قراءات نقدية

من ملامح تجديد شكل القصيدة في شعر جماعة أبولّو

خليل حمدتسلط هذه المقالة الضوء على الدور التجديدي لجماعة أبولّو في تحديث شكل القصيدة العربية، من خلال الإجابة على السؤال "ما المهمة التجديدية التي اضطلع بها شعراء أبولّو في اتجاهاتهم نحو تحديث الشعر العربي المعاصر من الناحية الشكلية؟ و ما مدى تأثيرهم في الساحة الأدبية المعاصرة فكريًّا و فنيًّا؟

جماعة أبولّو تُعدّ أحد أبرز المدارس الأدبية المهمة في الأدب العربي الحديث، و قد أنشئت بالقاهرة على يد الشعر أحمد زكي أبو شادي (1892-1955م )، الذي لم تصرفه اهتماماتُه العلمية عن الأدب والتفكير في إنشاء مدرسة تحتضنه وتهتم به (خليل، (2008)، 14). [1]

و كلمة" أبولّو" Appolo مأخوذة من اللفظة الإغريقية (أبو لّلون Appolon) إله النور والفنون والجمال عند اليونان، وتسمية هذه المدرسة بهذا الاسم يدل على التأثر بالثقافة الأجنبية والانفتاح على الآداب الإنسانية.(العزب، 1980م:144)[2].

يقول ميخائيل نعيمة المهجريّ متحدثا عن فترة ولادة أبولّو: وفي هذا الوقت ظهرت جماعة أبولّو فوجدتْ طريقا مُمهدا إلى حدّ كبير؛ حيث يُعدّ أحمد زكي أبو شادي مؤسس الجماعة، ولم يلتزم بمذهب شعري معين، بل اتّخذ من كل الاتجاهات الفنية الأوروبية مثالا له في نظمه مع من اتبعه من جماعته (أبو شادي، 1926م:40)[3].

وهكذا نشأت هذه الجماعة، في ظروفٍ تكاد تكون واحدة من النواحي السياسية والاجتماعية والتربوية والفكرية، وكان في نفوس شبابها رغبة التحرر من قيود القديم، لمواكبة الحديث ومن أجل التقدم، وهذا ليس مستغرباً، وعبر مؤسس الجماعة ورائدها أحمد زكي أبو شادي عن ذلك التحرر بقوله، -وهنا أقتبس-:

”إني أوقن أن الكون في تحوّلٍ مستمرٍ، وأن الفكرَ الإنساني في تبدلٍ وتطورٍ، وأن ما نراه حسناً الآن قد لا يرضى عنه جيلٌ مقبلٌ، كما أننا لم نرضَ عن كثيرٍ مما استحسنهُ أسلافنا، ولكن، كل هذا لا يعني أن جهدنا عديم الجدوى، ولن يطالبنا العقل أكثر من الوفاء لعصرنا، الحاضر خاصةً، ولجوهر الفكر الإنساني عامةً (العشماوي، 1980م:95-96)[4].

إن هذا القول – من كلام أحمد زكي أبو شادي - يجعلنا نُدرك أن الصراعَ المستمرَ بين الجديد والقديم، والانتقال من القديم إلى الجديد، حتميةٌ اجتماعيةٌ؛ لأن هذا الانتقال غالباَ ما يكون مرتبطاً بحياة الأمة الاجتماعية وبالرغبة في تحوّل التيار القديم إلى تيارات أخرى جديدة أقربُ إلى إحساسهم وأكثر تماشياً مع مُلابساتِ حياتهم (بطرس، 2005م:314)[5].

وقد أتت الجماعة بعد مدرسة الديوان التي أنشأها العقاد والمازني وشكري بأكثر من عشر سنوات. و ضمت رموزا و طلائع من شعراء الوجدان الرومانسيين في مصر والعالم العربي، ومن روادها: إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وعلي العناني، وكامل كيلاني، ومحمود عماد، وجميلة العلائلي.

و كانت الجماعة تهدف إلى الارتقاء بمستوى الأدب العربي، ولا سيما الشعر، وتخليصه من قيود الصنعة والتقليد والمحاكاة التي ارتكس فيها طوال القرون الوسطى، وتوجيهه للتعبير عن مشاهد الطبيعة، وصور الحياة، والعواطف الإنسانية في لغة جميلة، وتعبير حي مؤثر، يزخر بالخيال البديع والصور الأدبية المبتكرة.

وكان اللون الغالب على نتاج هذه الجماعة هو اللون الرومانسي، وقد ساعدت عوامل مختلفة على بروز وبلورة هذا الاتجاه الذي عُرِفت به جماعة أبولّو (نشأت، 1967م:421)[6]، وهذا ما كشف عنه الدكتور إدريس بكري في رسالته عن (ألفريد دي موسيه و جماعة أبولّو- دراسة مقارنة)، وهو يطلق عليهم اسم (جماعة) نظرا لتشعب الاتجاهات و إن اتفقوا جميعا في الأهداف الأساسية.

و بفضل هذه الجماعة- وغيرها من التيارات التجديدية الحديثة الأخرى- أصبح يُنظر إلى الأثر الأدبي من حيث قدرتُه على التأثير والإيحاء، وترجمته للمشاعر والانفعالات الإنسانية.

مفهوم التجديد في الشعر العربي الحديث: هو أن يتمّ كسر قواعد شعريّة قديمة وخلق قواعد مبنيّة على أسس جديدة تتسم بالابتكار في النسق، والصورة، والمفردة، والشكل، والمضمون، أو في أيّ شيء آخر، ما دام يتماشى مع أصول الذائقة ولا يخلّ بقوانين الشعر الضمنيّة، وهو إبداع بكر يغمر المرء بالمتعة، والانبهار، والبهجة.[7]

و أصبح التجديد في موسيقا الشعر مصطلحاً يشير إلى الانتقال من الاعتماد التام على أساسات علم العَروض، والموسيقا الشعرية، واستبدالها استبدالاً مبسطاً بأساليب جديدة، مما أدى إلى ظهور مجموعة من الأوزان الحديثة الخاصة بالشعر الحُر، والتي اعتمدت على إيقاع موسيقي خاص بها، والذي ساعد على كتابة قصيدة متكاملة من حيث الوزن، والقافية التي ارتبطت بالحالة النفسية للشاعر، أو طبيعة الموقف الذي يصيغ فيه قصيدته.[8]

و سار أصحاب الاتجاه الوجداني في الشعر حتى خرجوا- بالبناء الإيقاعي للقصيدة التقليديّة- عن النمطية من خلال: الزحافات والعلل تمثل الزحافات، والعلل بداية الانشقاق عن النظام العروضيّ الصارم موسيقياً، والسبب في ذلك حالة التنازع المستمر بين الوزن العروضي، الذي يقيد وجدان الشاعر، والزحافات، والعلل التي تمثل شق صغير في جدار العروض، يسمح بخروج شعاع الوجدان، والعاطفة. من الأمثلة على الزحافات، والعلل، تحويل تفعيلة فاعلن الموجودة في الضرب إلى تفعيلة فاعلان، وتحويل تفعيلة مستفعلن إلى مستعلن، أو مستعل أو متعل.

و الموسيقى تعتبر إحدى الوسائل المرهفة التي تملكها اللغة للتعبير عن ظلال المعاني وألوانها، بالإضافة إلى دلالة الألفاظ والتراكيب اللغوية" (مندور، 1963م:9)[9].

يقول د. سيد بحراوي- رحمه الله-:هذه الإمكانيات الموسيقية في اللغة يمكن قياسها إذا نظرنا إلى التركيب الصوتي للغة؛ فاللغة تتكوّن من مجموعة من الأصوات، لكل صوتٍ منها مجموعة من الصفات يمكن حصرها في أربعة مصطلحات أساسية: الحدّة ودرجة علو النغمة، والمدى الزمني والمزاج أو الكيفية (zilman,1966:28)[10] . هذه الصفات الصوتية للغة هي التي تكون ما يمكن أن يسمى بموسيقى الكلام، غير أن هذه الصفات تتحقّق في الشعر في الشعر كما تتحقّق في النثر؛ فبم إذن يتميّز الشعر؟ إن النثر أحيانا ينبت أزهار الإيقاع الشعري، وغالبا ما يحمل الشعر أوراق الإيقاع النثري (Buttler,1930:87-88)[11] .

والشعر يظهر وسائل فنية معيّنة مثل الوزن والقافية. ويحتوي النثر وسائل مشابهة، ولكل أقلّ تنظيما في ترتيبها (Benjamen,1973:13-14)[12] .

وتكون براعة الشاعر في قدرته على صياغة قالبه الشعري، مازجا فيه بين كافة الإمكانيات التصويرية المكانية حيث تشكيل الصورة لا ينفصل عن تشكيل الحيز الزماني متمثلا في التوقيعات النَّغمية التي تثري الدلالة وتعمقها، بإيحاءاتها الثرية المتنوعة، التي تتضافر مع كافة الإمكانيات لبلورة جماليات النص في نسق تشكيله النهائي.

مظاهر تجديد الموسيقى الشعرية عند جماعة أبولّو [13]

أ- تجديد القصيدة في ميزانها العروضي العام (البحور):

كان الأصل في كتابات جماعة أبولّو هو القصيدة المصرّعة على النهج التراثي لعمود الشعر، فجاء أغلب ما كتبوه داخل هذا الإطار التراثي القديم، على أنهم لم يقفوا عليه فقط كما هو واضح حيث خرجوا عن مألوف القصيدة العربية في أحيان كثيرة، وقد حكم ذلك الخروج الإطار العروضي –حينا- ونجد خروجا تاما منه –حينا آخر-، ولعله كان من بذور الحداثة الأولى. وأما من جرَوا فيه على النسق القديم ولم يخرجوا عن بحور الخليل فمن أمثاله:

قول ناجي في قصيدة (الناي المحترق) من بحر المجتثّ (مستفعلن فاعلاتن):

كم مرّة يا حبيبي *** والليلُ يغشى البرايا

أهِيمُ وحدي وما في الظْـــ *** ـــــظلام شاكِ سوايا

أصيّرُ الدمْعَ لحنا *** وأجعلُ الشعرَ نايا

وهلْ يُلبّي حُطامٌ *** أشعلتُه بجوايا

(ناجي، 1980م:17)[14] .

ومن نماذج ذلك أيضا قصيدة المدينة الباسلة للمهندس، من بحر الكامل بتفعيلاته الست (متفاعلن) مكرّرة ثلاث مرات في كلّ مصراع، حيث يقول:

في شاطي وقف العدوّ إزاءه *** ينبغي العبور ودونَه أشبارُ

ما زال يدفع عنه كل كتيبة *** حتى تلاشى الجحفل الجرّار

وهوى وفي شفتيه بسمةُ ظافر *** أودى وتمّ على يديه الثارُ

يُزهى به تحت الحديدِ وبأسِه *** رأسٌ يُكلّل مفرقَيْهِ الغارُ

(طه، 2004م:258)[15] .

ولأبي شادي قصيدة من بحر الطويل بعنوان "على قبر الشهيد":

ودِدتُكَ مشْنوقا وزُرتُكَ مقْبَرا

ولَسْتُ على الحالين أبْخِسُ من قَدرِي

*

وقَفْتُ عليك اليومَ وقْفَةَ عابدٍ

يحُجّ لآيِ الله يا صاحِبَ القبْرِ

*

وطأطأتُ رأسا لم تشأْ خفضة لهُ

يخِرّ لدى ذكْرَى مماتِك لو تدري

(أبو شادي، بدون:32)[16] .

وتفعيلاته كالتالي: (ودِدتُ – فعلون)، و(كَ مشْنوقا – مفاعيلن)، و(وزُرتُ – فعولُ) و(كَ مقْبَرا – مفاعيلن)، وهكذا، فالقصيدة مصرّعة حيث وردت العروض والضرب صحيحين؛ لأنه أول بيت في القصيدة.

2/ القافية:

ليس غريبا ونحن بصدد مدرسة انفتح أعلامها على الثقافة العالميّة ودرسوا الآداب الأوروبية، ودرجوا على آثار مدرسة الديوان، وهي ما هي في عالم الأدب والثقافة، ليس غريبا أن تجد شعراء المدرسة قد حالوا التجديد بالخروج عن المألوف في الكتابة الشعرية محاولات لها أثرها وصداها في عالم الشعر العربي الحديث، سواء أكانت إيجابية أم سلبية الاتجاه، ولا يكاد يخلو ديوان أحد شعراء أبولّو من هذه المحاولات التجديد بصورة عامة، وعلى إطار الموسيقى بوجه خاصّ، ومن الطبيعي جدا أن نجد التفاوت بين هؤلاء الشعراء في مستوى النجاح فيما ذهبوا إليه؛ ومردّ ذلك إلى ما بين الناس من تفاوت معلوم، وما بين الشعراء بالضرورة.

ويبدو أن شعراء جماعة أبولّو لم يستخفّوا بالوزن والقافية في القصائد المحافظة، وفيما خالفوا الشعر القديم خرجوا عن العروض والقافية ولم يلتزموا بالقواعد.

فالمثال على القصائد المحافظة قول إبراهيم ناجي:

لمنِ العيونُ الفاترات ذُبولا

ومن الخيالُ موسّدا محمولا

*

يا همّ قلبي في صِبا أيامه

 وسُهادَ عيني في الليالي الأولى

*

عينايَ كذّبتا وقلبي لم تدَعْ

دقّاتُه شكّا ولا تأويلا

(ناجي، 1980م:8)[17] .

فالوزن (متفاعلن) من الكامل، والقافية رويّها "اللام" في جميع أبيات القصيدة، فالقافية مردوفة بحرف العلة (الواو والياء)، وهي بعد من المتواتر حيث فصّل بين ساكنيها متحرّك واحد مما خفّف على اللسان المخرج من كلّ بيت، ولعل ذلك قد دعا له ما يرغب فيه الشاعر لخلق إيقاع سريع يتوافق مع تعجّل الآيب، يدعم قولي استخدامه بدءا لبحر الكامل الذي يتّصف إيقاعه بالسرعة والقوة.

وهناك رباعيّات لناجي نفسه –وهي في شعره كثيرة- بعنوان "العودة" يقول في بعض أبياتها:

هذه الكعبَةُ كنّا طائفيها

والمصلّين صباحا ومساءْ

*

كمْ سجدنا وعبَدنا الحُسن فيها

كيف باللهِ رجعنا غُرباءْ

*

دار أحلاميْ وحُبّي لقيتْنا

في جمودٍ مثلما تقى الجديدُ

*

أنْكَرتنا وهي كانت إن رأتنا

يضحكُ النورُ إلينا من بعيدْ

*

رفرفَ القلبُ بجنبي كالذبيح

وأنا أهْتِفُ يا قلبُ اتّئِدْ

*

فيُجيبُ الدمعُ والماضي الجريحُ

لِمَ عُدنا ليت أنّا لم نعُدْ!

(ناجي، 1980م:13)[18] .

فالشاعر لم يلتزم رويّا واحدا كما هو واضح، ولكنه التزم في كلّ مجموعة –أربعة أشطار- التوحيد في رويّ شطري الصدر ونظيريهما في العجز، وهذا عملٌ مقبول فإن ناجي لم يخرج عن روح العروض وإن حاد عن مألوف النظم.

وقريب من فعل ناجي في قصيدته نجد قصيدة "الإكسير" لأبي شادي يقول فيها:

هو ساعةٌ الدهرُ يأبى منحها

إلا بتوقيت لها وقُيودِ

*

قد عُدتُ يا أملي إليكِ فجدّدي

عُمري بنفحةِ روحِكِ المعبودِ

*

ألقاكِ لُقيا خاشعٍ متعبّدٍ

والقلب يخفق للعناقِ سؤولا

*

فيصدّني هذا الخشوعْ كأنني

أجِدُ العبادةَ أن أعيشَ خجولا

(أبو شادي، بدون:36)[19] .

فلم يلتزم الروي بل نوّع بين الدال واللام، وواصل على هذه المشاكلة إلى أن فرغ من عمله. فالشعراء لم يخرقوا قواعد القافية في شيء إلا يسيرا، كما في محاولات التنويع في حرف الرويّ بصورة أو بأخرى، وعلى الرغم من أن مثل هذا العمل لا يرقى إلى درجة التجديد حيث لم يكسر قاعدة ولم يأت ببديل. لكن الذي قاموا به من التنويع في الروي يعد من التجديد في الشعر العربي.

1/ الفنون المستحدثة:

أفرد شعراء أبولّو حيزا كبيرا للموشحات، وقد أجادوا فيه أحسنوا، وللموشح الكثير من الصور؛ حيث ورد في مجلة بابل للدراسات الإنسانية "لم يحظ الموشّح باهتمام وعناية معظم الشعراء الحلّيين في مرحلة العصر الوسيط، فمن المديح ما قاله صفيّ الدين الحلّي في مدح الملك المنصور:

قد بدا عِزّه المهيبْ

 وبمنْصورِه انتصرْ

*

وأرى فتحَهُ القريبْ

مِن أبي الفتْحِ يُنتَظَرْ

*

ملِكٌ أضحكَ السيُوفْ

فبَكَتْ أعيُنُ العِدى

*

جدَعَتْ بيضُهُ الأنُوفْ

 وردَتْ كفُّه الصدى

(الربيعي، بابل، ع/1ص:5)[20] .

وهذا العمل نفسه نجده في قصيدة العودة لإبراهيم ناجي، حيث جعل القصيدة مقسّمة إلى وحدات كل منها يتكوّن من بيتين، جعل لهما رويّا موحّدا في العروضين، وجعل رويّا موحّدا خلاف الأول للضربين، إذ يقول:

هذه الكعبَةُ كنّا طائفيها

والمصلّين صباحا ومساءْ

*

كمْ سجدنا وعبَدنا الحُسن فيها

كيف باللهِ رجعنا غُرباءْ

*

دار أحلاميْ وحُبّي لقيتْنا

في جمودٍ مثلما تقى الجديدْ

*

أنْكَرتنا وهي كانت إن رأتنا

يضحكُ النورُ إلينا من بعيدْ

(ناجي، 1980م:13)[21] .

ومثل ذلك تماما نجده في قصيدته "ساعة لقاء"، يقول فيها:

يا حبيب الروح يا رُوح الأماني

لستَ تدري عطشَ الروح إليكا

*

وحنيني في أنين غير فانٍ

للردى أشربُه من مقتليْكَا

(ناجي، 1980م:10)[22] .

وأمثال هاتين في ديوان ناجي كثيرة. وللشابي في مجال التوشيح موشّحة من مجزوء الرمل، جاءت على صورة أخرى حيث يقول فيها:

غنِّني أُنشودة الفجر الضحوكْ

أيها الصّداحْ

*

فلقد جرّعني صوتُ الظلامْ

المًا علّمني كُرهَ الحياةْ

*

إنّ قلبي ملّ أصداء النُّواحْ

غنّني يا صاحْ

*

حطّمتْ كفُّ الأسى قيثارتِي

في يدِ الأحلامْ

*

فقضتْ صمتا أناشيدُ الغرامْ

بين أزهارِ الخريف الزّاويةْ

*

وتلاشَتْ في سُكونِ الاغترابْ

كصدى الغِرّيدْ

(الشابي، أغاني الحياة، 45)[23] .

والظاهر أن الشاعر استخدم القُفل المركّب إلا أنه لم يكتف بين البيتين بقفل واحد، وإنما بقفلين. وقد جدّد ما قام بالنظر إلى محورين: أحدهما: أنه لم يلتزم برويّ ثابت للأقفال كما هو معلوم في الموشّح، وثانيهما: أنه لم يوحّد رويّ الأسمات في البيت الواحد، ثم انظر إلى قوله:

كُفّ عن تلك الأغاني الباسمة

أيها العُصفورْ

*

فحياتي ألِفتْ لحنَ الأسى

من زمانٍ قد تقضّى وعسى

*

أن يُثيرَ الشدوَ في صمتِ الفُؤادْ

أنّه الأوتارْ

(الشابي، أغاني الحياة:46)[24] .

فإن الجرس أوضح منه في البيتين السابقين وأقفالهما، وذلك لأنه جانس بين لفظي (الأسى وعسى) في السمطين الداخليّين، وما قام به ليس تجديدا حيث عمد إلى فنّ مقعّد له، وتجاوز القاعدة والنمط الدارج من غير أن يأتي بجديد.

ولأبي شادي في هذا الضرب قوله:

استَمِعْ للأغاني *** فهْيَ مثل النسيمْ

كَمْ شدتْ بالأماني *** كمْ بكتْ بالحنينْ

إنْ تدعها تذبْ *** في مماتِ أليمْ

فاستَمِعها تُصبْ *** في جمالٍ ثمينْ

(أبو شادي، أبولّو، ع/3، مجلد1/255)[25] .

2/ الموسيقى الداخلية:

ما غفل شعراء أبولّو عن الموسيقى الداخلية، فقد تركوا لها حيّزا مقدّرا، ابتداء بظواهر الصوت التي تتصل بموسيقى الشعر عند ناجي، وتتجلي في إكثاره من بعض الحروف التي يمكن أن تساعد على إبراز الجوّ النفسي لمعانيه، وانظر إلى حرف السين في مقطوعة المنسي. وما يتمتّع به ذلك الحرف من خلق جوّ نفسيّ يتّسق وحالة النجوى الحزينة التي يسرّ بها الحبيب الحزين إلى المحبوب الناسي، حيث يقول:

متى يرقّ الحظّ يا قاسي

ويلتقي المنسيّ بالناسي

*

متى؟ وهل من حيلة في متى

وفي خيالاتٍ وأحداثِ

*

هدّ قراري جريها في دمي

وهمسُها في كرّ أنفاسي

(وادي، 1994م:76)[26] .

والسين –كما هو معلوم- من الحروف الضعيفة حيث إنه حرف مهموس، ليّن، منفتح مستفل، وكل أولئك الصفات تجعل من صوت السين صوتا ضعيفا يتناسب مع الحالة النفسية لذلك المتأوّه المنسي.

وليس الأمر حكرا على ناجي فقط، وإنما نجد الاهتمام بظواهر الصوت سمة ظاهرة في أعمال بقيّة شعراء أبولّو، فللشابي قصيدة "الجنّة الضائعة" يقول فيها:

كم من عهُودٍ عذبةٍ *** في غدوة الوادي النضيرْ

فضّيّة الأسحار مُذ *** هبةِ الأصائل والبكور

كانت أرقّ من الزّهــــ *** ـــــــور ومن تغاريد الطيورْ

وألذّ من سحر الصّبا *** في بسمةِ الطفل الغريرْ

قضّيتها ومعي الحبيــ *** ـــــبةُ لا رقيب ولا نذيرْ

(الشابي، 2005م:74)[27] .

هذه القصيدة بها القعقعة عالية؛ لما فيها من أصوات قوية توزّعت بين الشدة والجهر والإطباق والاستعلاء. مما خلق حركة شديدة النشاط في أبيات القصيدة، وأكسبها حيويّة تتناسب تناسبا تامّا مع شعور الحبور والسعادة التي يصفها الشاعر أن اتّصاله بالحبيب، فتجد صوت الدال مثلا قد تكرّر ثلاث مرّات في البيت الأوّل، وهو حرف شديد مجهور (حروف القلقة)، ثم اعتمد في باقي أبياته حروف الشدة والحروف المجهورة مادّة رئيسة لصياغة المفردات، وإن لم تكن الشديدة فالمتوسطة، كلّ ذلك خلق كمّا يلفتُ الانتباه لقوّة الحركة وعُلوّ الموسيقى، ويواصل على هذه الشاكلة حتّى يستنفد قصيدته، ولا يلاحظ استخدامه الرّاء رويّا، وهي حرف يكاد يكون من حروف القلقة حيث إنّه حرف مجهور متوسّط الشدة والحروف متوسطة الشدة هي أقوى الحروف بعد حروف القلقلة.

ولا يقلّ عن ذلك قوّة من حيث الصوت مقطع الاستشفاء لأبي شادي، والذي يقف فيه بصوت الموبّخ تارة، وبصوت الداعي إلى الاستمتاع بلذات الحياة تارة أخرى، وكلا الصوتين لا بد في نبرتهما من قوة على اختلاف الداعي لتلك القوة، حيث يقول:

دعِ الرحيلَ لدار الحبّ والغيد

واصبر على القيظِ في قاسٍ من البِيدِ

*

فمَدفع العين من حُسن تقرّ به

ولذّة السمعِ في أسْر الأغاريدِ

*

يحلو الهجير إذا صحّ الفُؤادُ به

عن النسيمِ بتعذيبِ وتسهيدِ

(أبو شادي، بدون:22)[28] .

حيث جعل رؤية صوتا شديدا مجهورا صوت الدّال، وبذاتِ الصوت افتتح بيته الأول، فالبيتُ الأول يكاد يخلو من حرف مهموس؛ إذ لم يتجاوز وجود المهموسة فيه الأربع مرات (الحاء/مكررة، الصاد والسين) بينما الصاد حرف نصف قويّ على الرغم من كونه مهموسا فهو حرف استعلاء وإطباقٍ وإصماتٍ، وذلك يجعله أقرب للقويّ، ومهمّ أن نشير إلى خاصّة التصفير التي وفّرها حرفا الصاد والسين بوجودهما المقدّر في المقطوعة.

كما نجد الموسيقى البديعية حاضرة في أشعارهم بصورها المختلفة. ولنقف على نموذج من التجانس الوارد في قصائدهم. ومن ذلك ما يقوله المهندس:

أيُّها الملّاحُ قُمْ واطْوِ الشّراعا

لِمَ نطوِي لُجّة الليل سراعا؟

(طه، 2004م:29)[29] .

فانظر ما صنعت كلمتا (شراعا وسراعا) من جرس موسيقيّ هيّأ المتلقّي سريعا لضبط الإيقاع النفسي لديه لاستقبال ذلك الرويّ الطويل –من حيث الزمن- الذي جعله عينا بين مدّين، واعتماد مثل هذ الرويّ كثير عند المهندس.

و يُعدّ شعراء أبولّو هم أوّل من استخدم البناء الدرامي والقصة الشعرية، وكان الهدف من ذلك إخراج القصيدة من قالب الغنائيّة المباشرة، وكان ذلك محاكاة لقصائد غربية حديثة مثل قصيدة آليوت الأرض الخراب، وقصائد أخرى تعتمد على توظيف أساطير قديمة، وقصص شعبية في التراث، ومما لا شك فيه أن حركة الشعر انتقلت بالشعر العربي من مجالاته الضيقة، وأغراضه ومعانيه التقليدية، إلى آفاق أكثر رحابة، ومرونة، وساقت ناصية الشعر حتى تغرف من منابع عدّة تراثيّة وفلسفيّة، ويونانيّة، وفرعونيّة، وغربيّة، ولا تعتمد فقط الأغراض القديمة مثل: المدح، والهجاء، والرثاء، وغيرها من المواضيع التقليديّة.

وقد جاء معظم شعر الجماعة جديدا في روحه وفي صياغته –في أحايين كثيرة-، جامعا بين الفكرة والعاطفة في إبداع فنيّ مرفه، وكذلك انطلقت مضامينهم الشعرية واتّسعت للشعر الوُجدانيّ وشعر الطبيعة الذي يمتزج بها، والشعور الصوفيّ والشعر الفلسفيّ، كما امتلأ شعرهم بالرموز الموحية والأخيلة البعيدة الخلاّقة، وحاولت قوالبهم هي الأخرى الانفلات من أسر التقليد والجمود فنوّعوا في القافية والبحور وجدّدوا في أشكالهم الشعرية، ومن ثَمّ ظهرت في أشعارهم أنواع من القصص والمسرحيات" (بكري:2012م:62، ومحمد، بدون:43)[30]، وغيرها من مجالات الإبداع الشعري الذي يدخل في دائرة ما يعرف بالأدب الموضوعيّ.

اتجه شعراء أبولو إلى إيثار الطبع والإيمان برسالة "الشعر بالشعر للشعر"، وتجاوب الشعراء مع الطبيعة، وتناول الموضوعات الإنسانية والعالمية، والاعتماد على القوة الشعرية في ذاتها، حتّى يؤدّي الشعر رسالته من إعزاز الخير وتقديس الجمال، وتحرّر الشخصية، وصدق العاطفة، والوحدة التعبيرية، والاعتقاد بتطوّر لغة الشاعر وأخيلته وتعبيره، بالإضافة إلى تطوّر نفسيته وأفكاره، ومثله العليا" (أيّوب، بدون:خ-ذ)[31].

وعلى هذه المبادئ استندت جماعة أبولّو لتجديد الشعر العربي من حيث الشكلُ، ومن حيث المضمونُ على السواء. وفي الواقع أن هذه المبادئ الشعرية هي التي سبق أن دعا إليها خليل مطران وفي موضوعات شعره، فيجب أن يكون باعثَ التجديد في الشعر وأبا روحيًّا للاتجاه الرومانسي في الشعر العربي الحديث، وأستاذا لشعراء المدرسة (أيّوب، بدون:خ-ذ)[32].

و قد برز دور الشاعر بوصفه فنانا في جماعة أبولّو، كما برزت أهمية التجربة النفسية والوجدانية في عملية الإبداع الشعري لا محاكة نماذج القدماء. وتحوّلت قضايا الشعر من قضايا المجتمع إلى قضايا الذات، واستكشف بعض شعراء الجماعة لغة شعرية جديدة متماسكة أكثر صفاءً ونقاءً من شعر التقليديين وأغراضهم الشعرية الموروثة.

و بهذا يتضح أن الاتجاه الرومانسي في الأدب العربي المتمثل في "أبولّو" قد سلك –على وجه التقريب- مسلك نظيرها الغربي في كثير من هذه المقاييس، من حيث المضمونُ ومن حيث الشكلُ على حد سواء، وكان اللون الغالب على نتاج هذه الجماعة هو اللون الرومانسي، وقد ساعدت عوامل مختلفة على بروز وبلورة هذا الاتجاه الذي عُرِفت به جماعة أبولّو (نشأت، 1967م:421)[33].

و إن معيار الشعرية يكمن في الإبداع والتجديد والتحوّل من النمطية الراسخةِ إلى التجريب المتحوّل؛ إذ "لا سبيل إلى أن يتجدد أدبنا تجديداً خصباً إلا إذا استزاد أدباؤنا وشعراؤنا من التعليم والثقافة بالقديم والجديد في وقت واحد" (طه حسين، 1978م:38)[34].

و اتّسمت القصيدة عند جماعة أبولّو بعدة سمات، وهذا التعدد يرجع لانفتاح الجماعة وثقافتهم على عدة حضاراتٍ وثقافات، فضلاً عن ميلهم للاتجاه الرومانسي والوجداني والذي سيأتي التفصيل عنه في الفصل الثالث. فيما يلي بيانٌ لبعض هذه السمات والصفات التي تميزت بها القصيدة (العطوي، 1430ه:135)[35].

و بهذا يشير الباحث إلى أهمية ألوان التجديد التي مارسها شعراء أبولّو على مستوى الفن الشعري عموما، من الناحية التنظيرية، و أبدعوا فيها عمليّاً، وكذلك أهمية التجديد في البناء الداخلي، و أصالة الرؤية الفنية والرسالة الشعرية التي يؤمنون بها وينادون إليها، و يمارسونها تطبيقيًّا فيما أنتجوه من فنون الشعر.

و هذا التيار الذي يمثله شعراء جماعة أبولّو لا يزال حتى الآن يؤثر -بصورة أو بأخرى- في كثير من الشعراء المعاصرين، بل لا يزال كثير من الشعراء يمثلون الامتداد الخصب لهذا التيار، ويتغنون في حماه ويتأثرون بتعبيراته و إيحاءاته و رمزياته الفنية المبتكرة، ويلونون شعرهم بأصباغه وألوانه مع فارق صغير اقتضته الفترة الزمنية والأحداث التي نعيش في ظلالها، ونذكر على سبيل المثال من هؤلاء الشعراء: نازك الملائكة، وفدوى طوقان، ومحمد فهمي، وملَك عبد العزيز، وجليلة رضا، وفوزي العنتيل، وعبده بدوي، وكيلاني سند، وصالح شرنوبي، وسعد درويش، وإمام الصفطاوي، وغيرهم من الشعراء (الدسوقي، 1960م:72)[36] .

وهذا يكفي للإجابة عن تساؤل قد يطرح نفسه بصيغة: هل تطور التيار التجديدي الذي أصّل له – تنظيرا و تطبيقًا- شعراء جماعة أبولّو؟ وما مدى تأثّر المشهد الأدبي الحديث و الحركة الشعرية المعاصرة بالدعوة التجديدية " الأبولّويّة"-نسبة إلى أبولّو"-؟.

***

خليل حمد

عضو رابطة الأدب الحديث بالقاهرة/الكاميرون

............................

الهوامش و المصادر:

[1] خليل حمد (2008)، مدرسة أبولّو الأدبية ودورها في تطور الأدب العربي الحديث، بحث منشور في مجلة روزاليوسف، العدد: 847، بتاريخ 28/04/2008م:14.

[2] العزب، محمد أحمد (1980م)، عن اللغة والأدب والنقد: رؤية تاريخية وفنية، القاهرة: طبعة دار المعارف:144

[3] أبو شادي، أحمد زكي (1926م)، الشفق الباكي: نظيم من شؤون وعواطف، طبعة المطبعة السلفية ومكتبتها:40

[4] العشماوي، محمد زكي (1980م)، الأدب وقيم الحياة المعاصرة، دار النهضة العربية:95-96

[5] بطرس، أنطونيوس (2005م)، الأدب: تعريفه، أنواعه، مذاهبه؛ طرابلس-لبنان: المؤسسة الحديثة للكتاب، الطبعة الأولى:314

[6] نشأت، كمال (1967م)، أبو شادي وحركة التجديد في الشعر العربي الحديث، دار الكاتب العربي:421

[7]- مجد خضر، مقال بعنوان: مظاهر التجديد في الشعر العربي، موقع موضوع، بتاريخ:3 أبريل 2016م.mawdoo3:com

[8]- فداء فاتوني، مقال بعنوان: مفهوم التجديد في الشعر العربي، موقع موضوع، بتاريخ: 18 ديسمبر 2018م.mawdoo3:com

[9] مندور، محمد (1963م)، الأدب وفنونه، محاضرات بمعهد الدراسات العربية العالية، سنوات الطبع: 1961م، 1962م، 1963م:9

[10] zilman,1966:28

[11] سيد بحراوي، تجديد موسيقى الشعر عند جماعة أبولو، نقلا عن Buttler,1930:87-88

[12] Benjamen,1973:13-14

[13] أهم المراجع التي استأنستْ بها المقالة في هذا الصدد:1-موسيقى الشعر عند شعراء جماعة أبولو للدكتور سيد بحراوي 2-مدرسة أبولو و دورها في الشعر العربي الحديث للكاتب خليل حمد 3-الإبداع و بنية القصيدة عند جماعة أبولو للباحثة يسرا عبد الله صالح.

[14] ناجي، الديوان:17

[15] طه، الديوان:258

[16] أبو شادي، الديوان:32

[17] ناجي، الديوان:8

[18] المرجع السابق:13

[19] أبو شادي، مرجع سبق ذكره:36

[20] الربيعي، محمد شاكر ناصر (بدون)، الفنون الشعرية المطوّرة والمستحدثة عند شعراء الحلّة في العصر الوسيط، مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية، كلية التربية الأساسية، جامعة بابل، العدد الأول:5

[21] ناجي، مرجع سبق ذكره:13

[22] ناجي، مرجع سبق ذكره:10

[23] الشابي، أغاني الحياة، 45

[24] المرجع السابق:46

[25] أبو شادي (1932م)، مجلة أبولّو، العدد الثالث، مجلد1/255

[26] وادي، مرجع سبق ذكره:76

[27] الشابي، مرجع سبق ذكره:74

[28] أبو شادي، مرجع سبق ذكره:22

[29] طه، مرجع سبق ذكره:29

[30] محمد، إبراهيم عطا (بدون)، الصورة الشعرية عند جماعة أبولّو:43

[31] أيّوب، سُهيل، مرجع سبق ذكره:خ-ذ

[32] المرجع السابق:خ-ذ

[33] نشأت، كمال، أبو شادي وحركة التجديد في الشعر العربي الحديث، القاهرة: دار الكاتب العربي، 1967م:421

[34] طه، حسين، تقليد وتجديد، بيروت-لبنان: دار العلم للملايين، 1978م:38

[35] العطوي، مسعد بن عيد (1430ه)، الأدب العربي الحديث، المملكة العربية السعودية: فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر:135

[36] الدسوقي، جماعة أبولو و أثرها في الشعر الحديث:72

 

في المثقف اليوم