قراءات نقدية

أوراق (الشاعر د. نزار بريك هنيدي) إلى الهاوية.. في (غابة الصمت) (1-4)

مفيد خنسةلا يمكن للشاعر أن يكون حياديّاً، لا يمكن له أن يعبُر بالمآسي كما يعبُر الآخرون، ولا يمكن له أن يطمئن حين يعلو الضجيج ويكثر الهتاف والتصفيق، لا يمكنه أن يمر بوردة تعصف بها الرياح من دون أن يضعها إلى جهة القلب كي يحميها من العاصفة، لا يمكنه أن يمر بالطفل اليتيم على الرصيف من دون أن يوقظ المدينة على أنين القصيدة الحزينة، والشاعر نزار بريك هنيدي لم يكن حياديّاً، بل كان منحازاً إلى الشعر المعبر عن قضايا الإنسان، كان منحازاً للجمال والموسيقا والحب، ومن خلال تطبيق منهج النقد الاحتمالي على قصيدته (أوراق الهاوية) سأحاول أن أبين أبعاد موقفه الشعري من خلال المعاني والمضامين التي تختزنها هذه القصيدة.  

الفرع الأول: (أسرار)

يقول الشاعر:  

(هجرتهُ الأشجارُ

أخفى دمعَ اللوعةِ

لفّ القلب بمنديلِ الأملِ الواهي

كان يداري حلم طفولته

ويحاولُ

أن يستبقي

ما كان لديه منُ أسرار.)

في هذا الفرع يبين بريك هنيدي صورة ذات الشاعر الغائبة وعقدته (هجرته الأشجار) وشعابه الرئيسة هي: (أخفى دمعَ اللوعةِ) و(لفّ القلب بمنديلِ الأملِ الواهي)، أما شعابه الثانوية فهي: (كان يداري حلم طفولته) و(ويحاولُ/ أن يستبقي/ ما كان لديه منُ أسرار.).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، والفاعل فيه هو الضمير الغائب، وحين يفتتح الشاعر بقوله: (هجَرَته) ذلك يعني أنه على درجة عالية من الصحو، وهو يتذكر شخصاً مقرّباً إليه وهو يعاني من محنة الغربة القاسية، وحديث الشاعر عن غائب يشير إلى درجة التأثر به، كما يشير إلى شدة حضوره في وجدان الشاعر، وقد يكون حضورهُ حضوراً محضاً حتى يبدو غائباً، وهي الحالة التي يكون فيها الشاعر يتحدث عن أناه العليا، فيغدو حديثه بوحاً داخلياً يعكس شعوره بالألم والخيبة والمرارة والقهر، وقوله: (هجرته الأشجارُ) يحمل معنى مجازيّاً فتتعدد دلالاته وتتنوّع، فالأشجارُ رمز العطاء والتجدد والحياة، الأشجار رمز التشبث بالتراب والرسوخ في الأرض، الأشجار رمز الخضرة وتعاقب الفصول، الأشجار رمز دورة الحياة ورمز الأصالة  والنمو، وأن تهجرَه الأشجارُ ذلك يعني أنه أصبح بعيداً عن الأهل والأصدقاء الذين كانوا راسخين في حياته كالأشجار، يعني أن القامات التي تمثل الأصالة وتحفظ العهود والمواثيق قد نأت عنه، يعني أنه أمسى من دون الذين هجروه كالأرض الصحراوية   التي ليس فيها أشجار، وقوله: (أخفى دمع اللوعة) يضيف معنىً آخر للهجران، وهو أن المهجور كان قد أخفى دمع القهر واللوعة والحرمان، وهذا ما يدعونا للتساؤل، لماذا أخفى دمعه؟ لماذا لم يعلن عن لوعته ودموعها الحارقة؟ لعله الكبرياء قد منعه من هذا، ولعله الخوف من الشماتة، أو لعله الخوف من أن ينكشف سر ارتباطه بتلك الأشجار، لعله الكتمان الذي تفرضه أصول حفظ الأسرار التي حملها الفرع عنواناً، فآثر أن تكون مكابدته داخلية، وأن يكون حزنه دفيناً في أعماقه، وقوله: (لف القلب بمنديل الأمل الواهي) أي ومن شدة وقع الهجران على النفس غلّف قلبه بمنديل الأمل وإن كان ضعيفاً خشية أن تنفطر أوصاله، وقوله: (كان يداري حلم طفولته) أي فعل ذلك وأخفى دموع اللوعة من الهجران، من أجل أن يداري حلم الطفولة في أن يكون له شأن في العلم والمعرفة، أو في أن يتحقق حلم الطفولة بالعدالة والمساواة، أو في أن يتحقق حلم الطفولة التي رسمته تلك الأشجار الباسقة في سماء الوطن، أو في أن يتحقق حلم الطفولة بالفرح والحرية، أو في أن يتحقق حلم الطفولة بالسعادة وتحرير الأرض من الغاصب، أو أن يتحقق حلم الطفولة بوحدة الأمة وإزالة الأسوار عن الحدود الفاصلة بين أعضاء الجسد الواحد، وقوله: (ويحاولُ/ أن يستبقي/ ما كان لديه من أسرار.)، أي على الرغم من حالة الهجران التي أصبح يعاني منها فإنه بقي على ما كان عليه من العهود والمواثيق التي أقسم عليها، وبقي وفيّاً لتلك الأسرار التي جمعته بتلك الأشجار وما ترمز له من المعاني التي سبق ذكرها.

الصورة والبيان:

نلاحظ أن التركيب الشعري في هذا الفرع يتضمن معنيين:

المعنى المجازي:

فقوله: (هجرته الأشجار) استعارة، وقوله: (أخفى دمعَ اللوعةِ) استعارة، وقوله: (لفّ القلب بمنديلِ الأملِ الواهي) استعارة، وكلها صور شعرية أحادية البعد، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصور تدعى وفق منهج النقد الاحتمالي قصيدة خطية.

المعنى الحقيقي:

يتجلى بقوله: (كان يداري حلم طفولته)، وقوله: (ويحاولُ/ أن يستبقي/ ما كان لديه منُ أسرار.

الفرع الثاني: (أوراق التوت)

يقول الشاعر:

(هل ينزف أشعاراً

كي يردم هوّةَ موتْ؟

هل يبضع خاصرة الأحلامِ

ليفتح نافذةً

في جدران الصمتْ . ؟

هل يبكي؟

هل يحبس غصّته

هل ينسى؟

هل يستلقي دون حراكٍ

في التابوتْ؟

لا شيءَ

يغطي عورة كونٍ

أحرقَ آخرَ أوراقِ التوت.)

في هذا الفرع يبين بريك هنيدي صورة الشاعر الذي يواجه محنة تفوق القدرة على احتمالها وعقدته (هل ينزف أشعاراً؟) وشعابه الرئيسة هي: (هل يبضع خاصرة الأحلامِ) و(هل يبكي؟) و(هل يحبس غصّته؟) و(هل ينسى؟) و(هل يستلقي دون حراكٍ/ في التابوتْ؟)، أما شعابه الثانوية فهي: (كي يردم هوّةَ موتْ) و(ليفتح نافذة / في جدران الصمتْ) و(لا شيءَ/ يغطي عورة كونٍ/ أحرقَ آخرَ أوراقِ التوت.).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع إنشائي، وفيه يتابع الحديث عن غائب، ولعل الغائب هنا يرمز للذات الشاعرة، التي تطرح تساؤلات شتى عن أحوال الشاعر، وما يمكن له أن يفعل، إنه يعاني من واقع خطير فتعتريه الخيبة والحيرة والذهول، فقوله: (هل ينزف أشعاراً/ كي يردم هوّةَ موتْ؟) أي هل يمكن للشعر الذي يكتبه الشاعر تعبيراً عن جروحه النازفة أن يملاْ المسافة التي تفصله عن الموت؟! وهذا يشير إلى أنه لا فرار من موت قادم، وقوله: (هل يبضع خاصرة الأحلامِ/ ليفتح نافذةً / في جدران الصمتْ... ؟) أي يتساءل: هل كان عليه أن يضحي بأحلامه الذاتية في التفوق والنجاح والتميز، من أجل أن يخرج من حالة القبول بالواقع، والتغافل عن غياب الشرط الإنساني في تحقيق العدالة والحرية إلى حالة يبدد فيها الصمت ويثور على هذا الواقع المرير، وقوله: (هل يبكي؟) أي هل يكتفي بإعلان العجز والبكاء على أطلال من مروا؟!، وقوله: (هل يحبس غصّته / هل ينسى؟) أي هل يكتم قهره ويخفي دمعته ويسجن أنفاسه الحارقة؟ وقوله: (هل ينسى) أي هل يمكن له أن ينسى ما كان عليه من الأسرار التي تربطه بتلك الأشجار التي هجرته؟ وقوله: (هل يستلقي دون حراكٍ/ في التابوتْ؟) أي هل يقبل بهذا الموت البطيء في تابوت الواقع مستسلماً من دون أيّ رد فعل يعبر عن الرفض؟، وقوله: (لا شيءَ/ يغطي عورة كونٍ/ أحرقَ آخرَ أوراقِ التوت.) أي لقد انكشف المستور، ولم يعد يقدر شيءٌ أن يخفي عورة هذا الواقع المخيف. ولا بد من ملاحظة أن هذه التساؤلات التي يطرحها الشاعر هي تساؤلات تكشف عن الإمكانات المحدودة لرد فعل الفرد العاجز، وتكشف عن عجز الشاعر عن الفعل المؤثر، فنزف الأشعار أو شق خاصرة الأحلام أو البكاء، أو حبس الغصة، أو النسيان، أو الاستلقاء في التابوت، كلها أفعال تعبر عن حالة عجز الشاعر، لكأن الشاعر هنيدي يريد أن يقول: إن الواقع الذي وصلنا إليه لم يترك مجالاً لأهل الإبداع أو المعرفة أو العلم أو الحكمة، أن يكون لهم دور فعال فيما يحصل، لذلك بقي الشاعر غريباً بعد أن هجرته الأشجار والأحلام وبقي وحيداً يعاني من العزلة. 

الفرع الثالث: (العصفور والتنين)

يقول الشاعر:

(من يفتتحُ الليلَ

بضوضاء النهر الآسنِ

حين يفاجئهُ

رأسٌ مقطوعْ؟

من أين تداهمني

- وأنا داخل جدراني –

صرخات الريحِ

وأوجاعُ الأمواجِ

وأناتُ الغابات

وأصداء عويلِ الأرضِ المحمولةِ

كالبالونِ

على أبخرة الجوعْ؟

من أين سيهرب عصفور الروحِ؟؟

ومن أيّ الأبوابِ

سيدخل تنين العصرِ

ليغلق صندوق التاريخِ

ويعلن َ

موت الإنسان

على مقصلة الحلم المقموعْ؟)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة إنسان العصر المهدد بالموت وعقدته (من يفتتح الليل؟) وشعابه الرئيسة هي: (من يفتتحُ الليلَ/ بضوضاء النهر الآسنِ/ حين يفاجئه/ رأسٌ مقطوعْ؟) و(من أين سيهرب عصفور الروحِ؟؟) و(ومن أيّ الأبوابِ/ سيدخل تنين العصرِ) و(ليغلق صندوق التاريخِ) و(ويعلن/ موت الإنسان/ على مقصلة الحلم المقموعْ)، أما شعابه الثانوية فهي: (من أين تداهمني/ - وأنا داخل جدراني –) و(صرخات الريحِ/ وأوجاعُ الأمواجِ/ وأناتُ الغابات/ وأصداء عويلِ الأرضِ المحمولةِ/ كالبالونِ/ على أبخرة الجوعْ؟).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع إنشائي، وفيه يتابع الشاعر الكشف عن أوراق الهاوية في صورة عصفور الروح العاجز الذي يرمز إلى الإنسان المستضعف البسيط في وجه التنين الجائر الذي يرمز إلى الطاغية المستبد في عصر الجوع والفقر والاستلاب، فقوله: (من يفتتحُ الليلَ/ بضوضاء النهر الآسنِ/ حين يفاجئهُ/ رأسٌ مقطوعْ؟) يشير إلى صورة حسيّة،  تبين أن الشاعر قد استشرف المستقبل، فصدق حدس الشاعر لأنها تذكر بالصورة التي شهدها المجتمع عندما كان الليل يخيم على المدن والقرى وتعلو الأصوات على قرع طبول الجموع كنهر آسن تفوح منه الروائح الكريهة، وكأن الشاعر يعيشها حقيقةً، فيتساءل الشاعر مندهشاً من المسؤول عن تلك الفوضى والضوضاء التي تبدأ مع أولى خيوط الليل؟ وكأنه قد رأى كيف أن الرؤوس تقطع وتلقى في النهر أو توضع على قضبان الأسوار؟!، وقوله: (من أين تداهمني/ - وأنا داخل جدراني – / صرخات الريحِ/ وأوجاعُ الأمواجِ/ وأناتُ الغابات/ وأصداء عويلِ الأرضِ المحمولةِ/ كالبالونِ/ على أبخرة الجوعْ؟) أي إن الشاعر مندهشٌ من الحالة التي آل إليها، إذ كيف يمكن أن تتناهى إليه صرخات الريح الغاضبة؟، وكيف يمكن أن يسمع أصوات وجع الأمواج العالية؟، وكيف يصل إليه أنين الغابات الواسعة؟، مادام الشاعر يسكن داخل جدرانه المغلقة!، كيف للشاعر أن تداهمه أصداء تفجّع الأرض وصراخها وهي تبكي خوفاً وهلعاً على أهلها؟!، وكأنها أصبحت كالبالون المحمول على أبخرة الفقر والجوع وتكاد أن تنفجر بهم في أية لحظة!!، لعل الجوابَ يكمن بما افتتحنا به، هو أن الشاعر لا يمكن له أن يكون حياديّاً، وإن كان العجز يضيّق عليه الجدران، حتى ولو أن الأشجار قد هجرته، فالشاعر مسكون بألم الإنسانية وهمومها، مسكون بقلق الطبيعة وهلعها من فعل الإنسان المتكبر المتجبر، مسكون بخوف الطيور والورود والأزهار البهية من خطر التنين الذي يحاصر كل شيء، ويهدد وجود أيّ شيء، وقوله: (من أين سيهرب عصفور الروحِ؟؟/ ومن أيّ الأبوابِ/ سيدخل تنين العصرِ/ ليغلق صندوق التاريخِ/ ويعلن/ موت الإنسان/ على مقصلة الحلم المقموعْ؟) أي من أين يمكن لعصفور الروحِ أن يهرب فينجي الروح من هلاك محتّم، ومن أي باب سوف يدخل حيوان العصر الأسطوري؟، وعلى أيّ هيئة سوف يدخل هذا التنين وينهي التاريخ الإنساني على الأرض بإعلانه القضاء على الإنسان وحرمانه من تحقيق حلمه بالحرية والعدالة الإنسانية، وتلك إشارة إلى إن قطع الرأس ينتظر كل من يحلم بتغيير حالة القمع والاستبداد والطغيان إلى الحرية والعدالة والمساواة.  

الفرع الرابع: (الوصايا العشر)

يقول الشاعر:

(قال لي

حين أوقفني عند منعطف الحلم:

لا ترم نفسك في اليمِّ

لا تأمنِ الموج والريحَ

لا تبتهج لبياض النوارسِ

لا تغتسلْ في الينابيعِ

لا تنتظرْ غيمةً

لا تثقْ بالجبالِ

ولا تتفاءل بشمس ولا قمرٍ

لا تسر خلف قافلةٍ

لا تصدق كلام العنادلِ

لا تقرأ الصحف الزاهيهْ

كل ما حولكَ الآن مصطنعٌ

كي يجرك نحو طريق وحيدٍ

تقودك فيه خطاكَ

إلى الهاويهْ..!)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الحكيم الواعظ وعقدته (قال لي) وشعابه الرئيسة هي: (قال لي/ حين أوقفني عند منعطف الحلم:) و(لا ترم نفسك في اليمِّ/ لا تأمنِ الموج والريحَ/ لا تبتهج لبياض النوارسِ/ لا تغتسلْ في الينابيعِ/ لا تنتظرْ غيمةً/ لا تثقْ بالجبالِ/ ولا تتفاءل بشمس ولا قمرٍ/ لا تسر خلف قافلةٍ / لا تصدق كلام العنادلِ / لا تقرأ الصحف الزاهيهْ)، أما شعابه الثانوية فهي: (كل ما حولكَ الآن مصطنعٌ) و(كي يجرك نحو طريق وحيدٍ) و(تقودك فيه خطاكَ/ إلى الهاويهْ..!).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع إنشائي أيضاً وفيه يبين الشاعر الوصايا العشر الواجب التمسك بها من أجل تحقيق الحلم المنشود، فقوله: (قال لي/ حين أوقفني عند منعطف الحلم:) يجعلنا نتساءل: من الذي أوقف الشاعر عند منعطف الحلم كي يقول له وصاياه؟ لعله الحكيمُ، أو لعله المثل الأعلى الذي يتجلى للشاعر بالإشراقات الشعرية أو العرفانية، أو لعله الإلهام!، أو لعله الأنا العليا للشاعر، وقوله: (لا ترم نفسك في اليمِّ/ لا تأمنِ الموج والريحَ/ لا تبتهج لبياض النوارسِ/ لا تغتسلْ في الينابيعِ/ لا تنتظرْ غيمةً/ لا تثقْ بالجبالِ/ ولا تتفاءل بشمس ولا قمرٍ/ لا تسر خلف قافلةٍ/ لا تصدق كلام العنادلِ/ لا تقرأ الصحف الزاهيهْ) يبين أن هذه الوصايا تنهى الشاعر عن الوثوق بالطبيعة، اليمّ والريح والموج وبياض النوارس والينابيع و الغيمة والجبال والشمس والقمر وكلام العنادل، ونلاحظ أن مضامين هذه الوصايا تتمحور حول مكونات الطبيعة الخارجة عن سيطرة الإنسان، لكن الوصيتين، الثامنة والعاشرة، تشيران إلى ضرورة عدم الانقياد الأعمى وعدم الوثوق بالإعلام البراق، وهاتان  الوصيتان مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً بالموضوع الأساسي للقصيدة وهي أوراق الهاوية، لأن من يتبع قافلة ضالة قد تقوده خطاه إلى الهاوية حقّاً، ومن صدّق الإعلام الذي يبالغ في تلميع صورة الواقع، قد يقوده ذلك إلى الهاوية أيضاً، من هنا يمكننا أن نفهم أن الوصايا التي تتعلق بالطبيعة تشير إلى حالة القمع والطغيان للتنين قد طالت حتى صاحب الوصية، فلم يتجرأ أن يسمي الأشياء بمسمياتها، فأخذ يحمل الطبيعة مسؤولية الأوضاع التي وصل إليها الإنسان المستضعف من الفقر والحرمان والقهر. ولعلها تشير إلى أن هذه الوصايا عند منعطف الحلم لم تكن صائبة، ما خلا وصيتين اثنتين، ولعل تمسك الشاعر بالوصايا جعله يبتعد عن الطبيعة ولا يثق بها، مما جعله يعيش في عزلة بين جدرانه من دون فائدة، لأنه ما زال يسمع صدى صرخات الريح وأنات الغابات، وعويل الأرض المحمولة كالبالون على أبخرة الجوع، وقوله: (كل ما حولكَ الآن مصطنعٌ/ كي يجرك نحو طريق وحيدٍ/ تقودك فيه خطاكَ/ إلى الهاويهْ..!) والوصايا كلها تتلخص في أن المحيط الذي يعيش فيه الشاعر كله مزيف ومصطنع وغير حقيقي ويؤدي إلى طريق واحد يقوده إلى الهاوية.

***

مفيد خنسه

في المثقف اليوم