد مونادا دمشق 1978، فهو يعيد السهروردي لا ليكرسه ولا ليمحوه بل ليجعله ندا ويكتب هو من خلال اشراقية النص الصوفي وصاحبه نشيده هو متجاوزاً عالم الأنذال ولا معقولهم إلى يوتوبياه ومطلقه، متجاوزاً  كل محدود وناذراً جسده وروحه لممكنه الوحيد.. العشق، وقد عاش السيد حقيقة متوحداً متصوفاً مكتفياً بشعره وحده وبوصل اصدقائه ومحبيه لا يجلس في مقهى، ولا يقيم حواراً في صحيفة، ولا يقيم أمسية شعرية، ولا يسعى إلى أمكنة وشلل يقيم معها، فأقام في مملكة السنبلة مع الكبار ابن عربي والمعري والسهروردي ودانتي وجوتيه وغيرهم، وصاغ لنا أناشيده الباقية محققاً المعنى الصحيح المليء للحرية.. وهو يندغم بالكلي ونوره، في عالم الصور والخيال كما في الآية الكريمة:

(الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دريّ، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء).(1).

فكل شيء يصب في النور الإلهي، نور الأنوار الذي تنبع منه شلالات الضوء، وتشع من الآفاق اللانهائية، دون أن تكف في أي لحظة عن العودة إلى مصدرها الأصلي بقوة جذبه الإشراقية، فالسهروردي لا يعتقد إلا بوجود حكمة واحدة هي التي تمدّ كل التقاليد الصوفية، التي لم تنقطع على مر التاريخ الإنساني، بغذائها الدائم من العباقرة الذين يمدوننا بذلك الضوء...

رؤية وتحقق ونشيد

لم يأت الشاعر السيد إلى قصيدة النثر من رغبة في الشعر والقول، وحلم بأنا ليس لها مكانها في عالم الفن والأدب، إنما من الفن وروح الفن والوله بمعنى الكون كما عند الأنبياء والأصفياء والقديسين، ومنهم السهروردي والنفري وابن عربي وغيرهم:

يقول النفري: أوقفني في العز وقال لي أنت معنى الكون.

فالسيد هو فنان الحرف والصورة، وهو فارس الموقف والحال، وقد متح من معاني العنفوان، فعشق سوريا واتخذ من دمشق مونادا للكون تشكل اتحاد العشق والعاشق والمعشوق فتضيء الوجود والمعنى، فالشعر عنده عشق أولاً وقبل كل شيء، ومعنى فوق المعنى، وحلم يتجاوز حدود التحقق باتجاه الضوء الذي هو الأصل والمنبع والمآل، وذلك ما بشر به في كل كتبه وأناشيد عشقه الطويلة، مركبة الرغوة 1967، مزامير ديك الجن 1978، مونادا دمشق 1978، وصمت بعدها منتظراً ومبشراً لسونيتات تمشقها الذاكرة ويمور بها الوجدان حتى طلع بعد عشرين سنة بمجموعتيه سهر الورد و تتويج العشب، سهراً لعيون المونادا وتتويجاً لهامة فرس الشعر والقصيدة، وهو الشاعر المتصوف الصبور المجاهد يعرف كيف يعشق ويتجلى ويقطر النبيذ، ويتفنن حروف الذهب شعراً لا أعذب ومعاني في شبوب الطراوة خضراء يانعة:

كيف أقول بجسدي

فرحي بك عظيم  وإنك الواحد الذي لا يحصى

العاشق، المعشوق، الذي لا اسم له

والذي يأتي بكل الأسماء

ليس لزمانك زمان ليس لمكانك مكان..

في العشاق أراك  أعرفك وتعرفني

آكل من راحتيك التوت البري

وأنسى أني آكل وأقبّلك

***

حسان عزت 

في المثقف اليوم