قراءات نقدية

قراءة عن المجموعة الشعرية للدكتورة فطنة بنضالي: وجد لا ينتهي

رحمن خضير عباسأصدرت الشاعرة المغربية فطنة بن ضالي مجموعة شعرية جديدة، تُضاف إلى مجاميعها الشعرية السابقة ؛ مثل شذرات الرحيق الصادرة عن دار وليلي للطباعة والنشر عام .2008وتباريح على أرصفة الليل الصادرة في القاهرة عام2017 .إضافة إلى أن شاعرتنا حائزة على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي، وأستاذة في كلية الآداب بمراكش.

وقد اقترنت قصائد هذه المجموعة (وجد لا ينتهي) بترجمة إلى اللغة الأمازيغية، قام بها الأديب المغربي حسن أمدوغ.

استهلت الشاعرة مجموعتها ببعض القصائد العمودية، والتي تدلّ على قدرتها على ترويض القوافي وشحنها بمضامين مختلفة. ففي قصيدة ظمأ، تعقد مقارنة بين صمتها وبين شدو حمامة عابرة، من خلال مزيج مُتقن من صور وتشبيهات عن الوجد المشترك بينها وبين ذلك الطائر الوديع، حيث تتحول الحمامة إلى قرين للشاعرة، تعاني الحزن والنأي والأرق، ورغم استخدام الشاعرة لبعض المفردات التقليدية التي يزخر بها الشعر العربي: (الطلل، ورقاء الجفا، العوالي، التلل، الخ) ولكنها استطاعت أن تُضفي عليه لمسةً حديثة، تتعلق بهموم إنسانية معاصرة، ومنها الشعور بالظمأ، والذي يعبّر عن الحاجات الإنسانية، لإزاحة بعض من رُكام العزلة السايكولوجية التي يعانيها المرؤ أحيانا، لذلك تلجأ إلى هذه المقارنات في إشكالية (القرب) ويعني التشابه في الحالة الراهنة. أو الإقصاء ويعني عدم التشابه بينها وبين الحمامة والذي يتجسد في قدرتها على الهديل أوالبوح بالمشاعر، بعكس الشاعرة التي تظل عاجزةً عن فعل البوح، حتى تتمنى أن تكون بمثل قرينتها:

من لهفة ليتني ورقاء في عمد  تشدو الجفا بالعوالي منه والتلل

ولعل القارئ سيستحضر في الذهن قصيدة أبي فراس الحمداني:

" أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ "

أو قصيدة الشمعة في الموروث الزجلي المغربي، حيث المقارنة في المعاناة بين الشاعر وبين قرينه (الشمعة) في الهمِّ والبكاء، حيث تسيل دموعها وهي تتوهج.

ولعل الظمأ يرافق قصائد أخرى ومنها قولها:

ظمأى كعصف صرتُ من شغف به   يُفني وينمي مرةً ويشيدُ

وفي (عيناك)، تتألق الشاعرة في الوصف والتشبيه من خلال المفردات الأنيقة التي تنثال على صفحة القصيدة، فتُعشب الصور التي تتدفق بالحياة، فنجد أنفسنا في فيض من الشطآن والمرافئ والأنغمام والخلجان وجلال الحُسن ووميض البرق، كل هذه المفردات تسيل في مدى هاتين العينين اللتين أشرقتا فجأة في خيال الشاعرة، حتى أن القارئ يتوهم أن الغزل في تلك العينين يتجاوز الإنسان إلى رحاب القصيدة ذاتها:

"أهفو لها وأهيم في أعماقها  وأرى بريق حروفها فوق الورق"

بقية المجموعة اتخذت منحى آخر، حيث قصيدة النثر، ولكن المضامين بقيت متشابهة، ويهيمن عليها سطوة(المكان) متجسدا في ذكرى أمكنة الطفولة، حيث سوس التي تبدو كسجادة من ألوان البرتقال والأرگان والزيتون، فالمكان يفترش موقعه في قصائد الشاعرة، فنراها:

"تغفو على رائحة الوطن" أو تحنّ إلى سوس، أو تجرفها "سيول الغواية لموطن، تزهر قوافله بألوان البرتقال"

وحتى حينما تنادي شريك عمرها، فهي تقرنه بالمكان الذي يقاسمه الوجد والمحبة، فجماليته واكتنازه للصفات الكثيرة، تمتزج بوداعة وجمال قريته (تاصورات):

"أيها الآتي من شموخ تاصورات، كن برقا يومض من الغيب، يُزهر بأرضي "

وكأني من خلال ذلك أتذكر قول السياب حينما يخاطب زوجته :

" الملتقى بك والعراق هو اللقاء "

في الوقت الذي تحتفي شاعرتنا بمن يُخيط بها، (الأم والزوج والصديقة والأبناء)، فتُبرز كل خصالهم وصفاتهم، وتُضفي عليهم كل آيات المودة، ولكنّها تلتزم الصمت عن نفسها، فالذات تختبئ وراء نافذة، لا يصل منها سوى الأحلام والأمنيات، فقد "أرجأت" ما ينبغي أن تبوح به:

" أرجأتُ تعليقاتي، هكذا أنا،

بعضي يجابه الظلام، وبعضي الآخر يشقى في نور النهار"

فثمة وجودٌ محدود (للأنا) في مجموعتها الشعرية، فقد منحت الأفضلية لعمق الانشغالات الحياتية التي تتصارع .

لقد كرّست عدة مقطوعات لذكرى أمها الراحلة، ولكنها لا تعبر عن حزنها الشخصي، بل تُسقطه على عناصر الطبيعة التي تناجي روح الأم بالحفيف، وبالأرگان الذي يرتوي من عطر صبرها، وطيور السنونو التي لم تغادر أعشاشها، ووجهها المضيء يتراءى مع الصباح.

وقد وجدنا أن عواطف الشاعرة تصبح أكثر توهجا وصدقا، وكأنها لا ترثي امرأة راحلة، وإنما ترثي الأمومة في كل وجوهها النقية، في براءتها ومحبتها وعمق تضحياتها وصبرها الذي تقارنه بصبر شجرة الأرگان. تلك الأمومة التي تفجّر الحياة بالطاقات وتمنح الحياة لونها، ولكنها في النهاية تذوب وتتلاشى، ويبقى عطرها ملتصقا بعمق الحياة.

مجموعة فطنة بنضالي الشعرية مزيج جميل من كلمات الوفاء والمحبة، من إنسانة تُدرك معنى الحرف وتأثيراته، فقد مزجت أحاسيسها ومشاعرها في هذه النفحات العاطفية التي تمتلك وجدا لا ينتهي. وقد جاءت مجموعتها مشبعة بشذى سوس ونكهة الأطلس.

هذه المجموعة الشعرية تمت صياغتها بتأن، عليها بعض اللمسات التي تجعل المتلقي منغمسا بين التشبيهات المختلفة، والصور والاستعارات المستنبطة من وحي ملاعب الطفولة، لتأتي مشبّعةً بشذى سوس ونكهة الأطلس.

إنه شذى المكان الذي تضوّع في قصائدها وبين طيّات معانيها وصورها.

***

رحمن خضير عباس

في المثقف اليوم