قراءات نقدية

ديوان (أمير أور).. مرجعية المرثية وصياغة شعرية الغياب

حيدر عبدالرضادراسة في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر حسين عبد اللطيف

الفصل الثالث ـ المبحث (1)

توطئة:

لاشك أن لقصيدة الرثاء والمرثية دلالة أيجابية تغلب على مصطلح وتسمية الأغتراب الذاتي في الثقافة الشعرية العربية، غير أن هذه الأغترابية في كتابة نصوص المراثي نجدها تزداد وضوحا وأستقرارا ومجازا يسيرا نحو بنية خطابية مشبعة بروح فكرة (القصيدة / الصورة / الآخر) وعلى هذا الأمر نقول أن الحديث عن تجربة الشاعر حسين عبد اللطيف، كمقدمة لدراسة مبحثنا  هذا، لربما تتطلب منا شرحا طويلا ومتفردا عن معادلات شعرية هذا الشاعر والذي وجدناه ومنذ أعماله الشعرية السابقة (نار القطرب / على الطرقات أرقب المارة / لم يعد يجدي النظر) يشكل علامة نبوغ وتطور حقيقي في كتابة القصيدة، غير أننا اليوم ونحن نقرأ قصائد ديوانه الجديد (أمير من أور) وجدنا بأن حسين عبد اللطيف يقدم شعرا داخل صور من الأغترابية الذاتية في رسم الكلمات المؤطرة في ذاكرة الشاعر المكانية والزمانية والظرفية ليدونها إيقاعات حلولية ضمن تطورات متعددة الدلالات والأبعاد التوصيفية.

الرياح التي من مراكش قادمة

دخلت منزلي..

و أنتهى

في عذاب القرنفل والبرتقال

بهذا المدخل من قصيدة (دوارة الرياح) يبدأ الشاعر بشكل تلقائي وضمن حلولية النص الشعري الذي راح يشير نحو مواقعات دلالية تختزل البعد الشكلي لأهمية الخطاب الموجه نحو حالة من حالات التأشير التعريفي بظاهر تداولية الحالة الوصفية، والشاعر بهذه الفرضية المدخلية للنص، يذكرنا بوساطات اللغة وهي تضع المبنى الشعري لدى الشاعر بموجب حيثيات مدلولية كنائية المعنى الأشاري المتعدد المرسوم داخل قنوات الدلالة، والشاعر لربما يقصد من خلال هذه المدخلية في الدوال، مواضعة تواصلية ما مع فعل مناطقة المرسل اليه وبأطراف مدلولية عميقة في تضليل العلاقات التحديدية في خطاب القصيدة:

ذهب العائلة.

كان سرب اللقالق أخضر نشوان تحت القمر

يعبر النافذة

نحو أي طريق

سوف تفضي بنا السنوات

وتقود خطانا.

و يمكن تلقي هذه المقطعية من زمن القصيدة بوصفها خطابا زمنيا وذاتيا يحاول من خلاله الشاعر ربط الحال الظاهر في القصيدة داخل أفعال مكانية وشيئية من زمن مؤثثات الفعل الذاكراتي التي تعيشه الذات الأغترابية الراصدة للسان المتكلم الراوي، ولاشك من جهة ما في أن حركة الدوال في هذه المقطعية (العائلة / سرب / النافذة / طريق / السنوات) تناسب فعاليات المتن النصي التي تشتغل عليه الأزمنة المحورية كما في هذه الجملة (سوف تفضي بنا) غير أننا نلاحظ من جهة ما بأن معيارية وجه الدلالات المتعددة غير قابلة لأن تحدد وتمسك الذات الأغترابية لدى المتكلم الشاعر، ألا في حدود المناسب من مرتبة مسارات التأويل المغاير لشكل علاقات الوارد من المقطعية الجديدة في القصيدة. أن قصيدة (دوارة الرياح) بهذا المعنى التخصيصي أضحت تضم حدثا تواصليا وفق أسس مشفرات ضمنية نابعة من حدود فضاء تصديري مسكوب من رحم حساسية قولية تعتبر كتصديرا ثانويا لا يتجزأ من قيمة تجليات معنى المسبوق:

ألا توجد طريقة، ألا يوجد عنوان؟

عما قليل سيحل الغروب

و تلك النائحة في السعف

مازالت تنوح

باحثة عن أختها التي في الحلة

ليس صحيحا أنها هناك أو في أي مكان

آخر

لكن أين؟

نلاحظ أن في قصيدة (سحابة أمس فقط) ثمة أفق أستثماري من حقيقة مرجعية حكاية شعبية قديمة، كما أن أستثمارها صار يشكل محاولة في كشف آليات مشفرات عبارة(مازالت تنوح) وهذه المحورية الأستعارية في المشبه اليه ومنه، قد جاءت فعلا شرطيا أساسيا من قيمة قصدية جملة (ألا يوجد عنوان؟) يبدو الأمر هنا معقدا جدا، لا سيما وأن صوت المتكلم في القصيدة صار يحمل قصودا أستفهامية رامية نحو عتبات غامضة من وجه أحتماليات ظاهرة للعيان والمساءلة الشعرية (عما قليل سيحل الغروب / وتلك النائحة في السعف) تتضح من هذه المقطعية الصورية بأن هناك فعالية من منطقة (المسكوت عنه) تظهر داخل فعالية محجوبة من أفعال خطابية معلنة وظاهرة، حيث تؤشر من جهة الى جملة معادلات نصية في القصيدة، تقترب من حدود المداليل الغائرة في الظل والصمت والأبهام الشعري:

ربما أن الشاعر بهذا كان يترصد ويقصد (الفواخت) وتلك الحكاية القديمة، بيد أن صوت المتكلم راح في أبثاث المرسل اليه وهو يحاول جاهدا أيصال ثيمات حشودية من الدوال داخل تصديرات القراءة والأبعاد الدلالية المكونة داخل أستار من المستور القصدي للمعنى:

ها أنت ذا الأن

على الجانب الآخر من المرآة

في المنطقة الخارجة عن حدود الجغرافيا

حيث لايمكن لأحد

أن يصلك على الأطلاق

لا على ظهر جواد

ولا في مرسيدس

لا على متن طائرة

ولا عربة قطار.

تجسد قصيدة (جناز) ثمة أخراج نصي غير مكتمل في تحيين آلية أنظمة الكلام في رسم العناصر الخطابية داخل دائرة الفهم القصدي المباشر في النص، حيث تبقى الشفرة الخطابية في المرسل إليه، كما لو أنها علامة ضئيلة في جمالية عدم حسن رسم الأشياء التواصلية في فضاء البوح الصوري، حيث يرتكز الشاعر من جهة ما، الى الأستعانة بوظائف وصفية تبدو غير ملائمة لمشهدية الحالة الشعرية، فمثلا ما دور الطائرة أو عربة القطار أو حتى الجواد، داخل مهيمنات دوالية لربما لا تعكس ضرورة الفعل الأشاري والبنائي تحت ظل هذه المسميات النقلية المباشرة في التسمية والتداول اليومي، فضلا عن هذا وجدنا بأن بعض من أجزاء القصيدة قد تبدو كما لو أنها أقحاما أفتعاليا بأطراف الأداة التواصلية والملفوظية في خطاب القصيدة:

 

صندوقا للبريد أو الرسائل

مهما أشتط به الخيال

و كان له من ريش

في التعويل (على زميلنا شاكر نوري)

في أنه سيفتح لنا ذات يوم أبواب (قلعة أور)

أنا مندهش في حقيقة الأمر على بعض من أجزاء قصائد ديوان الشاعر، لأن الخطاب من خلالها كما لو كان مجرد سطور فوق جدار الذكريات والعلاقات الشخصية، أيضا فأن الخطاب كان يبدو بمعنى أصح، كما لو أن الشاعر كان يقصده داخل صفحات اللبوم لمناجاة الراحلين والأموات والحاضرين من الأدباء، بيد أن القارىء لبعض أجزاء القصائد لربما يلفت أنتباهه، بأن الموضوع الشعري شبه غائب مع ملفوظه وأبعاده المدلولية، هذا من جهة ما، ومن جهة أخرى نلاحظ بأن الكلام مباشرا الى درجة التقريرية والعزوف عن الشعري والمجازي، بيد أن منظومة الدوال في هذا قد أضحت داخل صيغة تسجيلية باهتة وبعيدة عن حساسية الأداة الشعرية الحاذقة:

الأن..

وقد أنتهينا من كل شيء

فلم يعد من طائل وراء هذا السعي المحموم

في هذا العالم..

حيث الغلبة للأفعى

في أقتناص الأبدية وحيازتها منك.

الجهود كلها باطلة تقريبا

و على هذا المسار الصوري الباهت من المروي الخطابي للذات المتكلمة، ينفتح المدى الدلالي على أفق المتن النصي الذي صار يذكرنا بنصوص القدامى الشعراء وهم يحاكون متون الملاحم والنصوص الهندية.أن حسين عبد اللطيف وعلى حدود مشروع قصائد ديوان (أمير من أور) لربما لا يعبر عن قدراته الشعرية السابقة، بيد أنه صار في هذا الديوان مقتصرا على حدود أفق لغة تقريرية خالية من متانة صوريته الشعرية الكبيرة، لذلك يتراءى للقارىء وكأن عتبة المركز المحوري في قصائد الديوان، ما هي ألا طاقة محدودة من الشعر الأخباري والابلاغي الذي أقتصد فيه الشاعر من قيمة الدلالات الكبيرة لديه، حيث صارت قصائد الديوان عبارة عن شوارع من الرحيل والرثاء والصور الفوتوغرافية والدلالات المباشرة:

ـ حسين عبد اللطيف وأقنعة القصيدة

أذا كانت تجربة الكتابة الأبداعية لدى حسين عبد اللطيف قد أستقطبت أهتمام النقاد والمبدعين الكبار في العراق، فأنا شخصيا من المحبين جدا لهذا الشاعر وأعمال هذا المبدع الشعرية، غير أن لدي في الوقت نفسه ثمة وجهة نظر حول منجز هذا الشاعر، حيث أتمنى أن لا تكون ملاحظتي هذه شوكة أو خنجرا في صدر أبداعية هذا الأديب: بادىء ذي بدء، أقول ومن خلال سقف قراءتي الطويلة لأعمال هذا الشاعر، لاحظت بأن كتابة القصيدة لدى منجزات هذا الشاعر قد تبدو أحيانا غير متساوية، أي هناك ثمة أختلافية وتفارقية كبيرة في مستويات كتابة القصيدة وبين ديوان وآخر، فمثلا نرى بأن مستوى ما هو موجود في قصائد ديوان

(نار القطرب) ماهو يعد بالمختلف عن بنائية وأسلوبية وأبداعية القصيدة في ديوان (على الطرقات أرقب المارة) والأمر ذاته ينطبق على مستوى ما هو موجود في بنائية قصائد (أمير من أور) فما يعني هذا بدوره؟ وبصرف النظر عن الحكمة التقليدية التي تؤكد على أن لكل نص أحكامه وظروفه الكتابية الخاصة: أنا شخصيا لربما هنا لا أتحدث عن ظروف الكتابة بقدر ما أتحدث عن متصورات الحالة الشعرية ومستويات الصناعة الأولية لمادة القصيدة لدى الشاعر، والتي عادة ما تكون ملازمة كعلامة أسلوبية وهوية في كل نص وفي كل منجز أبداعي، حتى وأن كان سيء أو سلبي أو منحط أبداعيا، فهناك هوية وبصمة راسخة في كل نص، تحمل ملامح وأسم وأسلوب الكاتب في أدواته الكتابية الثابتة، وهذا بدوره ما لم نجده في أعمال الشاعر حسين عبد اللطيف، فكل ما قد كتبه هذا الشاعر من أعمال شعرية على درجة من الأختلاف والتمايز، كما لو أن من قام بكتابة (نار القطرب) ليس هو ذاته صاحب ديوان (لم يعد يجدي النظر) فما تفسير هذا الشيء بدوره؟ أهو شكل من أشكال المحاكاة في المكتوب النصي؟ أم أنه ألتقاط التجارب والصور من ذائقة مخالفة لما هو مكتوب ومتبع في أعمال شعرية سابقة وبموجب مناطقة أستثمارية خاصة في النص؟. أن القارىء الذكي والحاذق لربما عند الأطلاع الكامل على سلسلة أعمال هذا الشاعر المبدع سوف يلاحظ مدى الأختلافية مابين مراحل أنجازية تلك الأعمال الشعرية وتحت سقف ظروف كتابية ومخيالية ومتصوراتية متباعدة عن بعضها البعض، كما لو أن من قام بكتابتها مجموعة مختلفة من الشعراء، وليس الأمر يعود لمصدرية شاعر واحد وذائقة واحدة وقلم واحد ومدينة واحدة.

ـ تعليق القراءة:

لعلي في ذكر هذه العتبة من مبحثنا أود أن أترك المساحة مفتوحة أمام القارىء لقراءة قصائد ديوان (أمير من أور) وأمام سيرة وأسم (حسين عبد اللطيف) هذا الشاعر الذي صار في حضوره الشعري يوازي ما يملك من أبداع في حياته الأجتماعية مع الأدباء وفي قصائده الخلابة. وقد حقق هذا الشاعر في ثلاث دواوين صغيرة الحجم ما تعجز عنه بعض الأعمال الشعرية الكاملة والكبيرة، وسوف أقول هنا ودون تراجع عن وجهة نظري هذه وبلا شكوكية ما أو نكوصية ما  أو عجزا مني في التعامل مع منجز هذا الشاعر. أن حسين عبد اللطيف هو هذا الكائن الشعري الغامض والمتقلب المزاج والشعرية، حيث يستحق الى الأنضمام الى قافلة السياب ولوركا ومحمود البريكان وسعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي، ومن يقرأ له قصائد ديوان (أمير من أور) سوف يعرف السبب الذي جعله يكتب تلك القصائد بتلك الطريقة التي لم نعهد لمثلها في شعر حسين عبد اللطيف دوما وهو يرثي صديقه الرسام الراحل، وبمشروع هذه القصائد وعناصر خطابها، راح ينفتح أفق النص الشعري لدى الشاعر عبر وجه جديد وبناء جديد و  بموجب تصديرات أحتمالية تصل درجة الشفرات الحادة التي راحت تصنع في شعريتها منولوج داخلي بين الشاعر وشخصية ذلك الرسام وعبر فضاء من مرموزية أحاسيس الشاعر حسين عبد اللطيف وحفريات خطاب القصيدة بالماضي كمنطوق كوميديا الرعب والموت والحزن والمكاشفة النصية التي أعدها لنا شاعرنا الكبير حسين عبد اللطيف.

***

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم