قراءات نقدية

النص القصصي بين استجلاء المحتمل من مواطن المضمر التأويلي

دراسة في عوالم تراث أقاصيص إدغار ألن بو

قصة (النظارتان) أنموذجا


توطئة: قد يقتضي أي معطى فني تناوله وفق صياغات خاصة من الاحاطة والاستكمال القصدي في شرائط الأثر المقروء، خصوصا أن كان ذلك الأثر متمثلا في شكل من المعنى المخبوء بملامحه الإجرائية والتفصيلية ذا الغاية من الدقة الاشتغالية والأحكام في صنيع وصناعة النوعية الإمكانية في مسافة الزمن والمادة والصوغ. في الحقيقة أن واقع تجربة الكاتب الأمريكي الكبير إدغار ألن بو من الجدارة والتحليل والتقويم حتى يومنا هذا، فهي تجربة لم يقل عنها النقاد سوى تشدقات واصمة إياها بالغرائبية والفنتاستك أوالسوداوية من جهة أخرى. ولكننا لا نراها من ضمن هذه العناصر إطلاقا. وما نود قوله إن تجربة هذا العملاق القصصي، تمتاز بذلك الشكل الانتقائي غير المسبوق في اختيار موضوعته وحبكتها وادواتها ضمن شرائط تمثيلات أخذت بعدا في التحليل النفسي، ناهيك عن ما فيها من الإحاطة المموهة للأحداث في السرد القصصي. أن محاولتنا الدؤوبة في البحث في عوالم أقاصيص بو، لا نود من ورائها خلق منهجا متفردا في مادة مصدرية للدرس الأكاديمي بتاتا، بقدر ما نمني الأنفس والأمل في تقديم مجموعة مباحث في كل دراسة لقصة قصيرة للكاتب بطريقة فيها التزامن المفهومي والتقويمي لأثر نصوص هذا الكاتب القيم. وما أثارنا إلى اليوم في أدب بو القصصي، ذلك المجال الصياغي والأدائي في خلق مادة النص في أجواء بنية تشفيرية معقدة إلى حد التجريد. فعندما قرأنا قصة (هوب ـ فروغ) لاحظنا أسلوبية المغايرة في خلق موضوعة حكائية بقصدية أخذت تتلقى في ذاتها مزيدا من العلامات وإشارات السياق الأمثولي في تحول شخصية المهرج الساذج وصديقته إلى غاية من الحنكة والفطنة، عندما جعل أخيرا من الملك وحاشيته من الوزراء محض أضحوكة أمام الجماهير الحاشدة في حالة الأحتفال التنكري. أي بمعنى ما، أراد بو تقديم صورة حكائية ذا أوجه تشعرنا بأن مركب شخصية ذلك البهلوان وصديقته أدهى مما يتصوره الملك وحاشيته، عندما جعل منهم عبارة عن كتلة لحمية واحدة معلقة في سلسلة حديدية تتآكل كل أطرافها من خلال لهب النار المشتعلة فيها، تنكيلا منه وانتقاما من ذلك الملك الذي استخف طويلا بقدرات الأنموذج البشري على هوان أمره وضالته، ناسيا هذا الملك بأن الحكمة موضعها في أتفه وأصغر الأشياء. . أما حال قصة (النظارتان) فهي من القصص التي فاقت كل توقعات محطات انتظار القارىء الناقد، لتستوي في قائمة الحركة المقروءة ذات الأبعاد المحملة في خواصها السردية أشد العلامات المحكية تقدما وتأثيرا في مسار السرد القصصي وعبر تاريخه الموسوم بأهم أساطين هذا الفن الكبير. 

ـ المحكي ودوائر محمولاته الإيحائية الدالة.

إن استنتاجي الشخصي حول دلالات قصة (النظارتان) لا تتعدى الممارسة التحليلية والتأويلية ليس إلا، فإنا شخصيا لدى وظيفة خاصة في صيانة الآثار والنصوص القديمة، خلوصا مني لكونها تحمل تعددية مرعبة في تقانات (المضمر ـ التجريد ـ التحليل الباطني ) وخصوصا ما جاءت به أقاصيص (إدغار ألن بو) إجمالا. يمكن للقارىء اللانخبوي أن لا يجد في طبيعة قصة كشاكلة انموذج قصة (النظارتان) سوى مزحة سمجة قام بإمتهانها الأدب القصصي منذ عقود طويلة من الزمن الكلاسيكي. ولكننا نحن عندما نقرأ هذه القصة القصيرة، فلا نجد فيها سوى المحددات اللامرئية في روابط ودوال القيمة الانعكاسية الذاتية والرمزية لهذا النص. تطلعنا عتبة الاستهلال في النص حول صوت السارد العليم وهو يتحدث عن مداركه التقويمية حول مسألة الحب الأول، وما يشكله هذا النوع من العشق من أعلى درجات الهيام بالمحبوب عميقا في مجال المخزون العاطفي للأنسان. أحببت أن أضيف أمرا قبل الشروع في عملية دراسة النص، حول الحداثة وما بعد الحداثة، ذلك ما جعل النص الأدبي يبدو كواصلات تكنولوجية معلوماتية مواربة في ثقافة تلقينا إلى الخواص الخالصة من دلالات النص الأدبي إجمالا. فهذه النصوص المابعد حداثة، نعاين في كل أواصرها وعلاقاتها وبنياتها، محض تناسلات في مجتمع الاستهلاك الثقافي وحكم اللاقيمة في انتاج النص الأدبي تحديدا، بل أن الرواية صارت فيها بصرف النظر عن مكنوناتها الإجرائية، عبارة عن عمليات تجارية لا تخلو من قيمة العرض والطلب في السوق الأدبي، والأهم من ذلك صارت عمليات السرقة من الرواية الغربية مما لا يحصر ولا يحصى أبدا أبدا؟. أن الواقع الأدائي في تمهيدات قصة (النظارتان) تسحبنا إلى جهة الذات الكفيفة في مستوى بصرها الناظر إلى سطوح الأشياء الخارجية، وقد كان فعل المراقبة الشخوصية في محددات النص، يتطلب من السارد المشارك أن يستعرض شجرة أرحامه المتداخلة في التخصيب الاجتماعي : (تستدعي قصتي أن أذكر تفاصيل كثيرة . . مازلت شابا لم أتجاوز سنتي الثانية والعشرين . . في الوقت الحاضر أدعى باسم شائع جدا هو سمبسون. . قلت، في الوقت الحاضر، ذلك لأنني اكتسبت هذا الاسم في العام الماضي عن طريق المحاكم كي ما أصبح الوريث الشرعي لنسيب ثري يدعى أدلوف سمبسون . . وقد أشترط أدلوف هذا حيث توفي أن أتخذ أسم عائلته اسما شخصيا لي بينما في الواقع كان أسمي الشخصي هو نابليون بونابرت. / ص74 ) .

1ـ من بنية سليل المسمى إلى دلالة الميكانزم الأسري:

يمكننا النظر بعين الاعتبار إلى محتوى وقيمة الأسم سمبسون في مستهل حكاية النص، لأن في مكنون صفة هذا الأسم العائلي ماثولية خاصة في معطى علاقات النواة النصية في حكاية الشخصية ، كما ولابد لنا أيضا من تعقب وجود هذه الأواصر ما بين الشخصية وحجم مستوى التداخل الأسري في تغريدات فضاء المسرود في الحكي. الشخصية تقبل في واقع الأمر هذا الأسم على مضض، لأنه كما تشير أعترافاته بأنه كان يكيل ويكن لهذا الأسم الأخير له ـ نابليون ـ كل القيمة والأعتزاز له . . إذ أنه على ما يبدو عليه كان فخورا لأعتبارات معنوية خاصة، تجعله بالقرابة من مؤلف (الحوادث) كما وهناك بالمقابل مناسبات عديدة تجعل من الشخصية ذا اعتزاز بالحديث حول أسرته دخولا قصديا من شأنه جمع فكرة ماعلى النحو الذي يساعده في الامعان والتدقيق في أسباب هذه المتبوعية التي لها كل الشأن في المواقع الزمنية والبؤرية في النص: (أذكر بعض الصدف الغريبة التي جعلت كثيرا من أسماء أقاربي وأجدادي متشابهة إلى حد كبير. فوالدي من أهل باريس وكان يعرف باسم السيد فروا سارت، وزوجته أي أمي ـ التي تزوجها ولم تتجاوز الخامسة عشرة، كانت تدعى الأنسة كرواسات . . وهي الأبنة الكبرى للمتمول الكبير المعروف بأسم كرواسات الذي تزوج بدوره، فتاة صغيرة السن في عامها السادس عشر وهي أبنة السيد فيكتور فواسارت. . وهذا السيد فواسارت كان هو أيضا قد تزوج فتاة صغيرة وذات أسم مشابه تدعى الأنسة مواسارت. . وأم هذه الأخيرة تزوجت كذلك عن صغر أي في سنها الرابعة عشرة. ص74 . ص75 ) قد جرت العادة في الأعراف الفرنسية أن تتزوج الفتيات وهن صغار السن، والأساسي من وراء كل هذه الزيجات كما تخبرنا القصة ، هو أن منظومة هذه العائلات يتحدرون من نسب واحد، ولاشك أن السارد المشارك في الحكاية ظل يخبرنا لاحقا بطريقة مفصلة حول خصائصه الجسمانية والعضوية والنفسية، ومن الحالات النادرة التي ذكرها هو كلامه المؤسف حول عينيه ومدى هشاشة بصره الضعيف جدا، والذي سبب له أنزعاجا نفسيا لا يعرف له حجما مع طبيعة طبعه السريع الانفعال، المزامن إلى صراحته واندفاعية في النظر إلى الأمور بطريقة بالغة العاطفة والأسراف فيها.

2ـ مأزقية حماس العاطفة وإشكالية بذور المنظور للقص:

لو حاولنا تأسيس مقترب أولي من مسار صورة وصفات الشخصية، لوجدنا فيها من العسر على أقناعنا بصدقية الطابع المركب الوهن في مشكلة النظر لدى الشخصية ذاتها؟ورغم أن علمنا بأن فلسفة هذه الصفات هي ليست من المنظور المتداول في التحليل الجاد لحكاية النص، بل أننا شعرنا بأن بأن بو حاول الافراط والخلط بين طبيعة تركيبة الشخصية مع الخلفية التي حكى عنها في بداية نصه حول مدى التداخل العائلي لدى الشخصية ذاته ومدى تأثير هذا التداخل في النسب الواحد على علاقته بتلك السيدة البارعة الجمال التي كانت تجلس في مقصورتها بصحبة رجل وسيدة: (في إحدى ليالي الشتاء الماضية. . كنت أجلس بصحبة أحد أصدقائي، ويدعى تالبوت، في مقصورة بدار الأوبرا. . كان صديقي مولعا بالموسقى، لهذا بقي حوالي الساعتين مسمر العينين في المسرح. . في هذه الأثناء رحت أتلهى بالتفرج على الناس أتجهت بأنظاري إلى المسرح ، لكن لفتت نظري ، وأنا أستدير بعيني إلى المسرح امرأة تجلس في إحدى المقصورات التي فاتتني مراقبتها. /ص75) قد يكون من الخلط واللاتركيز التام من لدن بو إيراد هذه الوحدات من مقادير مسرودة، بخاصة وأنه وصف لنا بأن شخصيته شبه ضعيفة النظر، بل أنه غدا يواجه صعوبة بالغة في حياته من وراء هذا الضعف في عينيه، فلنا أن نسأل في هذا الصدد : كيف ذلك (يابو؟!) وشخصية الشاب تطالع المسرح وتتفقد المقصورات الأخرى التي لم يتاح له مشاهدتها منذ زمن جلوسهما داخل مقصورتهما ـ أي الشخصية وصديقه ـ فهل ممكن أن يكون الشخصية يتمتع بدرجة نسبية معينة من الضعف في النظر مثلا ، ولكنه حتما قد لا يصل إلى ما وصل إليه الشخصية مكبوة كبيرة من جراء ضعفه البصري، وحتى وأن كان الأمر كذلك، فلا يصل الأمر بإدغار ألن بو بتصوير شخصيته بهذه الهنات إلى حالة قصوى؟على أية حال تمضي مسار الأحداث القصصية إلى درجة قصوى من حماس الشخصية سمبسون بتلك السيدة الرائعة الجمال على حد اعتقاد الشخصية، مما جعل المرأة أن تتنبه إلى مدى إلحاح سمبسون في النظر إليها : (كان وجهها منصبا بكليته نحو المسرح حتى أنني ، لبضع دقائق لم أتمكن من أن أراه بكليته. . غير أن القامة والشكل كانا شيئين إلهيين /شعرت أنني واقع في الحب بشكل عميق، جنوني بشكل لا يرد أبدا . . بينما كنت غارقا في هذه الرؤية الحبيبة قامت بين الحضور جلبة مفاجئة جعلتها تميل برأسها قليلا بأتجاهي، فتمكنت من رؤية ملامح الوجه جانبيا، كان جماله يفوق تصوراتي وتقديري ـ لكن كان هناك شيء ما في تلك الملامح أصابني بنوع من خيبة الأمل يصعب تحديدا أسبابها. / ص76) لو عدنا إلى المتن الاستهلالي لوافدنا مستوى حديث السارد المشارك حول ثيمة التداخل العميق في التلاحم بين المقاصد الجينية في حجم تلك الزيجات التي ربطت الواحد بالآخر من العوائل التي تنحدر من نسب واحد ، ولكننا حتى لو افترضنا بشيء يشعره نحو حقيقة الإمكان الذي يجعل من هذه المرأة من قبل أرحامه مثلا، فما وجه كل هذه اللهفة منه إليها، وما سر هذه الخيبة التي لحقت والمت به مؤخرا، فهل ممكن أن تكون هناك أسبابا في نظره الضعيف الذي غدا يترجم له صورة وهيئة المرأة بطريقة بدت وكأنها تفوقه عمرا امثلا؟أم أن الخيبة لديه ناتجة من وازع خاص في صعوبة الوصول إليها مثالا؟. إن قابلية الممكنات التي وصفها بو في نصه وشخصه القصصي، تتعدى محض لعبة النزوة الطائشة من مرحلة الشباب، بل أن الأمر كان متعلقا برغبة الشخصية سمبسون بالزواج من هذه المرأة لو كان قد تعرف إليها جيدا. هذا بالضبط ما شرع يحكيه لصديقه بعد أن تعرف الآخر على هويتها وأخبره بأنها صديقة له وهو يعرفها جيدا.

3ـ مأزومية دليل النظارتان والتيه في متواليات اللاتحديد:

كان من المفترض على إدغار ألن بو أن يتحاشى في حكاية نصه، ذلك الهول الفاحش في تفحيم شخصيته سمبسون بكل ذلك الاضطراب الكلي في هواجسه من ناحية تلك المرأة، بل وكان خليقا به جعل مسار عواطف السيدة اتجاه عشق سمبسون أكثر تلاحما في التعاقب والتخصيص والتبئير. . المسألة كما يتضح تتعلق بمركب النظر الضعيف لدى الشخصية، كما أراد لها بو أن تكون هي نقطة الوهم والجهل لسمبسون نفسه، ولكن مع توافر كل مؤهلات مساحة المستهل البدئي ثم مسافة التبرير الذروي، لا يعد كل ما قرأنا في النص من وسيلة شافية ما لأجل اكتناز النص بالمبررات البؤروية الكافية. فمعرفتنا من جهة ما بأن الشخصية كان يستعير من صديقه نظاراته والنظر من خلالها إلى المسرح أو السيدة، إذ لا تقدم لنا هذه الوحدة دليلا بليغا بأن تلك السيدة هي فعلا جميلة أم لا؟وذلك ما كان واضحا عند شعور سمبسون بالخيبة لبعض الوقت من منظر جانبي للسيدة التي كانت تتقدمه بعدة سنوات، وأكتشف من أنها كانت تحمل في جانبها مسحة ما من الوقار الأمومي. لو كنت مكان بو لجعلت سمبسون يحيا مع تلك السيدة ذلك العشق الأوديبي على حد ما من الافتراض الحبكوي، وليس على ما تتضمنه الحكاية من حقيقة قريبة إلى المزحة بسبب ضعف البصر لدى الشخصية سمبسون. كنت أقول ومنذ زمن طويل بأن فكرة هذه القصة عندما أتاح لي قراءتها سنة 1991 بأنها أجمل ما كتب بو من قصصه القصيرة، ولكن أنا اليوم أقرؤها ضمن حدود من الوعي المغاير لأقول بأن بو أساء توظيف محاورها رغم أن فكرتها كانت ثيمة عميقة على أقصى حد من حدود التقويم: (بعد فترة قصيرة من الوقت فكرت أن أستجير بصديقي. لهذا قلت له : ـ تالبوت، أعرني نظاراتك التي تستعملها للمسرح، لاشك أن معك واحدة: ـ نظارة أوبراـ كلا، وما الذي يجعلك تعتقد أنني أستعمل نظارة في دار الأوبرا؟ : ـ لكن يا تالبوت، قلت مكملا بعد أن جذبته من كمه، : ـ أستمع إلي، أرجوك، هل ترى تلك المقصورة، هناك؟هل رأيت في حياتك أجمل من تلك المرأة؟ ـ يا إلهي ألا تعرف من هي؟إذا كانت تجهل يعني أنك لست من الوسط الاجتماعي. . أنها مدام لالاند التي يعرفها الجميع ـ هي مثال الجمال الأعلى حاليا ومحور اهتمام البلدة بكاملها، وهي ثرية جدا أيضا، وأرملة ـ وقد وصل مؤخرا خطيب لها من باريس؟. /ص77) من الواضح أن بعض المؤولات الاظهارية في متن النص، بدت من الطابع التعريفي السنني، كي يتضح من خلالها السياق الدينامي الذي يؤدي إلى طبيعة المحايثة العلائقية من طرف الشخصية سمبسون، ولكن حتى حلول الوقت الذي تنكشف فيه خيوط الحبكة، لعلنا نطرح مثل هذا السؤال:إذا كان صديق سمبسون على علم تام بالسيدة لالاند كما يصرح منذ جلسة المسرح، لمَ أصر على اخفاء أمر لالاند وحقيقة زمنها وقرابتها بالشخصية سمبسون؟في مراحل لاحقة من النص، تشدنا العلاقة ما بين سمبسون ولالاند على حد غير منتظر أبدا. ولكن الغريب في الأمر أن بو أثقل نصه بمواقع توتر ومراوغة من مستوى السرد، وحتى حلول موعد الزواج بين لالاند وسمبسون كان هذا الصديق الذي توعد الشخصية بتعريفه على السيدة لالاند قد غاب في سفر مفاجأ. ومن الأغرب من كل هذا كان إلحاح السيدة لالاند على سمبسون على ارتداء النظارات، رغم رفض الأخير ذلك حتى وصول موعد يوم الزواج: (إذ أن التهرب من استعمال الوسائل العادية لا يفيد في معالجة هذا الضعف الذي تصر على اخفائه.. أعني بكل هذا أنني أرغب إليك أن تستعمل نظارتين لعينيك. أوه، لقد وافقت مسبقا على أن تستعملها، من أجلي، وأرجو أن تتقبل هذه القطعة التي في يدي، فهي رغم أنها ليست كبيرة القيمة في ما تحمل من جواهر، تساعد كثيرا في النظر. . ويمكنك بمجرد تركيز أقسامها على الشكل الذي تريد، بأن تستعملهما كنظارتين: ـ طلبك مستجاب ؟صرخت بكل ما تمكنت من قوة، سأفعل ما تريدين وبكل سرور. /ص87 ) . لقد كانت جملة متواليات الأحداث الاستباقية في النص، تبين أن سمبسون عندما سخط على سفر صديقه الذي تولى بدور مهمة التعارف بين لالاند وسمبسون وأخفق فيها تاركا صديقه وحيدا يأخذ على عاتقه كل المهام والمناسبات التي من شأنها مواجهة أمر حبه بنفسه، كان قد قام بأرسال رسالة شرح فيها كل ما يخالج عواطفه من ناحيتها، وبعد فترة شبه طويلة جاءه الرد من لالاند مرحبا بفكرة التعارف وهذا ما جعل سمبسون يقوم بزيارتها في منزلها، حيث تعرف عليها مع ثلة من ضيوفها وكان أغلبهم ممن يجيدون العزف والغناء، كما أبهرته هي بدورها لما لقى من جمال في صوتها وعزفها على البيانو. وفي غضون كل ذلك كان مصرا على الاقتران بها كزوجة سريعا، وبهذا الشد التوتر الموضوعي والدلالي كانت حياة الشخصية سمبسون في أشد عنفوان علاقة الحب والهيام بهذه السيدة الجميلة. 

ـ مستويات الدلائل التحيينية ورؤية الحب من عين أخرى

تشتمل أغلب الاقسام السردية في النصف الأخير من الحكاية القصصية، على جملة مؤشرات تحيينية لغرض اظهارية مدارات الأدلة السردية ومصادرها في الجهة الأخرى من المعطى في العلاقة الأفعالية المتممة في مساحة الوظيفة التركيزية وملامح القدرة الإمكانية المؤشرية المحكومة بعدة أوجه خاصة من الوضعية الدلالية وما نتج عنها من تمثيلات ممثلة في مكاشفة المعنى. قلنا سابقا أن خطاب الحكاية في قصة (نظارتان) هي جملة ممارسة محفوفة بطبيعة قصدية ذا حنكة بالغة، فيما ظلت أغلب وحدات الوظيفة السردية في محاور النص، بمثابة الحدوث في اللامتوقع من سمات الانفراج الوسائلي في واصلات المسرود. وتبعا لكل هذا وذاك، جاءتنا الخاتمة القصصية، بما لا يخطر على بال أو تصور أحد ما. . إذ كانت مهام الترتيبات ليوم العرس قد تمت، مع وصول ذلك الصديق الغائب تالبوت: ( ذهبت أفتش عن تالبوت، لكنني لم أتمالك في طريقي من أن أدخل إلى أحد الفنادق لأتفحص الصورة ولم أتردد بأن أستعمل النظارتين من أجل ذلك. . كانت ملامح الجمال في ذلك الوجه شيئا يأسر القلب. . تلك العينان الواسعتان المشعتان، ذلك الأنف اليوناني الرفيع، تلك الجدائل المجعدة السوداء: ـ آه ـ قلت بنشوة إنها حقا صورة ناطقة لمحبوبتي. . قبلت الصورة ووجدت على ظهرها الكلمات التالية: أوجيني لالاند ـ العمر 27 سنة و7 أشهر . / ص87).

1ـ استجلاء المحتمل في مواطن المضمر من التأويل:

يثير المسار الدلالي في ضوء موضوعة قصة (النظارتان) ذلك التكثيف المتخيل الذي راح يغطي علينا حوارية المصير النصوصي في مرحلة اللعبة المضمونية والمدلولية. . فالمعنى لم يكن تصادفيا إطلاقا، بقدر ما كان مجموعة صياغات مدروسة عند كل خطوة واحدة من الكتابة. إذ كان العنوان القصصي في مركز النص، يعبر عن ذاته ككفاءة متدرجة على حركية اللعب في الأدوار البنائية على وفق ما تقدمه الشخصيات من مستويات محتملة في الامتداد نحو الصيغة الفجائية من المسافة المنتجة من فرضية المدلول. أقول ختاما أن إدغار ألن بو قد أجاد في صناعة موضوعة نصه، ذلك من خلال اظهار هذه الوحدات المؤثرة من خطية المضمون: (ـ والآن يا صديقي؟، قالت وهي تأخذ بيدي قاطعة علي تسلسل أفكاري، والآن يا صديقي العزيز، بما أنناي أصبحنا روحا واحدة في جسدين ، وبما أنني أستجبت لطلبك وقمت، من جهتي بنصيبي من الاتفاق ـ أتصور أنك لم تنس تعهدك بأن تقدم لي خدمة صغيرة : وعدا صغيرا ـ لا شك بأنك عازم على تحقيقه، آه، دعني أرى، دعني أتذكر!نعم أنني أتذكر كلماتك بسهولة حين أعلنت وعدك لأوجيني الليلة الماضية. أستمع تكلمت هكذا ـ طلبك مستجاب /حالما وضعت النظارتين على عيني وركزتهما لبضع لحظات/بينما مدام سمبسون كانت تركز قبعتها على رأسها، وتضم ذراعيها، وتجلس بأنتصاب في كرسيها بطريقة فيها شيء من الغرابة، أو بالأحرى شيء من الفظاظة. /ص88 ) هكذا واجه الشخصية سمبسون فجأة لالاند عجوزا تبلغ من العمر الثانية والثمانين : (صرخت وأنا اترنح من الغضب/لا شيء أيتها الفزاعة العجوز. / ص89 ) لقد أظهرت الشخصية لالاند ذاتها على أنها كانت متزوجة من جد أجداد الشخصية سمبسون، حتى كاد أن يقول سمبسون بأنه تزوج جدة من جداته. ولكن المسألة قد حسمت ما بين الطرفين بطريقة فنية، ولم يكن المراد منها خداع لالاند للشخصية سمبسون بل أنه هو من كان يحيا في ظلام قصور النظر لديه.

ـ تعليق القراءة:

أن آليات الأنموذج الموضوعي في قصة (النظارتان) جاءت دليلا في الترفع بالدلالة النصية نحو آفاق محفزة من صنعة الكتابة والتجربة في كتابة هذا النص تحديدا. . وأنا شخصيا أجد هذا النص من أعقد وأصعب وأكثر ابداعا مما كتبه ألن بو في مختاراته القصصيةالكبرى، ليبقى لنا القراءة والتلقي في مرحلة متشعبة من التخييل والافتراض في مشروعية الإبطاء بزمن النص المؤول في مساحة نوعية من الاعتبارات والمقادير التعريفية والتحيينية الكامنة بإمتيازية التركيز والتبئير في خصوصية الإحساس بالزمن الاختلافي الكامن في وحدات وأوجه دائرة استجلاء المحتمل من مواطن المضمر من التأويل النصي المكين.

***

حيدر عبد الرضا 

في المثقف اليوم