قراءات نقدية

قراءة نقدية في أعمال الكاتب السعودي (يحيى العلكمي)

بين يديَّ نصوصٌ مسرحية ثلاث تقوم على الشخصية الواحدة (مونودراما)، وهي على التوالي (كينونة)، (البيدق)، (قارعة الصمت) ذلك الذي مسَّه الضُّر، هذه النصوص تتخذُ من الذات الفردية مركزاً لقراءة الوجود، وقراءة العالم، أو قراءة الواقع، وهي بلا شكٍّ تنتمي للمسرح الوجودي، وتطمح أن تلفت النظرَ إلى الفراغ والجهل الذي يساور الإنسان .

في مسرحيته (كينونة)، يوازن يحيى العلكمي بين عبثية الوجود والواقع، وينزاح عن فكرة العبث القائمة على التساؤلِ عن معنى الوجود إلى السؤالِ الأدق : ما معنى الواقع؟ أو كيف نفسر الواقع؟

كما أنه في الوقت نفسه يُقدِّم لنا سؤالُ الذات عبر ثنائية : الكائن والكينونة، هذان المفهومان يخرجهما العلكمي من حيزهما الفلسفي، فالكائنُ هو الذاتُ المُستغنية بذاتها، الأقرب إلى مفهوم الله، أو إلى ما هو خالد، والكينونةُ هي أقرب إلى الذات الفانية .

إنَّه هنا يطرح إشكالية (الواجد والموجود)، لذلك جاءت الشخصية الرئيسية متعاليةً، وكان دخولها إلى المسرح غير مبرَّر فنياً، إلا من خلال توظيف السينوغرافيا، كما يظهر من قوله :

يرتفع صوتُ الموسيقى معلناً عن ظهور كائن شبيه بالإنسان، سقط فجأة في ركن من القاعة، الإضاءة العشوائية تتركز على زاوية من القاعة، ينهض الكائن الخفي بتثاقل، يتجه صوب منتصف الدائرة، تواكبه المؤثرات الصوتية المُعلنة عن حدث يتنامى، ودخول مهيب .

لم يكن العلكمي معنيَّاً بتفسيرِ وجود هذه الشخصية، أو لم يكن معنيَّاً بتفسير هذا السقوط، وكأنَّه من عالم الغيب، أو كأنه قوى خفيَّة مقدسة، مؤيدة بالمعجزات كما يظهرُ من قولها:

نعم، أنا أقرأ أحلامكم، كوابيسكم، بعضها يجعلني أضحك، وبعضها الآخر يجعلني أشعر بالسخرية .

إنَّ تقديمَ الشخصية على هذا النحو توحي بفكرة المُخلِّص، وبفكرة الخلاص .

إنَّ يحيى العلكمي في هذه المسرحية ينزاحُ من مسرح العبث إلى مسرح الواقع، وربما ينزاح إلى فكرة الالتزام، ويقدِّم مسرحاً ذا قيمة، قادراً على قراءة الواقع وتقديم الحلول، لذلك فإنَّ مقولةَ هذه المسرحية : أنَّ الكينونةَ تتشكل بفعل القراءة، وفعل المعرفة، ولذلك نلحظه يقول على لسان الشخصية :

هذه الكينونة كانت بلا عمرٍ محدد، لأنها دوماً تتجدد، لا معنى للزمان ولا المكان في حياتها، تسافر من سطر إلى سطر، ومن ورقةٍ صفراء إلى أخرى بيضاء، تتقافزُ على حوافِّ الحروف السوداء منتشية حيناً، ومُتلبسة بالرهبة والرعب حيناً آخر .

إنَّ يحيى العلكمي يُقدِّم المعرفة والكتابة بوصفها أدواتٍ ومفاهيم إجرائية لفكرة الخلاص، ولذلك نجده في نهاية هذا النص يُحذِّر من ديدان الكتب، وكأنَّه يُثير إشكالية السلطة والمثقف، وإشكالية تجهيل الشعوب .

وفي مسرحيته (البيدق)، يحاول العلكمي أن يُعيد إنتاج مفاهيم : الإرادة، المشيئة، ثم كينونة المُتسلط، وكأنَّه هنا يلوذُ وراء ميشيل فوكو، فتأتي مسرحية البيدق لتعالجَ فكرة الحرية والخلاص، وفلسفة الهدم، وثنائية المعرفة والقوة، ففي مسرحيته يُلقي العلكمي الضوء على فكرة الهيمنة، وعلى قدرة الإنسان على فهم آليات السيطرة وتفكيكها، ولذلك أجد يحيى العلكمي هنا يُجسد مفهوم القوة من خلال هذا البيدق، وخلق بِنى اجتماعية خارج مفهوم الهيمنة، وهنا لا أُريد أن أدخل بجدل حول مسرحية البيدق التي تدعو إلى الحرية والخلاص وتجاوز الألم، وإدراك أنَّ الحياة لعبة .

كلُّ ما أريد أن أقوله هنا إنَّ هذه المسرحية لا يمكن أن تُقرأ بعيداً عن أفكار ميشيل فوكو، وهي أفكار وضعها العلكمي في مقدمة المسرحية.

وأمَّا مسرحيته (قارعة الصمت)، فهي تستند إلى جملة من النصوص المُحتجبَة، وفيها يبدو الحس العبثي عالٍ، وكذلك الترميز، وشخصياتها تبدو من عالم الأموات، غير أنَّهم يظهرون أحياءً ؛ وتبدو فيها المقبرة مُعادلاً موضوعياً لهذا الواقع المأزوم بالحروب والدمار .

إنَّ الوظائف البنيوية للشخصيات توحي بعجز الإنسان المعاصر في تقرير مصيره، لذلك فإنها تطرح ثنائية الحياة والموت من منظور عبثي، وهو أمرٌ مُسوَّغٌ نقدياً، فبالرغم من هذا الوجه المضيء للفعل الحضاري غير أنُّها في الوقت نفسه تكشف عن وحشية هذا العالم، كما تكشف عن تأليه البشر، وهنت تبدو وكأنَّ الشعوب هي التي تخلق أصنامها .

كما يطرح العلكمي في الوقت نفسه إشكالية الصمت والثورة، ففي عالمنا الثالث هذا يتعالى الوثن كثيراً في ظلِّ أغلبية صامتة، وهي تصمت بالرغم من أنَّ الضُّر قد تغلغل فيها، ولا أعرف لماذا تداعى إلى خاطري هذه المسرحية قولُ البحتري :

أَيُّهـَذا الأَمـيرُ قَد مَسَّنا الضُرُّ

وَمُــدَّت يَــدُ الخُــطــوبِ إِلَيــنــا

وَلَدَيـــنـــا بِــضــاعَــةٌ مُــزجــاةٌ

قَــلَّ خُــطَّـابُهـا فَـبـارَت لَدَيـنـا

أَيُّ هَذا الأَميرُ أوفِ لَنا الكَيلَ

بِـمـا شِـئتَ أَو تَـصـدَّق عَـلَينا

وهي في الوقت نفسه تُحيلني إلى قول إخوة يوسف :"فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَٰعَةٍۢ مُّزْجَاةٍۢ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِى ٱلْمُتَصَدِّقِينَ" .

على العموم هذه المسرحية تكشف عن عمق ثقافة الكاتب، فخلف هذا النص نصوص دينية وأخرى أسطورية، فقد نجح في توظيف منسأة سيدنا سليمان، وتوظيف الزيتونة (لا شرقية ولا غربية)، وتوظيف الأغربة، فضلاً عن توظيفه لبوابة الريح، ولا أعرف لماذا تداعت إليَّ قصيدة الثبيتي (بوابة الريح) .

باختصار فإنَّ هذه المسرحيات الثلاثة على اختلافها تطرح إشكاليات: الحرية، المسؤولية، الالتزام، الطبقة المُهمشة، وإشكالية الحياة والموت، والخلاص، وهي بالقطع لا تطرح حلولاً جاهزةً، وإنما تُحرِّك المياه الراكدة، تخاطب الموتى الأحياء، أو تُخاطب طبقة الصامتين، وهنا لا يمكننا أن ننتظر المخلص، إنما فعل الخلاص يأتي من قوى ذاتية .

***

د. عاطف الدرابسة - الأردن

في المثقف اليوم