قراءات نقدية

مدخل إلى دراما أسامة أنور عكاشة

هشام بن الشاويبداية المشوار: لم يكن أسامة أنور عكاشة كاتب مسلسلات لتسلية ربات البيوت، ولم يكن شاعرا شعبيا مهمته حكاية الحواديت، بل كان مفكرا صاحب مشروع فكري قومي قضى عمره كله لإنجازه، وحاول تحقيقه بأكثر من طريقة حتي استقر علي الدراما التليفزيونية عندما تأكد من جماهيريتها وقدرتها الفائقة علي الوصول للناس[1].

"بسبب رغبته في الانفتاح على مساحة أوسع من الناس وجد في الدراما التلفزيونية الكثير من عناصر التعويض عن صورة الأديب التي تمناها لنفسه... صورة فيها الكثير من عناصر الإغراء، فالناس كانت لا تزال في ذلك الزمان تنظر بوقار إلى طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وتتابع "شغب" يوسف إدريس في مقالاته بالأهرام، وتعتقد في الكثير من المقولات التي يدفعها لويس عوض إلى حقل الحياة اليومية مثل كاهن لا يكف عن صناعة الأساطير.

نموذج محفوظ كان يؤرق عكاشة أكثر من كل تلك النماذج الراسخة، فأسامة كان مثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد وإبراهيم اصلان وغالبية كتاب الستينيات المسحورين بصاحب (زقاق المدق) وبقدرته على التحاور مع نصوصهم والاستفادة منها وتطوير كتاباته لتسبقهم جميعا في قدرتها على مراجعة ما جرى من تحولات. في تلك السنوات كان محفوظ انتهى من كتابة روائعه الفلسفية التي بدأت بـ (أولاد حارتنا) وتواصلت مع (ثرثرة فوق النيل) و(الشحاذ) و(الطريق) و(السراب)، وكان الأسبق فيها لمناقشة تناقضات التجربة الإنسانية وتساؤلاتها الكبرى، كما كان بخلاف الستينيين غير مغرم بما أنجزته التجربة الناصرية وقادر على إدراك تناقضاتها، كما عبر عن ذلك في (ميرامار)، وفي نفس الوقت لا يزال مشدودا بالحنين إلى "زمنه الوفدي" ومنسجم أكثر مع ما أنجزته "ليبراليته المنقوصة" التي انحاز لها في (السمان والخريف) كاشفا عن نقطة للمفارقة بينه وبين مريديه من الكتاب الجدد، لكنه في المقابل كان لا يمل من كسب أنصار جدد في السينما التي كان جمهورها قد منح لمحفوظ سلطة "الكاتب الجماهيري".

هذه السلطة السحرية كانت أكثر ما أغرى عكاشة في مهنته الجديدة، ووجد بفضل نموذج "محفوظ" الكثير من العزاء …لكنه لم يكن يعلم أن موهبته ستقوده إلى ابتكار زمنه الخاص"[2].

في عام النكسة، صدرت مجموعته القصصية الأولى " خارج الدنيا" عن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وقد نشر أسامة قصته القصيرة:"خارج الدنيا" في العدد التاسع من مجلة "القصة" القاهرية، في سبتمبر 1964م، بعد فوزها بالجائزة الثانية لنادي القصة، وفي نفس العدد نشر إبراهيم أصلان وإبراهيم فتحي.

كان عكاشة يتصور أن المجموعة القصصية "ستقله بصدورها خارج الدنيا الضيقة إلى رحاب الدائرة الأدبية الأوسع[3]"، بتعبير سمير الجمل، ولم يكتب أي أحد عن النسخ المهداة من الكاتب الشاب آنذاك، فانتابته مشاعر الإحباط حينئذ، ثم فوجئ باتصال هاتفي من الأديب سليمان فياض - ودون سابق معرفة بينهما-، طالبا منه الإذن بتحويل قصة من المجموعة القصصة إلى تمثيلية تلفزيونية.. كتب عنها الكثيرون، وشاهدها الملايين، بعد ذلك، قدم كرم النجار قصة أخرى من المجموعة في سهرة تلفزيونية.. لكن البداية التلفزيونية الحقيقية، كانت بعد عودة أسامة من الكويت، حيث عاد محبطا من رحلة البحث عن لقمة العيش، واكتشف أن الأصدقاء تفرقوا بعد النكسة، "في ذلك الزمن الذي أسماه غالي شكري بزمن "الثورة المضادة" والانقلاب الكبير على المكاسب الاجتماعية للناصرية، كانت مصر قد بدأت تعرف معاناة الانفتاح الاقتصادي، الذي أسماه الراحل أحمد بهاء الدين "انفتاح السداح مداح"، وتتحسر النخبة على انقلاب سلم القيم الاجتماعية. كان أسامة أنور عكاشة يهيئ نفسه للرحيل من أرض الأدب إلى الدراما التلفزيونية وقادته المصادفة وحدها إلى اللحظة التي غيرت من مصيره"[4]؛ حين التقى صديقه وزميل الدراسة المخرح فخر الدين صلاح، العائد لتوه من ليبيا، وطلب منه هذا الأخير الكتابة للتلفزيون، فأدهشه ذلك.. بعد أيام، قدم له فخر الدين حفنة من النصوص التلفزيونية على سبيل الاستئناس، فوجد أسامة نفسه غارقا في مصطلحات وتعبيرات غامضة بالنسبة إليه، ثم استوقفته سهرة تلفزيونية تحمل اسم إحسان عبد القدوس، وكان كاتب السيناريو محفوظ عبد الرحمن، الذي كان عكاشة يعرفه كأديب وقاص، وهذا ما شجعه على خوض التجربة، فأنجز سباعية "الإنسان والحقيقة"، ثم كتب مسلسل "الحصار" في عام 1977م، وفي العام التالي كتب مسلسل"المشربية"، وبدأ اسم عكاشة يتردد على الشاشة الصغيرة، وبدأت أعماله تثير انتباه المثقفين، إلى أن ظهر مسلسل "أبواب المدينة" كأول عمل كبير في جزءين، لكن النجاح الجماهيري الكبير تحقق مع مسلسل "الشهد والدموع"، حيث بلغ التكريم، بتعبير د. عبد القط القط، حد "المهرجان الإعلامي"، الذي تخرج فيه كاميرا التليفزيون إلى الشارع لتستطلع رأي الناس في ذلك العمل.[5]

"وانتبه الكثيرون إلى قيمة الدراما التلفزيونية المكتوبة في قالب أدبي"[6]، وانفتحت شهية أسامة للكتابة الدرامية، وبدأ مرحلة التجديد والتنويع، فأبدع الكثير من الروايات التلفزيونية، التي صارت من كلاسيكيات الدراما العربية.

"عندما اتجه للدراما التليفزيونية كان يعتبر ذلك جزءا من مشروعه الأدبي، لأنه يعتبر هذه الدراما أدبا مثل الدراما المسرحية.. وأذكر أنه في أحد حواراتنا المتصلة حكي لي أنه توقف عن كتابة القصص والروايات في بداياته وقال لنفسه: كيف يكون هناك كاتب بلا قارئ؟

كان عليه أن يبحث عن حل للمعادلة، ووجده في الدراما التلفزيونية، فقرر أن يتفرغ لها، ودارت مساجلات كثيرة حول توقفه عن الأدب بينه وبين عدد من أصدقائه الأدباء الذين بدأوا معه أو سبقوه، لكنه أصر علي اختياره قائلا لهم إن انتشار الأدب في مصر محدود جدا، والأدباء في حقيقة الأمر يقرأون لبعضهم البعض ماعدا بعض الاستثناءات التي لم تحقق بدورها الشهرة إلا بعد أن قدمت أعمالها في السينما.. بل إنه طلب من أصدقائه الأدباء أن يكتبوا الدراما لإيمانه بأن كتاب القصة في مصر أكثر من قرائها، وضرب لهم مثلا بنجيب محفوظ الذي كتب أربعين سيناريو للسينما[7]".

الدراما والنقد:

كان د. عبد القادر القط من أوائل النقاد الكبار، الذين احتفوا بالدراما التلفزيونية؛ اهتم بها اهتماما كبيرا، وأدخلها في مجال النقد الأدبي، بعدما مضى زمن طويل تجاهل فيه النقاد والدارسون السهرات التلفزيونية، ثم انكبوا، لاحقا، على دراستها دراسة شاملة جادة، وصارت مادة لأبحاث جامعية، "واليوم يفرض المسلسل التلفزيوني وجوده على أكثر الناس، سواء منهم من يشاهدونه ومن يسمعون أبناءهم وذويهم يتحاورون حول موضوعه وأحداثه وشخصياته. ولا مفر ، إذا أريد لهذا الشكل الجديد أن يبلغ مستوى فنيا مرموقا لدينا وأن يكون ذا أثر طيب في حياتنا الفكرية والفنية والجمالية، من أن نعترف به ونؤمن بأنه جدير بالدراسة والتقويم"[8].

لكن اللافت للانتباه والدهشة أيضا أن كبار النقاد في العالم العربي صاروا - مؤخرا- يتجاهلون الدراما التلفزيونية، وبتعبير نزيه أبو نضال: "يبدو أن النقاد الكبار عموما يترفعون عن تناول المسلسلات باعتبارها عملا فنيا دون مستوى النقد.. إنها تكاد تكون ، في نظر هؤلاء، سلعة تُروَّج لربات البيوت، وللكسالى المتعبين أمام التلفاز آخر النهار، ولا يليق بالناقد الكبير أن ينزل من عليائه الثقافي إلى هذا المستوى[9]".

وابتعد د. القط في تلك الدراسة عن ذلك النقد الذي " ينحصر في ملاحظات مختصرة سريعة في الصحف، تهدف إلى إصدار الأحكام النهائية بالجودة أو الرداءة دون عناية بالتحليل أو التفصيل"، مشيرا إلى أنه "قد لا يكون لدينا من مؤلفي المسلسلات كثير ممن يحسنون إنماء حدث واحد متطور دون اللجوء إلى ذلك التشعب الملحوظ والإطالة المقصودة، ومن الخير أن يتجنبوا مزالق المسلسلات الطويلة ويقتصروا على بضع حلقات مركزة".[10]

عصفور النار:

يرى د. عبد القادر القط أن أسامة أنور عكاشة في مسلسل "عصفور النار"، قد قدم من واقع القرية بعض دورها وأزقتها، وبعض بشر يفترض أنهم أهلها، لكنه صنع شخصيات ورسم سلوكا وأقام علاقات لا صلة لها بواقع القرية المصرية المعاصرة، وذلك لكي يكثف الرمز في بيئة محدودة الملامح معدودة الشخصيات، وينقله من واقع وطن أو شعب كامل ونظام معقد من نظم الحكم.. إلى بقعة محلية صغيرة وشخصيات معروفة للمشاهد. وهكذا بدا العمدة جبارا طاغية لا وجود له في واقع القرية المصرية، وبدا شيخ الغفر باطشا قاسيا متجاوزا كل أعراف القرية وتقاليدها وأوضاعها، فنراه يصفع خفيرا بعد آخر دون أن يستنكر المصفوع أو يحتج، ويزج بأهل القرية أكثر من مرة في السجن، ويجلد وجهاء القرية على أقدامهم كما كان يُجلد الصبية في الكتاتيب. ويقبل الوجهاء هذا الضيم وهذا الهوان خوفا على أبنائهم وذويهم - وهي إشارة إلى العالم الأكبر الذي يرمز إليه المؤلف- ويقتحم الخفراء المنازل ويروعون أهلها ويحطمون أثاثها، وكأنهم ليسوا من أبناء القرية وأهلها.. ولعل التجاوز الأكبر للواقع ولمنطق الأشياء أن يأمر العمدة رجاله بحرق القرية بأكملها لكي يضطر ابن أخيه العائد المختبئ إلى الخروج من مخبئه ! وبهذا يختل التوازن بين الرمز والواقع، وتغدو القرية مجرد مظهر، ويصبح رجالها ونساؤها وحوارهم وسلوكهم مجرد رموز لعالم أكبر ونظام أكثر تعقيدا وأخفى من أن يدركه المواطنون بهذا الوضوح والحسم، كما يدركه المشاهد في إطار القرية المحدود.

إن المشاهد حين يتلقى عملا يمثل فيه الواقع بعض الدلالات والرموز لا يمكن أن ينسى كلية طبيعة الواقع المعهود، بل ينتقل من الواقع الذي يعرفه ويقبل حقيقته إلى ما يحس من رموز يمكن أن يحملها ذلك الواقع، دون أن يفقد كل عناصره في سبيل خدمة الرمز.

أما حوار المسلسل فكان عليه أن يسمو إلى مستوى الأحداث والشخصيات الرمزية، فجاء حوارا رفيعا ممتازا في مضمونه وبيانه، وإن كان فوق المستوى الفكري والوجداني والتعبيري لشخصيات القرية الواقعية.[11] لقد زخر "عصفور النار" بخطابة مسرحية جاهزة، وكان ذلك سيودي بالعمل لو لم تكن تلك الخطابة بليغة إلى حد الشاعرية في معظم الأحيان، على أن هذا أيضا لم يكن كفيلا وحده لينجو العمل من تهمة "المسرحة" لو أن كاتبه لم يكن واعيا بذلك، لكنه كان واعيا إلى درجة أن صاغ العمل بأكمله في قالب أقرب إلى الدراما المسرحية.[12]

والمسلسل يحمل - إلى جانب رموزه المعاصرة- بعض سمات من المآسي الإغريقية المعروفة، كخضوع الشخصيات المحورية لنوازع نفسية، كأنها القدر المكتوب، تسوقها دون أن تدري إلى مصارعها، وكعودة الغائب وقتل الأخ لأخيه في سبيل المبدأ أو السلطان. وقد حاول المخرج أن يبرز هذا كله فشكل القرية وأهلها تشكيلا جماليا و"مسرحيا"، يتجاوز الواقع ويهمل كثيرا من عناصره في سبيل الوصول بالدلالة والرمز إلى المشاهدين.

وقد رسم المؤلف ببراعة فائقة شخصيتين متميزتين وأبرزهما المخرج ببراعة مماثلة، هما شخصية العمدة وأخته سيسبان، وكلتاهما شخصية مأساوية مركبة. العمدة "مستبد طيب" إن صح هذا التعبير، واستبداده يبدو أحيانا اقتناعا صادقا منه بسلامة مبدئه في حرصه على أن يحفظ على قريته أرضها، ويبدو أحيانا قناعا يخفي حقيقة دوافعه وحرصه على السلطان والمال، وهو يندفع في قسوة بالغة ليبطش بكل من يهدد مبادئه أو سلطانه، ويحنو في الوقت نفسه في رقة بالغة على ابنة أخيه، وهي تهدم كل ما بنى في سنوات "حكمه" الطويل. وهو يغلظ القول والفعل لأخته، لكنه - في اللحظة المناسبة- يعود فيرعى لها حقها وحرمتها وتعود إليه فطرته السليمة وحبه الصادق لذويه ساعة احتضاره، ويموت راضيا بين أيدي ابنه وابنة أخيه بعد أن سامحاه وغفرا له ما قدم من سيئات.

وقد أبدع الفنان الكبير محمود مرسي في أداء تلك الشخصية المركبة وتراوحها بين الرضى والغضب، المواجهة والمكر والقوة والضعف. وهو فنان يتميز في كل تمثيله بقدرة فائقة على التنسيق بين التعبير بالصوت وخلجات الوجه وأوضاع الجسم في تكامل جميل وبدون مبالغة.

وسيسبان أخت العمدة شخصية محورية تجمع في مواقف عديدة بين طبيعة الأخت الثكلى، الموزعة بين كتمان ما تعرف من سر مروع حول مقتل أخيها العمدة السابق، بتدبير من أخيها، وحرصها على تماسك الأسرة وكيان القرية، وطبيعة الشخصية الإغريقية المأساوية، وكأنها أحيانا تمثل دور "العرافة"، التي تدرك أن الكارثة توشك أن تقع، لكنها لا تستطيع أن تصرح، فتكتفي بالرمز والعبارة المقتضبة، أو دور قائدة "الكورس" التي تفصح عن ضمير أهل القرية جميعا. وفي تلك المواقف جميعا، كانت الفنانة القديرة أمينة رزق تجسيدا بارعا لتلك الشخصية الفريدة، بوجهها الذي يجمع بين كمد الحزن الدفين والرغبة الملحة في البوح، وبقامتها الشامخة وطرحتها السوداء، التي تؤطر وجهها الصارم الحزين.[13]

اختار الكاتب أن يكون العمدة هو رمز الاستبداد ليهرب من سطوة رقابة السلطة الموجودة في وقت عرض المسلسل وتمريره دون تدخل منها، أو أنه استخدم حيلة القناع المعتادة التي يُلبس من خلالها شخصياته أقنعة لشخصيات أخرى… إن "عصفور النار" يمثل مناهضة الظلم والاستبداد، والبحث عن الحرية والعدل والحق والحقيقة... يمثل البحث عن قيم الحق والخير والجمال.. يمثل ذلك كله في كل مكان وزمان، وليس في مصر فقط، ولكن في كل بقعة عاشت أو تعيش أو ستعيش مثل هذه الظروف.. إنه صرخة إلى ضمير الإنسانية كلها.. صرخة بأن يجتمع الناس للوقوف في وجه الاستبداد، دون خوف من رفع الصوت بكلمة الحق.[14]

واستمرارا لمكانها اللافت في أعماله فإن "عكاشة" ينزل "حورية - المرأة- منزل البطل الأول في "عصفور النار"، وإذا كان "الحسيني" هو رمز البطولة الأولى في العمل فإن "حورية" هي تجسيدها الأول. ظل "الحسيني" الهاجس الذي تهمس به "حورية" وتجهر طوال الحلقات، وظلت هي الأداة الفاعلة في تفجير الثورة والسند الواثق حتى لذلك الهاجس الحافز.

لماذا كان "الحسيني" ضئيل الجسم، قليل الصحة، نادر الحظ من الظهور الفاعل؟ مؤكدا لكي يتيح لـ"حورية" -المرأة - أن تشغل الحيز الجدير بها لدى المؤلف… حيز البطولة الرائدة، ولماذا ينشغل المؤلف كثيرا بأن يدع المرأة تشغل ذلك الحيز المرموق (على حساب الرجل أحيانا)؟ هذا من شأنه الخاص، لكن الإجابة الوافية على هذا السؤال أبعد عمقا فيما يبدو من احتمال ذهبت إليه سابقا مفاده أن المسألة قد تجد جوابا شافيا لها في هاجس الإثارة الدرامية المرتجاة من قلب سنة الحياة الأولى الممثلة في دوري الرجل والمرأة من أمر القيادة.

في "ضمير أبله حكمت": "حكمت هاشم.. وفي "الشهد والدموع": "زينب".. وفي "الراية البيضا": "فضة المعداوي"… وفي "ليالي الحلمية": "نازك السلحدار" وأكثر، وهي أيضا امرأة في "أرابيسك"، وفي "المشمش" و"النوة" وغيرها… تماما كما هي امرأة في "عصفور النار". على أنها أحيانا تنفرد ببطولة أحد طرفي الصراع، كما في "الشهد والدموع" و"الراية البيضا"، وأحيانا بالبطولة المطلقة للعمل كله كما في "النوة"، وكثيرا ما تكون بطلا موحيا كما في "أرابيسك" و"ليالي الحلمية" و"أبو العلا البشري" وغيرها، لكنها في كل مرة بطل لا يحب أن يعلو على كل الرجال، أو قل هي دوما تحب أن تستبقي رجلا واحدا على الأقل تستلهم قواه وقدرته فتعول عليها في الشدائد. على أنها في "عصفور النار" تستحضر هذا الرجل طيلة كفاحها… بل هو - أكثر من ذلك- مفجر هذا الكفاح وملهم استمراره.

يصح أيضا أن نقول إن ثمة في "عصفور النار" انقلابا أكثر خصوصية في طبيعة موقعي الرجل والمرأة من فعل القيادة، إذ لم تضطلع المرأة بدور القائد فقط، وإنما لعبت دورا أقرب إلى القوة العضلية في حين لم يكتف الرجل بالانسحاب إلى الموقع الثاني، بل- تأكيدا لهذا الانقلاب- اضطلع بدور الملهم الحافز… ذلك الدور الذي وسم المرأة كلما ارتضى لها الرجل أن تنهض بدور فاعل على مر العصور[15].

الشهد والدموع:

في محاولاته الأولى، بدا أسامة أنور عكاشة متعثرا، وغير قادر على صياغة "الشفرة"، التي صاغت بعد ذلك علاقته بالجمهور العام، فمن يتذكر مسلسلاته الأولى مثل "المشربية" و"أبواب المدينة " سيتذكر على الفور كيف كانت مشغولة بنفس مسرحي أكثر منه تلفزيوني، تعلي من الحوار على حساب الصورة، التي كانت فقيرة بحكم إمكانيات ذلك الزمان وتتردد فيها أصداء لمقولات كبيرة عن "عزلة المثقف وأزمته الوجودية". سمات الحوار المسرحي تخلص منه مع عمله الأول الكبير "الشهد والدموع" في بداية الثمانينيات، ومن يعرف أدب نجيب محفوظ جيدا سيدرك على الفور العلاقة بين هذا العنوان ورواية "ميرامار"، فعامر وجدي أحد أبطال الرواية يقول: "الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع".

من هذه الجملة أخذ عكاشة اسم مسلسله التليفزيوني، الذي دشن شهرته العريضة، وأعلن مولده ككاتب استثنائي صاحب صنعة.

وحسب رؤية الناقد طارق الشناوي، فقد ولدت على يد عكاشة مع هذا المسلسل "مكانة" كاتب السيناريو. وأصبح للمرة الأولى في تاريخ الدراما اسم السيناريست ضمانة لجودة المسلسل، والتترات تبدأ باسمه قبل أسماء المخرج والنجوم. وهي نقطة تحول مهمة، ربما عوضت عكاشة قليلا عن احتياجه المفهوم للقب "الكاتب"، الذي يحيل إلى كاتب الأدب وليس إلى "الدراماتورج" أو كاتب الدراما، وزاد من حجم التعويض أن مسلسلاته أصبحت منصة لا تخيب لإطلاق نجوم يصعدون إلى سماء النجومية بسرعة الصاروخ، ومن ينسى في هذا المسلسل أداء محمود الجندي وخالد زكي ونسرين وعفاف شعيب، التي خرجت بدورها في (الشهد والدموع) من فضاء المرأة البضة الباهتة التي ظهرت في بعض الأفلام وهي تضطرب في أدائها الأنثوي المفتقد إلى عنصر الإغراء، وارتقت إلى دور فيه "أمومة حارقة" لا تخلو من أسى تصنع صلتها بالناس من بكاء كان لا ينقطع، لكنه كفيل بصنع أواصر انتماء كانت بحاجة إليه قبل أن تصل إلى دورها الثاني المؤثر في (رأفت الهجان).

مساحات الأداء التي وفرها عكاشة لنجوم أعماله، تميزت بحوارات دافئة، لم تأت خالية من تساؤلات عميقة عن معنى الوجود، وعن حدة الصراع الطبقي، ومرارة الافتقار إلى الحد الأدنى من معنى العدالة الاجتماعية[16]. كانت هناك رسالة واحدة يعيد أسامة تأكيدها من عمل لآخر، أو لنقل رسائل قليلة تتعلق بالعدالة الاجتماعية (أكثر ما أحبه في عبد الناصر) والحس القومي العروبي والبطل الشعبي الذي بوسعه أن يقود التغيير.

وليس من النادر أن نجد كاتبا روائيا أو شاعرًا أو قاصا يؤمن بهذه القيم ويدور حولها في كتاباته، بل إن هذا هو العادي، لأن أغلب الكتابة تأتي من اليسار، لكن عبقرية أسامة أنه جعل هذه الأفكار مادة للدراما التليفزيونية. وهي من جهة خبز المواطن غير المثقف، البعيد كلية عن هذه الأفكار، ومن جهة أخرى ـ وهذا هو الأهم ـ أن الدراما عمل جماعي، تأتي ميزانية إنتاجه من الدولة؛ قبل انتشار شركات الإنتاج الخاصة[17].

من خلال هذا المسلسل، تطرق الكاتب إلى حياة أسرة "رضوان" بداية من مرحلة العهد الملكي حتى السبعينيات من القرن الماضي من خلال طرح درامي لما حدث للمجتمع المصري خلال تلك الفترة عبر شخصيتي (حافظ ، شوقي) الشقيقين، ومفهوم كل واحد منهما للحياة، خاصة بعد رحيل الأب وطمع حافظ فى ميراث شقيقه، والصراع المترتب على ذلك بين العائلتين، وتتأزم الأمور خاصة بعد وفاة شوقي الغامضة، التى تؤكد أحداثها ضلوع حافظ فيها، وهو ما يعيدنا إلى قصة البداية على الأرض، وما حدث بين الشقيقين قابيل وهابيل، ويستمر ذلك الصراع عبر العائلتين مع خلفية التطورات، التى تحدث داخل المجتمع المصري وأثرها عليهما، فنرى حافظ وزوجته والاستفادة التامة من كافة ظروف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية التى تحدث وتتغير، بينما زينب وأبناؤها مستمرون فى حالة الصمود أمام كل ما يطرأ من ظروف على المجتمع تدعو إلى التفكك، وتغير الشخصية المصرية البسيطة، التى ترتكز على القيم والأخلاق والتعليم لمواجهة الحياة[18].

المال هنا هو الصورة الدرامية، التى يقدم المؤلف من خلاله مجموعة من الإسقاطات السياسية والرمزية … فالأب رضوان "حمدى غيث" هو رمز لمصر التى تمر بمرحلة من عدم الاتزان، نتيجة الانتقال التاريخي من العهد الملكي إلى الجمهورية، وما صاحب ذلك من غموض في الحالة العامة للبلاد، والتي استمرت إلى أن أحكم عبد الناصر قبضته على كافة الأمور، وهو ما انعكس على الأب الذي تزوج بامرأة تصغره كثيراً "جليلة محمود"، ثم أنجب منها وحيد "عبد العزيز مخيون"، والذي أصبح وحيداً بعد ذلك طيلة العمل؛ وهذا إسقاط آخر من الكاتب على أن الجيل، الذى ولد مع الثورة ظل تائهاً وحيداً بين شعارات تتردد يومياً، وبين واقع يؤكد بأن كل ما قامت الثورة ضده مازال قائماً ويستفحل مع مرور الأيام، وتقف رأسمالية الأب الوطنية المرتكزة على الأصالة الاجتماعية فى اسم العائلة ومكانتها حائلاً بين زواج الابن الأصغر شوقي "محمود الجندي" من الفتاة، التي أحبها زينب "عفاف شعيب"، لأنها فقيرة ووالدها جعفر "أحمد الجزايرلي" يعمل في أحد محلات الحاج رضوان ولا يليق به هذا النسب، فالابن شوقي هنا هو رمز للطبقة المتوسطة، التى تبحث عن البساطة والأصالة، بعيداً عن حسابات المال والجاه والثروة الزائفة، لذلك فهو يصر على الزواج من زينب غير عابئ بمستواها المادي والاجتماعي، فهو هنا النظير العملي لتطبيق سياسة الاشتراكية، التي نادت بها ثورة يوليو، ولم تطبقها على نفسها.

على النقيض، نجد شخصية حافظ "يوسف شعبان" الابن الأكبر رمزاً للاستغلال الطبقي والوصولية فهو يتزوج من دولت "نوال أبو الفتوح" ابنة أحد الباشوات، رغبة منه في أن يصبح أحد أفراد هذه الطبقة، التي واصلت مغامراتها المالية حتى مع وجود نظام سياسي جديد بعد انتهاء الملكية، ويستمر صعود هذه الطبقة حتى تستنسخ صورة جديدة لها فى فترة الانفتاح الاقتصادي، وهو ما تمثل في شخصية حجازي "محمد متولى"، وزوجته "ليلى يسري"، التي استولت على أبناء أختها "فتحية طنطاوي" ليصبحوا أبناءها، لأنهما غير قادرين على الإنجاب، وكذلك استيلائهم على ممتلكات حافظ فى نهاية الأمر، فى استمرارية درامية شديدة الذكاء من المؤلف كرمز على استمرار المتاجرين بالبلاد والعباد، المتماهين مع كافة الأنظمة حفاظاً على مصالحهم الخاصة[19]. 

لا ينبغي أن ننسى أن "الشهد والدموع" كان من بواكير الدراما العكاشية، وعليه فإن كثرة الشخصيات وتداخل الأحداث ومفاجآتها والحوار النابض بالحياة، إلى غيرها من سمات الرجل، كانت جديدة على المشاهدين، أو ربما - بمعنى أكثر دقة- كان اجتماعها على ذلك النحو هو الجديد الحافز على الترقب والاندهاش… وفي "الشهد والدموع"، وربما في "ليالي الحلمية"، مع أنها من أعماله الناضجة، اختار عكاشة أن ينحاز صراحة إلى البساطة وجمهورها الواسع، وإن يكن قد فعلها في الأولى - الشهد والدموع- عفوا، بينما عمد إليها عمدا وهو في كامل أدواته في المرة الثانية مع "ليالي الحلمية".[20] كما تتميز أعمال عكاشة "بسطوة الملامح الروائية مثل النفس الملحمي… فهو لا يسرد حكاية تقليدية عن الثأر والزواج والطلاق وثراء أحد الأشخاص فجأة، بل يؤرخ بالصورة لوطن بكامله، لمدينة، لطبقة اجتماعية تتآكل، ويتابع ذلك عبر أكثر من جيل. مع التحفظ على تعبير "يؤرخ" لأنه يفعل أكثر من مجرد التوثيق واستعادة الماضي والتباكي بشأنه، فالنفس الملحمي بما يقتضيه من امتداد سردي معقد، يقتضي وعياً هائلاً بجدلية الزمان والمكان، وبالتغيرات العميقة، التي تنتاب الشخصيات، وقدرة على استشراف المستقبل"[21].

وفي أعمال أسامة أنور عكاشة، نجد أن المرأة احتلت المساحة الكبرى منذ بواكير مسلسلاته حتى آخرها، وإن كانت نساء عكاشة في البداية عانين من مشاكل مجتمعية ونفسية إلا أن نساءه في الأعمال الأخيرة، كنّ رمزا ومعنى للإصلاح والقيم والمبادئ بالرغم من الصورة المثالية لبعضهن؛ ففي "الشهد والدموع" كانت "زينب" البطلة تجسد معاني المقاومة، الصمود و قدرة المرأة على تربية الأيتام، واسترداد الحق الضائع من عمهم الظالم "حافظ"، وفي "الحب وأشياء أخرى"، كانت البطلة نموذجا للرومانسية وقصة "الشاطر حسن" ولكن معكوسة؛ فالبنت الثرية تحب الشاب الفقير وتتزوجه، ولكن الحب لا يصمد في مجتمع المادية.[22]

وفي الختام، نشير إلى أن هذا المسلسل يندرج ضمن ذلك المشروع الفني، الذي بدأه عكاشة بداية معكوسة؛ "البحث عن أصول وجذور الطبقة الوسطى المصرية وعلاقة تلك الطبقة بالقوى السياسية من سلطة أو مال أو شبكة ممتدة من الأخلاق والأفكار والمبادئ، ولقد بدأ عكاشة رحلته البحثية مع مسلسل "الشهد والدموع"، ثم "ليالي الحلمية" بأجزائها الخمسة، وتلاها بـ" أرابيسك" و"زيزينيا"، وهو في كل عمل يزيح الستار عن جزء خفي من مكونات الطبقة الوسطى في مصر، تلك الطبقة التي تعمل بالتجارة أو الزخرفة أو الصناعة أو العطارة وفي ذات الوقت تتشابك مع رجال السلطة ونواب الشعب، ويطل العمدة "سليمان غانم" ليذكر المشاهد أن أصل تلك الطبقة يمتد إلى الريف المصري بسذاجته ودهائه وصبره، وإصراره على الدخول إلى عالم المدينة بأخلاق الريف وصفاته، وفي عمله الأخير "المصراوية"، رسم أسامة أنور عكاشة لوحة فنية مفصلة لقرية مصرية تقع ما بين المنصورة وكفر الشيخ، تلك القرية على قدر صغرها إلا أنها بداية انطلاق نحو مجموعة كبيرة من العلاقات المتشابكة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا".[23]

الراية البيضا:

الدكتور مفيد أبو الغار، الشخصية الرئيسة في أحداث المسلسل، هو رجل أراد أن يعيش أيامه الأخيرة في منزله بالإسكندرية بهدوء، بعدما عمل سفيراً لبلاده في العديد من دول العالم وقت الحروب والأزمات العالمية الكبرى، عاد ليكتشف أن الحرب الحقيقية في الداخل، وأن الأعداء الحقيقيون على مقربة أمتار من منزله، أعداء الهوية الحقيقية لمدينة تاريخية تأسست قبل أكثر من 2300 عام على يد الإسكندر الأكبر، أعداء يريدون تحويلها إلى مسخ إسمنتي قبيح لتتضاعف ثرواتهم المشبوهة، وهي الحرب التي يؤكد صناع العمل في كل تفصيلة أنها حرب بالفعل لا مجرد تشبيه. بدءاً من مقدمة المسلسل التي يُمزج فيها بين عدة مشاهد من الحرب العالمية الثانية ومشهد "بلدوزر" تاجرة السمك فضة المعداوي، وهو يتقدم إلى الأمام، مع عبارة: (عفواً.. ليست هذه حرباً عالمية جديدة.. ولكنها فضة!)، أو استبدال تسلسل الحلقات بتسلسل الجولات باعتبار أن كل حلقة هي جولة في المعركة، المعركة التي خطط لها عكاشة ويديرها فاضل، ومن الذكاء أن عمل الدكتور مفيد لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالهندسة المعمارية أو الفنون التشكيلية أو حتى بشؤون التاريخ، بل هو مجرد رجل مثقف متذوق للفنون، وهو ما يؤكد أن الثقافة والتراث لا تحتاج أكثر من الوعي للحفاظ عليها، بعيداً حتى عن الرجال المتخصصين في المجال، العارفين لأدق الاعتبارات التفصيلية في تراث الحضارة الإنسانية[24].

في جولات المعركة، وقف أبو الغار وفريقه أعزَل، سوى ممّا يحمله من قوة ناعمة متمثّلة في منظومة القيم والمبادئ الأصيلة، التي تنتمي إلى عصر مضى، تمتّعت فيه الطبقة الوسطى بقدر كبير من الأمان، مكنّها من الاحتفاظ بمكانتها الاجتماعية اللائقة، في مواجهة خشونة الطبقة الرأسمالية الطفيلية، وفظاظتها وتوحشها، وهي التي ظهرت، فجأة، في غفلة من الزمن، والتي أثريَت من ممارسة أنشطة اقتصادية طفيلية كانت في أحيان كثيرة غير شرعية، في حقبة "الانفتاح"، التي شهدتها مصر في سبعينيات القرن العشرين.

وأعلنت هذه الطبقة عن نفسها بكلّ قوة، وبصورة زاعقة في مواجهة كل طبقات المجتمع، وسعت إلى تدارك نقصها وستر عوراتها المعنوية المتمثّلة في ما تتسم به من جهل وسوقيّة وانحطاط في لغة الخطاب وفساد في الذوق، عبر تضخيم ثرواتها، أيّاً كان مصدر تلك الثروات، ثمّ الاستيلاء في مرحلة لاحقة على ما لم يكن يخطر ببالها في أجمل أحلامها، ثمّ تزاوجت مع السلطة في حقبة لاحقة من أجل صياغة بنية سياسية وقانونية، تمكّنها من زيادة مكاسبها وامتيازاتها، التي تحظى بها من دون أي مسوّغ منطقي[25].

سيناريو أسامة أنور عكاشة هنا يبلغ درجة من درجات الكمال الفني، يصنع عملاً ملحمياً بكل معنى الكلمة، دون أن تطغى إحدى شخصياته على الأخرى، ودون أن يغلب الهم العام على الخاص أو العكس، لو تم تجريد القصة والشخصيات من البعد الإنساني والفني، ستجد أنه لم يتخل - ولو للحظة- عن مقاييس قصة عسكرية حقيقية في معركة ضارية، فكلا الفريقين له قائد ملهم، ولدى كلا الفريقين جهاز قانوني وإعلامي وشعبي يدعم توجهاته… في الوقت الذي يستخدم فيه أبو الغار جهازه الإعلامي بأن تقوم أمل بعمل مجموعة من التحقيقات الصحفية لضرب الخصم معنوياً وشعبياً، ترد فضة بشراء ذلك المنبر الإعلامي بأموال الإعلانات، بل صنع دعاية إعلامية صارخة، من خلال تمويلات ضخمة لقصر الثقافة، والإعلان عن مشروع مدينة فنون كاملة، لتتحول فضة من سيدة جاهلة تريد هدم منزل تاريخي إلى راعية الفنون الأولى في الإسكندرية، وحين يلجأ أبو الغار إلى القانون لاستصدار أمر من المحامي العام بأحقيته بملكية المنزل والبقاء فيه، تتمكن فضة من استصدار أمر قضائي لإزالة الفيلا، وبينما يلجأ أبو الغار إلى فناني ومثقفي وأهالي الإسكندرية لكسبهم في صف قضيته، لا تتوانى عن تقديم رشاوى للجميع بدءاً من الأموال السائلة، وليس انتهاءً بأحدث السيارات والمنازل الفاخرة.

ملحمية السيناريو إضافة إلى كل ما سبق، لا تخلو من قصص انتصارات، وانكسارات، حب وصداقة، وخيانة تتخلل تفاصيل العمل بذكاء بالغ، وإذا أردنا أن نضع دوافع جميع الشخصيات بلا استثناء قيد الاختبار، ستجد أن لها بناء متماسكاً منثوراً في الأحداث دون إقحام أو شعور بأنها وضعت من موقف التبرير، حركة كل شخصية في مربعات شطرنج الأحداث مدروسة بعناية فائقة، إذا أضفنا إلى كل ذلك أصالة قضية العمل وأسبقية الإشارة إليها في وقت مبكّر للغاية، قبل أن تصبح في يومنا هذا أمراً واقعاً مسلماً به، بعد أكثر من ربع قرن، منذ أن أطلق صناع العمل صرختهم التحذيرية، كل ذلك يصب في قيمة السيناريو الفنية والفكرية.

في مشهد ساخر ومحزن وغرائبي في ذات الوقت، يدخل الدكتور مفيد أبو الغار إلى مكتب فضة المعداوي في وكالة السمك، ممسكاً براية بيضاء ومعلناً استسلامه وانسحابه التام من المعركة، ورغم أنها لم تفهم في البداية رمزية الراية لجهلها الشديد، إلا أنها توافق على شرط أن تستخدم سلطتها لتخليص هشام وأمل من القضية التي لفقت لهما، وعلى إثرها كان من الممكن أن تودي بمستقبلهما إلى الأبد، في الاجتماع الأخير بمنزل أبو الغار يخبر فريقه أنه قد أعلن استسلامه التام، بينما يرفض أغلب أعضاء الفريق القرار، ومن ثم يأتي المشهد الختامي الساحر لتكتل فريق (أبو الغار) للمرة الأخيرة أمام الفيلا، ومعه أمل ومجموعة من الصحفيين، وهشام مع فناني ومثقفي الإسكندرية، والعربي مع أبناء وأهالي البلد العاديين الذي يقدرون قيمة المبنى الأثري، بينما يتقدم جيش فضة المعداوي دون صبر أو هوادة بـ"بلدوزر" ليهدم المبنى على قاطنيه إن لزم الأمر، ووسط صيحات فضة التهديدية، يجلس الدكتور مفيد و من معه على الأرض، رافعين أيديهم متشابكة ببعضها، في تحدٍ أخير أمام قوى الجهل والقبح الغاشمة في محاولة أخيرة لإنقاذ الأصالة والجمال، والسؤال الذي يفرضه هذا العمل بعد كل هذه السنوات الطويلة، هل انتصر القبح بالفعل على الجمال والأصالة؟[26] 

في "أبو العلا البشري" و"الراية البيضا"، نلمح في البطل.. ملامح "دون كيشوت"، الساعي إلى تغيير حياة من حوله، حتى لو قاده ذلك إلى محاربة طواحين الهواء، فما يعنيه أنه صاحب رسالة في التغيير… وفي العملين بالتحديد كان عكاشة قد بدأ الإعلان عن هويته السياسية وانتماءه إلى "الناصرية"، ليس بمعنى المشاركة في تنظيم سياسي، وإنما بالمعنى القائم على ترتيب أولويات على رأسها العدالة الاجتماعية، وفضح قيم عصر الانفتاح، والدفاع عن مكاسب الفقراء في زمن عبد الناصر، ففي التحليل الأخير لا فرق بين ممارسات فضة المعداوي والمقاول الجشع في "أبو العلا البشري"، كما أنه لا فارق بين وعي أبو العلا وطموحاته ورهانات السفير مفيد أبو الغار، غير أن الثاني كان أكثر قدرة على بناء تحالفات تقوده للمواجهة التي لازالت مفتوحة[27].

كانت الدولة التي تمول إنتاج "الراية البيضا" أسيرة توحش رأس المال، عندما مولت مسلسلاً يمجد قيمة الجمال في فيلا السفير السابق مفيد أبو الغار في مواجهة جهل تاجرة السمك فضة المعداوي، التي تريد شراء الفيلا بالإكراه لتبني عليها برجا سكنيا.

وكان دين الدولة، ولم يزل ساداتيا، عندما رفع أسامة أنور عكاشة عبد الناصر في السماء بملحمة "ليالي الحلمية"، وتعرض لحملات صحافية ضارية لكونه يبث الأكاذيب بأموال الشعب المصري!

هكذا، ودائما ينتبه النباحون إلى أموال الشعب المصري عندما يتعلق الأمر بحرية الإبداع والتفكير، ولكن هذه الحملات لم توقف توالي الأجزاء الخمسة من المسلسل الذي تناول ثلاثة أجيال من عائلتي الباشا المديني سليم البدري والعمدة الريفي سليمان غانم، ومعهما تحولات مصر من الملكية حتى تداعي التسعينيات.

لم يكن توالي أعمال أسامة أنور عكاشة دليلاً على ليبرالية الحكومة وقطاع الإنتاج بتليفزيونها، بل شهادة لعبقرية في الكتابة لم يملك من يعارضون رؤيتها إلا أن يغضوا الطرف عنها، ويدعوها تمر[28]، فالرقابة… وجدت نفسها مضطرة إلى أن تفسح من صدرها مكانا لائقا بتلك الموهبة الفريدة، فتنازلت عن كثير مما كانت تعده من المحرمات ﴿ تلك المحرمات التي ساهم في ترسيخها لدى الرقابة تواتر المواهب الضعيفة..﴾.[29]

ويندرج هذا المسلسل ضمن ما يعرف بــ "دراما الشخصية"، حيث الشخصيات ذات وجود مستقل، وليست جزءً من الحبكة، وتتميز بالثبات والكمال منذ البداية، "ولا تفقد شيئا من وضعها وأخطائها وغرورها حتى النهاية، ولا يتغير أي شيء من ذلك، وإنما الذي يتغير معرفتنا نحن بها مع تقدم الأحداث، التي تكشف لنا عن صفاتها المختلفة"[30]، والعديد من شخصيات أسامة أنور عكاشة كانت ذات سمات إنسانية واقعية برغم تفردها الدرامي والخيالي على التوازي، وقدرتها على البقاء على قيد الحياة الفنية، حتى مع تكرار ظهورها في أعمال أخرى، مثل شخصية "العمدة سليمان غانم"، أو "أبلة حكمت" أو "بسة" أو "حسن أرابيسك" وغيرها من إبداعات عكاشة،[31] التي عاشت في الوجدان، وخرجت شخصياتها لتعيش في الذاكرة، وتصبح جزءا من التراث اليومي واللغة الحياتية للمصريين والعرب، فكأن شخصيات أسامة أنور عكاشة شخصيات جامحة تأبى إلا أن تستسلم إلى قلم كاتبها؛ فهي من لحم ودم وعقل وقلب تولد من رحم كلماته وتشب عن الطوق وتكبر لتصير مستقلة بذاتها، لها لغة حوار وحياة وصراع وآلام وأحلام في خصوبة متجددة[32]؛ فبعد سلسلة من الأعمال التي تناولت تاريخنا الحافل، والتي ألقت بظلالها على حاضرنا اتجه عكاشة إلى تصوير الواقع ومحاولة فهمه وفك رموزه، فكانت سلسلة أعماله التي فيها البطل يحاكي "دون كيشوت" في رحلته المشهورة لمحاربة طواحين الهواء.[33]

على سبيل الختام:

لقد استطاع أسامة أنور عكاشة أن يصنع دراما تلفزيونية، تحمل بصمة شديدة الخصوصية، يمكن للمشاهد العادي أن يتعرف على أعماله الماتعة، حتى دون قراءة اسمه على التترات، بفضل تلك "الشفرة" العكاشية، وقد نجح في أن يجعل المتلقي العربي -من الماء إلى الماء- يتابع مصائر شخوصه بشغف، وكأنها شخصيات حقيقية من لحم ودم، كما فسح أسامة المجال لكل كتاب الدراما المصرية لكي يقدموا أنضج أعمالهم، بعدما أرسى عكاشة قواعد هذا الأدب الجديد، واستحق، عن جدارة واستحقاق، لقب "نجيب محفوظ الدراما التلفزيونية".

ويمكننا أن نقول مع الناقد أحمد شوقي أن مشروع أسامة أنور عكاشة التلفزيوني الضخم لم ينل حتى الآن حقه من الدراسة والتحليل، فعالم عكاشة التلفزيوني ليس بسيطا كما يدعي البعض، ولا يعتمد على ثيمة فكرية وبنائية واحدة، بل يمكن تقسيم مشروعه الفني - حسب شوقي- إلى ثلاثة اتجاهات فكرية وبنائية، تتشابه في بعض العناصر، وتتنافر تماما في بعضها الآخر.

الاتجاه الأول هو الدراما "الدون كيشوتية" المعتمدة على وجود شخصية رئيسية واضحة تكون مركز العمل، وهو دائما فارس نبيل يحمل منظومة من القيم، التي يؤمن بها ويدافع عنها، ويحاول التمسك بها في مواجهة العالم، الذي يتغير من حوله، وهي دراما البطل فيها واضح عادة ما يحمل المسلسل اسمه، وأبرز أمثلة لهذا الاتجاه بالطبع هو "أبو العلا البشري"، الذي زينت صورة الفارس دون كيشوت تتراته، ومعه "ضمير أبلة حكمت" و"امرأة من زمن الحب" و"الراية البيضا"، والأخير تحول الفارس فيه إلى مجموعة من الفرسان تواجه طوفان الجهل والقبح الذي هاجم مصر ويواصل هجومه حتى يومنا هذا.

الاتجاه الثاني هو الاتجاه الأشهر الذي يظن البعض أنه الوحيد، وهو الاتجاه الذي يندرج تحته عمله الأيقوني "ليالي الحلمية"، والذي يعتقد البعض أن البطل فيه هو المكان، وهو التفسير الخاطئ الذي أشرت إليه من قبل. فالبطل في "ليالي الحلمية" و"الشهد والدموع" وأمثالها هو الزمان وليس المكان، وهي أعمال تحليلية تهدف لدراسة التغيير الذي يحدثه الزمن، عبر تجربة تكاد توصف بالعلمية، يقوم المؤلف فيها بتثبيت عنصري المكان والبشر، ويقوم بتحريك الزمان ورصد أثره عليهما، ليقدم بذلك رؤية بانورامية عن التحولات والآثار، التي قد لا يستطيع رصدها إذا ما قام بمتابعة شخصية بعينها أو انحصر في فترة زمنية محدودة.

الاتجاه الثالث هو الاتجاه الذي شغل أسامة أنور عكاشة خلال العقدين الأخيرين من حياته، كهدف أسمى يتوج به تجربته شديدة الثراء، وهو اتجاه التفتيش عن الهوية المصرية، ومحاولة فهم حقيقة المصريين، والإجابة عن السؤال المحير: هل المصريون مسلمين أم أقباط أم فراعنة أم أتراك أم ينتمون لهوية أخرى؟ وهو السؤال الذي يمكن أن نعتبره الفكرة العامة لمشروع عكاشة الفني ككل.

هذا الاتجاه الثالث أسفر عن عمل بديع هو "أرابيسك"، الذي يمكن اعتباره أحد أفضل المسلسلات التلفزيونية المصرية إن لم يكن أفضلها على الإطلاق، وأسفر أيضا عن مشروعين شديدي الطموح لم يمهل العمر أسامة أن يكملهما هما "زيزينيا" و"المصرواية"، وهما استمرار لطرح كل الاحتمالات الممكنة للإجابة على هذا السؤال، وإن كان المبدع قد تمكن مسبقا في تقديم إجابة واضحة عليه سواء في "أرابيسك" أو في باقي أعماله بشكل عام.[34].

***

هشام بنشاوي - كاتب- المغرب

.......................

الهوامش:

[1] أسامة عبد الفتاح، "قصة حب لم تكتمل"، جريدة "القاهرة"، القاهرة، 8-6-2010

[2] سيد محمود، "زمن أسامة أنور عكاشة.. خبز أيامنا"، موقع الكتابة الثقافي، 05-06-2010، 18:27 ، انظر الرابط:

http://alketaba.com/old/index.php/2013-10-30-09-57-32/2015-01-26-05-40-22/item/654-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D8%A3%D9%86%D9%88%D8%B1-%D8%B9%D9%83%D8%A7%D8%B4%D8%A9-%D8%AE%D8%A8%D8%B2-%D8%A3%D9%8A%D8%A7%D9%85%D9%86%D8%A7.html

[3] سمير الجمل، "فن الأدب التلفزيوني"، ص 13

[4] سيد محمود، م. س

[5] د. عبد القادر القط،"الكلمة والصورة"، المركز القومي للآداب، القاهرة، ط 1.، 1989، ص 211

[6] سمير الجمل، م. س، ص 17

[7] أسامة عبد الفتاح، م. س

[8] د. عبد القادر القط، "المسلسل التلفزيوني.. بين الضرورة والفن"، مجلة إبداع، القاهرة، ع. 8 ، أغسطس 1983

[9] نزيه أبو نضال، "المسلسلات التجارية تهديد حقيقي لمنظومة القيم العربية"، جريدة "الرأي"، الأردن، 32-08-2005

[10] د. عبد القادر القط، "المسلسل التلفزيوني.. بين الضرورة والفن"، مجلة إبداع…

[11] د. عبد القادر القط، م. س، ص 208

[12] عمرو منير دهب، "بين الكاتب العادي وأسامة أنور عكاشة"، نسخة PDF، ص 19-20

[13] د. عبد القادر القط، م. س، ص 208-209

[14] د. أحمد عمار ، م. س، ص 62

[15] عمرو منير دهب، م. س، ص 18

[16] سيد محمود، م. س

[17] عزت القمحاوي،"موت المؤلف"، جريدة "القدس العربي"، لندن، ع. 6523، 29-05-2010

[18] عمر توفيق، " "الشهد والدموع".. انطلاقة الدراما الاجتماعية المصرية"، موقع "عين على السينما"، 15-08-2016، 11:32، انظر الرابط:

http://eyeoncinema.net/Details.aspx?secid=56&nwsId=3663

[19] عمر توفيق، م. س

[20] عمرو منير دهب، م. س، ص 33

[21] شريف صالح، "أسامة أنورعكاشة.. مؤسس الرواية التلفزيونية"، موقع "الحوار المتمدن"، ع. 3020، 31-05-2010، 17:01، انظر الرابط:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=217492&r=0

[22] د. عزة أحمد هيكل، م. س، ص 80-81

[23] د. عزة أحمد هيكل، م. س، ص 83

[24] أحمد راضي، "الراية البيضا: هل انتصر القبح على الجمال؟"، مجلة "المجلة العربية"، الرياض، ع. 465، 2015

[25] أحمد طه، "جدل العمارة والحضارة والحراك الاجتماعي في "الراية البيضا" "، موقع "الخليج الجديد"،04-04-218، 11:36، انظر الرابط:

https://thenewkhalij.news/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%81%D9%86/%D8%AC%D8%AF%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B6%D8%A7%C2%BB

[26] أحمد راضي، م. س

[27] سيد محمود، م. س

[28] عزت القمحاوي، م. س

[29] عمرو منير دهب، م.س، ص 11

[30] سمير الجمل، م. س، ص 89

[31] د. عزة أحمد هيكل، م. س، ص 20

[32] د. عزة أحمد هيكل، م. س، ص 55

[33] د. عزة أحمد هيكل، م. س، ص 86-87

[34] أحمد شوقي، "أسامة أنور عكاشة.. المنتصر في قبره"، جريدة "القاهرة"،القاهرة، 9-07-2012 

 

في المثقف اليوم