قراءات نقدية

قراءة جديدة في رواية (وليمة عشاء أصيلة) للكاتب فرناندو بيسوا

حيدر عبدالرضاوظيفة التبئير بين آلية تفعيل محطة الانتظار وغرائبية المضمون

توطئة: ان استجلاء المكون التبئيري في نقطة محددات التركيز الدلالي في رواية (وليمة عشاء أصلية) للكاتب والشاعر والناقد البرتغالي (فرناندو بيسوا ـ ترجمة عبد الهادي سعدون) تتطلب انطلاقا قرائيا نحو بنى قصدية مستكملة لدلائل التوظيف الخبري والسردي والوصفي في أفق ممكنات التحقيق الروائي.ولو أننا لا نعد هذا العمل موضع دراستنا من النصوص الروائية الخالصة، ولكننا تعاملنا وإياه في حدود المكون ذات الأواصر المرتبطة في مرحلة ما من التفكيك والتثبيت الممتزجان في حدود مسار: (لغة القص ـــــ الثيمة ـــــ مقام المؤول) وتبعا إلى هذه الثلاثية المنظورية، واجهنا اعتبارات موضوعة رواية بيسوا، ذلك لكونها تنفتح على سياق خاص من المراهنة المتأسسة على أساس تحقيق النص الروائي، وفق كفاءة وكفاية من الحبكة الأقتضائية.

ـ الوليمة الغامضة بين إيحاءات المكان وخلفية الإنتاج.

1ـ حضور الشخصيات في تحولات الزمن التخيلي:

أن نواة الموضوعة الحكائية في أسلوب الإيراد الوقائعي في النص الروائي، تأخذنا نحو المزيد من الأسئلة والمحاور المتعلقة في مرحلة محققة خبريا في تجليات المقروء.إذ تواجهنا في بداية الرواية تلك الحالة من التأشير الزمني المستقدم عبر صوت ذلك الراوي الشاهد، الذي له صفة نسبية في أفعال السرد، غير أنه لم يعد شخصا في مساحة الفعل السردي تلفظا: (حدث ذلك في الجلسة السنوية الخامسة عشر لجمعية محفل الطعام البرلينية.. عندما ناشد رئيسها هير بروست جميع الأعضاء بالحضور.. الجلسة بطبيعة الحال، كانت عبارة عن مأدبة طعام.عندما وصلت الحلويات، كان النقاش حاميا حول اصالة هذا النوع من الأطعمة. / ص12 الرواية )هذه هي البداية الموازية التي بموجبها أخذت تتشكل منطلقات الموضوعة السردية، اقترانا بما يصاحبها من وقائع ذات الخصوصية بمادة فعل التخييل الروائي، وما يترتب عليه من الأوضاع التحولية في مسار الأحداث.كلما نود الاشارة إليه تركيزا في حكاية النص ، وجود ذلك الفاعل المحور المتمثل بـ (هير بروست) رئيسا لهذه الجمعية الخاصة في مقاربة الموائد الممتحنة في ذائقة وأعراف هذه اللجنة المتكونة من عدة شخوص ذات مراكز مرموقة في عالم الطهاة والطهي، ولكننا في الآن نفسه نعاين حجم ومستوى الحماسة والاقتناع في مؤطرات حوارات الشخوص عبر هذه الجلسات، وما يبدو لنا غريبا في الحقيقة هو الطابع الفردي في سلوك المحور الفاعل ــ هيربروست ــ فهذا الرئيس كان شديد الطبع وكأنه (أن التحفظ لم يكن جزءا من طبيعته.. ومثل عاصفة فيما لو أحتفظ بصمته / الرئيس رجل قدير بكل الاعتبارات.. بروحه الشابة وطبيعته الاجتماعية ، رغم فطرته غير العادية وتحكمه بعدة مناسبة تجعل منه روحا قريبة ومؤثرة.. رقته بدت لنا بيولوجية:تصوراته ودعاباته لم تكن إجبارية بالمرة. / ص13 الرواية) أن الصورة الموصوفة لهذا الرئيس، هي من السعة والتركيز من قبل عناية (الراوي الشاهد) حيث تغدو عملية وصف أفعاله وأدواره وسلوكه، وكأنها كل ما يصبو عليه العمل الروائي كليا.فيما نلاحظ وجود الشخوص الأعضاء من حوله، وكأنهم مرحلة تأثيثية وديكورية ليس إلا، مثل سحابة صيف تتقلب أحوالهم وسكناتهم تبعا لما يود شرطه عليهم هذا الرئيس.وبعد صفحات طويلة من الفصل الأول من الرواية، والتي أختصت بالحديث حول هذا الرئيس، لعلنا من خلالها تعرفنا على ماهية هذا الرجل بكونه يمتلك من السمات الغريبة والعجائبية في نمط سلوكياته، مما يجعلنا نطيل السؤال حول مدى النتائج الأواصرية التي بدورها تحكم آليات الفعل السردي؟فهل هناك مستوى ما يوجز كل هذه الأوصاف ارتباطا بعلاقة ذروية في تنصيصات الفصول؟ وما كل هذا الضوء المسلط على شخصية هذا الرجل ألربما لكونه يشكل في ذاته الاعتبارالأول في ترسيخ آلية الانطلاق بالأحداث مثالا؟نعم، قد يكون كل هذا جائزا!؟ خصوصا وإن البداية الروائية لا ترتقي إلى مستوى التعدي لأي بداية قصة قصيرة.أقول أن الغاية كانت تتقصد فعلا تتأسس عليه صيغة الاثارة في مكامن الرواية ودون أدنى شك .لكننا لو تعاملنا مع محتوى النص بدءا، بالفكرة والمتن، لما وجدنا مستويات خاصة من الوعي الجمالي في تمفصلات الأحداث إطلاقا.

2ـ المحور الشخوصي ونزوعات الهروب من مرض العصاب:

تتفرد عملية الصوغ التصوري من قبل الراوي الحاكي، نحو تلك القيمة التشريحية الملهمة في فهم جل أطوار وتصرفات هذا الرئيس، وقد تبين لنا من خلال أولئك الشخوص المرافقين في جلسات المآدب، من إنه يمارس حياتا غير سوية تماما، فهو لا يلبث منها إلا هروبا من خلال بعض الأمراض المشخصة فيه كمرض العصاب، الذي جاءه نتيجة جينات عائلية على ما يبدو في سياق الرواية، كما وتظهر الأحداث بأن له أسلاف مصابون به أيضا.فضلا عن ذلك، فهذا الرئيس تصاحبه جملة سمات مهولة كرعونة مشخصة كظاهرة في أفعاله لا تخفى على أحد من أعضاء المجلس نفسه: (كان مريضا بالأعصاب.لكني لا أتحدث بأي قدر من اليقين في هذا الأمر./ص16 الرواية) في الحقيقة لو تمعنا في هوية هذه الجمعية التي يترأسها مثل هذه الشخصية، لوجدناها مجرد قيام تسميتها بـ (فنون تذوق الأكل والشرب والمضاجعة) أي أنها جمعية شبه فنية تقتصر على تذوق ما تجود به مهارات الطهاة في المطاعم والفنادق السياحية، فما كان دور هذه الجمعية سوى الأشراف على مهارات الطبخ في هذه الأماكن ــــ الجمعية كما فهمنا من سياق المتن الروائي ــــ هي خلاصة نادرة تجتمع فيها مجموعة من الأفراد الذين ينتمون إلى الطبقات العليا والسفلى، فهي خليط شاذ من التفاوت والتنافر الذوقي.كان المحور الفاعل هو الشخصية هير بروست، يذكر لكونه الأكثر جرأة وصلافة وسط ذلك المجلس.

3ـ الشاهد الراوي حيزا متخيلا:

بعد حديثنا المسهب حول طبيعة تلك الجمعية وخواص جملة شخوصها إلى جانب أطوار رئيسها الغريبة، قد يحق لنا الحديث الآن، حول مهام ـ الراوي الشاهد ـ في متفاعلات المساحة المسرودة، وكيفية وقوعه كشاهدا متخيلا في إتمام تعريف الإشارات والمصاحبات المتعلقة بحكاية زمن الجمعية الفنية في تذوق الأكل والشرب في أحضان من الأحاديث المتحمسة في النقاش حول جودة هذا الصنف من الأكل أو عدم لقيا الجودة في صنف آخر في مكان آخر.أقول أغلب ما جاء به لسان السارد الشاهد في مكونات الرؤية الخارجية لطبيعة شخصية هير بروست، كان مقدرا دون حدود واضحة لمعرفته هو نفسه، سوى أن له القدرة على وصف الكوامن النفسية والأبعاد الحسية للشخصيات، وقد يلوح عن نفسه في بعض الأحداث وكأنه يقف شاهدا عليها.وقد عرفت هذه الرؤية مع السرد الكلاسيكي وفي الملاحم، وذلك إلى ما تمتاح به من عفوية التنقل عبر الزمن والمكان.من خلال معرفة السارد عبر (الرؤية الداخلية ــ الرؤية الخارجية )نجده قادرا على النفاذ بعمق في شخصية الرئيس للجمعية هير بروست.فالسارد بعمله الشهودي على مكونات أعضاء هذه الجمعية، نراه ميالا إلى الكشف عنهم عبر صيغة من التساؤلات أو محاولة السعي في استرجاع بعض من مشاهد المذاكرة، كما حدث مع أمر أولئك الشبان الخمس الذين غلبهم هير بروست في مسابقة طهو الطعام في أحدى الفنادق ذات النجوم الخمس.

ـ أحجية مأدبة العشاء وكرنفالية الندل الزنوج .

1ـ صورية المكان الأليف والمعادي في حساسية الذات الراوية:

في الحقيقة أن مجال الاستعداد الموقفي والمشاهدي في أحداث دعوة الرئيس هير بروست إلى كل من الأعضاء إلى مأدبة عشاء خاصة في منزله الذي لا أحد يعرف أين يقع بالضبط: (نظر الجميع إلى الرئيس.. أبتسم لهم بطريقته المعتادة، الخبيثة والغامضة.. ابتسامة جزئية، لكن هذه الابتسامة كان لها معنى، تنبأت بطريقة ما بغرابة كلمات الرئيس.. كسر الرئيس الصمت الذي قطعه على نفسه وشرع بالرد: ـ أيها السادة ـ كرر الرئيس بطريقة مباشرة وبليغة ـ أن التحدي الذي أواجه به أي رجل، يكمن في غضون عشرة أيام، سأقدم نوعا جديدا من العشاء، مأدبة عشاء أصلية للغاية.. اعتبروا أنفسكم ضيوفنا./ص24 الرواية)في الواقع أن الحصيلة من وجوب هذه الدعوة من قبل الفاعل المحوري، لم تكن من الموازنة بين الموضة وتقنية عنصر المفاجئة، خصوصا وأن أغلب شخوص الأعضاء بمن فيهم الراوي، ما لا يعلم أحدا منهم بمكان هذا المنزل قط.إذن موقف الدعوة جاءنا في ثنايا من السرد التمويهي المحفوف بحيوية عنصر الغبطة والمفاجأت.ثمة ما تخبرنا فيه الرواية من وجود فتيان خمسة كانوا فيما سبق قد غلبهم الرئيس هير في مسابقة الطهي، فكانوا أيضا من المدعوين في هذه المأدبة بطريقة لا تعبر عن مدى التحدي والحنق الذي يجمعهم على مقت شخص هير تماما، ولكن تفاصيل المعادلة لم تتبين خطوطها لنا بيسر.

2ـ الدلالات الغامضة والوجوه الهاربة في ظلام المكان:

تتدعى حساسية المكان إيحاءا بالقادم من أشرار هذه المائدة في سياق بدت من خلاله عوامل الحاسة المكانية أكثر ألفة في زمن مفقود الأواصر دون شك.ما جعلني أكتب عن هذه الرواية، ليس مفعول سردها النادر إطلاقا ولا من جهة ما موضوعاتها أبدا، فقد أثارني ما فيها من نهاية مضمونية غير متوقعة بتاتا.تحكي الأحداث في مستوى إقامة المائدة للعشاء بأن ما كان يحيط رؤوس الحاضرين من الضيوف، هو أنه هناك ثمة وجوه لخمس زنوج ندل لا تتبين ملامح وجوههم بطريقة مسلمة من شوائب الشك: (جلسنا إلى المائدة مع حمى متوقعة من الترقب والاستجواب والشكوك.. تذكر الجميع أنه سيشهد على عشاء أصيل للغاية.وكل واحد من قبل التحدي لأكتشاف أين تكمن اصالة العشاء !؟ / ص45 الرواية) لقد تراوح صوت وموقف الراوي، في أوضاع مختلفة، فمرة نجده ساردا مشاركا، ومرة أخرى نراه فعلا مراقبا لخفايا هذه المائدة، وما تحتويه من أطباق الحم والسمك، وصولا إلى التشكيلة الزخرفية الجميلة التي أضافت إلى المكان سمات في غاية الغرابة والروعة.ناهيك عن دور أولئك الزنوج الخمس وطريقة خدمتهم للضيوف بطريقة تنم عن أنهم قد تدربوا على موضة الخدمة بطريقة أكثر دقة ومهارة لا نظير لها.

ـ تعليق القراءة:

يتشكل عنوان النص الروائي من جملة وصفية ذات الامتداد متشعب في الإحاطة وإرسالية الدال السردي.لكننا عندما نمعن في مواقف الدعوة لهذا الرئيس، نجدها ذات واصلات متماهية وحدود وجود أولئك الزنوج الندل الذين لم يتبين أحد من الحضور النظر إلى ملامح وجوههم بطريقة مشخصة: (بروست يرغب بالكشف عن دعابة، المزحة.. ها هو بروست الحقيقي.. مع أقتراب لحظة النخب، بدا الرئيس وكأنه يتمادى بالاثارة.راح يدور بكرسيه.. متعبا.. متعبا، مبتسما، هازلا بلا معنى.. توقف الرئيس مؤقتا، ثم رفع صوته صارخا: ـ أشرب ـ قال ـ لذكرى شباب فرانكفوت الخمسة، الذين كانوا حاضرين جسديا في هذا العشاء وساهموا فيه بأكثر الطرق مأدبة.. وبوحشية وجموح، كان يتصرف كمجنون تماما، مثيرا بأصبع متوتر إلى بقايا اللحم التي كانت في الطبق الذي أمر بتركه على المائدة. /ص56 . ص57 الرواية) يتأسس نص رواية (فرناندو بيسوا)على الإيحاء والتلميح والتشويق والانتظار بفارغ الصبر إلى الأفصاح عن خفايا تلك المائدة التي كانت سرية ومبطنة بأطباقها المحشوة باللحوم البشرية العائدة إلى أجساد أولئك الشباب، فيما تبين أن أولئك الزنوج الخمسة هم من جزر آسيوية وهم من قام بأعداد طهي لحوم الشباب على مائدة العشاء الأصلية في زاوية يبلغ تبئيرها ضمن آليات الاواصر بين المكون السردي وظنون وتساؤلات مجمع الشخوص الروائي مع علاقة الراوي الذي راح يؤول أسرار الوليمة بما ينفتح نحو حقيقة مضمونها الغرائبي اللامنتظر واللامتوقع .

***

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم