قراءات نقدية

قراءة في إبداعات رائد الحداثة في الأدب الروسي الشاعر نيكولاي غوميلوف

خليل حمدترجمها لأول مرة من اللغة الروسية إلى العربية:

خليل حمد - كاتب وشاعر ناقد من الكاميرون

***

نيكولاي غوميليوف Nicolay Gumiley كاتب وشاعر وناقد روسي عاش بين عامي 1886 و1921 م، ويعد أبرز أعلام شعر العهد الفضي في بلاده حقبة أدبية امتدت في نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20، ويحتل مكانة فريدة في تاريخ الشعر الروسي؛ فإلى جانب شهرته الواسعة بأنه شاعر مرهف غزير الإنتاج رومانسي الاتجاه،إلا أنه يُعدّ أيضاً مؤسسَ مذهب أدبي شكّل أهمية بالغة في نشر روح الحداثة وتطور الشعر الروسي الحديث، ويُعرف باتجاه أكسيم1 Acmeism، يعني: الوضوح الجميل في العمل الأدبي والرمزية الراقية.

من أعماله:” الزهور الرومانسية” و”السماء الغربية” و”جعبة” و”الخيمة”، وكلها لم تحظ- حتى هذا الوقت-بالترجمة إلى العربية.

و من روائع إبداعاته الشعرية المتميزة قصائده في مجموعته الأولى" الزهور الرومانسية"، التي نشرها في بارس عام1908.

و لم أعثر على موضوع تناول شعر غوميلوف بالعربية، فيما بحثت واطلعت عليه، وقد رجعت إلى مجموعة من المستشرقين الروس فتأكد أن الموضوع لم يكتب عنه باللغة العربية، حتى أشعاره لم يتم تعريبها إلى الآن، على الرغم من مكانته المرموقة كقامة من قامات الأدب الروسي، بل يعد مؤسس اتجاه الوضوح الجميل، وعلى الرغم من أن كثيرا من الشعراء الروس،أمثال بوشكين وبونين وأخماتوفا زوجة غوميلوف، فهؤلاء جميعا قد حظيت أعمالهم بالترجمة إلى العربية وتناولها العديد من الدراسات النقدية؛ إلا أن روائع غوميلوف بقيت مطمورة عن القارئ العربي؛ ولعل هذه المقالة تحاول أن تسد ثغرة في هذا الجانب.

أما في اللغة الفرنسية فهناك بعض الدراسات تناولت شعر الرجل، ولكن بدون توسع، مع التركيز على إبراز جوانب تأثره بأدباء فرنسا.

و حصلت على كتاب نشر في لندن مكتوب باللغة الإنجليزية عنوانه- بعد التعريب-" نيكولاي غوميلوف في أفريقيا"،كتبه أكاديميون متخصصون ويقع في 95 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافيا شاملة لما كتبه غوميلوف، وقد استرشد به الباحث في التعرف على موضوعات كتاباته شعراً ونثراً.

التعريف بديوان "الزهور الرومانسية ":

مجموعة شعرية بديعة، قدمها الشاعر هدية ودية رومانسية إلى حبيته الشاعرة أخماتوفا، سنة 1908، وبعد ذلك قبلت الزواج منه بعد ما رفض طلبه مرتين.

قطوف من إبداعات غوميلوف المترجمة:

1- قصيدة: بحيرة تشاد"حدائق روحي"

حدائق روحي مليئة دائمًا بالألوان الزاهية، فيها الرياح منعشة جدّا وتهب بهدوء

تجد فيها رمالًا ذهبية ورخامًا أسود

وبركا عميقة وغديرا متكاملا

كل ما يرى فيها فائق الوصف

النباتات غير عادية

تتوهج الطيور باللون الوردي مثل الندى في الصباح

ومن يستطيع أن يفك هذا اللغز من السر القديم؟

في نفوسهم، هناك فتاة ترتدي إكليل الكاهنة الكبرى

تشبه عيناها انعكاسات من الفولاذ الرمادي الخالص

جبينها الرشيق أفتح من الزنابق الشرقية.

لديها شفاه لم تقبل أحدا

وهذا لم ينبس ببنت شفة لأحد.

شيكاتها هي لآلئ الجنوب الوردية، كنز الأوهام التي لا يمكن تصورها

يداها اللتان لم تداعب أحدهما الآخر إلا عندما تتشابك في نشوة الصلاة.

بجانب قدميها، هناك اثنان من الفهود السود

مع صبغة معدنية لفرائهم، وحلقت من شجيرات الورد في مغارة سرية

طيور النعام الوردي تطفو في اللازوردية.

أنا لا أنظر إلى عالم الخطوط المتدفقة

فإن أحلامي لا تطيع إلا الأبدية.

لتهيج رياح الخماسين العاتية في الصحراء

تمتلئ حدائق روحي دائمًا بالألوان الزاهية

2- قصيدة الزرافة

ما لي أراكِ اليوم تظهرين شاحبة، ملامح الحزن عليك بادية بالغة

تنظرين بنظرة حزينة

أرى ذراعيك يحتضنان ركبتيك بالغة الدقة واللطافة.

اسمعي(يا أخماتوفا): بعيدًا، بعيدًا حول بحيرة تشاد

تتجول زرافة أنيقة.

إنها

هبة إلهية رشيقة ورشيقة هادئة البال

قد زخرفت جلدتها بزخرف سحري

لا يجرؤ على التنافس معها (في هذا الجمال الباهر)

إلا القمر حين تنعكس أشعته وتتأرجح على صفحة البحيرات وضفافها

إنها (الزرافة) من بعيد مثل الأشرعة السفينة الملونة

تنساب جارية مثل رحلة سعيدة لطائر

أعلم أن الأرض لديها الكثير من العجائب والألغاز

منها أن تشاهد الزرافة الطويلةعند ما تدخل وتختبئ في مغارة رخامية عند غروب الشمس..منظر غريب جميل

أعرف الحكايات السارة للأراضي الغريبة ذات الأسرار الغامضة

(حكاية)عن العذراء السوداء، وعن شغف البطل الشاب-زعيم القبيلة- بها

***

لكنك (يا أخماتوفا) تنفست في الضباب الكثيف لفترة طويلة(من أجواء روسيا الضبابية الباردة)

فلن تعودي تؤمنين بأي شيء سوى المط ر(والثلج والضباب والبرودة).

وكيف يمكنني أن أخبركم عن الحديقة الاستوائية،

و عن النخيل الشامخات، ورائحة الأعشاب المنعشة فائقة الوصف.

هل أنت تبكين (يا أخماتوفا)؟ استمعي بعيدًا حول بحيرة تشاد

تتجول زرافة أنيقة.

إضاءة على النص:

تناول غوميلوف وصف بحيرة تشاد في هذه المجموعة الإبداعية، وحاول أن يتمظهر في أقنعة مختلفة من خلال عيشه في أفريقيا. ويبدو هائماً وراء هذه المشاهد الحية من البيئة الناطقة بالجمال الحسي، ولعل الشاعر المبدع يقصد رومانسية الزهور، كما هو الحال عند الشعراء الوجدانيين.

"بحيرة تشاد" قصيدة تحكي قصة أفريقية مسلية، تلك القارة التي تتميز بالعدد من التأثيرات الاستوائية والمناظر الزاهية، وكلها بالطبع صور طبيعية ومشاهد خلابة، من البيئة والناس والحيوانات والأشجار، و"الزرافة التي تتجول في أناقة وسعادة" إلى جانب صورة المرأة الأفريقية المتعففة.

لا يعكس البحث عن الجمال فحسب، بل يعكس أيضًا جمال البحث، وتشكل مشهدا جماليا باهرا، لأن الزهور الرومانسية تصنع حياة مثالية سعيدة.

وليس غريباً أن تكون قصيدة "الزرافة" من عيون شعر غوميلوف ومن الأعمال الأكثر لفتا لأنظار النقاد،حتى أصبحت بطاقة أعماله لفترة طويلة في الأدب الروسي.

وعبارة "زرافة أنيقة"رائعة تستخدم لخلق عالم جميل، وفي المقطع الثاني يرسم الألوان الدافئة الملونة، ويسلط النور والنمط السحري.

يجسّد الشاعر صورة سكان أفريقيا منغمسين في ذاكرتهم. وابتكر جوميليف صورة شعرية جميلة،مستحضراً ذكرياته الخاصة، واستطاع أن يرسم جملاً (واحة -بحيرة تشاد الجميلة )، وأخبر محاورته غير المرئية، كما يمكنك أن تتخيل بسهولة خطيبته أخماتوفا. على الواحة الخضراء، بحيرة تشاد الجميلة، يتحدث إلى رفيقته غير المرئية، والتي من السهل تخمينها.

و رسم صورة الفتاة الأفريقية، عذراء عفيفة، وقد فُتن بجمالها الباهر القائد الشاب؛ فألهبت عواطفه، قرب بحيرة تشاد العذبة الصافية - كل هذا يصرف محبوبة الشاعر أخماتوفا عن الواقع المظلم الذي تعيشه هي،إلى افتراض عالم رومانسي يخفف به من وطأة الهموم المتراكمة على صدرها، ويتقرب إليها.

***

.................

1- Acmeism مشتقة من الكلمة الفرنسية acme، والتي تعني القمة أو القمة،إلى جانب الرمزية والمستقبلية، وتجدر الإشارة إلى أن كثيراً من أدباء روسيا تأثروا بالأدباء الفرنسيين كهيغو وفولتير وموليير؛ حتى كانوا يضمون كتاباتهم بألفاظ فرنسية في تلك الحقبة من الزمن، وهو دليل على انفتاح ثقافة الأديب واتساع أفقه وقتها.

 

في المثقف اليوم