قراءات نقدية

قراءة في ديوان الشاعرة نور الهدى كناوي: الخامسة وخمس دقائق

أزفت الساعة الخامسة وخمس دقائق، فشهدت شاعرتنا الشابة (نور الهدى كناوي) مجمع ديوانها الوليد عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع في بابل هذا العام، من القطع المتوسط وبواقع (1650) صفحة ذات طباعة جيدة وغلاف جميل، فدعانا الصديق حسين نهابة رئيس مؤسسة أبجد لحضور حفل توقيع الديوان في قاعة المؤسسة، حتى تعرفنا على الشاعرة وعائلتها، وطالعتنا بقصائدها الجميلة وإلقائها الأجمل، فسمعت أبياتاً جميلة آنستني بعض منها بلون قصائدها. وانصرفت إلى الاستماع لباقي قصائدها مع تعليقات ونقد بناء من صديقي د. نصير الحسيني.

ترى الشاعرة نور الهدى في العنوان اسماً خاصاً يميز ديوانها من غيره، وقد لا يثير العنوان إلا عدداً من القراء، والعنوان يقتصر على جملة لغوية توضع على غلاف الديوان، أو تعتلي نصاً من النصوص، وغالباً ما كانت الشاعرة تسعى إلى عنوان جمالي اهتماماً بدلالته، فالتقطت عنواناً باعتماد ذائقتها وحدسها وحساسيتها، وأكثر ما كان يحصل ذلك عند الشعراء الرومانسيين، إلا أن الشاعرة نور الهدى اختارت عنوان ديوانها (الخامسة وخمس دقائق)، فهو ساعة الوقت لنهوضها، ولتعلن للآخرين إن الساعة أزفت لنشر قصائدها. فكان الوعي بالعنوان قد ظهر ضمن معطياتها أخيراً، فكانت لإحدى شفرات النص الذي ينطوي عليه موجهات فعل القراءة والتأويل.

وعلى غلاف الديوان (الخامسة وخمس دقائق) يحمل هماً أو قلقاً أو تأملاً، وكان العنوان ملائم لصورة الغلاف، فالصورة هي دلالة إضافية إلى العنوان، والصورة هنا تتضامن مع العنوان اللغوي، وتنضم إليه في تأسيس كثافة علاماتية لدلالة العنوان. فاختيار العنوان رسالة تواصلية ومعرفية وجمالية، يستقبلها القارئ ويعمل على تفكيكها، واستنطاقها بلغته، فالعنوان قد يخلق القصيدة، ففي الدراسات السيميولوجية يكون العنوان عنصراً مهماً للنص لا زائداً، فهو مفتاح إجرائي ضروري في انتاج القصيدة، وهذا ما وجدته في جميع قصائد (نور الهدى)، وبوعي تام لإشاراتها ولدلالاتها لتلك الإشارات.

جائتنا قصائد الشاعرة فاطربتنا بمطلعها (قفص الحمائم):

أريد التحدّث

عن الحمائم التي مات عشها

بين أضلعي..

عن الظل الذي بات يأخذ

مكاني في الشارع..

الترتيلة التي فرطت من العِقد

عن الصمت الذي يكتب قصائده

مكاني..

أريد أن أتحدّث

عن الأطياف التي تحدّق بي

ونتبادل اللا شيء كلغة

....

أريد التحدّث

عن شيء ليس له حروف تكتب.

إن قصائد نور الهدى أجدها محملة بالهموم والموت، بل شعرٌ رصين ما مسّ قط إلا الفصاحة، وجيد الشعر لولا الاكثار من (متى) في قصيدتها (قافلتنا) التي قد تستسيغها أذني في النظم، ويكاد يغص بها حسي:

متى تسير قافلة أصابعي

على جسدك العاشق

متى نروي ظمأ الحقيقة

للروح الساكنة في عمق الغابة

على سور الحديقة الحزينة

بربيع الأيام الغائرة الحزينة

............

متى تسير رحلة الكشافة

متى ينحدر الوادي بطريقة.

أما في قصيدة (وجع المدينة)، فيها حياة فنية لا حد لها، والشاعرة تصدق دائماً حين تحدثنا عن قلبها، فهذا الشعور الذي تحسه في شعرها اليوم يأتينا بنبأ أكيد عن احتضار هذا القلب.

وجع المدينة المختنقة

بعوادم السيارات يسكنني..

كلّ الشقوق في الأسفلت

كلّ الندوب في الجدران

تعب صخور الضفاف

من صفع الموج لها

جزع المآذن من أصوات النفاق

فتات زجاج السكارى على الأرصفة

تعب الجراء من انتظار أمهاتها قادمة

بفتات الأغنياء.

كما جائتنا قصائد الشاعرة فاطربتنا بمطلع ديوانها قصيدة بعنوان (شيبات وطفل):

طفل يلحقني.. يناديني ماما

وهو لا ينتمي لي

يحدّق عميقاً لما أخفيه

اهرب منه فيطاردني

وفي لعبة الكرّ والفرّ

لا أدري من منا الطفل

........

ثلاث شيبات وطفل

وربيع غائب في خريف الوطن

وحبّ يفرّ في سفر

وأنا وأنتم في انتظار الموت.

وفي قصيدة (بقعة) التي بنيت فيها الشاعرة صور وألوان زرقاء، ومعانٍ راقصة كالفراشات حول ثغور الليالي، فسار على رسله ذلك المتسرب من القمر على شراشفها والبقعة الزرقاء:

بقعةٌ زرقاء

تتجولُ في جسدي

من الشمال إلى اليمين

في الليالي الباردة تعلق

في صدري فتخنقني

لكني أنجو بفضل الضوء

المتسّرب من القمر على

شراشفي المرقوعة.

بقعةٌ زرقاء.

وفي قصيدة (هو الحب) تطالعنا القصيدة ببحر الشباب الذي يعج ويصخب، أما لغتها الشعرية التي تعتمدها، وتتغلب على صوره وألفاظه على سرد الأخبار. فالأبيات مطمئنة هادئة، وأكاد أراها باسمة، رغم ما صوّرت لنا من أهوال، لكن قصائدها لدى المتلقي يحب أن يقرأها، ويحب أن يحتذى بها الشباب، فلا هو بالغامض الممقوت، ولا بالواضح المكشوف، فأنا اهنئها بقصائدها هذه والتي زجتها في معترك الشعر.

(هو الحبّ)

في المساء تترنّح الكلمات سكرا

إذ هي تذوق حلاوة الوجدِ

وقد جدّ الوجد حتى أجاد

لفتنا بخيوطه الناعمات.

ناعم مترف هو الحبّ إذا خط

بقدمه اليمنى أبوابنا مباغتاً

لنتغنى بقداسته المبجلة.

مفرط لعوب يعبث بنا

لذيذ إذا تعانقت النظرات

قصير وقته إذا التقينا

....

وما أجمل ليل الحبيب

إذ تزين بالعناق والقبلات

هاجرين رثة الحياة وأهلها القساة.

وقصارى الكلام: اعجبني من ديوان الشاعرة نور الهدى قصيدتها (مرجان)، فأجد فيها مسحة الشعر، وفيها رائحة الخيال الذي هو ملاك الشعر، وإذا أردت تلخيص رأيي في هذه القصيدة قلت: أرادت نور الهدى أن تحكي شعراً فحكت، وابدعت ومشى قلمها رويداً رويدا ليظهر جمال الشعر، وجمال النفس يشعُ من الألفاظ كالخمرة في كأسٍ بلورية، فتتحد الألفاظ بالمعاني اتحاداً كلياً فيصير كخمرة وإنائها. ومن هذا الجمال الذي لا تحيط بوصفه الكم والكيف يأتيه السناء الفائق كالذي يلوح في المحيا الساحر بارقاً، من هذا اقول سمعت شعراً باكياً مؤلماً لشاعرة تبكي وتبكينا معها لأنها صادقة الشعور والمشاعر في صورها الشعرية.

في مستشفى مرجان

اطياف الجثث تقف مذهولة

الطبيب الذي يجلس خلف الطاولة

يلعب ويشير بالإيماء

الآخر الذي يشعل ناره

للممرضة تكدس الأخضر والأحمر

لدخان سيجارتها

أم أحمد ورقصات الطبخ

المتواري خلف الباب المقفل

الأرواح تستغيث والأحياء تبكي

يتيم آخر يرفع رسائله مع ساعي البريد

كتاب كهذا لا يدين أحد إلا الموت.

من خلال مطالعة قصيدة (مرجان)، أجد موضوعة الموت يهيمن على هذه القصيدة، ويرجع ذلك إلى ساعة رحيل والدتها المبكر، فضلاً عن مخاطبة والدتها في قصيدة (الثقب الأسود)، فالموت لدى نور هو الذئب في شراسته وقسوته وغدره، فترى في الموت نهاية للحياة كلها، فتتأمل الموت بعقلانية وحكمة، وترى الموت جزءاً من النظام الكوني كالميلاد، والحديث عن الموت يبعث على الكآبة والمخاوف، والقلق والاضطراب من زوال الوجود الذي يصيب الإنسان.

أما قصيدتها (اللقاء)، فأرى للمكان والزمان مذاق، ومذاق في الرؤيا، حينما يتجول المكان والزمان من بصرك إلى بصيرتك، من خلال عقارب الساعة، ويفقد أبعاده المادية، وتتجلى روحه، ويتأسس نصاً، وتبدأ قراءته، فموضوعة المكان والزمان مهيمنة في عدد من قصائدها، وأصبح المكان تضع عليه أحزانها وأحزان الآخرين، وعلى الزمان سعادتها وسعادة الآخرين.

(اللقاء)

نهرب من عقارب الساعة

نختبئ في دائرة الأميال

أهيمُ في ملامحك طويلاً

أراقبُ مساحة الأوطان

في فضاء وجودك المدوي

أسرح في شفتيك

واقترب.. اقترب

في محاولة لسرقة الزمان

فأتذكر العيون حولنا.

في المثقف اليوم