قراءات نقدية

شعر الوداد وشعر الغزل

نوري الوائليالشعرُ قلبُ اللغةِ، تقوده ويقودها، تحفظه ويحفظها. تعلو به ويعلو بها. هو تاريخُ الأمة وحالتها وظروفها. هو صورٌ وتوثيقٌ لمميزاتِ وأحوالِ الزمان ومعتقداتِ الناسِ وأنماط الحكمِ والمجتمعِ والقبيلة والثقافات التي تنطبع على أفكار الشاعر. كلّ هذه المتغيرات تخرجُ في صور ولوحات الشعر. ولن يكون الشعر شعرا إذا لم يؤثر بالمحيط.

الشعر غاية وصنعة. والصنعة هي المقدرة على نظم الشعر والتصوير والرسم والخيال والمغالاة وبعض الأحيان الكذب والنفاق. فالشعر نظْمٌ وتصويرٌ يلفت انتباه السامع أو القارئ. ولكلّ شعر غاية وغرض. واهم أغراض الشعر الغزل والمديح والرثاء والهجاء والفخر والحكمة. وأهم ما في الشعر غايته. فلا خير في شعرٍ غايته مفسدة حتّى وإن كان عظيم الصنعة. ولا خير في شاعرٍ يجيد الصنعةَ ويفسدُ الامة. الشاعر صورة لعقيدته ومبادئه ونفسه التي إذا صلحت صلح شعره وإذا فسدت فسد شعره.

من الشعر نعرفُ كثيراً من التاريخ بخيره وشره، بجماله وبقبحه. نعرفُ أحوال الناس والأمم والحكام والحروب والصراعات. التأثير الشخصي للشاعر يقوده أيضا لاختيار ما يعتقده ملائم لما يهوى ويطمح ويعتقد. فنشئت أغراضٌ متعددة في الشعر أشهرها شعر الغزل، والذي يتكلم بصورة خاصة عن الأنثى وإبراز جمالها ومفاتنها ومناطق الإغراء فيها. والشاعر هنا غالبا ما ينشد من أجل الجنسِ والشهوةِ والعشقِ والحبِّ واللهوِ. وشعر الغزل ليس أكثر أغراض الشعر تداولا بين الشعراء فقط، بل هو الشعر المغنى أكثر من غيره. ففي أنغامه تقامُ الحفلات، ويشربُ الخمر، ويكثرُ الطربُ، وتستباحُ المحرمات، ويعيشُ الناسُ في لهوٍ، وتذهبُ عقولهم في خيالات الجنسِ والمتعةِ.

وبعد أن ظهرت وسائلِ التواصلِ الاجتماعي والتلفاز والانترنيت والذي أدى إلى تفاعل الناس مباشرة مع الحدث بالتعليق أو المتابعة، نجدُ بإن أكثر الشعراء شهرةً ومتابعةً من العامة هم شعراء الغزل، وخاصة الشاعرات اللواتي يكتبن شعر الغزل. ويحرص عادة شعراء الغزل على نشر كتاباتهم مصحوبة بصور الفتيات الجميلات وحتى العاريات من النساء. في كلّ مكان تتلاقفُ وسائلُ الأعلام أغاني المطربات والمطربين وقصائدَ الغزلِ الداعية للعشق والاشتياق والجنس لتكون مادةً دسمةً للنشر والشهرةِ والثراءِ. وفي فترات متباينة تراجعت قصائدُ الحكمة والوعي والإرشاد وغيرها من أغراض الشعر الأخرى أمام شعر الغزل وخاصة المثير للغرائز.

الشاعر هو المبدع الذي رُزق وعُلّم بفطرته صياغة الكلام الموزون والمقفى. له القدرة على التصوير والربط والتأثر بالمحيط. بأبداعه وطرحه يؤثر بالمحيط الإنساني. أذن الشاعر أداة تعبّر عن الأحوال والحياة في فترةٍ زمنيةٍ معينةٍ تدفعه للكتابة عنها. فكلّ ما يقوله مرهون بما حوله، وكلّ ما ينظّمه مرهون ومقيد باللغة التي تقوده أكثر مما يقودها. وكذلك فالشاعر يكتب عن التاريخ وأحداثه ودوله ونادرا ما يكتب عن المستقبل.

عند الغالبية من الشعراء على مر العصور ليس هناك مقياس أسمه الحرام والحلال في مفهوم الشعر، بل أنّ المقياس هو الشهرة والثراء، بأي بيت أو أي طريق لا يهم. إنّ ثقافة الشاعر وتربيته وعقيدته ونفسه وعائلته وبيئته لها التأثير المباشر على اختيار الشاعر لأغراض الشعر. فمن المستحيل مثلا تجد شاعرا يعتقد بوجود الله ويؤمن بيوم الحساب ووجود مراقبة سماوية على كلّ ما يكتب أن يتخطّى حدود الحرام والحلال. فالشاعر الذي يتغزّل بالمرأة ويظهر مفاتنها ويقدمها سلعة للمتعةِ والجنسِ لا يمكن أن يكون مؤمنًا ويتّبع مقياس الحلال والحرام. الشاعر الذي يمجدُ الظالم ويتسول على بابه من أجل الدرهم والشهرة لا يمكن أن يكون مؤمنًا ويقوده مقياس الحلال والحرام. الشاعر الذي يبيع قلمه وحرفه للفاسدين والظالمين ومؤسسات الفسقِ والفجورِ لا يمكن أن يكون مؤمنًا بمقياس الحلال والحرام.

من هذه المقدمة رأيت بإنّ شعر الغزل ممكن أن يسير بطريقٍ غير طريقه الذي سلكه ويسلكه. ذلك الطريق الذي عبده الشعراء بالرذيلة والتعرية والفسوق. لنجعل غاية شعر الغزل هو حجاب المرأة بدل عريها، وتمجيدها بدل اذلالها، وشرائها بدل بيعها، وتكريمها كأميرة في بيتها واهلها وعشيرتها ومجتمعها وليس سلعة معروضة للبيع والرابح من يدفع الأكثر. وأيضا تصويرها كمعلمة للمجتمع ومربية للأجيال وقائدة للرجال العظام وليس جارية ووسيلة لمتعة الرجل بصورة مخجلة، تحط من قيمتها وقدرها. فليكن لنا غرض جديد للشعر اسمه شعر الوداد.

{وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ}

{هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}

شعر الوداد يُكتب بكلّ أنواع الشعر وبحوره وحتّى النثر. هو الشعرُ الذي يصف معالمَ الجمال الروحي والجسدي للمرأة على إنّها آية من آيات الله في خلقه. يقدمها بدون تصوير أو إسراف أو غلو. يبتعد عن اظهار مفاتنها وما يثير الغريزة والشهوة ويمهد الطريق للفاحشة.

هو الشعر الذي يحثّ الرجل والمرأة على التقارب والمحبة والانسجام لبناء الأسرة الكريمة وليس لإشباع نزوات عابرة أو هوى يتنقل من شخص إلى آخر.

هو الشعر الذي يركز على الجمال الروحي للمرأة والذي يشمل العاطفة والأمومة وما للمرأة من دور بارز في توجيه الرجل وبناء الجيل والحفاظ على عش الزوجية والمساهمة في بناء المجتمع في مجال الصحة والتعليم.

هو الشعر الذي يرفع المرأة ويكرمها ويحجّبها ويعلو بها كشعر رفيعٍ سامٍ بناءٍ ومثمر.

وقد اوجزت معالم شعر الوداد بهذه القصيدة:

أصغتُ بمنهجي شعرَ الودادِ = عفيفًا في الحروفِ وفي المرادِ

يصوّرُ في النساءِ بديع سحْرٍ = ويظهر كلّ حسْنٍ في العبادِ

ويتقنُ بالبلاغةِ وصف عشقٍ = يزكيّه بتقوى واجتهادِ

من الأخلاق يبدأ كلّ وصفٍ = وينتهجُ الكتابةَ بالرشادِ

يسامرُ في الوجود عظيم خلْقٍ = وينسبه إلى ربّ العبادِ

فلم يقربْ عيوبَ الخلقِ بتًّا = وللفحشاءِ عزّا لم ينادِ

وفي وصف النساء يجيدُ قولا = بلا غزلٍ يمهّدُ للفسادِ

ويحفظهنّ من نزواتِ غاوٍ = كأضلاع تذودُ عن الفؤادِ

إلى الدنيا النساءُ مطيّبات = كأزهارٍ علت فوق البيادِ

تُحوّلُ رحمةُ المنّان حبًّا = ويسمو بالهوى نهجُ الودادِ

فما شعر الودادِ كأي شعرٍ = بقولِ الحقِّ أو ردّ انتقادِ

فهذا الشعرُ غايته وفاق = يُتوّجُ بالزواج وبالسدادِ

ويجعلُ من ودادِ القلبِ عشقًا = وشوقًا بات ينمو بازديادِ

ويبني أسرةً بالسعدِ ترقى = وتصبرُ بالرضى عند الشدادِ

يُعلّي بالكرامةِ كلّ أنثى = ويهديها إلى دربِ الجوادِ

يُزكّيها ويُلبسُها حجابًا = ويبعدُ عن طهارتها الأعادي

فحسن الخُلْق أبهى من جسومٍ = كأقمارٍ تجلّت في السوادِ

وأجملُ في الجمالِ حجابُ عفّ = وتقوى زانه في كلّ نادي

فمَنْ للعشق يكتبْ دون تقوى = سيكتب ما يشاءُ بلا انقيادِ

يُعرّي في النساءِ بلا حياءٍ = ويُغري بالمفاتن والقلادِ

يؤمّلُ في التغزلِ كسبَ فوزٍ = كمن خاضَ السباق بلا جيادِ

ألا يدري بأنّ الله يُحصي = عليّه كلّ حرفٍ وارتيادِ

ومَنْ تكتبْ لوصفِ العشقِ فحشًا = فغايتها الفساد وسوء زادِ

ففي الغزل النفاقٌ يجيد كذبًا = ويوقد قدره فوق الرمادِ

ومَنْ يزرعْ بأرض الخصبِ شوكًا= سيملأ كفّه شرُّ الحصادِ

لقد كتبت الكثير في شعر الوداد. كتبت عن جمال المرأة وسحرها وعيونها. كتبت عن الامومة والعاطفة والرضاعة. كتبت عن الحمل والولادة. كتبت عن الأسرة. كتبت عن الحجاب والعفة. اختار هذه الأبيات:

شمس بها كل الكواكب تبرق= وضياؤها حول المجرة يشرق

حمراء بيضاء الزهور بنورها= تزهو ومن نسماتها تتنشّقُ

وقلت أيضا

أهواك لم أرضخْ لصدّك يائسًا = فأنا الصبور على الفراق الأصعبِ

إن تطلبي فوق التدلّلِ مهجتي = لبّى إليك القلبُ دون تهيّبِ

إن طال بُعدك فالفؤاد متيّمٌ = وإذا انتظرتُ الدهر لا تتعجّبي

بيني وبينك رحمة وتودّد = الله صاغهما لعيشٍ أطيبِ

سبحان من خلق الوجودَ لغايةٍ = ويعيدُ جودًا كلّ خلقٍ أنسبِ

***

الطبيب نوري سراج الوائلي

نيويورك

في المثقف اليوم