قراءات نقدية

(أوروك) بين يحيى السماويّ و"جرحٌ أكبرُ منَ الجسد"

عبد الستار نورعلي"جرحٌ أكبرُ من الجسد" هو الديوان الجديد للشاعر الكبير يحيى السماويّ، الصادر عن دار الينابيع/ دمشق مايس 2022 .

من عتبة عنوان الديوان يستطيع القارئ أنْ يستشفَ مضمونَ ما تحمله قصائده من مغزىً وهدفٍ، إذا عرفنا أهمية عنوان الكتاب، أو أيِّ نصِّ، في إضاءة طريق المتلقي قبل الولوج في ما يحتويه، ليستخرجَ مكامنه، وما يرمي اليه الكاتب. فللعنوان أهمية موازية لأهمية النصّ؛ إنّه البداية، وواجهة الكتاب، يقتربُ من الإعلان، بمفهومه الإغرائي والتشويقي والتحفيزي للمُنتَج؛ لكي يشجّع ويدفع بالمتلقي للدخول، وتناول ما فيه منْ إبداعٍ فنيٍّ تشويقيّ، تشبع رغبته في المواصلة، وفتح نوافذه ليطلعَ على ما فيه منْ كنوز الكلام، واللغة والصور، وأهداف الكاتب من تعبه وتحمّله مشاقَ وآلامَ مخاضِ ولادة النصّ؛ ليقدّمَ لمعجبيه ومتابعيه وقرّائه وغيرهم وجبةً غذائيةً روحيةً، أو واقعية، أو خياليةً جماليةً سحرية، لتشرعَ أبوابَ الفائدة المرجوة منه.

عنوان الديوان هو عتبته التي تضيء لنا الدربَ، وتأخذ بأيدي رغبتنا، وتُشرع بوابات القصائد على مصراعيها أمامنا، فنتناول ما فيها على موائد اللغة الشعرية، وغايات الشاعر من جمعها وتقديمها:

جرحٌ: إذن هو يتألمُ منْ جرحٍ موجع

أكبرُ من الجسد: جرحٌ أكبر من تحمّل الجسد، لأنّه أشدُّ من غيره من الجراح التي تصيبه.

فما هو هذا الجرح الذي هو آلمُ وأوجعُ؛ لأنّه أكبر من الجسدِ وتحمّله للجراح؛ غيرُ جرحِ الروح، والقلب، والمشاعر، والآمال!

وهذا ما يشوّقُ القارئ للولوج في المتن، فيفتحُ الديوان ليواصل رحلة البحث عن هذا الجرح الذي يؤلم الشاعر، والذي هو أشدُّ مضاضةً وطعناً منْ طعناتِ جراح جسده، فيبحث مستكشفاً،  كاشفاً بين ثنايا القصائد التي يحتويها الديوان.

إذن فقد عرفَ شاعرُنا الكبير بخبرته كيف يستفزُّ اهتمام المتلقي، وتشويقه، وتحفيزه، فاختار عنوانه بعنايةٍ، ودقةٍ، ومعرفةٍ، ووعيٍّ، وخبرة فنيّة شعرية طويلة كبيرة، وهو في كلِّ ما أصدر كان قمةً في فنه الشعري، وفي اختيار عناوين دواوينه بدقة الصائغ الحاذق العارف بزوايا وخبايا ما يقدّم للقارئ والدارس والباحث. وهو ما يمنحهم فيضاً لا ينتهي ممّا يكتنزه فنُّه الشعريّ، ليبحثوا، ويستقرؤوا، فيكتشفوا، فيكتبوا.3784 جرح اكبر من جسد

يقولُ شاعرنا في قصيدة "برجُ الحوتِ وبرجُ الحمل" ص 41:

بُرْجانِ لا غيرهما

في وطنٍ يحكمُهُ من ألفِ عامٍ

قاطفُ الرُّؤوسِ واللصوصُ

والمجاهدون الزُّورُ

والمحتلُّ

أو مسدَّسُ الطاغوتْ

برجانِ لا غيرهما

الشعبُ بُرجُ الجَديِ

والحاكمُ بُرجُ الحوتْ !

في هذا النصّ نكتشف أنّ الشاعر له همٌّ ثقيل على نفسه؛ لأنه أكبر منَ الجسد وتحمّله، وهو الذي يدفعه الى البوح والتسجيل الفنيّ شعراً، من غير مباشرة مُستهلَكة، هذا الهمُّ هو جراحُ (الوطن/أوروك) بما يحصل فيه من نهبٍ وبطش وقبح وقتل، واستهتار بحقوق الناس، مبيّناً حاله، وهو يرزح تحت نير صخرة المعاناة والآلام الثقيلة: وهي أنْ يتحكّم برقاب الناس القتلةُ واللصوص، والغزاة المستعمرون، وأدعياءُ الجهاد من الذين يلبسون رداء الدين والجهاد زوراً وبهتاناً، وهم جمعٌ من الكذّابين قاطعي رؤوس الأبرياء بدعاوى وفتاوى مُختلَقة بحسب تفسيرات أحقادهم التي يحملونها. وكذلك تسلُّط سيف الطاغوت على رقاب هذا الوطن المبتلى تاريخياً بالظلمِ والغزو ،وبأولي الأمرِ من الظالمين والفاسدين واللصوص.

يشتغلُ السماويّ؛ في سِفره الشعريّ الوطنيّ هذا؛ في أسلوبه وتشبيهه على بلاغته هو الخاصة، التي تعتمد على خلق صور جديدةٍ غير تقليدية.، إذ هنا يشبّه الشعبَ بالحمَل؛ لطيبته وخضوعه وتسليمه قيادَه ورقبته لأولئك الذين ذكرهم في المقطع الأول من النصّ؛ ويشبّه الحاكمَ بالحوت؛ لابتلاعه الوطنَ بكلّ مافيه من ناس وخيرات.

إذن نكتشف، كما ذكرنا أنّ جرح الوطن هو جرحه الأشدّ إيلاماً من جرح الجسد لأنه أكبر من تحمّل جسده. فجرح الجسد يمكن استطبابه، والشفاء منه، لكنّ جرح الوطن (أوروك/ العراق) هو في روح الشاعر ومشاعره وأحاسيسه الوطنية، وعشقه الغامر لكلّ ذرة منه في نفسه، ونحن نعرف جيداً أنّ جراح النفس يكون تجاوزُها صعباً، فليس لها منْ دواء شافٍ، إلّا بإزالة مسبباتها من الأورام البشرية المنتشرة كالسرطان في جسدِ البلاد والعباد. وهو القضاء على كلّ المُسببين الذين ذكرهم الشاعر، في كلّ قصيدة عبّر فيها عن هذا الجرح، في السابق من أعماله واللاحق، ومنها الذي بين أيدينا. إنّه مِصداقُ قولِ الشاعر طرفة بن العبد في معلقته:

وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً

على المرءِ منْ وقعِ الحسامِ المُهنّدِ

ولنقرأْ معاً أيضاً عن هذا الجرح الكبير الأقسى على نفسه، والأقوى على تحمّله، هو الذي مرَّ بتجاربَ قاسيةٍ شديدة أشدّ من وقع الحسام المهنّد، وأنفذَ من أسنّةِ الرماح، على طريق نضاله السرّي والعلني الطويل، لنقراْ ما يقول في قصيدة "الليلُ أخرسُ والضحى أعمى" ص 58:

مَـنْ  لِيْ  بفـانـوسٍ  أنـشُّ  بــهِ

ذئبَ الدُّجى والحَيْفَ والظُّلما

وطني اليتيمُ ولا كفيلَ لهُ

أبَــةً يكونُ عليهِ أو أُمّا

عقدانِ في عُسـرٍ ولا  أمَلٌ

يُكسي عِظامَ جياعِهِ لحْما

الطيرُ ظمـآنٌ  ونخلتـُهُ

أمّا الضِفافُ فإنّها أظما

تلك الجياعُ متى يقومُ بها

نابٌ يَنالُ مُجِيعَها قضْما

هي دولةُ " الفرهودِ" حارسُها

لـصٌّ وقاضي عَدْلِهـا مُغْمى

حين يكون الجرحُ جرحَ محبوبته (الأرض) التي وُلِدَ وترعرع فيها جسداً وروحاً، فالتحمَ هو والوطن في وحدةٍ لا انفصامَ لها، وبقرانٍ أبديٍّ.

أليسَ هو القائلُ في مجموعته من النصوص النثرية "مسبحة من خرز الكلمات" الصادرة في دمشق عام 2008، وفي ص 38:

الوطنُ جَسَد ..

الحبُّ روح ..

بعَقدِ قرانِهما

يتشكَّلُ

قوسُ قُزَحِ المواطنة ..

ويُقامُ:

الفردوسُ الأرضيّ

وهو القائلُ في نفس المجموعة ص 106 مناجياً الحزنَ الأكبر المخيّم على نفسه المُحتشدَةِ بآلام الوطن:

أيُّها الحُزنُ لا تحزنْ..

أدركُ أنّك ستشعرُ باليُتمِ بعدي..

لنْ أتخلى عنك..

أنت وحدك مّنْ أخلصَ لي

فكنتَ ملاصقي كثيابي..

حين تخلّى عني الفَرَحُ

في وطنٍ

يأخذ شكلَ التابوت!

جرحُه الأعظم إذن هو جرحُ الوطن النازف، الوطن الواقع تحت نير الجور والقهر وطمس الحقوق والموت. يقولُ في قصيدة "ما حاجة الظامئ للبحار" ص 137:

يا وطني المرسومَ في خارطةِ العالم

كالتابوتْ

القحط في الحقولِ

والدماءُ في الأنهارِ

والوحشةُ في الدروبِ

والأحزانُ في البيوتْ

ما حاجة الظامئِ للبحارِ

والجائعِ للياقوتْ ؟

طبعاً، ماحاجة الإنسان الجائع للياقوت، والظامئ للبحار، ووطنه قاحلٌ جافُّ من القحط، والدماءُ أنهارٌ تسيلُ ، والدروبُ خاليةٌ من البشر السويّ، والبيوتُ حبلى بالأحزانِ؟!

وبما أنّ بينه وبين أوروكَ آصرةً عميقة الجذور، وعقدَ قرانٍ أبديٍّ لا انفصام فيه ولا انقطاع، أو تزعزع، فإنّه يستلُّ سيفَ الشعر الذلّاق؛ ليضربَ شديدَ الوقع قاطعاً، قاسياً على الجارح الجاني، دون هوادة ولا رحمة، مثلما في الاستشهادات الماضية، وفي مجمل قصائده في البوح عن ألمه للحاصل في بلاد الرافدين، وبأنّه لن يسكتَ عما يجري، ولن يغضّ طَرْفَ الشعرِ عن صوته الصدّاح القاسي في وجه القبح الذي يسمُ جبينَ الحكام والسلاطين والطغاة والقتلة واللصوص بوَسمِ العار، كما ورد في قصيدة "الخروج من جُبّة الأمس"ص 36:

سأُسَمِّي الحاكمَ المُتخَمَ وغْداً

وأُسَمّي قصرَهُ الماخورَ

والحاجبَ سمساراً

وقُوّادَ سراياهُ الجواري

وإمامَ القصرِ بَيّاعَ فتاوى

والتعاليمَ عن الصبرِ سُدى

وأسَمِّي الوطنَ الشاسِعَ

سِجناً ضَيِّقاً كالقبرِ إنْ غابَ بهِ العدلُ

وأضحى دُميةُ المحتلِّ

فيهِ السيِّدا

خارجاً من كفني

أصرخُ في الساحاتِ كالملسوعِ

يا كلَّ الجياعِ اتَّحِدوا

ولتشحذوا الأسنانَ

سُلُّوا جوعَكمْ

ولتقضموا الآلهةَ التمْرَ قَصاصاً

قبل أنْ تقضمَكمْ

باسمِ وليِّ اللهِ في الأرضِ غدا

سأُسَمِّي الوردَ شوكاً

عندما يبخَلُ بالعطرِ على النحلِ

ولا يملأُ أكوابَ الفَراشاتِ ندى

وأنا سوفَ أُسَمِّيني أثيماً

إنْ غَضَضْتُ الطرفَ

عن ذئبِ الرَّدى

يشهَرُ النابَ

على ظبيٍ الى ظِلِّ جدارٍ خَلَدا

هذه النبرة العالية الصدّاحة القوية، والشديدة كحدّ السيف على اولي الأمر من القتلة وسارقي لقمة الشعب، وناهبي خيراته، هي من سمات وطنياته التي نكتشفها ونحن نسوح بين أعمدة قصائده الرخامية الباهرة. إنّه شديدٌ على نفسه أيضاً إنْ سكتَ وغضَّ الطرْفَ عمّا يرى ويحصل على أيدي الحكام المتسلطين منْ سوءات وجرائم وقبح. إنّهم يتحملون كاملاً أسباب  كلّ المآسي والمظالم والفقر المنتشر والفساد والموت، فهو القائل أيضاً في قصيدة "مدٌّ ومد" ص 139 امخاطباً ربَّ العالمين:

أيها الرافعُ سَقفَ الكونِ

من دون عَمَدْ

أطبَقَ الحزنُ علينا

فارفعِ الغمَّةَ

عن هذا البلدْ

ساسةُ الصُّدفةِ

ما أبقوا لنا من خيمةِ اليُسرِ

وَتَدْ

كلُّ بحرٍ

ولهُ جَزرٌ ومَدٌّ

وحدُهْ بحرُ عراقِ اليومِ في مأساتِهِ

مَدٌّ ومَدْ !

ويستمرُّ الشاعر في بوحه لجرحه الأكبر، وهو أنّ ما بينه وبين وطنه أوروك/ سومر/ العراق، ومنبته أرضِ السماوة، لحمةً تاريخيةً متجذّرةً في عروق الأرض حتى العمق، فيقولُ في قصيدة "الدرب وعثاء وساقي منْ حجر" ص 147:

وأنا الظميءُ السومريُّ الصَّبُّ ..

والفرَحُ المؤجَّلُ ..

والقتيلُ المُنتَظَرْ

أمضَيتُ نصفَ العمرِ مُبتَدَأً

أُفَتِّشُ في الملاجئِ و المنافي

عن خَبَرْ

لِأُتِمَّ معنى جُملتي العذراءِ

في بحثي عن الفردوسِ

والخوفِ الموبَّدِ من

سَقَرْ

بيني وأوروكَ

الذي بينَ الفراشةِ والزهورِ

وبينَ فاختةِ السماوةِ

والشجَرْ

فأنا وأوروكُ

الوفاءُ من السَّمَوْألِ

والوُضُوءُ من الصلاةِ

و"ميمُ" آصِرةِ المروءةِ من "مُضَرْ"

وهو يرمزُ مجازاً بأنّ ساقه من حجر، بمعنى أنّها صُلبةٌ ثابتةٌ في الأرض، لا تتزحزحُ عن مكانها، وهو بهذا يبلغُ الغاية من التعبير بلاغياً عن عمق الإلتحام بينه وبين الوطن. لذا نلتقي بكمٍّ كبيرٍ من التصوير والتعبير عن الحزن الأكبر من جسده. وعليه فإنّه لا يترك زاويةً منْ قصائده إلّا وفيها إدانةٌ وهجمة لاذعةٌ قاسيةُ الرنين، عظيمةُ الرسمِ، بسلاح الشعر، فالشعرُ عندهُ لا يستقيمُ، والقبحُ والسوءُ يتسيدان على بلادٍ كانتْ بلادَ الشمسِ. فهو القائل:

وأنا سوفَ أُسَمِّيني أثيماً

إنْ غَضَضْتُ الطرفَ

عن ذئبِ الرَّدى

يشهَرُ النابَ

على ظبيٍ الى ظِلِّ جدارٍ خَلَدا

يحيى السماويّ الشاعر المهموم بجراح الوطن لا يترك غرضاً من أغراض الديوان إلا ويشدّد حملته على الذين أوصلوا البلد إلى ما هو عليه، مما عدّده ويعدّده، هو الذي ناضلَ ويناضلُ باليدِ واللسانِ والقلبِ، ففي كل سانحة شعرية تمرُّ لا يتركُ وحيَ الشعر إلا ويذكر الأرض (حبيبته)، كما فعل في قصيدة "سؤال غير عفوي" ص 171، وهي قصيدة يبثُّ فيها حنينه الى زوجه الفاضلة التي تعاتبه على تأخره في العودة الى بيته في استراليا، خائفةً عليه، حيث بقي في السماوة أكثر من شهرين في سفرته الى العراق، الذي اعتاد على السفر اليه دائماً:

شهرانِ كالدَّهرينِ قد مَرّا

على نشرِ شِراعِ شوقِكَ

المجنونْ

وأنتَ قلتَ ربما بضعَ ليالٍ

ريثما تكتحِلُ العيونْ

*

شهرانِ قد مرّا فهل من عودةٍ ؟

أمْ أنكَ اعتزمتَ في السماوةِ المكوثَ

حتى الموعدِ الحَتْمِ ؟

أما تخافُ من طلقةِ قنّاصٍ

ومن مُلثَّمٍ مُستأجَرٍ

يعمَلُ عند ساسَةِ الصُّدفةِ ؟

عُدْ

ليرجعَ البيتُ مُضاءً بكَ والبَنونْ

لكنَ شاعرنا ـ عاشقُ أوروكَ والسماوة الغالية الأم الرؤوم ـ يجيبُ بما يعبّر عن تعلّقه بوطنه، وارتباطه العميق بأرضه وأهله، ومسقط رأسه. ففيها لا ينقطع عن سيرة الهجمة على السلطة ـ بل السلطاتّ، ممن نعرف جيداً، وبسخريةٍ لاذعةٍ، وتحقيرٍ واستصغار:

مولاتيَ الطاهرةَ الناسكةَ

الطيبةَ الحنونْ

أريدُ أنْ أُقيمَ في عراقنا

أكثرَ ما يكونْ

كي أعرفَ السِّرَّ الذي يغدو بهِ " المفلسُ "

بعد فترةٍ قصيرةٍ " قارونْ"

وبائعُ الخضارِ مُستشارَ بيتِ المالِ

والسارقُ ناطوراً

ويغدو حاكماً بأمْرهِ كأنهُ

" هارونْ "

مَنْ كانَ لا يصلحُ أنْ يحكمَ مرعىً

قبلَ أنْ تحملهُ دبّابةُ المحتلِّ

نحوَ القصرِ والقلاعِ والحصونْ

وكيف يستطيعُ أنْ يسرقَ " بنكاً " كاملاً لصٌّ

ولا ترصدُهُ العيونْ

السخرية منْ أولي الأمر:

في خضم هذه الحملة الشرسةِ لشاعرنا على حكامنا نلمح أسلوباً من السخريةِ بهم واستصغارهم وتحقيرهم، واصماً إياهم بالجبن والخوفِ والرعب من الشعب وانتفاضاته المتكررة بسبب ما يلاقي من عنت وطغيان وانفلات وهدر للمال العام، مطالباً بحقوقه الأساسية، مندّداً بالسلطة من لصوص وفاسدين وقتلة، ومافيات سياسية حزبية، فهم يخافون من الشعب مع ما لديهم من حرسٍ جرّار، وأسوارٍ من الإسمنت المسلّح. ويمعن في سخريته اللاذعة حين يصفهم بظلّ الله في الأرض، وبأنّ عهدهم عهد خير ونعيم، يكثر فيه المَنُّ والسلوى. فيبدي استغرابه وتعجبه من خوفهم من الناس، وهم الذين لا يخافون الله! وهذا في قصيدة "يا أولي الأمر بوادي النخل" ص 9:

يا أولي الأمْرِ بوادي النخلِ

ناموا مُطمئنينَ نشاوى

لا تخافوا

الجماهيرُ التي تفترشُ السّاحاتِ

لا تحمِلُ غيرَ العُشبِ والوردِ

علامَ الإرتجافُ ؟

لا تخافوا ...

عهدُكمْ مَنٌّ وسلوى .. وسُلافُ

عجَبًا !

كيفَ يخافُ الجائعَ الأعزلَ

مَنْ ليسَ مِنَ اللهِ

يخافُ ؟

فعلامَ الحَرَسُ الجَرّارُ

والأقبيةُ السّريّةُ

الأحْزِمةُ الإسْمنتُ ؟

ظِلُّ اللهِ فوق الأرضِ أنتمْ ..

والوصِيّونَ على الواحاتِ والأنهارِ أنتمْ ..

فلماذا غضِبَتْ هذي الضِّفافُ؟

ونقرأ  في قصيدته القصيرة "حوار" ص 33 وهو يحمّل المسؤولية الكاملة عن  كلّ المآسي والمظالم والفقر المنتشر والفساد والدمار والموت، وبأسلوبٍ ساخرٍ أيضاً، حيث يقول:

صاحبةَ السيادةِ الخوذةَ

إنّ الأرضَ قد ضاقتْ ..

فأينَ نغرسُ البذورْ ؟

لا تقلقوا ..

حكومةُ الصُّدْفَةِ قد أعدّتِ الخطّةَ

لاسْتيرادِ

ما تحتاجهُ البلادُ

من قبورْ !

وكذا ما ورد في مقاطع من قصيدة "سؤال غير عفوي، حيث يقول:

كي أعرفَ السِّرَّ الذي يغدو بهِ " المفلسُ "

بعد فترةٍ قصيرةٍ " قارونْ"

وبائعُ الخضارِ مُستشارَ بيتِ المالِ

والسارقُ ناطوراً

ويغدو حاكماً بأمْرهِ كأنهُ

" هارونْ "

مَنْ كانَ لا يصلحُ أنْ يحكمَ مرعىً

قبلَ أنْ تحملهُ دبّابةُ المحتلِّ

نحوَ القصرِ والقلاعِ والحصونْ

وكيف يستطيعُ أنْ يسرقَ " بنكاً " كاملاً لصٌّ

ولا ترصدُهُ العيونْ

مسؤولية الشعب:

يحمّلُ الشاعرُ الناسَ جزءًا من المسؤولية عما آلتْ اليه أحوالُ البلاد، إذ يقولُ في قصيدة "برج الحوت وبرج الجدي" ص 42:

للحوتِ أنْ يأكلَ ما يشاءُ

أنْ يفعلَ ما يشاءُ

أنْ يمتلكَ اللؤلؤَ والياقوتْ

أنْ يَسكُنَ القلعةَ والقصرَ

وأنْ يُسْكِنَ في الزريبةِ  الجِداءَ  والتابوتْ

وأنْ يدكَّ

فوق رأس أهلِها البيوتْ

ما دامَ أنّ الجَدْيَ

قدْ أدْمَنَ نعمى النومِ

في أروقةِ السكوتْ !

الحوتُ هنا تورية عن الحاكم، والجدي تورية عن الشعب، كما مرّ بنا في تفسيرهما. فالحوتُ له مطلق الحقّ في أنْ يفعل كلّ شيء، ويأكل ما يشاء من أطايب الطعام، وأنْ يمتلك القلاع والقصور، وأنْ يدكَّ البيوتَ فوق رؤوس ساكنيها، بينما الجدي له الزريبة والموت، وهو مستسلِمٌ  راضخً لقدرهِ، ونائمٌ عن حقّه، ساكتٌ خانع. فالعيبُ والحالة هذه في أهل الأرض الساكتين عن تسلط المنافق والمرابي والعميل واللصّ القاتل على مقدراتهم، حيث يؤكد هذا شاعرنا في قوله من قصيدة "إهنأْ بموتِكَ يا قتيلُ" ص 105:

العيبُ في الينبوعِ والأمطارِ

لا في الأرضِ

لو خسِرَتْ بيادرَها الحقولُ

وبأهلها

لو ساسَ جَمعَهمُ المُرابي

والمنافقُ والعميلُ

ويستمرُ الشاعرُ في بوحه الشجيّ الشَجِن في القصيدة، ليبيّنَ أنّه لا بدّ من الشمسِ والجذور النقية النظيفة الطيبة الخصبة حتى نحظى بالزهور الجميلة الفوّاحة العطر لتسرّ الناظرين. فإنْ كانت الجذور موحلةً فاسدةً فإنّ الذبول خاتمةُ الأزهار. وهو بذلك يرمي الى أنّ سبب خراب وفساد البلاد هو من الجذور، وبذا يرمي الى انتقاد الساكتين الصامتين الجامدين الذين لا يتحركون لتنقية الجذور من الشوائب العالقة، والأرض من الديدان الضارّة، فيسقونها بالماء الصافي النقي، ويعرضون البراعم للشمس الساطعة، لتتغذّى جيداً، فتتفتحّ أزهاراً برّاقةً متعددة الألوان تملأ الأجواءَ عطراً:

لا بدَّ من شمسٍ

لِينسجَ بُردةَ الغسَقِ الأصِيلُ

فاقنعْ بحَتْمِكَ

أيُّ زهرٍ ليس يقربُهُ الذبولُ

ما دامَ أنَّ الجذرَ كوثرُهُ

الوُحُولُ؟

اليأس والقنوط:

انطلاقاً منْ تحميل الشاعر الناسَ جزءًا  من مسؤولية ما يجري عليهم وعلى وطنهم من مآسٍ ونكباتٍ وجرائم؛ لسكوتهم وخضوعهم؛ فإنّه يُصابُ بالقنوط واليأس من تغيير الأحوال، فما عادَ من بطلٍ كعنترة ينقذ حبيبته عبلة (العراق) من اللصوص، فما فائدة قلم الشاعر والكتابة عن الوطن والدعوة الى الثورة والتغيير! إذ يقولُ في قصيدة "النهب ـ ليس العفو ـ عند المقدرة" ص 113:

الصبحُ أعمى

والدروبُ مُشفَّرةْ

سرق اللصوصُ خِمارَ " عبلةَ "

واستباحوها

ولا من " عنترةْ" !

فهربتُ مني خائفاً

ورمَيتُ  قبل حقيبتي  قلمي

فما جدواهُ إنْ يَبُسَتْ

ضروعُ المحبرةْ ؟

ويستمرُ صادحاً بألم وغضب ويأسٍ وقنوط، وبنقدٍ لاذع، لسكوت الناس عن الدفاع عن كرامتهم المهدورة:

نضُبَ الصراخُ

وجَفَّ ماءُ الحنجرةْ

ربّاهُ هلْ زُمَرُ الولاةِ المتخمينَ

بجنَّةِ الدولارِ في وادي الفراتِ

مُبَشَّرةْ ؟

نام الجياعُ على وسائِدِ " سورةِ الماعونِ "

أمْسَكَتِ الكرامةُ والمَذلَّةُ مُفطِرةْ

العيدُ عريانٌ

ولا من ناسِجٍ ثوبَ الخلاصَ

لِيَسْترَهْ

وكان في مطلعِ القصيدة قد قال:

وكفرتُ بالأسنانِ

جائعةً تلوكُ طحينَ أدعِيَةٍ

وتدرأ جوعَها بالمغفرةْ

فتّشتُ في بغدادَ عن بغدادَ

في المرآةِ عن وجهي

وفي نخل السماوةِ عن صُداح القُبَّرةْ

فرأيْتُني

شفةً بلا صوتٍ

وفانوساً ذبالةُ ضوئِهِ

مُتحَجِّرةْ

الاستغاثة:

مع هذا اليأس من ثورة الناس وتحركهم، وقنوط شاعرنا وحزنه وألمه وغضبه، اتجه في شعره الى الاستغاثة والدعاء بالتوجّه الى الرموز الدينية المقدسة لانقاذ الوطن وأهله؛ تعبيراً عن غسل يديه من الشعب، وعجز الأمة عن إزاحة السلطة المتسلطة والمتمسكة بالكراسي والمنافع والفساد المستشري. فها هو يستغيثُ بأبي الشهداء سيدنا الإمام حسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، ويستنجده لينقذ ببركاته البلادَ والعبادَ من البلاءِ بحكام الصدفةِ، الذين يحكمون باسمه زوراً ، وهم أبعد ما يكونون عن مبادئه السامية التي قدّم حياته وأصحابَه  وأهله الطاهرين من أجلها، فيقول مخاطباً الإمامَ في قصيدته "يا سيدي الحسين" وفي ص 25/26:

فدىً لتـرابِ نعلِكَ يا إمـامي

أنا .. وأبي .. وأمي .. والبنونُ

أخفتَ الموتَ حتى خرَّ ذُعراً

فأ نتَ الحيُّ والموتُ الدَّفينُ

جهـادُكَ آخِرُ الآياتِ خُطّـتْ

بنور العرش سُورَتُها " حُسَينُ "

فأنتَ لكلِّ ذي عزمٍ حسامٌ

وأنتَ لكلِّ مذعورٍ حُصونُ

أبا الأحرار هلّا قمْتَ فينا

فقد عمَّ البلاءُ .. ولا مُعينُ

ولا  "حـُرٌّ ريـاحيٌّ"  فيُفدي

ولا العبّاسُ والقدّيسُ "جُونُ"

لماذا استغاثته والاستنجاد بأبي الشهداء، وسيد شباب أهل الجنة؟

يواصلُ الشاعرُ رحلةَ قصيدته الفاخرة الفخمة في ذكر مناقب سيدنا العظيم، وعظيم حبّه له؛ ليبيّن للمتلقي بعد ذلك الإجابةَ:

تأسّدَتِ الأرانبُ .. فالرّزايا

حُبالى والنوائبُ والمنونُ

تقنّعتِ الوجوهُ فليس ندري

أشوكٌ حولنا ؟ أمْ ياسمينُ ؟

" يزيدٌ " بات هذا العصرَ جمعًا

يُناصِرُهُ   المُهَتَّــكُ   واللعــينُ

وفينا ألفُ " حرملةٍ" و" شمر"

تفخّخَ  فيهمُ  الحقدُ  الدَّفينُ

فهو (يُضمّنُ) الأبيات بأسماء تاريخية لعينة لها سجّلٌ أسود في مقاتلة الإمام وجيشه، والمشاركة في واقعة الطفّ، وقيامها بأبشع أفعالٍ في قتله وأهله وأطفاله، ولم يسلم منهم حتى الطفل الرضيع. وقد شبّه (توريةً) حكام العراق اليوم بأولئك؛ بسبب أفعالهم، ونهجهم الإجرامي، وما قابلوا به الشباب المنتفضّ في بغداد والمدن الجنوبية، من قتلٍ واختطافٍ وتنكيل، مما يُعدُّ جرائم لا تقلّ بشاعةً عن جرائم القتل والتنكيل بالحسين وعائلته ومُواليهم من الأبطال الذين شاركوا معه في الوقوف بوجه يزيد وجيشه وقُوّاده. مع أنّهم يدعون الانتساب الى الحسين، ويحكمون باسمه، فيواصل الشاعر تعريتهم:

وفينا من " أبي جهلٍ" عشيرٌ

و"لابن زيادَ " من جذرٍ غصونُ

وفينا  آكلو الأكبادِ  غصّت

بهم دارُ الخلافةِ لا السجونُ

حُسينيون إنْ نطقوا وأمّا

فعالهُمُ فأبعدُ ما تكونُ

ويستغيثُ شاعرنا أيضاً بمقدّسٍ آخر هو (صاحب الزمان) المهديّ المنتظَر عليه السلام، المُنتظَر ليُخلّص الأمةَ من الظلم والجور والقهر واللاعدالة، وهذا في قصيدته "يا صاحبَ الزمان" ص 17:

الصبحُ ليلٌ في الفراتينِ

فنحن يومُنا ليلانْ !

الجوعُ في الماعونِ..

والصّديدُ في أنهارنا ..

والرّعبُ في القلوبِ ..

والهُزالُ في الأبدانْ

إلآ الطّواويسُ التي تكرّشتْ

في غابةٍ ظِباؤها تحرسُها الذئبانْ !

يا صاحِبَ الزّمانِ ..

يا مُنقذَنا..

ياصاحبَ الزمانْ

يستمر في القصيدة في تعداد صفات الحاكمين السيئة، وأفعالهم المشينة، ليصلَ الى نقطة الاستنجاد بالإمام الحُجّة الغائب:

ياصاحبَ الزّمانِ

لو يملكُ

أنْ يهربَ من ساستِهِ عراقُنا

أو

يطلبَ اللجوءَ في الأوطانْ

لفرَّ من ساستِهِ ..

يا صاحبَ الزّمانْ

دمُ الحسين باتَ حِبراً

للشعاراتِ التي تخجلُ من ريائِها

الجدرانْ

يا صاحبَ الزّمانْ

أُخرجْ

فقد أوشكَ أنْ يكفرَ في عراقِنا

الإنسانْ

ثُمَّ يستغيثُ بـ(الطير الأبابيل)؛ ليرميَ المنطقةَ الخضراءَ ومَنْ فيها بحجارة من سجّيل، فتجعلم عَصْفاً مأكولا، مثلما فعلتْ بإبرهة الحبشيّ وجيشه الذي جاء لهدم الكعبة، ففرّ مذمُوماً مدحورا. و(الطير الأبابيل) هي التي أرسلها سبحانه وتعالى للقضاء على جيش إبرهةَ، ودفعه عن كعبته المشرّفة، وبذا تكون الاستغاثة به سبحانه:

"وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)" سورة الفيل

ويستمر الشاعرُ بمخاطبة الطير الأبابيل:

لا عِلّةَ بالشمسِ ..

لماذا صبحُ النخلةِ داجٍ

والليلُ بلا نجمٍ

والبستانُ عليلْ ؟

ياطيرَ أبابيلَ أغِثنا

ياطيرَ أبابيلْ ..

أبرهةُ الضِّلّيلُ اسْتَخْلفَ فينا

ألفَ سليلْ

**

ياطيرَ أبابيلَ اختلطَ الأمرُ

وأشْبَكتِ الطُّرُقاتُ

فلسنا نعرفُ فرقاً

بين الله وبين اللاتِ

وبين الناسِكِ والضِّلّيلْ

عصرُ الدجّالينَ أضَرُّ علينا

من أقدام الفِيلْ !

لسنا من أهلِ السلطانِ فيحرسنا

الدَّرَكُ السّرّيُ .. الجندُ ..

فيا طيرَ أبابيلَ أغِثنا

بحِجارةِ سِجّيلْ

من هذه الاستغاثات بالمُقدَّس يتبينُ لنا عمقُ إيمانه الصادق القويّ بالمقدسات، ودورها الروحي في حياته، وحياة الناس عموماً. كما أنّها دليلٌ كشّافٌ على كِبر جرحه الأكبر من الجسد، والآلمِ من وقع الحسام المهنّد. هذا الجرح الذي يدفعه دفعاً الى الاستغاثة بالله سبحانه، وبالأئمةِ الأطهار؛ لإنقاذ أوروك مما يعانيه، ليخفَّ عنه وجعُ الجرح هذا.

الأمل:

مع كلِّ هذا الكمّ من الشعور بالألم والحزن والغضب على صمت الناس وخضوعهم واستسلامهم، لدرجة إصابته باليأس من خلاص الوطن من براثن الذئاب والثعالب والأفاعي والعقارب ، إلا أنّه لم يفقد الأمل بالقادم من أيام، هو الذي عركَ دروبَ النضال، وتحمّل جراحاً أعظم، وتغرّبَ نتيجة هذا النضال، والوقوف بوجه الطغيان والدكتاتورية باليد واللسان والقلب والقلم، ولم ييأس!

فهل يقع في مصيدة اليأس كما يريد ويعمل عليه الجالسون على الكراسي، والمتربصون بكلّ أملٍ وصاحب حلمٍ بغدٍ مشرق؟

يقولُ في قصيدة "زهو" ص 53:

من حسنِ حظِ العشقِ

أنَّ نخيلَ دجلةَ

لايُجيدُ الإنحناءَ

ولا يمدُّ ظِلالهُ للمارقينَ

وأنّ باديةَ السماوةِ لا تُبادِلُ بالرّمالِ

التبرَ والياقوتَ ..

والمعصومةَ الأعذاقِ تنسجُ سعفها كوخًا ..

تُبايعني أميرًا في بلاطِ الوردِ

عرشي قلبُها

والصّولجانُ الكبرياءْ

إذن، نخيل دجلة لنْ تنحني أمام العواصفِ والأنواءِ والرياح العاتية. إنّها تقفُ أبداً شامخةً باسقةً ثابتةَ الجذور في وادي النخيل. إنّه أملٌ صُلبٌ من شاعرنا الكبير، المؤمنِ بوطنه الشامخ الصلب. وهو إيمانٌ راسخٌ لا ينثني عن دارة الشمس، ولا ينحني لأيٍّ علجٍ، أو سياسي صدفةٍ، جاء مع دبابةِ محتلٍّ!

ويستمرُّ:

وإذنْ ؟

سأطبقُ مقلتيَّ على غدٍ عذبٍ

أرى وطناً بلا قهرٍ

ومئذنةً تُكبّرُ للهوى

فيؤمّ بالعشاقِ طفلٌ مُشمِسُ العينينِ

يلبسُ بردةً خضراءَ من عشبٍ

وماءْ

وهذه قمةُ التفاؤل من الكبير (يحيى السماويّ) المتفائلِ الثوريّ الأمميّ، كما تربّى ونشأ على مبدأ التفاؤل، وإلّا لما اختار طريق البحث عن الثورة والعدالة والحرية لشعبه وشعوب الأرض قاطبةً، ولما شاركَ في انتفاضة آذار/شعبان 1991، ولما اغتربَ بحثاً عن أمانٍ ومستقرّ، ليبدأ النضالَ منْ جديد ثانيةً وثالثةً.

ويظلُّ الأمل وسط ظلامٍ يخيّمُ على أرض أوروك هو الزادَ والمصباحَ والدليل، الذي يبقى نابضاً في روح وكيان شاعرنا المضيء قلباً وشعراً.

يقول في قصيدة "هناك...هنا"، وفي ص 80/81:

ليس من هُدهدِ بشرى

فلتكوني

هدهدَ الوعدِ الذي يأتي

بأنباءِ المنى

عن وجوهٍ ترتدي يُسراً وأمْناً

بعد عُسرٍ وضنى

وحقولٍ عشبُها يُغوي الينابيعَ

ويُغري بالهطولِ المُزُنا

وولاةٍ

أمرُهُمْ من أمرنا

يعبدونَ اللهَ لا الكرسيَّ

أبناءِ فراتٍ ونخيلٍ

وبيوتِ الطينِ

لا باعة وعدٍ

في حوانيتِ مُرائينَ

يبيعونَ

على العاقِرِ طفلاً في الفراديس

وأثوابَ حريرٍ لعراةٍ

وقصوراً

للذين افترشوا أرصفةَ الذلِّ

وأزواجاً من الحورِ

وغلماناً

وللعطشانِ في دنياهُ

أنهاراً بُعَيدَ الموتِ

تجري لَبَنا

أمله أنّه سيأتي يومٌ يكون فيه ولاةُ الأمر منا، نحن أبناء الوطن. وفي هذا تجسيدٌ حيٌّ لما في نفسه من أملٍ بوطنٍ حرٍّ سعيد في المستقبل، والذي سيبنيه الشبيبةُ الثائرون بسواعدهم، وانتفاضاتهم، ووقوفهم في وجه السلطة لا يأبهون بهراواتها ولا برصاصها، فإنْ سقط واحدٌ سيأتي مكانه ألفٌ. ويأتي كلامه المتفائلُ حالماً بغدٍ شمسُه ساطعةٌ، فالأممُ تُبنى بأيدي الشباب، كما قال حافظ إبراهيم:

أهلاً بنابتةِ البلادِ ومرحبا

جدّدتُمُ العهدَ الذي قد أخلقا

لا تيأسوا أنْ تستردوا مجدَكمْ

فلرُبَّ مغلوبٍ هوى ثمَّ ارتقى

مدّتْ له الآمالُ منْ أفلاكها

خيطَ الرجاءِ الى العلا فتسلّقا

مَنْ رامَ وصلَ الشمسِ

حاكَ خيوطَها

سبباً إلى آمالهِ وتعلَقا

وتعلّقَ شبابُ أوروكَ بحبل آمالهم وتسلقوا الصعابَ والمواجهاتِ الداميةَ ليصلوا إلى الشمسِ. وهو ما يؤكّده وينصُّ عليهِ بإيمانٍ وقناعةٍ راسخةِ شاعرنا الفذُّ السماويُّ يحيى في قصيدته "سؤال غير عفوي" الذي يخاطبُ فيها زوجته الفاضلة، وهو في العراق، وفي نهايتها، وهي خيرُ خاتمةٍ. ص 175:

قدْ لا أعودُ ..

إنّما

لابُدَّ أنْ تُعيدَهُ حُرَّاً

عراقاً آمِناً

شبيبةٌ ثائرةٌ

تحَدَّتِ المَنونْ

سلاحُها أغنيةٌ

وغصنُ زيتونٍ

وأعلامُ الفراتينِ

وزيزفونْ

وكلما يستأصِلُ الأوغادُ من بستانهمْ

غصناً فَتِيّاً واحداً

تنبتُ

آلافٌ من الغصونْ

***

عبد الستار نورعلي

الثلاثاء 7 حزيران 2022

في المثقف اليوم