قراءات نقدية

العاطفةُ في ديوانِ "أستَلُّ عطرًا" للشَّاعر فهيم أبو ركن

ديوان "أستَلُّ عطرًا" يقعُ في 130 صفحة من الحجم المتوسّط، صدر عن "دار الحديث للإعلام والطّباعة والنّشر" عسفيا، لصاحبها فهيم أبو ركن، لوحة الغلاف بريشة الفنّانة: سلوى عثمان، والتّصميم الدّاخلي الفنّانة: ملكة زاهر، كتبت المقدمة: الدّكتورة جهينة خطيب.

الغلاف

"الرُّوحُ المقاومة هي عطرُ الأرضِ" يتناسبُ هذا المعنى مع غلافِ الدّيوان، هذه الرُّوح جُبلتْ على الكفاحِ.

 السِّلاحُ والوردةُ سيّان في وطنٍ مرويٍّ بدماءِ الشُّهداء، أزهارُهُ الفوَّاحةُ تهيِّجُ عواصفَ الجراحِ وتغمرُها بالأنين.

تنبتُ الوردةُ حين تُرْوَى بالدِّماءِ، ورُغمَ اكْتِمالِ زهرتها إلَّا أنَّها تقطرُ دمًا، إلى جوارِهَا عصافيرُ ميِّتةٌ منتفخةُ البطونِ، ذكَّرتْني هذه الصُّورةُ بجثامين الشُّهداء المحتجزةِ في صقيع ثلَّاجاتِ الاحتلال، اهتمَّتِ الرَّسَّامةُ بالتَّفاصيلِ فرسمَتِ الظِّلالَ لتَزدادَ الصُّورةُ ألـمًا، وتَقعَ في نفسِ القارئ، ومع ذلكَ لم تَغْفلْ عنْ صوتِ اللَّهِ الباقي فينا الَّذي يوحِّدُنَا ويجمَعُنا مسلمينَ ومسيحيّين، الغلافُ للفنَّانة المبدعة: سلوى عثمان.

لغةُ الدِّيوانِ مُبتكرةٌ متمكِّنةٌ سلسةٌ تَظهرُ جليًّا فيها براعةُ التَّعبير. 

يكتبُ الشَّاعرُ قَصائدَهُ بعيدًا عن حيرةِ الفكرةِ، برويَّةٍ وهدوءٍ، الفِكْرةُ امْتطتْ صهْوَةَ الأملِ والإرادة.

 نستطيعُ أنْ نُضيءَ شموعَنا لتنيرَ غَدَنا رُغمَ ظلامِنَا الدَّامسِ، هناكَ متَّسعٌ للْحَياةِ.

كزَهرِ الوطنِ الَّذي يَتفتَّحُ، يَفتحُ أبو ركن جِراحَنا ويُحاصرُنا بينَ جمالِ المعْنَى وَبَينَ عُمقِ الألمِ، نتصفَّحُ "أستَلُّ عِطرًا" فنشعرُ بعواصِفِ جَبلِ الكرملِ، فالكَاتبُ ابنُ بيئَتهِ مِن جمالِ عسفيا تنبعُ المفرَداتُ، نظمَ قصائِدَهُ مُتغنِّيًا بجَمالِ الوطنِ ومحرِّضًا على ضَرورةِ التَّمَسُّكِ بهذا الجمالِ والدِّفاع عنه، وحِفظِهِ، فهو أمانةُ الأجْدادِ، ولحنٌ شجيٌّ آتٍ منْ قَصائدِ الشُّعراءِ الرَّاحلينَ.

قَسَّمَ الشَّاعرُ الدِّيوانَ إلى ثلاثةِ أجزاءٍ؛ وطنيَّاتٌ، وِجْدانيَّاتٌ ومَراثٍ، واسْتهلَّ قصائدَهُ بقصيدَةٍ عنِ الشُّهداءِ، لِيَكونَ الوَطَنُ أوَّلًا، وفي وجدانيَّاتِهِ تَتجلَّى عاطفةُ الشَّاعرِ الفيَّاضَةُ بانْسِيَابيَّةٍ أخَّاذَةٍ، وَرِقَّةٍ مُحَبَّبةٍ:

أقْبِلي سَحَابةَ عطرٍ

واقْبُضِي على لمَعانٍ

بَينَ الجفْنينِ بَرَقْ

اسْكُبي جمرَ قلبٍ قَيْسِيٍّ

عَلى أفقٍ سَابحٍ وقتَ الغُروبْ

دَمعٌ يُسْكبُ على الصَّخْرِ فيَذوبْ

ودَربُ إيقاعٍ باللَّوعةِ انْطلقْ..

يَبْغى الهُروبْ.

البداية

يبدأُ الشَّاعرُ ديوانَهُ بقصيدةِ "الرَّكضُ نَحْوَ النَّار" ذاكرًا الفداءَ الأعظمَ حيثُ يَهِبُ السَّاردُ في القصيدةِ روحَهُ للوطن، رُغمَ معرفَتِهِ بعمقِ جُرحِ الرَّحيلِ وأثَرِهِ على الأمِّ والأختِ. الوداعُ المكلَّلُ بالغَارِ يُعْلنُ بُزوغَ الفجرِ.

استطاعَ الشَّاعِرُ مِنْ خِلالِ هذه البِدايَةِ أنْ يَستدرجَ عاطفةَ القارِئِ لِيَتماهَى مع ما تحمِلُهُ القصيدةُ منْ مشاعرَ بينَ الفِداءِ وبينَ الحزنِ. تَنتهي القصيدةُ وفي نفسِ القارئ أملٌ رغمَ الألمِ:

هَا أنا أفتحُ صدْري

فاطْلقُوا نحوَهُ النَّارَ

لنْ تَقتُلوا فيَّ الرُّوحْ

وإنْ أثْخنتُمُ الجَسدَ

لنْ تقتلوا فيَّ الرُّوحْ

هذا التِّكْرارُ يؤكِّدُ المعنى ويُصِرُّ عَليْهِ.

 الوَطنُ الَّذي يَستحِقُّ الفِداءَ بِالرُّوحِ، يَجدُ بِهِ الشَّاعرُ روحَهُ، وتكونُ الحَبيبةُ وَطنًا:

فَلِلْوَطَنِ أنتِ الوَجيبْ

والقَلبُ معَ كُلِّ الوتنْ

أنتِ لَهُ

روحُ الوطنْ

جمال الطبيعة

في قَصيدَةِ "أصرخْ أيُّهَا الخَيْر" تَظهرُ عاطفةٌ رقيقةٌ تنسابُ بينَ حروفِ القصيدةِ كشلَّالٍ عذْبٍ، ورغمَ قوَّةِ انْسيابِهِ يَبقَى رقيقًا، يُنبعُ الخيرَ رُغمَ اللُّؤمِ والشَّائعاتِ والأكاذيبِ والشَّرِّ المحيطِ والحقدِ، يُخاطبُ مرارًا القارئَ بقولِهِ: "إنَّ الخيرَ موجودٌ"، هذه الصُّورُ الجماليَّةُ وَظَّفَ الشَّاعرُ قوَّةَ وجَمالَ الطَّبيعةِ لِتَخدمَ المعنى بتلقائيَّةٍ وتمكُّنٍ، مَزجَ بَيْنَ مَعَانٍ مُتَضَادَّةٍ ما بَينَ الخَيْـرِ وَبَيْنَ الشَّرِّ!! 

فَأينَ وَجدَ الشَّاعِرُ الخَيْرَ؟

وَجدَهُ في حُبِّ الشَّاعرِ لِلطَّبيعةِ وَكأنَّهُ أحدُ شَعراءِ العَصْرِ الأنْدلسِيِّ، هُذِّبتْ كلماتُهُ وطَغى الخَيْرُ عليْهِ، تَنْفَردُ الطَّبيعةُ بجمالٍ خاصٍّ تمنحُ الحَياةَ، الأمَلَ، وتَزرعُ في نفسِ الإنسانِ الفَرحَ والإيجَابيَّةَ، تِلكَ الطَّبيعةُ هِبَةُ الرَّحمنِ هي عنوانٌ للجَمالِ، ومُؤشِّرٌ للخَيرِ. في هذا الجَمالِ شِفاءٌ للرُّوحِ، وصدقُ الخلقِ ومنَّةُ الرَّحمن وسببُ الخير:

كُلَّمَا يَعبقُ الأريجُ في الحَديقَةْ

وَتَرقصُ الأوْراقُ الرَّقيقَةْ

على إيقَاعِ النَّسيمْ

وبِاسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمْ

يُبْعثُ الفَرحْ

حَتَّى لو انْجرَحْ!

وَبِهِ خَميرَةْ

لِسَعادَةٍ كَبيرَةْ

أعْرفُ أنَّ الخيرَ مَوْجودْ.

يُحَرِّضُ الشَّاعرُ الخيرَ ليستفيقَ ويصرخَ، ويُحرِّضُ الخَيرَ في الإنْسانِ لِيَقولَ كَلمتَهُ ويَصْرُخَ.

يَسْتَخدمُ الشَّاعرُ التَّرغيبَ بأسلوبٍ يُظْهرُ خلقَ الشَّاعِرِ ورَهافَةِ رُوحِهِ، لِيُخْرجَ الخيرَ ويكونَ إيجابيًّا ويُغيِّـرَ الواقعَ الأليمَ ويغيرَ الْمَشَاهدَ الَّتي نَراهَا على الشَّاشاتِ، ولِيَأخُذَ دورَهُ الإيجَابيَّ في الحياةِ.

وَاحْرصْ على تُربةِ الوادي لأنَّ بِهَا

مَجْدًا بِهِ الحَرفُ سَيفٌ والدَّواةَ دَمْ

دَافِعْ بعلْمِكَ واسْتلِمْ ... سَردَ الحِكايةِ بِالحِكَمْ

وجدانيات

وفي الفصلِ الثَّاني وجدانيَّاتٌ، يعودُ الشَّاعِرُ لألحانِ الطَّبيعةِ الخَلَّابةِ وينسجُ منها قصائدَهُ الوجْدانيَّةَ العذبَةَ، موسيقى شِعْرِهِ تَسلِبُ الأذْهانَ، وظَّفَ الشَّاعرُ العديدَ منَ الشَّخصيَّاتِ التَّاريخِيَّةِ والأسطوريَّةِ، وكأنَّهُ بِحُبِّهِ يَختزلُ كُلَّ العُشَّاقِ ويجمعُ الأساطيرَ في حكايتِهِ الخاصَّةِ، عَشتار، وَسِيزيفيّ، عبس، قيس، طروادة، أيوب.. وغيرهم، هوَ صُوفيُّ العِشْقِ ومع ذلكَ هوَ فارسُ الأفْراحِ:

أقْبِلي سحابةَ عطرٍ

واقْبضي على لمعانٍ

بينَ الجفنينِ برَقْ

اسْكبي جمرَ قلبٍ قيسيٍّ

على أفقٍ سابحٍ وقتَ الغروبْ

دمعٌ ينسكبُ على الصَّخرِ فيذوبْ

ودربُ إيقاعٍ باللَّوعةِ انطلقْ

يبغي الهروبْ.

يقولُ أبو ركن: "إذا لم أبنِ لكِ بِشعري مَجدًا فلنْ يَبْنيَهُ لكِ أحَدٌ".

ذكَّرني بما قالَهُ شكسبير: "مَا دَامتِ الأنفاسُ تَصعدُ والعيونُ تحدِّقُ

سيظلُّ شِعري خَالدًا وعَليْكِ عُمرًا يغدقُ".

حِينَ يَعشقُ الشَّاعرُ يَبنِي للْحبيبِ مجدًا خالدًا

أحْلامُكِ لنْ تعرفَ الذُّبولْ

مَا دمتُ شِعرًا فيكِ أقولْ.

الخاتمة

تَسَاءَلَ الشَّاعرُ فهيم أبو ركن في قصيدَةِ رثاءٍ للشَّاعرِ محمود درويش بعنوان "لنْ أكتبَ عنِ الدَّرويش.. بل الأولمبياد!" ماذا يمكنُ أن يُضيفَ، ونَحنُ نتَساءَلُ: ماذا أضَافَ هذا الديوان؟

لَقدْ صَالحَنا على أنفُسِنَا، بَعْدَ أنْ وضعَنَا أمامَ مسؤوليَّاتِنَا، وحَرَّضَنَا على الحيَاةِ:

إِنَّنا في العَالمِ بشَرٌ

بَشرٌ نَعيشُ نُفكِّرُ

نُشاهدُ، نُتابعُ، نَشْعرُ

نَترقَّبُ، نَتنفَّسُ، نَتأوَّهُ،

نَنْعسُ، نتَألَّمُ.. نَتشَاءَمُ

نَتشاءَمُ

نَتَفاءَلُ..

يَتفَاءَلونَ..

تَفَاءَلُوا، تَفَاءَلُوا.. تَفَاءَلُوا..

وَرُغمَ أنَّها قصيدةُ رثاءٍ يَأتي التَّفاؤلُ مِيلادًا جَديدًا.

لَقدْ أجَادَ الشَّاعرُ أنْ يَسْتلَّ عِطْرَ أرْوَاحِنَا وَبِإتْقَان.

***

بقلم: إسراء عبوشي

في المثقف اليوم