قراءات نقدية

ملاحظات عابرة حول تجرية قصي الشيخ عسكر

صالح الرزوقمن المفارقات الغريبة أنه بعد أن غادرت مدينة نوتنغهام عائدا إلى حلب باشر قصي الشيخ عسكر حياته فيها. وإذا استولت عليه هموم الحياة اليومية دون أن تؤثر بميوله للأدب أو مستوى نتاجاته في الرواية والشعر، فقد تركت حياة المهنة الأكاديمية وظروف سوريا أثرا لا يمحى على أسلوب وشكل حياتي، فقد أغلقت المؤسسات أبوابها أمام كتاباتي. وربما كنت أنا الوحيد الذي لم يصدر له كتاب تدريسي في الجامعة من بين حوالي 40 عضوا هم أسرة القسم المتخصص، وكانت هذه أول خيبة أمل منيت بها.

وبعد أن كان مستوى التفاؤل يجهزني كي أنطلق مثل قطار في حلب، وجدت نفسي  إنسانا مقعدا ومشلولا، داخل غرفة باهتة وباردة في المنزل، وضمن غرفة تحتاج لهدم وإعادة بناء في الجامعة. وكنت يوميا أنبش في داخلي لأجد الأسباب الموجبة لهذه الإهانة وهذا الإهمال. وفي هذه الظروف المؤسفة تعرفت من خلال "صحيفة المثقف" على الصديق الكاتب قصي الشيخ عسكر. وأخبرني منذ البداية أنه درس الماجستير في دمشق. وذكر لي أسماء أدباء ربطته بهم أشكال متنوعة من العلاقات، وكانت لي معهم علاقة شخصية عابرة. من هؤلاء القاص جان ألكسان - محرر في جريدة البعث بدمشق، والناقد نبيل سليمان - ناشر ومعارض معروف، والدكتور نعيم اليافي - رئيس فرع حلب لاتحاد الكتاب وعبد الكريم اليافي وأسعد علي ويوسف اليوسف وإبراهيم الجرادي، وواسطة العقد الدكتور حسام الخطيب - المقيم حاليا في قطر.

وإذا لم أتفاءل بهذا المدخل  لأنه لا ينير طريقي للمستقبل ولأنه أساسا ذو علاقة بالماضي الذي أراجعه وأدقق به باستمرار، فقد كسبت نافذة اطلعت من خلالها على ما طرأ في نوتنغهام من تطورات، مثل بروز ظاهرة شعرية معاصرة تتمثل بأشعار هنري نورمال، وصدور مجلة ثقافية هي مجلة نوتنغهام الأدبية التي تنشر لأسماء شابة تكتب بالإنكليزية.

ولكن المكسب الأهم هو الاطلاع على نتاج قصي نفسه والذي وصلني بشكل ملفات word  أو  pdf. والحقيقة أنني لم أتوقع أنه غزير الانتاج ومجدد. وكان يفضل تصنيفه ضمن فئة "الواقعية المستنيرة". وهو الاتجاه الذي أرى أنه يمثل الواقعية الجديدة.

وإذا لم تأسرني روايته الأولى، والأهم برأي النقاد، وهي "نهر جاسم"، فقد وجدت في "المقصف الملكي"، ولاحقا "الرباط" علامة فارقة في المشهد الروائي.

وأجد نفسي مدينا لكم هنا بإيضاح سريع.

تدخل رواية "نهر جاسم" في مجال ما يسمى الرواية النهر، فهي تتابع سيرة أجيال متعاقبة ومكان محدد من جنوب العراق، وخلال تطور أحداثها تموت شخصيات وتحل محلها شخصيات بديلة، ولكن التالي لم يكن يلغي السابق، وغالبا ما يكرره ليؤكد على مجموعة من القيم الأخلاقية التي تزيد من أهمية الأرض.

وبرأيي إن الرواية لم تصور المكان بقدر ما اهتمت بالمعنى الكلاسيكي المستتر للأرض. ولذلك تراجعت التفاصيل الاجتماعية لتحتل المساحة تفاصيل وجدانية ووطنية عميقة. ويمكن القول إننا كنا نسمع أصوات نماذج وأنماط وليس شخصيات. حتى أن الأحداث لم تكن بسيطة ولكنها محملة برموز ودلالات مضمرة تدل على قيم لها حضور متأصل في الهوية العربية، ومنها الشرف والرجولة والاستقلالية والنخوة، وقد خصص لها المفكر الرائد أحمد أمين فصلا مسهبا في كتابه "فجر الإسلام".

في حين أن "المقصف الملكي" قدمت لنا صورة عراقي ضائع في بيروت، وعلى شواطئ المتوسط، وكان يمضي سحابة يومه وهو يتأمل البحر الهائج ويوازن بين أختين، أحبهما بمقدار واحد.

ولاشك أن الحيرة مكون أساسي في أعمال قصي الشيخ عسكر، فهو على علاقة متحركة ومتبدلة بالأمكنة، ولا يستطيع أن يجزم أين يلقي عصا ترحاله، وهذا يشمل الأمكنة والبشر - أو المحبوبات.

ومثلما أعتقد أن ما يحدوه للتنقل هو قلقه النفسي وعدم قدرته على جزم أموره. كذلك هو حاله مع نسائه، لا يعلم لمن يقدم قلبه، وحيرته  بين أختين في "المقصف الملكي"، يقابلها التردد  بين صديقتين في "الرباط".

وحتى في آخر أعماله، روايته القصيرة "صفرة ما على الجدران"، يحترق بطل الرواية بنار الشك ويغلب على سلوكه العلاقات السريعة والخاطفة، وغالبا ما تجري مشاهد الحب في أسوأ وأضيق فضاء يمكن تخيله وهو دورات المياه العامة في الدانمارك  حيث يخيم عليها ضعف الرؤية وقلة الحركة. كما أن كشف الأعضاء يقابلها التستر على بقية الأطراف وتغييب مشين وغريب للشأن العاطفي. وبالتأكيد إن مثل هذه الممارسات الفاحشة تشير للخوف والكره والضرورة أكثر مما تدل على الثبوت والحب والاطمئنان.

عموما إن الحب قليل جدا في أدبيات قصي الشيخ عسكر. وأعماله عن الداخل العراقي وفي مقدمتها "قصة عائلة" و"ربيع التنومة" تقدم صورة متطرفة عن أعمال وهيجان شامل تناوله المرحوم الدكتور حسين سرمك حسن في كتابين هما "البطل البريء"، و"رسالة وجودنا الخطيرة"، و أشار فيهما بطريقة ذكية ومقننة وبشكل لا يترك مجالا للشك أن  العصاب الجماعي هو الذي تسبب في افتتان الغوغاء بالدم. وأسهب بتحليل معنى الجشطالت وعلاقة كل جزء في أي كيان ببقية الأجزاء أو الكل. ونفهم من ذلك أن العنف بكل صوره، سواء القتل أو الإيروتيكا السادية أو الدروشة والهذيان الذي يتلخص في خاتمة المطاف بسلوك مازوشي، لا يكون حصيلة تراكم حوادث منفصلة. ولكنه جزء لا يتجزأ من حركة الواقع الموضوعي.

ولا يوجد في ذهني حالات تأزم فنية من هذا النوع، ولا حتى بين أدباء أدمنوا على الترحال وعلى نفي أو نقض الأطروحة مثل غالب هلسا مؤلف "السؤال" و"ثلاثة وجوه لبغداد" وغيرها. كما أن كاتبا هاما ومريضا مثل دستويفسكي فرض عقوبة نفسية على القاتل قبل أن يفرض عليه عقوبة جنائية، والإشارة لروايته المشهورة "الجريمة والعقاب". بمعنى أنه لم يسمح لبطل الرواية بالهرب أو الإفلات من المسؤولية. لقد بذل وسعه لإلغاء دور الخوف في تثبيت حالة السبات أو الغيبوبة. 

لكن بالمقارنة  اختار راوي "الرباط" أن يهرب إلى الدانمارك، وراوي "رسالة" أن يهرب إلى موسكو ومنها إلى القسم الغربي من أوروبا. أما أسرة الضابط المتهم في "قصة عائلة" فقد وقع اختيارها على الهرب إلى إيران.  وكلها نهايات تغييبية تضع الوعي مكان الوعي الباطن 

وفي كل الحالات، ومهما اختلفت الدوافع،  كانت هذه النهاية غامضة، وينقصها الانتماء الحقيقي، ويغلب عليها ما يسمى ثقافيا بالاستلاب. وهي نهاية نفهم من لفظها أنها ذات مضمون سالب يشير لاختلاس أو سلب شيء هام، كما أنها تتضمن دلاليا معنى الانفصال عن المكان والجذور، أو ما أسميه "الخلع الحضاري". فهل أراد قصي الشيخ عسكر أن يخترع ويبني هوية جديدة ل"صعاليك" العصر الحديث وأن يمهد لولادة شريحة جديدة هي فئة "الخلعاء"' المعاصرين؟؟؟...

***

صالح الرزوق

في المثقف اليوم