قراءات نقدية

الشاعر السوري أديب حسن يراود نفسه عن الحلم في قصيدته: لا أشبه نفسي (1-4)

مفيد خنسةهل يمكن للشعر أن يحتوي على الفلسفة؟ أم أن الفلسفة هي التي يمكنها أن تحتوي الشعر وسائر الفنون الأخرى، هذا سؤال يبدوا سطحيّاً للوهلة الأولى، وذلك بسبب استخدام الاحتواء، لأن الاحتواء يعبر عن علاقة بين شيئين أحدهما يسع الآخر، وبالمعنى الرياضي فالاحتواء هو علاقة بين مجموعتين، وعلاقة التساوي بين مجموعتين تكافئ، قولنا: كل منهما محتواة في الأخرى، ويمكننا أن نسلّم بوجود علاقة عضوية بين الشعر والفلسفة، ولكن ليس بوسعنا أن نثبت علميّاً، أو منطقيّاً، بأن أحدهما يسع الآخر، إن الفلسفة تهدف إلى فهم العالم، والشعر يهدف إلى تصّور ما يمكن أن يكون عليه العالم، والهدفان كما نرى غير متطابقين، فالفلسفة آلة الفكر لفهم الوجود بما هو موجود، أما الشعر يتحرر من كل قيد، وهو يقدم المتخيّل من الصور التي يمكن أن يكون عليها الوجود الإنساني، إن قصيدة الشاعر أديب حسن (لا أشبه نفسي) التي اخترتها من مجموعته الشعريّة (لا أشبهني) هي التي دفعتني إلى هذه المقدمة، فحين لا يشبه الشاعر نفسه يعني أن ذات الشاعر مختلفة عن صفاتها، أي واقعها شيء، وممكنها شيء مختلفٌ بالمعنى السلبي أو الإيجابي، ولتوضيح مضامين القصيدة ودلالاتها، وإظهار ما تختزنه من إمكانات للمعاني سأطبق منهج النقد الاحتمالي في دراستي لها.

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(وأخيراً...

أغلقتُ البابْ

ونزعتُ جميعَ الأثوابْ

عارٍ

وحدي

في ظلمة ما بعد الروح سلامٌ

وأمامي

يمتد شريط الأيامِ على مهلٍ

لا شيء ورائي

سيعطلني عن طقسي.

في كلّ الأسفارِ

أظلُّ الغائبَ عن معنى الخطواتِ

وعن تفسيرِ الوجعِ الكامنِ

في تيهِ الطرقاتِ

وفي صعلكة الأمسِ

فكأني صوتُ الماءِ على جثث الأعشابِ

سيجري

بعد فوات الخضرةِ

منتقماً

من خذلان الكلّ

أراود كالعادة نفسي

عن حلمٍ في مستنقع هذا العمرِ

سيجري

منفلتاً من كيدِ المعنى

وأحاولُ تفسيرَ الليلِ

بما أوتيتُ من اليأسِ.)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة ذاته على هيئة الصفات العارية عن كل ما يحجبها عن الحقيقة وعقدته (وأخيراً... أعلقت الباب) وشعابه الرئيسة هي: (ونزعتُ جميعَ الأثوابْ) و(في كلّ الأسفارِ/ أظلُّ الغائبَ عن معنى الخطواتِ/ وعن تفسيرِ الوجعِ الكامنِ/ في تيهِ الطرقاتِ/ وفي صعلكة الأمسِ) و(فكأني صوتُ الماءِ على جثث الأعشابِ/ سيجري/ بعد فوات الخضرةِ/ منتقماً/ من خذلان الكلّ) و(أراود كالعادة نفسي/ عن حلمٍ في مستنقع هذا العمرِ/ سيجري)، أما شعابه الثانوية فهي: (عارٍ/ وحدي/ في ظلمة ما بعد الروح سلامٌ) و(وأمامي/ يمتد شريط الأيامِ على مهلٍ) و(لا شيء ورائي/ سيعطلني عن طقسي.) و(منفلتاً من كيدِ المعنى) و(وأحاولُ تفسيرَ الليلِ/ بما أوتيتُ من اليأسِ.)

في المعنى: 

الأسلوبُ في هذا الفرع خبري، وفيه يتحدث الشاعر عن أكثر اللحظات التي يكون فيها الإنسان في حالة من الصحو والسكينة، وهو يعبر عن حقيقة ذاته الإنسانيّة، إنها لحظات النهايات، فقوله: (وأخيراً...) أي في النهاية، والنهاية هنا قد تعني نهاية مرحلة من مراحل تجربة ما يمّر بها الشاعر، لكن النقاط المتتالية على السطر الأول تشير إلى نهاية مشوار الحياة، وقوله: (أغلقت البابْ/ ونزعت جميع الأثوابْ) أي لا يريد أن يشاركه أحد في تلك اللحظات، ويمكن أن يشير في المعنى إلى أنه كان منشغلاً على الدوام بالزوار، حيث لم يستطع خلال وقت طويل أن يغلق الباب حتى فرغ البيت ولم يبق سواه، فسارع إلى إغلاق الباب كي لا يراه أحد، وخلع أثوابه كلها، لكي يكون واضحاً وشفافاً من دون أن يحجبه عن حقيقة ذاته شيء، وقوله: (عارٍ/وحدي/ في ظلمة ما بعد الروح سلامٌ) أي بقي وحيداً عارياً وكأنه يتهيّأ لتلك اللحظات الفاصلة الحاسمة لجسده الذي سيصبح مظلماً بعد أن تهجره الروح ويقرأ عليه السلام، وقوله: (وأمامي/ يمتد شريط الأيامِ على مهلٍ/ لا شيء ورائي/ سيعطلني عن طقسي.) أي في تلك اللحظات يتمكن من أن يستعيد شريط ذكريات ما مضى من عمره، ولم يعد عليه من المشاغل ما يمكن أن يمنعه من ممارسة طقسه الخاص الذي تتجلى فيه حقيقة ذاته، وهو يستقرئ أحواله في تلك الأيام الماضيه، وقوله: (أظلُّ الغائبَ عن معنى الخطواتِ/ وعن تفسيرِ الوجعِ الكامنِ/ في تيهِ الطرقاتِ/ وفي صعلكة الأمسِ) أي وهو يستحضر شريط ذكرياته يجد نفسه أنه في رحلاته جميعها، وعبر تجاربه التي عاشها بقي على الدوام لا يعرف المعنى الحقيقي لتلك الخطوات التي سارها عبر تلك الأسفار والتجارب، كما أنه بقي عاجزاً عن تفسير ذلك الألم الذي كان يعتريه في تلك المسالك المتشابكة كالمتاهة، وحتى في أيام التسكع والتشرد والفقير، كان لا يجد تعليلاً لهذا الوجع الدفين الذي لا يفارقه على الدوام، وقوله: (فكأني صوتُ الماءِ على جثث الأعشابِ/ سيجري/ بعد فوات الخضرةِ/ منتقماً/ من خذلان الكلّ) أي إن غيابه عن معرفة المعنى الحقيقي لخطواته تلك، وغيابه عن تفسير وتعليل وجعه المقيم، أشبه بصوت الماء الذي سيجري على الأعشاب التي فقدت خضرتها واعتراها اليباس، انتقاماً من أولئك الذين خيبوا أمله وتركوه من غير أن يدوا إليه يد العون في محنته وأسفاره، وقوله: (أراود كالعادة نفسي/ عن حلمٍ في مستنقع هذا العمرِ/ سيجري/ منفلتاً من كيدِ المعنى) أي على الرغم من خذلان الكل فإنه ما زال على عادته يؤمل نفسه بحلمٍ حرّ من أي قيد أو شرط، حلم لا تقيده المعاني السائدة، ولا الدلالات الكيدية، وقوله: (وأحاولُ تفسيرَ الليلِ/ بما أوتيتُ من اليأسِ.) أي ويستمر بالمحاولة كعادته أيضاً في تفسير هذا الليل الذي يخيم بظلامه الدامس، على الرغم من كل ما تراكم عليه من اليأس والخيبة والألم.  

 الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(ما زلتُ أحبّ الحبّ

وأبني من حبته القبةْ

ما زلتُ

أراقبُ أيامي

في حنظلِها الداني

تطحنُها في فلوات الله الغربة

وأقيسُ جراحي في البرية

وحدي وسمائي

حزني شوكٌ

ينزل مثل الدمعةِ من عين الأرضِ

وما يسقط من صرّة هذا العمر رثائي

قبري

أجمل مما ظنوا

أخضر مثل الرغبةِ

ومريحٌ

مثلُ ذراع الأمّ

وأوسعُ من تابوتِ الفقهاءْ

وأمامي تسجد أخطائي

فأقيم الحد على صحوي

من يأخذ عني بعضَ حنيني ؟

كأسي مترعةٌ

وورائي كومة أسماءْ

وأنا أشربُ.....

كي يحتلم النهر بذاكرتي

ويعود الماء إلى فطرتِه

حتى يندلع العشبُ

وتهتزّ الشاهدةُ العمياءْ

كي يسقط اسمي

حتى أشربَ مثل جميع الأموات نبيذَ الصمتِ

ونضحكُ من حمق الأحياءْ

من أوسمةٍ يطهوها عبثاً

من جوع البرزخ كلّ الشهداءْ)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الغربة والحب السرمدي وعقدته (ما زلت أحب الحب) وشعابه الرئيسة هي: (وأبني من حبته القبةْ) و(ما زلتُ/ أراقبُ أيامي/ في حنظلِها الداني/ تطحنُها في فلوات الله الغربة) و(وأقيسُ جراحي في البرية/ وحدي وسمائي) و(فأقيم الحد على صحوي)، أما شعابه الثانويّة فهي: (حزني شوكٌ) و(ينزل مثل الدمعةِ من عين الأرضِ) و(وما يسقط من صرّة هذا العمر رثائي) و(قبري/ أجمل مما ظنوا) و(أخضر مثل الرغبةِ) و(ومريحٌ/ مثلُ ذراع الأمّ) و(وأوسعُ من تابوتِ الفقهاءْ) و(وأمامي تسجد أخطائي) و(من يأخذ عني بعضَ حنيني؟) و(كأسي مترعةٌ/ وورائي كومة أسماءْ) و(وأنا أشربُ.. كي يحتلم النهر بذاكرتي) و(ويعود الماء إلى فطرتِه/ حتى يندلع العشبُ) و(وتهتزّ الشاهدةُ العمياءْ) و(كي يسقط اسمي) و(حتى أشربَ مثل جميع الأموات نبيذَ الصمتِ) و(ونضحكُ من حمق الأحياءْ/ من أوسمةٍ يطهوها عبثاً/ من جوع البرزخ كلّ الشهداءْ).

في المعنى:

الأسلوب في الفرع من القصيدة خبري، باستثناء أسلوب الإنشاء بالاستفهام، وفيه يصبح البوح أكثر مكاشفة، وأشد تأثيراً وعمقاً، وهو يتفقد ذكرياته، ونزف جراحاته في دروب الغربة والبراري والهجران، فقوله: (ما زلتُ أحبّ الحبّ/ وأبني من حبته القبةْ) أي يبدأ التفسير لليله بالاعتراف أنه مازال يحب الحب الذي يؤالف بين القلوب ويجمع بين الناس، وإنه مازال يهتم بالتفاصيل الصغيرة في الحب وغيره، لأن تفصيلاً صغيراً وبسيطاً من السلوك قد يكون سبيلاً صادقاً لفهم سلوك المرء، وهو لا يمكن له أن يتجاوز في حبه التفاصيل الصغيرة، لا بل قد يصنع منها قضيّة كبيرة كالقبة من الحبة، وقوله: (ما زلتُ/ أراقبُ أيامي/ في حنظلِها الداني/ تطحنُها في فلوات الله الغربة) أي ما زال يتأمل أيامه القاسية المرة، والذي يزيد من مرارتها وقسوتها الغربةُ عن الوطن والأهل والأحبة، وقوله: (وأقيسُ جراحي في البرية/ وحدي وسمائي) أي ما زال يتذكر جراحاته النازفة وحيداً، كما كان يفعل في البرية عندما كان صغيراً وهو يضمد جراحه الصغيرة والكبيرة، حيث تضنيه الوحدة تحت سمائه الشاهدة، وقوله: (حزني شوكٌ/ ينزل مثل الدمعةِ من عين الأرضِ/ وما يسقط من صرّة هذا العمر رثائي) أي حزنه واخزٌ كإبر الشوك، يهطل سريعاً كالدمعة التي تسقط من الأرضِ قهراً على أبنائها المتعبين، والذي يتداعى مما جناه في عمره يبقى علامة على حسن سيرته، وبقاء ذكره الحميد، وقوله: (قبري/ أجمل مما ظنوا) يجعلنا نتأمل المعنى الذي يمكن أن يحتمله الفرع السابق وما مضى من هذا الفرع، فالقبر يمكن أن يكون ذا معنى حقيقي، وهو القبر الذي يدفن فيه الإنسان، ويمكن أن يكون معناهُ مجازيّاً، فالجسد هو قبر النفس وسجنها، ويمكن أن يعني كل يدل على اختفاء الشيء من دون أثر، ومنه القول العام قبرنا الفقر، أي ذهب إلى غير رجعة، والمعنى: إن المكان الذي سيوارى فيه جسده الفاني هو أجمل وأحلى مما ظنه الخاذلون، وقوله: (أخضر مثل الرغبةِ/ ومريحٌ/ مثلُ ذراع الأمّ/ وأوسعُ من تابوتِ الفقهاءْ) أي إن قبره دائم الخضرة كالرغبة الحيّة المتجددة، ومريح كساعد الأم الحنونة، وأكثر اتساعاً من قبور أهل الفقهِ، وفيه تعترف أخطاؤه، ما تقدّم منها وما تأخرْ، وتسجد طائعة، وهي تعلن عن توبتها، لكنه لا يقبل إلاّ أن يقيم الحد على نفسه عن كلّ خطأٍ ارتكبه في حالة الصحو، عن معرفة وقصد، وهذه تورية واضحة، فقد بين أوصاف القبر الذي بدا له أجمل مما ظنوا، وهو يقصد، أن يوارى الثرى في القبر أفضل له من العيش بينهم، حيث اليباسُ والشقاءُ وفقدان الحنان وضيق الأفق لدى الفقهاء وأصحاب الفتاوى، واستفحال الأخطاء والآثام من دون قيام الحد، وقوله: (من يأخذ عني بعضَ حنيني ؟) أي إنه في حالة من الحنين العارم، فهل من سبيلٍ كي يتخلّص من بعض  الشوق واللهفة، وهل يمكن أن يبدد وحدته ويريحه من بعض ذلك الحنين؟، وقوله: (كأسي مترعة) أي ما دام لم يجد أحداً يأخذ عنه بعض الحنين، فإنه يلجأ إلى الشراب والكأسُ ممتلئة امتلاء نفسه بالحنين!، وقوله: (وورائي كومة أسماءْ) أي كثيرون هم الذين تحولوا إلى أسماء على شواهد في الذاكرة، وقوله: (وأنا أشربُ..... /كي يحتلم النهر بذاكرتي) أي يلجأ إلى الشراب من أجل أن يصل إلى حالة من صفاء الوجدان بعد أن يكون قد أقام الحد على كل خطأ ارتكبه في حالات صحوه، وتصبح ذكرياته متدفقة كالنهر الذي تخلص ماؤه من كل الشوائب التي علقت به من المجرى وهو في طريقه إلى المصب، وقوله: (ويعود الماء إلى فطرتِه/ حتى يندلع العشبُ/ وتهتزّ الشاهدةُ العمياءْ) أي يريد أن يكون نقيّاً صافياً طاهراً وهو يصفّي ما علق من الخطايا في نهر ذاكرته، فيعود إلى حقيقته الإنسانيّة، كما يصفو ماء النهر ويعود إلى طبيعته ووظيفته التي خلق من أجلها وهي انبعاث الحياة في الأرض من جديد، حتى ينمو العشب وتنعم بالخضرة الدائمة، من أجل أن تهتزّ شاهدة القبر التي لا تحمل سوى اسم وتاريخ، وقوله: (كي يسقط اسمي/ حتى أشربَ مثل جميع الأموات نبيذَ الصمتِ/ ونضحكُ من حمق الأحياءْ) أي تهتز الشاهدة كي يسقط اسمه المعلق عليها، ولا يبقى له أثرٌ حتى اسمه المنقوش على الشاهدة، ويصبح في عداد الموتى الذين ينهلون من كأس صمتهم الأبدي، ويسخرون من الأحياء الحمقى الذين يكثرون من الكلام والتنظيرات والأحلام بتغيير واقعهم المرير، وقوله: (من أوسمةٍ يطهوها عبثاً/ من جوع البرزخ كلّ الشهداءْ) أي ويسخرون من الأوسمة التي نالها الشهداء بسبب تضحياتهم بحياتهم ولم يستفيدوا منها، وهم جوعي في قبورهم في البرزخ بين الموت ويوم البعث، ولعل هذه التفصيل في إيجاز المعنى يفقد روح النص، ويجعل هذا التفسير سطحياً إلى حدّ كبير، ولا بد هنا من الاستدراك:

استدراك أول: 

إن ذكر القبر في الفرع الثاني كما ذكرنا، يدعو للاستدراك والتأمل، بدءاً من مطلع القصيدة، (وأخيراً...) أي بعد أن ينفضّ الناس من حوله، ويخلو إلى نفسه، يغلق البابَ ويمارس طقسه في التدرب على الحياة كالأموات، وهذه كناية عن أن الحياة في ظل الظروف القاهرة التي يعيشها أصبحت خالية من أيّ معنى حقيقي للحياة الإنسانيّة الفعليّة. وفي تقديري فإن الشاعر يطلق صرخة إنسانيةً مدويةً احتجاجاً على كل ما من شأنه أن يسلب الإنسان حقه في الحياة، الأنظمة الديكتاتوريّة التي تقمع الحريات وتحتقر الشعوب، وتجار الحروب، والإرهاب، والتطرف،.... الخ.

استدراك ثان:

إن الشاعر يلجأ إلى الشراب ليس من أجل المتعة، إنما من أجل أن يصبح في حالة من الغياب التي تساعده على ممارسة طقسه المعتاد، كي يتمكن من أن يستمر بحياته كما يعيش الموتى في برزخهم، فالبيت أشبه بالقبر، وبابه يشبه باب القبر، وما هو إلا شبحٌ من غير فاعلية، ولا قيمة لوجوده، وهذه كناية عن أن الناس قد أصبحوا في حياتهم كالأموات، في ظل الاستلاب المهين.

استدراك ثالث:

إن التغييب القسري لذات الشاعر، ظناً منهم أنهم يكونون بذلك قد حكموا عليه بالموت حيّاً، وقبر وهو في الحياة، فظنهم لم يكن في مكانه، لأن الموت عليه أهون من العيش معهم مسلوب الإرادة والقدرة على الفعل والتغيير.

تنويه:

مع يقيني أن هذه الاستدراكات في صلب المحتوى الذي يختزنه النص، فإنّ ذلك لا يعفيها من السمة الانطباعية التي لا يؤمن بها منهج النقد الاحتمالي. وإن كانت بنية القصيدة فرضت ذلك، بسبب التورية التي جعلت المعاني المقصودة متخفّية في ظلال الجمل والتراكيب التي أوحت بالمعاني القريبة الظاهرة.

الصورة والبيان:

الجمل الشعرية والتراكب في الفرعين السابقين يمكن أن تحمل معاني مجازيّة، وذلك بسبب طغيان الرمز، فقوله: (أغلقتُ البابْ) ذو معنى حقيقي، إذا كان القصد الباب الحقيقي، (باب البيت مثلاً)، ويمكن أن يكون ذا معنى مجازي، إذا كان القصد من الباب مجازاً، (باب الحياة مثلاً، أو باب القبر...)، وهكذا بالنسبة لباقي الجمل، ولكن سأكتفي بالتنويه للصور البيانية، فقوله: (يمتد شريط الأيام على مهلٍ) استعارة، والقصيدة التي يغلب عليها هذا النمط من الصور الشعرية وفق النقد الاحتمالي تدعى قصيدة خطيّة، وقوله: (فكأني صوتُ الماءِ) استعارة، وقوله: (على جثث الأعشابِ) استعارة، وقوله: (سيجري/ بعد فوات الخضرةِ/ منتقماً/ من خذلان الكلّ) استعارة، ويصبح التركيب: (فكأني صوتُ الماءِ على جثث الأعشابِ/ سيجري/ بعد فوات الخضرةِ/ منتقماً/ من خذلان الكلّ) صورة شعريّة ثلاثيّة الأبعاد، والقصيدة التي تتسم بمثل هذا النمط من الصور الشعرية تدعى القصيدة العميقة، لأن لها ثلاثة أبعاد، وتمتلك ثلاث درجات من الحريّة، وهذا النوع من الصور نادرٌ في الشعر العربي الكلاسيكية، ولعله إحدى السمات المميزة للقصيدة الحديثة، وقوله: (أراود كالعادة نفسي/ عن حلمٍ في مستنقع هذا العمرِ) صورة بيانيّة ثنائيّة الأبعاد، لأنها تتضمن استعارتين بآن واحد، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصور الشعريّة تدعى قصيدة السطح، أو قصيدة مستوية، لأن لها بعدين، وتمتلك درجتين من الحريّة، وقوله: (منفلتاً من كيدِ المعنى/ وأحاولُ تفسيرَ الليلِ) صورة بيانيّة ثنائيّة البعد، وقوله: (أراقبُ أيامي/ في حنظلِها الداني) كناية عن مرارة العيش وقسوته، وقوله: (تطحنُها في فلوات الله الغربة) استعارة، ويتضمن أسلوب قصر لتقديم ما حقه التأخير(في فلوات الله) على الفاعل (الغربة)، وقوله: (حزني شوكٌ) تشبيه بليغ، وقوله: (أخضر مثل الرغبةِ) تشبيه، وقوله: (وأمامي تسجد أخطائي) استعارة، وقوله: (فأقيم الحد على صحوي) استعارة، ويصبح التركيب: (وأمامي تسجد أخطائي/ فأقيم الحد على صحوي) صورة ثنائيّة البعد.

***

مفيد خنسه

 

في المثقف اليوم