قراءات نقدية

أَفكارٌ نَثرِيَّةٌ مُبَعثَرَةُ وَتَراتيلُ نُصُوصٍ بَتُولِيَّةٍ مُؤَثِّرَةُ

حين تُلقي النظرَ - قارئاً ومُفكِّراً- بعينكَ البصرية النافذة إلى صفحات كتاب (أفكارٌ مبعثرةٌ) للأديبة والكاتبة الواعدة بتول شامل اللَّامي، ستقع التقاطات عدسة رؤيتك العينية الثالثة على ذلك العدد الكمي المُحتشد، والنوعي المُتَّحِد من العنوانات الجمالية المتنوِّعة التي بلغت نحو(34) نصَّاً فنيِّاً عنوانيَّاً من النصوص النثرية المكثَّفة لغةً، والمُكتنزة سِعةً ودلالةً، وتوقُّعاً أُسلوبياً مُغايراً في بنية نسقها الثقافي والمعرفي النثري. وكانت في وقع سمتها النصِّي وسعتها الفنيَّة والموضوعية مُقَارِبَةً إلى إيقاع الحداثة لقصيدة النثر الجديدة في سُنن الكتابة الفنيَّة وآلياتها الإبداعية والجمالية.

وفي حقيقة الأمر سيلفت نظرك ذلك التقارب الفنِّي المكين، أو التماهي الرُّوحي بين بنية النصوص الغزلية الجمالية التي تضمنت (16) نصَّاً نثريَّاً مركَّزاً، وبين النصوص الذاتية الغنائية الجمعية التي احتوت على (18) نصَّاً جمعياً. تُنِشدُ جميع تراتيلها ومراميها ومقاصدها لإيقاع الحياة اليومية المُتراتبة، وتُعبِّرُ في صميم تنغيمها الموضوعي عن رتمها الواقعي الإنساني الراهن. وتتغنَّى فنيَّةُ أُسلوبيتها التعبيرية بلغة (السهل الممتنع) الماتع، وبصدى إيثار رابطة (الجامعة الإنسانية)، وإرهاصات تأثيرها الكوني، وآثارها النفسية والروحية البالغة وَقعاً وتأثيراً في حياة الإنسان، والتحكُّم ببوصلة سير اتّجاهاته الحركية والعملية السريعة، وتنشغل في صنع وتأسيس مستقبلة الوجودي الحالي، ورسم طريقه الوجودي، واستشراف رؤية غده الواعد الآتي.

ويبدو من خلال التجلِّيات النصيَّة أنَّ هذه الحركة الروحية التفاؤلية الإشراقية لجماليات واقعة الحدث الموضوعية يوازيها في الوقت ذاته من الناحية الفنيَّة والموضوعية -زمانياً ومكانيَّاً- جملةٌ من المقاربات والمقابلات في الجانب الآخر من الحياة الرمادية المعتمة المعطوبة ذات الاِنطفاء الرُّوحي المُتمثِّل بلغة الحزن، وألم رثائيات الفقد، ووجع الحسرات وبكائيات التأبين السِّيري الذاتي للأهل والأحبة والخلان ممن غيَّبتهم الحياة بفاجعة الموت المفاجئ الذي هو سُنَّةٌ حياتية واجبة، وفرض لا بُدَّ منه من شراىع السُنَنِ الإلهية المعروفة التي لا مفرَّ للإنسان منها ما دام يعيش حيَّاً.

والمهمُّ في كلَّ ذلك الأثر هو المعادل الموضوعي المشترك الجامع بين نصوص الذات الفردية الأنوية ذات الطابع الشخصي الإنساني المُفرِح، وبين نصوص الذات الجمعية الآخرية الحزينة المعطَّلة المثلومة، هو لغة الحياة الشعرية أو النثرية الإنسانية المشتركة بينهما. تلك اللُّغة الرشيقة الرهيفة ذات الوقع الإنساني التي حرصت فيها الكاتبة اللَّامي على أنْ تكون لغةً مكينةً رصينةً جامحةً في مقاصد صورها الدلالية البعيدة، وهادئةً ثابتةً في إشارات تعبيراتها الدلالية القريبة. فتكون قادرةً على استلاب فكر المتلقَّي، وجذب انتباه واعيته الروحية والنفسية من أجل التواصل معها ومشاركتها الفنيَّة والجمالية روحاً وعقلاً، وذائقةً وإمتاعاً وإبداعاً وابتداعاً ومؤانسةً.

والقارئ الواعي الحصيف، أو الناقد الثاقب ذو الفكر العليم الفاحص من يتتبع بتؤدةٍ وإمعانٍ دقيقينٍ نصوص هذه المجموعة النثرية المتجانسة، ويُحيل بأدوات عُدته الفنيَّة صورها الذاتية الرومانسية والواقعية الحياتية إلى مشغله النقدي؛ ليكشف بسونار مختبره الفكري غبار الزمن عن وقائع حفرياتها الأثرية والجمالية، ويفكُّ بآلياته الفنيَّة مغيَّباتِ شفراتها اللُّغوية، وَمُعمياتِ معانيها الدلالية الغائصة، سيرى أنَّ جُلَّ مستويات بنيتها التركيبية الجُمَلِيَّة كُتِبَتْ هندستها التعبيرية على شكل نصوص نثرية تخاطرية مكثّفة عالية الإتقان في رسم ضرباتها الضوئية والفنيَّة المُوَقَّعة.

وعلى وفق ذلك سيشعر بعفوية سلاستها المُبهرة الإلفات في جماليات تأثيراتها الومضائية؛ كونها تعتمد في بنيتها على آليات التوقُّع الأسلوبي العذب الصادق، وعناصر الإدهاش والإمتاع، وتقوم لغوياً كذلك على فنيَّة المباغتة في مدخلات مطالع مستهل مُبتداها، وفي مخرجات تقفيلة خواتيم مُنتهاها. فضلاً عن تقنيات آلية التَّماسُك النَّصَّي اللُّغوي، والحَبك الدلالي العفوي المعنوي في التحام صور نسيج خيوطها الفرعية المتشابكة بتلابيب وحدة الحدث الموضوعية بإحكام تامٍ دقيق، وتآلف محبَّبٍ قريبٍ إلى النفس الإنسانية التي يتطلَّع إليها المُتلقِّي في الرسالة الإبداعية.

وإنَّ مثل هذا النوع من التكثيف الفنِّي في منظومة التقنيات الشعرية الحديثة يعتمد عليه بناؤها الفنِّي الذي تميَّزت به نصوص الأديبة بتول شامل، مما يجعل الذائقة البتولية الأُسلوبية في خواطر نصوصها النثرية، ووحدة موضوعاتها الفنيَّة تقترب فنيَّاً كثيراً في سعة انزياحات دلالاتها اللُّغوية والجمالية، وتأخذ مِساحاتٍ واسعةً وعريضةً ثرةً من مصاف قصيدة النثر الحديثة، بل وأكثر من ذلك إلى ما بعدها أُفقاً وتحرُّراً، أو ما يسمَّى في الحداثة الشعرية بالنصِّ المفتوح الذي يتطلَّب تأثيثه من مبدعه الأديب مقدرةً فنيَّةً عاليةً، ودِربةً لغويةً فائقةً في صياغة وتشكيل بنائه النصّي الشعري تعويضاً داخلياً عن فقدان لزوميات المستوى الإيقاعي الصوتي الخارجي المُمَثَّل بوحدتي الوزن والقافية وتأثيرهما الجمالي على بنية القصيدة الكلاسيكية القديمة أو التفعيلية الحُرَّة.

ومن يتتبَّعُ فنيَّاً بقراءته مظاهر الالتقاطات الخاطرية لعدسة بتول شامل البصرية أو الحلمية في نصوصها النثرية المركَّزة في تكثيفها التقريري الصوري المحبَّب غير المملول أو المُحَبَّذ فنياً، سيقف حتماً موضوعياً عند جماليات الخطاب النثري، وفنيَّاً عند مستوياته الرمزية. فهو(الخطابُ) على الرغم من بيان سهولة لغته التعبيرية الأدبية، وبساطة مقصدياته العفوية الخاطر؛ فإنَّه في عمقه الدلالي المعجمي جِاء مشحوناً بفيوضات من الرموز الشعرية الأدبية التي زخر بها التراث العربي من رموز شعراء الغزل العذري العفيف أمثال، (مجنون ليلى) أو قيس بن المُلوَّح، وجميل بثينة وغيرهما من رموز الحبِّ العربية، ونظائرها من الرموز الأجنبية مثل، (روميو وجوليت):

لَا أَعْرِفُ

إنْ كَانَ قَيسُ بِنُ المُلوَّحِ

أكثرَ حُبَّاً لِلَيلَى

مِنْ رُوميُو وَجُولِيتَ

لكنَّنِي أَعرِفُ أنَّ الحُبَّ

لا يُقَاسُ

حَسَبَ الجُغرَافيَا واللُّغةِ

والدِّيْنِ

وتميل الكاتبة اللّامي في خواطر نثرياتها النصوصية إلى استخدام الرموز التاريخية التراثية الشعبية (الفلكلورية)، فوظفت الرمزين التاريخيين (شهريار وشهرزاد) المعروفة قصتهما التراثية في أدبيات كتاب (ألف ليلة وليلة) العراقي المحتوى، والذي تقاربت فيه بتول مع الحبيب المعشوق المفترض روحياً وتوحدياً، وتقاطعت فيه متضادة مع موضوع قصة شهريار وشهرزاد. حيث تنشد بتول الوحُّدة وتسعى لها في رفضها العشقي، وتؤكِّد التحرُّر من ربقة المعشوق شهريار في دفقات انثيالات نصها الموسوم (نكون أو لا نكون)، قائلة بتقريرية إبداعية واضحة في رؤيتها القصدية:

لَا أَرِيْدُكَ أَنْ تَكُوْنَ

شَهْرَيَارِي

لِأَنَّنِي

أَرْفُضُ أَنْ أَكُونَ

شَهْرَزَادَكَ

أُرِيْدُ أَنْ نَكُونَ جَنَاحَينِ لِطَائِرٍ وَاحِدٍ

ولرموز الطبيعة الأُمِّ وعناصرها الوارفة الظلال نصيب كبير من نصوص الكاتبة السومرية بتول شامل. فهي( إينانا) الحبِّ السومري الجنوبي التي تعشق طبيعة الأهوار والقصب والبردي والأنهار، وتحبُّ أُلفة الطيور وعبق الأشجار والندى وعطر الورود والأزهار. وترى في المشحوف السومري وسيلتها السياحية النفسية الجميلة. فتتوحَّد مع بيئتها الطبيعية، ومع مخلوقاتها الكونية الحيَّة المتحركة والصامتة الثابتة غير الناطقة. وهي في نصوصها تُؤنسنُ الثابت غير العاقل، وتحرِّك الحَيَّ في رسم لوحتها البصرية والجمالية حين تمضي بصور استدعائها لرموز الطبيعة:

قَصَبُ البَرْدِي

يَنْتَظِرُ إِطْلَالةَ مَشْحُوفَكَ

وَزُهُورُ شَفَتِيَّ تَنْتَظِرُ

نَحْلَةَ شَفَتَيكْ

وفي محاولةٍ نثرية أخرى في نصِّها الدال على عتبته النصية (جُذورنَا متشابكةٌ) تتماهى بتول اللَّامي بطلاقةٍ وعذوبةٍ وثقةٍ وإيمان كبيرٍ مملوءٍ بالتفاؤل البعيد. وتتوحَّد أيضاً روحيَّاً مع علائق الحبيب في تشابك فنِّي مُتَّخذةً من عناصر الطبيعة وتكويناتها في غزلياتها الروحية الحيَّة تشبيهاً بلاغياً لاندماجها النفسي على الرغم من بعد المسافات الزمانية والمكانية، وكثرة العقبات، وصعوبة اللِّقاء، لكنّهَا تلغي كلَّ تلك المسمَّيات وتصنع مجدها الأدبي الخاص بنفسها دون هوادة:

نَحْنُ قَبْلَ غَابَاتِ قَصَبِ الأَهْوَارِ

جُذُورُنَا مُتَشَابِكَةٌ دَاخِلَ الأَرْضِ

رَغْمَ اِبْتِعَادِ الغُصُونِ

ولجماليات النصوص النثريَّة المكانية في شعرية بتول شامل اللَّامي أثر كبيرٌ ومهمٌّ غائر السهم في أعماق نفسها المُتَغَرِّبَة المُهاجرة. فبتول تَهِيُم عِشقاً بصدقٍ وشغفٍ كبيرين بمسقط رأسها الجنوبي الأول مدينة (العُمَارة)، وتكرُّر ذكر هذه المدينة بحبٍّ غامر خمس مرَّاتٍ في مجموعتها هذه، وتوازيها مشاركةً بهذا التَّلَهُّج دالة منبت عيشها الأرضي مركز محافظة مَيْسَان، لا تملُّ وَلَهَاً من عشقها لهما، وتوظيفهما رمزين زهواً في نصوصها النثرية المُحبَّبَة. وهذا العشق الرمزي المكاني لِمَيْسَانَ (العُمَارَةِ) يُقابله عشقٌ أزلي آخر لرمزي العراق الرافدينِ نَهْرَي (دجلة والفرات)، اللَّذينِ كرَّرت ذكرهما أربعَ مَرَّاتٍ. ولدالتي الأهوار والمشحوف السومري (الزورق الصغير) اللَّذين تردَّد ذكر كلِّ واحدٍ منهما في هذه المجموعة ثلاث مَرَّاتٍ، عشقٌ جماليٌ بهيج ممزوجٌ بطعم حنين الغربة وجرحها اليومي النازف لحُبِّهما الدلالي المرتبط بحضارة التاريخ السومري الأصيل:

لَا حَجَرَ يَشِجُّ الرُّوحَ

لِحَجَرِ الغُرْبَةِ

فَمَتَى أُرْسِي مَشحُوفِي

فِي دِجْلَةِ مَيسَانَ ؟

سَوطُ الغُرْبَةِ

يَجْلُدُنِي بِسَوطٍ سُوْمَرِي

أمَّا تقنية (الومضة) الضوئية، أو ما يُعرَفُ بجماليات اللَّحظة الشعورية الفنيَّة المباغتة، أو الموقف الادهاشي المُذهل، ومثيلتها تمظهرات (التوقيعة) الدلالية لواقعة الحدث الموضوعية، فلهما مكانة وأسلوبية خاصَّة في نثريات الأديبة بتول اللَّامي، وفي خواطرها الإبداعية الجمالية التي تبتعد فيها عن التقريرية الخطابية الزائدة وتقترب من تلابيب قصيدة النثر الحديثة في الكثير من مستويات بنيتها الفنيَّة. ولعلَّ هذا الاهتمام البتُوليِّ بهذه التقنيَّة مما جعل فنيَّةَ الومضة يتكرَّر صداها اللُّغوي الدلالي المبهر عندها عشر مرَّاتٍ؛ لِتُشَكِّلَ بذلك فناراً ضوئياً شعريَّاً مُشِعَّاً يوصلها كمحطّةٍ نثريَّةٍ أو مرساةٍ شعرية أمنةٍ بنصوص سفنها الشراعية السائرة بما لا تشتهي رياح الزمن:

عِنْدَمَا

أَسِيْرُ نَحْوَ الغَدِ

فَإَنَّنِي

لَا أَلتَفِتُ إِلَى الأَمْسِ

لَكِنَّنِي

أتَّخِذُ مِنْهُ شَمْسَاً لِنَهَارِي

وَبَدْرَاً

إِذَا اِدْلَهَمَّ ظَلَامُ يَوْمِي

وفي التقاطةٍ تأمليَّةٍ فكريَّةٍ جماليَّةٍ تُومضُ بتول اللَّامي إلى من فقد حاسيَّة البصر ولم يفقد بصيرة العين الثالثة. مُتخذةً من دالة (العُكَّاز) نافذةً بصريةً محسوسةً للنظرِ، ومن البصيرة القلبية الحُلُمية عيناً للبصر في الرؤيا الفكرية تعويضاً جمالياً مهمَّاً عن تلك الحاسة البصرية المفقودة:

العُكَّازُ

فَانُوسُ الضَّرِيْرِ

كَذَلِك البَصِيْرةُ

شمسُ الَبصَرِ

ومن المفارقات الضوئية البتوليَّة في شعرية نصوصها النثرية، حديثُها عن هاجس المقاصد والأنساق الثقافية المُضمِرة المُعَطَّلَة التَّالفة عن فاعلية الحياة في نصها الدال على عتبته العنوان (إدمانٌ).والذي تُرتِّلُ فيه أشكال التنوِّعات الفنيَّة والأجناس الثقافية الفكرية المُتوقُّف عملها إبداعياً:

فِي دَاخِلِ كُلٍّ مِنَّا

شَاعِرٌ لَا يَكْتُبُ الشِّعْرَ..

فَنَّانٌ

لا يُمَارِسُ الفَنَّ

مُوسِيِقيٌ

لا يُجِيْدُ العَزْفَ ..

فَيْلَسُوفٌ مُتَأمِّلٌ

لا يُتْقِنُ التَّنْظِيْرَ

بهذا التداعي النفسي والروح الفنيَّة تنظر الكاتبة برؤيتها الفلسفية لجماليات الحياة الإبداعية. ومما يلفت النظر جليَّاً في نصوص بتول شامل اللَّامي فهي على الرغم من كونها نصوصاً نثريةً حُرَّةً لم تستوفِ شروطها وآلياتها وعناصرها الفنيَّة بشكلٍّ بنائيٍ مُتكاملٍ من حيث مظاهر وجواهر روح قصيدة النثر الشعرية، فإنَّها لم تقع اطلاقاً في دائرة الغموض والإبهام والتعقيد المعنوي الذي يعوِّل عليه الكثير من الشباب شعراء قصيدة النثر الحديثة؛ ليكون غطاءً بديلاً عن بنية الإيقاع الصوتي، وهروباً من لزوميات التقفية الموحدة الرتيبة. وكما أنها لم تفقد حرارتها الشعرية عند الذائقة الأدبية، ولم تُفرِّطُ بقوة خطِّ نَفَسِهَا الإبداعي الجمالي المتواشج دلالياً وأسلوبياً. لأنَّ مزيَّة فقدانهما يسقطها فنيَّاً في إشكاليات وقائع المنطق الخطابي والمباشرة والتقريرية الممجوجة الفجَّة.

***

د. جبَّار ماجد البهادلي

في المثقف اليوم