قراءات نقدية

تأملات فلسفية في رواية قديشة صراع الحب والهوية

عمرون علي مدخل اشكالي: الرواية من منظور فلسفي ومن زاوية الدراسات النقدية الأدبية فن، ولكنها ليست فن الممكن، مادامت تتحرك ضمن فضاء الخيال وتتغذى على السؤال ودهشته، فكل رواية هي جواب على تساؤل ما، وبهذا المعنى هي تفكير اشكالي يتأسس على الهدم والبناء، تفكير لا يروم إعادة استنساخ الواقع كما هو بل ابداع جديد للواقع، والرواية لا تعود الى التاريخ سردا دون مساءلة بل هي تفكير يحطم الاحكام المسبقة والمعارف الجاهزة حول الوجود المشخص للإنسان. حول حقيقة الانا الباحثة عن ذاتها في لحظات انكسارها وحزنها وألمها وفي لحظات فرحها وشوقها وعشقها واحتفالها بالحياة.

الرواية ومنذ نشأتها تحكي عن الانسان في تنافره وتماثله وتجاذبه مع الاخر المختلف عنه في تفاعله وصراعه مع الحياة وتقلباتها ومع الطبيعة وصلابتها وعنادها. فالرواية كما الفلسفة كلاهما ينطلق من سؤال ما الحقيقة؟ تساؤل اختصر تاريخ الفلسفة وفق تصور نيتشة، ويلخص لنا أيضا تاريخ الرواية في بعدها الانطولوجي، وتقاطع الرواية مع الفلسفة واضح جلي، تقاطع نلمسه في تلك العلاقة الوظيفية،رابطة صاغها جان- فرنسوا ماركيه أستاذ تاريخ الفلسفة في جامعة السوربون في عبارة موجزة " الادب المسكون بالفلسفة" و كثيرا ما أدهشتني هذه العبارة وانا ادرس لتلامذة بعض النصوص الفلسفية:" حيثما كان الشاعر يسأل كان الفيلسوف هو الذي يجيب " ويمكن القول كنقطة انطلاق انه من نماذج هذا التقاطع رواية قديشة .

لقد حاول رابح ظريف في رواية قديشة التوغل في مشكلات ثنائية المادة والروح، الأرض والسماء الأسطورة والواقع، الفن والدين وأيضا الحب والهوية، الاصالة والمعاصرة وهي مشكلات فلسفية اشتغل عليها سردا وتحليلا ونقدا وفق لعبة الدال والمدلول وبلغة شاعرية، من هنا كانت روايته مسكونة بتساؤلات جوهرية: كيف يمكن مواجهة الواقع في جانبه المأساوي؟ وهل من الحكمة ان يتنازل الانسان عن أحلامه عن انسانيته ويرضخ لشهوة الجسد وتناقضات الواقع وسلطته؟ وهل الهروب من الواقع الى الخيال والتحرر من اللوغس وضوابطه المنطقية والسفر في عوالم الميثوس جنون ام حكمة؟ يجيب رابح ظريف :" ان لحظة خيبة واحدة تمر على الانسان وتحطم قلبه قادرة على ان تجعله يسمع الموسيقى أو يعزفها إما على قصبة او البكاء وان لم يجد وسيلة يقاوم بها خيبته يصبح مجنونا يعزف الحكمة" ان محاولة الإمساك بأجوبة لهذه التساؤلات تدفعنا الى النظر في شكل الرواية اولا ثم التوغل في مضمونها .

أولا: في دلالة غلاف الرواية

تضمن عنوان الرواية شحنات دلالية وحمولة معرفية وأيضا مفارقات فغلاف الرواية  حمل اسم قديشة التي لا نكاد نعرف عنها شيئا الا ما تحكيه الذاكرة الشفاهية لسكانها،عنوان كتب بلون اسود بارز وقديشة هو اسم نكرة غير دال زاد من ابهام الرواية، وهو يجعل القارئ في حالة حيرة،ليتبادر الى ذهنه طوفان الأسئلة،بمن،وماذا ...والاسمية فيه ان هناك شيء ما في نفسية الشاعر يريد البوح به.[1] وما زاد في غموض التسمية ربطها بالتفسير الأسطوري حيث تقول الأسطورة ان قديشة انتقلت مع اخواتها قوراية،ماونة،منصورة، من جبال الاوراس ونزلت كل واحدة منهن ارضا واستوطنت بها، غلاف الرواية اصفر و اللون الأصفر يرمز في الغالب وفق مدلول حسي الى النور والاشعاع لارتباطه بالشمس وقد يجسد من زاوية علم النفس الحالة النفسية للكاتب فهو لون الحزن والقلق البؤس والذبول لون فصل الخريف وتساقط الأوراق بعد حياة خضراء لون الصحراء القاحلة قال بول كلي :" اللون هو المكان حيث يتلاقى عقلنا والكون "  وأضاف أن :" الأخضر يعني الامل حتى القليل منه،الأحمر انتقام قسوة والم،الأسود كرب سببه حب مع موت،الأبيض نقاء وحقيقة وصدق الروح والقلب،الأصفر هيمنة وعجرفة الكستنائي او الأصفر الاسدي روح مغامرة وسمو ملكي وعرفان بالعطايا المستلمة" [ 2]  وقد جاء في مقال دلالة الألوان في الشعر العراقي: ان السمة الغالبة في دلالة اللون الأصفر عند السياب قد ارتبطت بالخوف والمرض والتعب والشقاء، ومن ذلك ما قاله السياب في قصيدة (غريب على الخليج):

متخافق الأطمار أبسط بالسؤال يدا نديّة

صفراء من ذل وحمى: ذل شحاذ غريب

بين العيون الأجنبية

بين احتقار وانتهار وازورار أو خطيّة

في وسط غلاف الرواية نلاحظ رسما لشيخ باللون الأسود يعزف على القصبة في لحظة ثبات وتماسك في إشارة الى مقاومة الألم بالموسيقى، اما الواجهة الخلفية للرواية فنجدها قد تضمنت بطاقة تعريفية للكاتب بهدف رسم معالم  هذه الشخصية لمن لا يعرفها، بداية من مؤهلاته العلمية ومكانته الأدبية ووصولا الى الجوائز التي تحصل عليها ووظيفته الحالية وفي اسفل الغلاف من الجهة اليسارية مقطع من مجموعة شعرية  بعنوان الى وجهي الذي لا يراني رصد فيها الشاعر قدرته على الثبات وتحدي مصاعب الحياة رغم القلق والانفصام مع الذات ومع الواقع. وهذه الابيات أيضا تذكير بان كاتب الرواية في الأصل شاعر.

ثانيا: في البحث عن الهوية المشتتة

يقدم الراوي كفرش لروايته شخصية الشيخ وما حملته هذه الشخصية من تناقضات وتساؤلات رسمها كنقطة انطلاق كما هي في جانبها المورفولوجي فالجسد لغة تختزل تاريخ ساكنه وتعبر عن حالات واحوال صاحبه، هذه الشخصية نحتها وحركها ضمن فضاء روايته كذات متأملة منعزلة عن الوسط الاجتماعي تنظر الى السماء باحثة عن ذاتها،وهي تظهر في متن الرواية مثل باقي الشخصيات، بعيوبها ومحاسنها ووفق هذا الملمح يمكن ادراج رواية قديشة ضمن الروايات الجديدة المعاصرة حيث تتحرك كل شخصية في فضاء وجودي تعيش حالات من الخوف والقلق والكأبة والتضحية والوفاء في صراع مستمر وهنا تصبح الحقيقة حقيقة الانا  وأيضا حقيقة الهوية كفعل تراكمي على حد تعبير جون بول سارتر .

كتب رابح ظريف بعد الرسالة الأولى " بعينين مبسوطتين تتبعان أصابع من رقة الجوع يحاول الشيخ ان يدس في لطف الهواء حكاية ما ..." وحق لنا هنا التساؤل : حكاية من التي ستشكل في بداية الرواية لغزا للقارئ ومسألة مبدأ بالنسبة للراوي،أهي حكاية الشيخ أم حكاية يوسف المتيم بحب الهذبة ابنة الشاوش خليفة ام حكاية الراوي ؟ أم حكاية الانسان في زمن الجفاف والعولمة ؟ لا فرق هنا بين الشخصيات الثلاث عند رابح ظريف " عندما سألت الشيخ عن الفتى يوسف ان كان حيا ام لا أجاب : هو الان يحدثك يا ولدي ...ومات الشيخ الذي كان الفتى يوسف " يمكن القول ان الراوي هنا وفق منظور مدرسة التحليل النفسي كان يطلق اثناء الكتابة  تخيلاته لتنسج من رغباته المكبوتة صورا إبداعية، باحثا عن ثبات هويته في واقع متغير .فليس ثمة ما هو اقل تحديدا واكثر تشتتا من سؤال ما هي هوية كل واحد،ليس ثمة ما يصعب ان نحرزه اكثر من وجهنا حين لا تكون موجودة مرأة تعكس صورته .اذا حاولت ان أتطلع في ذاتي معرضا نفسي للخطر، لا اعثر الا على ليل، وضباب وهاوية كما لو ان ضمير المتكلم المدفوع الى أقصاه تحول الى عكسه في حيادية العقل او انفجر  هكذا في الحلم  الى اقنعة كثيرة لا قوام لها ففي الواقع كي أتمكن من قول انا ينبغي ان أكون تعرفت الى نفسي واعجبت بها، واندهشت "[3]

اذا عدنا الى بنية الرواية وتمفصلها نجدها  تنقسم  الى رسالتين وردين وثماني حكايات مترابطة تتمحور حول الشيخ والفتى يوسف وهما في متن الرواية شخصية واحدة وهناك أيضا شخصيات رقية الوعلة، الهذبة،حميدة القصاب خليفة الشاوش، وشخصية بليمهوب...وهناك في نظري شخصيتين محوريتين،شخصية الشيخ وهي ترمز الى صراع الاضداد الحلم في مقابل الواقع الروح في تمردها على المادة، الحب في زمن العطش حيث تتحرك هذه الشخصيات في فضاء أوسع تمشي على الأرض، ارض قديشة مقابل السبخة جنوب واد النفيضة ولكنها تحلق في السماء تحتمي من الحاضر وقسوته بالماضي وروعته وهذا ما نلمسه في شخصية خليفة الشاوش التي تميزت بالواقعية في التفكير رغم ايمانها بحلم وصفه البعض بانه محاولة للهروب من الواقع،وكلاهما الشيخ وخليفة الشاوش كان يبحث عن سر الحياة الذي سكن مقام قديشة، فهناك شرق الحضنة تتكئ قديشة على اعلى تلة تحتضن اجسادا انهكها العطش وارواحا متبعة تبحث عن ملاذا لها فلا تجد غير ارض مشققة واحجار صلبة لكن قساوة الطبيعة وقبح المستدمر الفرنسي  لم يمنعها من المحافظة على هويتها،ولا نريد هنا الدخول في متاهة تحديد المصطلح فقلما يوجد مفهوم  آخر تمت دراسته منذ ذلك الوقت من مناظير مختلفة: فالنفسانيون غالباً ما فهموا الهوية "مفهوم الذات" والاجتماعيون« نمط الأدوار » لشخصية ما؛ والعلماء الجنائيون بحثوا عن تحديد« هوية » الجاني؛ ودرس الأطباء النفسيون« فقدان الهوية » في الأمراض الفصامية؛ ووصف الأنثروبولوجيون الهويات العرقية و الهويات الإثنية وبحث المحللون النفسيون الأجزاء اللاشعورية ورأى اللاهوتيون ان  أساس الشخصية الأصلي يكمن في« الهوية الربانية » وفي هذه الأثناء أصبح المفهوم الذي كان يفترض له الأصل أن يتضمن أقصى درجة من التجريد، براقاً ومشحوناً إلى درجة أن أودو ماركفارد لم يكن مجانباً للصواب كثيراً عندما وصف نقاش الهوية بأنه« غيمة مشكلة ذات تأثير ضبابي »[4]

شخصية خليفة الشاوش أراد لها رابح ظريف ان تجتمع حولها باقي الشخصيات فهي تدور في فلكه إيجابا وسلبا، علاقات إنسانية تتمظهر وفق شبكات متداخلة ومنذ الرسالة الأولى تحدث الراوي عن حكاية وقصة اسرته فانجذب اليها مازجا بين الأسطورة والتاريخ بوصفه خبرا عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات واصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض كما وصفه ابن خلدون في مقدمته،والحقيقة ان المزج بين التاريخ والاسطورة في رواية قديشة  له ما يبرره مادام تاريخ الإنسانية حافل بالأساطير، واذا كان التفكير الأسطوري تفكير لامنطقي ولاواقعي بحكم ان الاسطورة تتغذى على الخيال من حيث انه ملكة اتاج شيء لا واقعي ولا موجود فان في التاريخ من الاحداث ما يمكن تأويله وتوظيفه بحثا عن حقيقة ما، ومنذ الرسالة الأولى راهن رابح ظريف على قدرته في التصرف في الصور بحرية وهو فعل ارتكز على المخيال الشعبي حذفا واضافة وفي الأكثر هروبا من الواقع فالأسطورة من منظور أنثروبولوجي تخفي في طياتها ارثا ثقافيا يسكن اللاوعي الجمعي فهي تختزل الأزمنة تقاوم السؤال وحرقته وتنفلت من قبضة منطق العقل وصرامته وتفتح لنا عوالم سحرية يحل فيها البيضاء مكان السواد كبيضاء ناقة قديشة وصفاء قلب يوسف ولاعجب في ذلك فعندما يعجز العقل عن تبربر قبح الاخر تصغي الانا الباحثة عن هويتها الى صوت القلب والى الأسطورة .

في رواية قديشة حكى الراوي عن اسطورة رقية الوعلة التي حكمت قديشة بجمالها وسحر عيونها " جمالها وصباها الخالدين كانا سر الحكمة عيناها كانتا صفحتي دستور " حميدة القصاب قاوم الموت بالحب جسده وقف هناك في قديشة في ثبات محتفظا بهويته برغم من ان روحه تائهة بين الأرض والسماء " جسد راسخ في التراب وقصبة تائهة في السماوات.. غناءا نازلا ولحنا صاعدا " يعزف ألحانه لرقية التي تزوجها الشهيلي فانجبا كائنات الضياء التي تسكن الخلاء والقلوب الصافية" ثبات الهوية نلمسه في شخصية رجل الدين البراغماتي الباحث عن التمسك بسلطته الدينية والمتموقع الى جانب الطرف الأقوى لذلك تساءل سي لمبارك مخلوف (الامام) وهل نحتاج الى القصبة حتى نقضي حاجاتنا ومع ذلك كان يملي على أهالي قديشة فتاوي لا يفهمونها وهو لايرى في ذلك حرجا. شخصية بلميهوب لا تثير استغرابا فهي شخصية لها ماهية ثابتة تتكرر في كل الأزمنة حيث يسعى كل من اكتسب سلطة المال الى البحث عن غطاء سياسي حتى وان تطلب الامر التحالف مع الشيطان. وبين ثبات الهوية وتشتتها والبحث عنها تتأرجح شخصيات الرواية بين الواقع والخيال، وعلى ما يبدو فإن الشعور السليم بالهوية هو شيء شديد التعقيد ويتغذى من مصادر متنوعة: من الصحة ونشاطات الجسم، من الشعور بالتجذر في الوطن أو الأسرة أولا الشعب أو الجماعة الدينية، في الاعتراف الذي نخبره في علاقاتنا الخاصة وأدوارنا العامة، من متانة قناعاتنا وقيمنا. كذلك يمكن للأمور المختلفة جداً أن تزعزع هويتنا – عدم الكمال الجسدي، نقص التعليم المدرسي، السلوك الجنسي الشاذ، العلاقات الأسرية المضطربة، الانتماء إلى أقلية مقموعة أو الشك الديني. فكيف يفترض للمرء أن يصف شيء بصورة أقرب، هو نفسي وجسمي واجتماعي في الوقت نفسه، ويمكن أن يكون شعوري وما قبل شعوري ولا شعوري، مرة يبدو مثل عملية جارية، ومرة مثل صورة الذات ومرة مثل نرجسية سليمة، شيء يمنحنا شعور بالثبات ومع ذلك فهو نفسه خاضع للتغير.[5]

ثالثا: الحب في زمن الجفاف

هو الحب الذي يسكن أعماق لا وعينا ننطلق منه لنعود اليه نقترب منه ويهرب منا فهل يمكن للفوارق الاجتماعية والمادية والمدارك العقلية ان تتحول الى حجاب يحول بين القلب وما يعشق " لو كان الامر بيدي لتنازلت عن مرحلة المراهقة، لم تعد تعنيني الان، ما احسه جزء مني هو ما ينتسب للاوعي ...اما انت يا حبيبتي التي لم تعد تعنيني فقد كنت جزءا من قذرات الوعي ...انني امتلأت بسكون اللاوعي ....هي عبارات امتزجت فيها  نسائم القلب بعفن شهوة الجسد ووقفت من خلالها  الروح بسموها وكبريائها في مواجهة القلب وما يهوى .

لقد اصبح الممكن مستحيلا  والقلب اضحى ينبض بسحر الماضي الذي يسكننا ونسكنه ينبض بدقات واهات تكسر رتابة الحاضر وقسوته ساعي البريد عمي احمد وقف هناك بين زمنين زمن مضى حمل في طياته الشوق للإنسان الذي غيب في زمن العولمة،هو الحب في صورته الافلاطونية فالرجاء و الخوف،الحزن والفرح  الامل والالم انفعالات  تجعلنا نحن للماضي نتأرجح بي الحياة والموت وزمن الحاضر الذي تحولت فيه الروح الى رهينة للجسد زمن تقلصت فيه مساحة التواصل بين القلوب فاضحت غير قادرة على العطاء هو زمن الإرهاب والنفاق زمن الجفاف وهنا بدأت  الحكاية من لحظة العطش والانكسار على ارض نهرب منها لنعود اليها بحثا عن حكاية ما عن جواب لسؤال وسؤال عن حال " تكلم أيها الشيخ حتى اراك تكلم وحطم جدار الصمت لنرتقي معا الى سماء الحقيقة هناك لا حبيبة الا السماء سماء مرصعة بالنجوم ولا رفيق الا القلب .

بشطة الراعي لم يتزوج وقد تجاوز الأربعين سرقوا منه حبيبته اندهش وصمت فكره مسموع ولغته صامتة تقاسم الصمت بإرادته الحرة مع الفتى يوسف، يوسف المتقلب في حيرته،شوقه وشغفه بجسد الهذبة وصفاء روحها ونقاء قلبها وعذوبة الحان حميدة وسحر شخصيته خيالات فتحت له كوة للتلصص على أجساد فتيات مبللات لا يسترن عوراتهن هناك على بحيرة تغتسل فيها رقية .والواقع انه تستخدم كلمات اغريقية اكثر ابهاما لتمييز بعض أنواع الحب ذات التباينات المهمة،ثلاث منها لا تتضمن رغبة جنسية : تدل كلمة فيليا على الصداقة المقربة .وتفيد كلمة ستورغي معنى الاعتناء بالمحبوب بما فيه الاهتمام بمصالحه ورفاهه، على مثال ما نشعر به تجاه الاسرة او الأصدقاء المقربين .لكن كلمة ستورغي لا تتضارب مع الرغبة الجنسية خلافا لكلمة اغابه مما يجعلها أحيانا تفسر بكلمة احسان اما رابع كلمة يونانية فهي ايروس .ودرجات الحب هاته تجسدت في شخصية الفتى يوسف من لحظة تعلقه بالهذبة الى رحلته وملازمته لمعلمه أحميده القصاب.

في حوار أفلاطون الندوة، والتي تتكون من محادثة حول طبيعة الحب، يقول سقراط إن ديوتيما علمه أن يفكر في الرغبة بطريقة جديدة: ليس كشهوة للأجساد المادية، بل سعياً وراء حقيقة أسمى وقد تحدث سقراط عن طبيعة الحب من خلال ديوتيما قائلا:" أننا ننتقل في الحب من شخص جذاب معين، إلى حب الأشخاص الجميلين بشكل عام، إلى حب الجمال والخير نفسه في التجريد.  سلم الحب هذا ينقلنا من الانجذاب الجنسي الخاص للغاية إلى الحب الأفلاطوني للخير وهذا في اعتقادي ما ترمز اليه شخصية أحميدة القصاب الذي ارتقى في حبه للوعلة الى درجة العاشق المتأمل تاركا خلفه عالم المحسوسات المتغيرة وعفن المادة متطلعا الى عالم الروح والمثل، وهذا ما كان يبحث عنه الرواي في لحظة صدق مع ذاته :" حبيبتي ان أحميده عند ابوب كل المساجد ينتظر اذنا للدخول بعد ان منعه انتقام المال من القصبة .ارفض كل اشكال الحب الحديثة .."

الخلاصة

رواية قديشة قد تبدو في شكلها العام محاولة للتحرر من واقع مؤلم رغم توفر مقومات الحياة في بعدها المادي، وحنين الى زمن جميل مضى ملون بالأزرق نغتسل بمطره لنستعيد هويتتنا المشتتة، نستعيد الانسان الذي مات فينا، في مقال لعبد الرزاق بوكبة بعنوان الرواية الجزائرية واستلهام التراث كتب قائلا: "لا يجد الكاتب رابح ظريف حرجا في الإقرار بأن لجوأه إلى هذا الخيار فيه شيء من الهروب من الواقع بحثا عن الذات الإنسانية المفقودة سواء في حياته الخاصة التي يرى أن الطفولة أهم مرحلة فيها، أو في واقع المجتمع، الذي أصبحت الأبعاد الإنسانية آخرَ انشغالاته".

***

عمرون علي أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

........................

المراجع

* يؤكد جميل صليبا في معجمه الفلسفي على ان مصطلح الهوية ليس عربيا في اصله وهو من حيث الدلالة المنطقية، يشير الى الرابطة التي تجمع بين الموضوع والمحمول كقولنا زيد هو انسان و في كتاب تلخيص ما بعد الطبيعة يقول ابن رشد ” أن الهُوية تقال بالترادف للمعنى الذي يطلق على اسم الموجود وهي مشتقة من الهُو كما تشتق الإنسانية من الإنسان ” وفي التعريفات للجرجاني ” أن الهُوية هي الأمر المتعقل من حيث امتيازه عن الاغيار” ويطلق مصطلح الهوية عند القدماء على عدة معان وهي التشخص والشخص نفسه والوجود الخارجي قالوا :" ما به الشيء هو هو باعتبار تحققه يسمى حقيقة وذاتا،وباعتباره تشخصه يسمى هوية،واذا اخذ اعم من هذا الاعتبار يسمى ماهية "

هوامش

[1] انظر الى مقال الدكتور رابح غيلوس – جامعة المسيلة – مقال له بعنوان العتبة النصية واثرها في الاتساق النصي. رواية قديشة انموذجا

[2] قصة الألوان مانليو بروزاتين ترجمة السنوسي استيته هيئة البحرين للثقافة والاثار  ص 101

[3] البحث عن الهوية ( الهوية وتشتتها في حياة أريك اريكسون واعماله ) تأليف بيتر كونسن ترجمة سامي جميل رضوان – دار الكتاب الجامعي . ص 100

[4] نفس المرجع

[5] جان فرنسوا ماركيه مرايا الهوية الادب المسكون بالفلسفة ترجمة كميل داغر المنظمة العربية للترجمة ص17

في المثقف اليوم