قراءات نقدية

قراءة في رواية (الحشر) للروائي احمد عواد الخزاعي

ثيمة الرواية التي بين يدينا، ثيمة الفقر والمعاناة والاضطهاد والحزن والظروف القاهرة لحقبة زمنية مرت على المنطقة الجنوبية في العراق في محافظة ميسان (العمارة) .. لم تكن الرواية تتحدث عن واقع فحسب، بل أنها تغلغلت في عمق هذا الواقع وتمفصلاته وأحداثه وتداعياته، تفقست داخل الرواية قصص وحكايات عدة، تمخض عنها علل واسباب متعلقة ومرتبطة ببعضها.

سأحاول هنا فتح عدة مداخل للرواية، لتناولها من عدة اتجاهات وزوايا، كي لا نقرأ الرواية قراءة سطحية عابرة، ونتجاوز مهمات القراءة المطلوبة لهكذا نوع من الروايات، التي ما زال الكثير من تفاصيلها يعيش معنا اليوم، كإرثٍ داومنا على توارثه أبا عن جد، لحد هذه اللحظة، في الرواية أكثر من صوت وشخصية وحدث وزمن ومكان سوف نشعر بنقلات السرد وهي تسافر بنا عبر اقسام الرواية.

مهم جدا ان نشير إلى أهم القضايا التي تناولتها الرواية في طياتها، وهل كانت قضايا تراثية؟ ام انها قضايا تاريخية عالقة بين الماضي والحاضر تُهدد المستقبل أيضا بوصولها إليه:

(قضية الاقطاع)

 قد يبدو ان الاقطاعية ولت وانتهت بزمانها ومكانها، لكن الحقيقة ان الاقطاعية ما زالت مستمرة ليومنا هذا، لكنها ليست بتلك الطريقة البدائية التي تمفصلت في عالم البداوة، بل انها قد وصلت لمجتمعنا بطريقة أخرى حديثة كالربى او تشغيل الاموال أو التقسيط الذي وصلت قباحة الاستغلال فيه لمصارف الحكومة والمصارف الأهلية التي مارست دور الاقطاعية بطريقة حديثة أكثر خسة ونذالة من الاقطاعية القديمة، فكان لتشخيص الاقطاعية القديمة في الرواية دور آخر ممتد ومتجذرا عبر الزمان لوقتنا الحالي.

(قضية الطموح)

 كان ريسان يحلم بقارب كبير أزرق، كان الحلم هذا يعكس طموحات الناس البسطاء، فلم يكن القارب الأزرق بذاك الأمر المحال، لكن ظلم الاقطاعية لم يكن يسمح أو يتيح الفرصة لجني المال او تجميعه، حيث كان الناس آنذاك بالكاد يحصلون على قوت يومهم، كانت الحياة صراع مع الحاضر، هل يتوفر قوت اليوم؟  إذ لم يكن التفكير بقوت الغد شغل الناس الشاغل، لأن الواقع الموجوع الذي صوره لنا الخزاعي واقع مرير وبائس بالكاد تتوفر فيه لحظات فرح او شعور بالطمأنينة . فكان الحب أبسط جزء في الرواية ولم يحظ بقدر من الوقت والمكان، كان محفوفا بالمخاطر ومع ذلك تسلل ريسان لبيت فرحة واقترب منها واستطاع التحدث معها كما استطاع ان ينتقل لمغامراته الاخرى عندما يذهب ضمد السركال العاجز جنسيا  إلى زوجته الأولى فتبقى "ليرة" زوجته الثانية وحدها تشعل فانوس على نافذة غرفتها لريسان تتشاطر وإياه متعة الحديث الذي كانت تتمنى لو انه يبادر إليها ويقوم بممارسة الحب معها، لكن ريسان ليس من هذا النوع، يحب الحديث مع النساء وله حبيبة واحدة فقط.

(قضية المرأة)

تناولت الرواية أصعب مرحلة تخص المرأة في تاريخ العراق المعاصر والحديث : الزواج الإجباري،زواج الفصلية، الدور الهامشي، الحب المحرم، شرف البكارة، الاضطهاد، تعدد الزوجات، عمل السحر، فقدان الأم، الحرمان من اختيار الزوج، التفرقة الطبقية، وما شابه ذلك، قد اشار الكاتب احمد عواد الخزاعي إلى عدة سلبيات بطريقة غير مباشرة كي لا تكون تشخصيات اجتماعية خارجة عن العمل الروائي، فتجلى لنا اسلوبه السردي يحكي تلك المعاناة عبر حكايات وقصص قصيرة او عبر مقطوعات سردية نثرية تتمخض عن شكوى وبوح واعتراف كما في معاناة "فرحة" (صفحة 22) وفي معاناة "ليرة "(صفحة 32 -28) وفي معاناة  "العلوية" مع الحرامي "حربي ابو ظفيرة" (صفحة 64) وفي ليلة زفاف فرحة (صفحة 72) وفي قصة "ام ريسان" مع "سيد هادي" (صفحة 98) وفي موت فرحة (صفحة 120).

(قضية الفقر واللصوصية)

استطاع الكاتب بذكاء وحنكة أن يتخلص من مسوغات التبرير الذي يتحجج به اللصوص بدوافع الفقر والعوز، من خلال ترك التبرير لشخصياته عبر صوتها وليس عبر الرواي، وهذا من اجمل وأروع ما تقدمه الرواية كـ دافعٍ يتملص منه المؤلف ويتخلص من مسؤولية تركيب الحجج والذرائع لشخصياته، ونلاحظ ذلك في( صفحة 53 ) ثم ينقل لنا الكاتب الخزاعي تمفصلات المرحلة تلك بواقعنا المعاش عبر استعاراته الجميلة في (الصفحة 58) وانقل لكم جزء من هذه النقلة النوعية عبر الماضي نحو الحاضر في:

(( كان ملة عوفي الذي علمني القراءة والكتابة، يردد دائما، أن السرقة حرام، لا يجني منها المرء غير غضب الله وكره الناس والفقر.

ابتسم سبتي الغريب، ضغط على يده التي لا زالت بين قبضته الكبيرة القاسية:

ملة عوفي اختار الطريق الأسهل والأكثر دهاء، ليستطيع العيش في هذه الحياة الصعبة، الله كريم خوية ريسان كلنة فقرة بهذا الهور وعيشتنة واحد على الآخر، مثل عيشة ملة عوفي وامثاله)).

بهذه الطريقة الاستعارية التشبيهية استطاع الخزاعي ان ينقل الصورة من الماضي إلى الحاضر، صورة واحدة لتاريخين مختلفين.

(تقنيات السرد الروائي في رواية الحشر)

تفاعلت لغة السرد في هذه الرواية داخل مستواها العاطفي والاجتماعي مع بنيتها السردية من خلال تركيبها النفسي حيث اشتملت موضوعاتها على أسلوبين من اللغة، أسلوب اللغة الفصحى وأسلوب اللغة الدارجة العامية وكلاهما تلاقحا سرديا دون ان ينفصلا بقسم او مقطوعة ما، بمعنى آخر أن اللغة هنا انسجمت في الأسلوبين  ولنا أن نرى ذلك في هذا المقتبس من الرواية :

(فتح عينيه وقد انخفضت حرارته، امسك بيد سبتي الغريب التي كانت تضع الخرقة المبللة على جبينه:

اني ممنون الك خوية، حسبالي اتعوفني وحدي وتروح .

ابتسم سبتي الغريب، رفع رأسه وضعه في حجره، سقاه قليلا من الماء، دس في فمه شيئا من دبس التمر:

لا تخف فقد علمتني الحياة .....)

كان الاسلوب السياقي لهذه المحاورة أسلوبا بارعا حين تتلاقح الأساليب اللغوية في الكتابة من وإلى أسلوب آخر أنه الهبوط السردي الذي يجعل القارئ يشعر بروح الشخصية حين تسمو بفعلها الانساني، فاختار الكاتب هنا ظهورا مفاجئا للقارئ حين استبدل أسلوب لغة السرد ومن ثم عاد لأسلوبها المعتاد في الرواية، ان الكاتب لا يهبط بلغته السردية الا حين يتعلق الأمر بصوت الشخصية الذي ينتقل عاطفيا لمرحلة حساسة فقط، وهذا يدل على قدرة الكاتب على تلوين خطابه الروائي، كما ستلاحظون ذلك في متن الرواية .

هذا من جهة ومن جهة أخرى، نجد تحوّل الصيغ فجائيا بدون أي تمهيد، حيث يكون السرد في صيغة ما بضمير الغائب يتحول على حين فجأة إلى ضمير المتكلم كما في (الصفحة  64) حيث يقص حربي ابو ظفيرة لريسان ندمه الكبير على سرقته غطاء لامرأة علوية من نسل النبي ارملة وصاحبة ايتام تتدثر به وايتامها في فصل الشتاء، لا تملك سواه فقام بسرقته وفي عملية السرد يحدث تحول في عملية السرد فيما يخص ضمير المتكلم وضمير الغائب والسرد الحكائي الذي يقصه حربي لريسان .

(الاسترجاع)

استخدام " الاسترجاع " في الرواية شمل عدة مواقف في الرواية

بالعودة للماضي وسرد احداث فيه مهمة تتعلق بماضي الشخصية الساردة، وهذه الأسلوب يعد من أكثر تقنيات السرد استخداما في العمل الروائي، وهنا استخدم الخزاعي ثلاثة انواع من الاسترجاع :

1- استرجاع خارجي حيث يعود فيه إلى ما قبل بداية الرواية

ونجد هذا في (صفحة25) حديث ضمد السركال مع عريبي حول الظلم والعبودية. 

2- استرجاع داخلي يعود فيه لماضٍ لاحق قد يكون في الوسط او النهاية

ونجد هذا في (صفحة62) قصة سيد هادي. 

3- استرجاع مزجي يستخدم فيه النوعين .

ونجد هذا في (صفحة 72) ليلة زفاف فرحة على شمخي وتذكّرها حديث الهروب الذي اقترحه ريسان عليها ورفضته.

(الاستباق)

تحدث ريسان عن اللصوصية وما سيحدث له امام الناس وما سيقال عنه في القرية وهذا موجود في الرواية حيث تردد ريسان في قبول انضمامه مع الحرامي سبتي الغريب وتنبأ بحدوث ما يخشاه ان يتعرض للتوبيخ واللوم من قبل اخيه واخواته، وفعلا ما حدث حين خاطبه اخيه عريبي بسؤاله ( كيف الحال مع اللصوصية ).

(الحذف والاسقاط)

تجاوز الفترة الزمنية للحدث، او تجاوز تفاصيل ما، خلال فترة ما لا تستوجب السرد، باعتبارها غير مجدية، وهذا ما لمسناه في الرواية حين ينتقل السارد الراوي او الشخصية لحدث اَخر يتجاوز فيه بعض التفاصيل  تحولاً للأهم .

(مونولوج الحوار الداخلي)

نلاحظ ان السارد هنا  لا يتدخل في  الحوار الداخلي ولا يعقب على تداعياته او انفعالاته، كأن يصفها بل انه يتركها كي يحافظ على التأثير الدرامي والتداعي الحر، وغالباً ما نجد ذلك في مونولوجات ريسان الداخلية، صراعه مع الواقع والاحداث داخليا، اذ كثيرا ما تحدث هذه الحالة عند ريسان وتبادلت معه المونولوج، فرحة حين استرجعت حوارات اجرتها مع ريسان، أو عريبي الذي يفكر بأخيه ريسان، او ليرة زوجة السركال التي تمنت كثيرا ان يقفز عليها ريسان ليطفئ حريق الشبق فيها.

(الخاتمة)

رواية الحشر لم تكن مجرد رواية تاريخية تتحدث عن حقبة تراثية ماضية، اذ ان الكثير من تفاصيلها لا زال للآن يعيش في حياتنا العادية، داخل القرى والارياف وحتى في بعض المدن، ما يحاول الكاتب احمد عواد الخزاعي ايصاله عبر الرواية، اظهار الجانب الانساني في الرواية عبر التأثير في القارئ وتحريك مشاعره لرفض الظلم عن الانسان وانكاره وخصوصا المرأة، التي ما زالت تعاني من هذا الظلم، كما يشير الكاتب الى نقاط مهمة في القضايا التي تناولتها روايته، بإعادة النظر في موروثنا الاجتماعي من تقاليد واعراف ما زالت سائدة ومستمرة لم تجد لها رادع للآن، الرواية صيغت بلغة جميلة وأسلوب سردي ممتع، استخدم فيها الخزاعي عدة طرق وأساليب  للسرد الروائي، واستطاع ان يحقق القيمة الفنية الروائية في هذا العمل.

***

قراءة: الناقد طالب الدراجي

في المثقف اليوم