قراءات نقدية

الشاعر السوري صقر عليشي في (عواقب الحرير) وَالحديث الشعري المثير (1-4)

مفيد خنسةهل نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا: إنّ مخيلة الشاعر هي أشبه بعدسة الكاميرا التي تتسم بسرعات عالية بالتجوال في الأمكنة التي يعرفها الشاعر، وفي الأمكنة المتخيلة التي لم تطأْها قدماه؟، لكنها قد لا تمتلك الدقة التي تتسم بها الكاميرات الحديثة ولا ينبغي لها، والشاعرُ حين يكتب الشعر إنما يستقبله من تلك العدسة الراصدة، ثم يرسله باستخدام اللغة، لتصبح القصيدة كالمرآة التي تعيد عكس الصور الملتقطة عن الخيال بإحكام الشاعر الذي يصور ويستحضر ويتخل ويبدع ثم يرسل، ويمكننا أن نتخيل كيف تكون الحالة مع شاعر ينقل تفاصيل حديث يدور بين امرأة فاتنة على حرير السرير وبين شاعرٍ يجيد الاستحضار والتخيل والإبداع والعشق، أما وقد فعل الشاعر صقر عليشي في عرض تفاصيل ذلك الحديث فإنني سأحاول إعادة القراءة لقصيدته (عواقب الحرير) إحدى قصائد مجموعته الشعريّة (الغزال) بتطبيق منهج النقد الاحتمالي.

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(تقول:

أجِلْ فـيَّ عينيكَ،

دقّقْ كما تشتهي عن كثبْ

إذا كنت تعرفُ،

هذا الجمال إلى

أين ترجعه في النسبْ؟

فقلت:

بلا شكّ، أخوالهُ

وأعمامُهُ من عيونِ الأدب

**

تراخيتُ واربدّ حولي

فضاء السريرْ

فقالت: بماذا تفكرُ؟

ما الأمرُ؟

قلتُ: يداكِ... يداكِ

... أخاف عواقب هذا

الحريرْ

**

وقلت:

أراك تشعين أكثر مما

هي العادةُ، اليومَ

هذا ضياؤك يمضي،

يغيّر لونَ الأثاث،

ويسعدهُ.

ما الخبر ؟

فقالت:

بلعتُ القمرْ)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الجمال في حوار بين عاشقين على السرير وعقدته (أجِل فيّ عينيك)، وشعابه الرئيسة هي: (تقول:/ أجِلْ فـيَّ عينيكَ،) و(دقّقْ كما تشتهي عن كثبْ) و(إذا كنت تعرفُ،/ هذا الجمال إلى/ أين ترجعه في النسبْ؟) و(فقالت: بماذا تفكرُ؟/ ما الأمرُ؟) و(فقالت:/ بلعتُ القمرْ). أما شعابه الثانوية فهي: (فقلت: / بلا شكّ، أخوالهُ/ وأعمامُهُ من عيونِ الأدب) و(تراخيتُ واربدّ حولي/ فضاء السريرْ) و(قلتُ: يداكِ... يداكِ.../ أخاف عواقب هذا/ الحريرْ) و(وقلت:/ أراك تشعين أكثر مما/ هي العادةُ، اليومَ) و(هذا ضياؤك يمضي،/ يغيّر لونَ الأثاث،/ ويسعدهُ/ ما الخبر؟)

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع يجمع بين الخبري والإنشائي، حيث يؤالف بين مستويين من الحوار بين الشاعر العاشق والعاشقة الجميلة، والعاشقة تبدو على درجة عالية من الجدية بينما الشاعر يبدو عاديّا طبيعياً إلى درجة يبدو فيها لا مبالياً، فيشكل الشاعر ما يشبه المفاجأة أو الصدمة لدى القارئ وقد يفسر هذا الأسلوب بالساخر، ولا أنكر أن هذا الأسلوب قد ينطوي على سخرية، لكنه ذو دلالات جمالية ومعنوية سأحاول توضيحها، فقوله: (تقول: أجِلْ فـيَّ عينيكَ،/ دقّقْ كما تشتهي عن كثبْ) يشير إلى أن هذا الحوار هو حوار افتراضي، لأن مثل هذا الحديث لا يحصل بين عاشق وعاشقة في لحظات الوجد، ولكن قد يحصل أن تتساءل فتاة غنوج بدلال للفت الانتباه والإثارة، وقد يحصل أن تطلب امرأة تعاني من نقص بجمالها من رجل معجب بها أن يجيل النظر إليها ليكتشف مواطن جمالها التي لا يقدر اكتشافه العامة من الرجال، وإذا كان المعنى القريب للتركيب هو أن العاشقة تطلب من الشاعر أن يجيل النظر فيها، وتضيف إليه بأن يدقق كما يشاء بالنظر عن قرب إليه كلها، فإن استخدام الشاعر المفردة(فيّ) هي التي تساعد على فتح إمكانات جديدة للمعاني الممكنة التي تزيد عن المعنى القريب، أي لا تقصد جمال وجهها ويديها وشعرها ونحرها وما ظهر من جمالها للعامة، إنما تعني ما خفي من جمال جسدها، ولذلك هي لم تكتف بأن ينظر نظرة عامة إلى جسدها المكشوف إنما تريده أن يمعن النظر كيفما أراد وأينما أراد إلى كامل الجسد، وقوله: (إذا كنت تعرفُ،/ هذا الجمال إلى / أين ترجعه في النسبْ؟) يبين أن السبب في طلبها ليس الإغراء الجنسي كما هو متوقع، ولكنها تأمره أن يجيل النظر فيها وأن يدقق كما يشتهي من أجل أن تتأكد إذا كان يعرف هذا الجمال، فإذا أخذنا المعنى القريب للقول: (إذا كنت تعرف هذا الجمال) نكون قد قتلنا المعنى وأتلفناه وأضعنا حق الجملة فيما تحمل من معنى، كما نكون قد خيبنا أمل الشاعر، فالجمال لا يعرف عن طريق المحاكمة العقلية، إنما يكون التعرف إلى الجمال عن طريق الذائقة، والمقصود من قول العاشقة، أي إذا كنت قد رأيت في حياتك مثل هذا الجمال، وقوله: (أين ترجعه في النسبْ؟) يضعنا أمام مفاجأة غير متوقعة أيضاً، فالهدف الثاني من طلبها له أن يدقق فيها هو أن تتعرف إلى يعيد نسب جمالها، وهو سؤال فيه تورية ومكر، لأنها تسأله عن نسب جمالها فيما تقصد محاولة إثارته بجمالها الفريد، وقوله: (فقلت: / بلا شكّ، أخوالهُ / وأعمامُهُ من عيونِ الأدب) يشير إلى أن الشاعر يبادلها مكراً بمكر، إذ يأخذ الأمر على غير ما قصدته، وهو النسب الحقيقي (أخواله) و(أعمامه) من جهة، ومن ثم النسب المجازي كما لو أنها قصيدة من عيون الشعر، أو أنها قطعةٌ أدبيّة نادرة، وهذا هو المعنى القريب، أما المعنى البعيد فيوحي بأن ما يماثل هذا الجسد مما سلف من النساء الجميلات قد كتب الشعراء والأدباء فيها من عيون الأدب الذي بقي خالداً عبر الزمن، وقوله: (تراخيتُ واربدّ حولي/ فضاء السريرْ) أي أصبح رخواً خائر القوى وقد تغير لون الفضاء الذي يحوي السرير الذي يجمعهما معاً، وقوله: (فقالت: بماذا تفكرُ؟/ ما الأمرُ؟) يشير هذا الترادف بسؤالين متتابعين من دون أن تترك فرصة للجواب، إلى أن سؤالها الأول (بماذا تفكر؟) لم يكن معبراً تماماً عن الحالة التي انتابته، فللوهلة الأولى خالت أنه قد انشغل فجأة بقضية ما، ولكنها تستدرك بعد أن لاحظت أنه متراخٍ خائر القوى، لتسأله: (ما الأمر؟) أي ماذا حصل له؟ وقوله: (قلتُ: يداكِ... يداكِ... أخاف عواقب هذا/ الحريرْ) أي إنه لم يعد قادراً أن يصمد أما هذا الجمال المثير، وهو إن قال: يداك.. يداك فإنه يقصد جسدها المثير كله فاكتفى بذكر يديها وقد تملكه الخوف من العواقب التي يمكن أن يسببها ذلك الجمال المثير، وقوله: (وقلت: / أراك تشعين أكثر مما/ هي العادةُ، اليومَ/ هذا ضياؤك يمضي، / يغيّر لونَ الأثاث،/ ويسعدهُ. / ما الخبر ؟/ فقالت: / بلعتُ القمرْ) يشير إلى مقدمة مديحٍ مبالغٍ بها من الشاعر العاشق حين يرى صديقته وقد بدت أكثر جمالاً وروعة وبهاءً، ويزعم أنه يراها في ذلك اليوم تشع أكثر من أيّ يوم مضى، حتى أنه وجد ضياءها يغير لون الأساس من شدة سطوعه فتبدو أكثر جمالاً سعادةً فيسألها: (ما الخبر؟) وحين تقول: (بلعت القمر) فإن ذلك يشير إلى معنيين الأول أن تأخذ العاشقة سؤال الشاعر العاشق على محمل الجد فيكون الجواب مناسباً للسؤال بعد المقدمة، بأن جمالها مستمد من جمال القمر، لأن جمال القمر لا يوازيه أي جمال لأن نوره يفوق كل وصف، والمعنى الثاني أن تأخذ العاشقة كلام الشاعر العاشق في سياق المبالغة في وصف جمالها بما ليست هي عليه، فيجيء جوابها مبالغاً بما لا يمكن أن تكون عليه من الجمال، فتبادله الموقف ذاته، وفي الأحوال جميعاً جوابها يحدث إثارة للذهن ومتعة للمتلقي، لمفاجأته بما لا يتوقع.

المعاني والبيان والبديع:

(1) المعاني:

القصيدة مبنية عموماً على فعلين أساسيين هما: (تقول) و(أقول) والزمن مضارع كما هو واضح، وهذا يشير إلى الزمن الحاضر، وكأن الحدث ما زال مستمرّاً، والقول: هو كل لفظ ينطق به اللسان، وإذا كان القول تام المعنى، دعي (كلاماً)، وهكذا فالكلام: هو قولٌ تام المعنى، و(قولها) و(قوله)، ليس بالضرورة على صيغة حوارية، وليس على طريقة السؤال والجواب، إنما الأقوال لديهما، قد تتباين أو تتخالف أو تتطابق أو تترادف ... وإن كان المناخ العام يشير إلى وجودهما معاً هي التي تقول، وهو الذي يقول، متقاربين إلى درجة الحب، ولكنهما متباعدان إلى حد الاختلاف، فالأسلوب في قولها: (أجل فيّ عينيك) إنشائيّ طلبي، والأسلوب في قولها: (دقق كما تشتهي عن كسب) وقولها: (هذا الجمال إلى / أين ترجعه في النسبْ؟) وقولها: (بماذا تفكرُ؟/ ما الأمرُ؟) وقوله/ (ما الخبر؟) إنشائيّ طلبي أيضاً، لأن كل جملة من هذه الجمل لا تحتمل التصديق أو التكذيب، والأسلوب في قوله: (بلا شكّ، أخوالهُ/ وأعمامُهُ من عيونِ الأدب) وقوله: (تراخيتُ واربدّ حولي/ فضاء السريرْ) وقوله: (يداكِ... يداكِ/ أخاف عواقب هذا الحرير) وقوله: (أراك تشعين أكثر مما/ هي العادةُ، اليومَ) وقوله: (هذا ضياؤك يمضي،/ يغيّر لونَ الأثاث،/ ويسعدهُ. ) وقولها: (بلعت القمر) خبري، لأن كل جملة من هذه الجمل تحتمل الصدق أو الكذب، وقوله: (أجِل فيّ عينيك) أسلوب قصر، لتقديم الجار والمجرور على المفعول به (عينيك)، وقوله: (دقّقْ كما تشتهي عن كثبْ) فالمعنى (كما تشتهي) اعتراضي زائد لا يؤثر حذفه على معنى الجملة، أي (دقق عن كثب). وقوله: (يداكِ... يداكِ) توكيد لفظي. وقوله: (بلا شكّ، وأعمامُهُ من عيونِ الأدب) توكيد.

المعنى المقدر: إذا أمعنا النظر إلى قول الشاعر: (إذا كنت تعرفُ،/ هذا الجمال إلى/ أين ترجعه في النسبْ؟)، نلاحظ أن الجملة: (إذا كنت تعرف) تتألف من أداة الشرط غير الجازمة (إذا) وهي ظرفية حينية متضمنة معنى الشرط، و(كنت) فعل ماض ناقص والتاء في محل رفع اسم كان، و(تعرف) فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، وجملة (تعرف) في محل رفع خبر، والتفصيل هنا ليس بقصد التعليم إنما بهدف أن نبين المعنى المقدّر ماذا يعني؟، أولاً الفعل (عرف) فعلٌ متعدّ، غير أن الشاعر حذف ما يتعدى إليه، وأبقى ما يدل عليه، وهو (هذا الجمال) ليصبح المعنى المقدر المحذوف (أنساب الجمال) أو (أصول الجمال) أو (مصادر الجمال) أو(معاجم الجمال)، ومن دون شك فإن قوله: (هذا الجمال) هو مبتدأ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً به للفعل (تعرف)، لأن هذا المعنى هو المعنى القريب الظاهر الذي يشير إلى المعنى المقدر المحذوف، وقد تقدّمَ التوضيح في الفقرة الأولى من المعنى، ثم إذا نظرنا إلى التركيب المشطور عند حرف الجر (إلى)، ليبدأ الشاعر شطرة جديدة باسم الاستفهام (أين)، سنتبين أمرين:

الأول: تقديم (هذا الجمال) على الفعل وهو أسلوب قصر، لتقديم ما حقه التأخير، أي الأصل: (إلى أين تُرجِع هذا الجمال في النسب؟) فيصبح (هذا الجمال) اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، والجمال بدل من اسم الإشارة، بحيث لا يكون (هذا الجمال) مفعولاً به للفعل (تعرف) كما ذكرنا، ولا يكون مفعولاً به للفعل (ترجعه)، من هنا كان هذا القطع الدال عند حرف الجر (إلى) بالفصل بين الجملتين لعدم اكتمال المعنى إلا بالتقدير لما هو محذوف.

الثاني: إن (أين) تشير إلى الظرفية المكانية، وكأنها تسأله عن النسب المكاني المنحدر منه هذا الجمال، وهذا المعنى القريب الذي لا يريده الشاعر وإن كانت الجملة تحتمل هذا المعنى، من حيث إذا كان هذا الجمال صحراوياً أم ساحليّاً أم من البادية أم جبليّاً... الخ، ولعل المعنى المراد هو: إذا كان الشاعر خبيراً بمعرفة ما يروى عن النساء الجميلات في التاريخ الإنساني فجمالها يشبه جمال أي امرأة من اللواتي عرفهن؟!. والنسب في الجمال يشير إلى أنه قيمة إنسانية كبرى.

يقظة المعنى:

ليس على طريقة الفيلسوف الوجودي والشاعر الدانماركي سورين كيركغارد (1813-1855) الذي قال بدوخة الحرية، ولكنني استخلصت هذه التسمية منه وذلك بما يتناسب مع الأسلوب الذي تتسم به هذه القصيدة عند الشاعر صقر عليشي، حيث يعتمد في كل فرع من فروع القصيدة، أو لنقل في كل تركيب شعري مستقل فيها، على تصوير مشهد من خلال قولها أو قوله، بحيث يبدو كل منهما غافلاً عما يريد منه الآخر، فيأخذ القارئ أو المتلقي إلى أجواء ذلك المشهد الذي يوحي بنتائج منسجمة مع المقدمات المثيرة التي يمهد لها، حتى تتملكه الغفلة التي يعيشها أحدهما أو كلاهما، لتأتي خاتمة التركيب الشعري كالوخزة التي توقظ المتلقي من هذه الغفلة، ثم تجعلنا نتأمل المشهد الشعري من جديد، فنعيد ترتيبه اعتماداً على هذه اليقظة التي وفرها المعنى الواخز من أجل اليقظة والخروج من حالة الغفلة والشرود والتعمية التي تشكلها مظاهر الإثارة والرغبة إلى حالة من الوعي العميق للمشاهد الشعرية المرسومة بصدق وحرفية.

وخزة أولى: (فقلت/: بلا شكّ، أخوالهُ/ وأعمامُهُ من عيونِ الأدب)

تتمركز الوخزة عند قوله: (من عيون الأدب) فتوقظ لدينا الوعي للمعنى المراد والمعنى المحتمل، فما علاقة جمالها بعيون الأدب، أما المعنى المراد: أنه كُتب بجمال جسد المرأة ما يصنف بعيون الشعر والأدب، وأما من المعاني المحتملة: أنه لا يعرف أنساب الجمال، أو أنه يسخر من الجمال الحسي ويمجد الجمال المعنوي، أو دعابة بين عاشقين، ... الخ. وهنا ليس القصد أن يضيقَ المعنى ليصبح على مقاس الكلام، بقدر ما نقصد خاصية الأسلوب لدى الشاعر في هذه القصيدة، ولا أغامر بالقول: لعلّ هذا الأسلوب هو أحد أهم ميزات تجربته الشعرية عامة لأن مثل هذا الاستنتاج لا يكون إلاّ من خلال التطبيق النقدي على التجربة الشعرية عامة.

وخزة ثانية: قوله: (قلتُ: يداكِ... يداكِ... أخاف عواقب هذا/ الحريرْ)

تبدو غافلة عن سبب تراخيه، حتى تظنه أنه ينشغل عنها بأمرٍ ما! وهما على سرير الحب!، وحين تلاحظ أن حالته ليست بسبب انشغاله عنها، تتأكد أن أمراً مفاجئاً قد اعتراه، ثم تبدأ الوخزة بقوله: (يداك .. يداك ..)، ثم تتركز الوخزة بقوله: (أخاف عواقب هذا الحرير)، لتوقظ المتلقي من آثار المقدمات التمهيدية التي تشغل الذهن، وتثير العاطفة، وتحرك الإحساس، وتستنهض الرغبة، بجواب واخزٍ ومؤثر، وبعدها لا بد من التأمل من جديد، لنتأكد أن المقصود ليس يديها، لأن يديها مكشوفتان على الدوام، في السرير وغيره، إنما يقصد حرير الجسد المكشوف على السرير، الجسد الذي طلبت منه أن يجيل عينيه فيه، الجسد الذي سألته إلى أين يرجعه في النسب؟، فأوهم المتلقي بتغافله عن تأثير ذلك الجمال الفتان عليه في الوخزة الأولى، وفي الوخزة الثانية يحاول أن يتعامى عن حرير الجسد الذي يعنيه بحرير اليدين، أي ذكر المعنى القريب في حين أنه يقصد المعنى البعيد. وهذا ضربٌ من التورية.

(2) الصورة والبيان:

على الرغم من أن نمط القصيدة لا يعتمد بصورة أساسية على التخييل والصور البيانية، إلاّ أن الخيال يبدو حاضراً في هذا الفرع، فقوله: (هذا الجمال إلى/ أين ترجعه في النسبْ؟) استعارة، وقوله: (بلا شكّ، أخوالهُ/ وأعمامُهُ من عيونِ الأدب) استعارة، وقوله: (هذا ضياؤك يمضي،) استعارة، وقوله: (بلعت القمر) كناية عن شدة توهجها وجمالها.

(3) البديع:

قوله: (... عن كسبْ، .... في النسبْ، .... من عيون الأدبْ) سجع، يطرب الأذن ويثير الانتباه، وقوله: (... فضاء السريرْ، و... عواقب هذا الحريرْ) سجع، وقوله: (... بماذا تفكرُ؟ و .... ما الأمرُ) سجع، وقوله: (... ما الخبرْ، و ... بلعتُ القمرْ) سجع، وقوله: (بلا شكّ، أخوالهُ/ وأعمامُهُ من عيونِ الأدب) تورية ذكر المعنى القريب ويعني المعنى البعيد كما بيّنا، وقوله: (يداكِ... يداكِ/ أخاف عواقب هذا / الحريرْ) تورية.  

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(إنه صوتها...

ليس يؤمنُ جانبهُ صوتها..

حيثما مرّ ليس من مادّةٍ

غير قابلةٍ لاشتعالِ ...

ولاحظ أمري صديقي ...

تساءل: مالك؟

قلتُ له: وعكةٌ وتمرُّ،

أصابتْ جبالي

**

تحاول أن تتقصى غموضي

وتبحث في ما وراء الضبابْ

وتفتح زراً يُطل

على باحة الوجدِ

تفتح آخرَ

يفضي إلى جهة في السحابْ

**

أقول بقصد المزاح:

أرى الشوق عندك

في آخر الشوط صارا

تمدّ يديها إلى صدرها

وتخرج شوقاً جديداً.. جديداً

كأثوابنا ليلة العيدِ

أيّام كنا صغارا

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الأثر الذي تتركه العاشقة على الشاعر العاشق وعقدته (إنه صوتها) وشعابه الرئيسة هي: (ليس يؤمنُ جانبهُ صوتها.. ) و(حيثما مرّ ليس من مادّةٍ/ غير قابلةٍ لاشتعالِ) و(تحاول أن تتقصى غموضي/ وتبحث في ما وراء الضبابْ) و(وتفتح زراً يُطل/ على باحة الوجدِ/ تفتح آخرَ/ يفضي إلى جهة في السحابْ)، أما شهابه الثانوية فهي: (ولاحظ أمري صديقي .../ تساءل: مالك؟/ قلتُ له: وعكةٌ وتمرُّ،/ أصابتْ جبالي) و(أقول بقصد المزاح: / أرى الشوق عندك/ في آخر الشوط صارا) و(تمدّ يديها إلى صدرها/ وتخرج شوقاً جديداً.. جديداً/ كأثوابنا ليلة العيدِ/ أيّام كنا صغارا).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، ومن الواضح أن المشهد فيه مختلف عن المشهد في الفرع الأول، فبعد أن كان الحوار بينهما، هي وهو على السرير، أصبح المشهد في مكان عام ليبين الشاعر أثرها عليه، فقوله: (إنه صوتها ...) يشير إلى أنه عرفها من صوتها من دون أن يراها، لأن صوتها ترك في نفسه أثراً مفاجئاً عند سماعه، وقوله: (ليس يؤمنُ جانبهُ صوتها...) أي لصوتها تأثير قوي سلبي لدى السامع لذلك لا يؤمن جانبه، وبصورة خاصة من جهة الشاعر، وقوله: (حيثما مرّ ليس من مادّةٍ/ غير قابلةٍ لاشتعالِ)، ليبين شدة أثر صوتها على الأشياء التي يمر بها، فندرك أن الأثر الذي بدا سلبيّاً في الجملة السابقة، هو أن صوتها أثار في نفسه الرغبة والاشتهاء، وأشعل بداخله ما لم يكن قابلاً للاشتعال من دونه، وهذا ذمّ في مقام المدح، والمعنى هنا مجازي، وقوله: (ولاحظ أمري صديقي ... تساءل: مالك؟) أي بدت آثار صوتها عليه حتى لاحظ صديقه الذي يرافقه في مكان عام علامات تلك الآثار المفاجئة، فسأله عما جرى له، وقوله: (قلتُ له: وعكةٌ وتمرُّ، أصابتْ جبالي) أي أصابت مرْضةٌ عارضةٌ الموقع الأكثر صلابة وثباتاً في كيانه، ومعنى (وعكة وتمرّ) أي أن هذه المرضة العابرة ستنتهي مع انتهاء مرور صوتها، لذلك هو يعرف أن الوعكة ستمر مع مرور المسبب لها، وقوله: (تحاول أن تتقصى غموضي) أي تحاول أن تكشف عما خفي منه عنها، وقوله: (وتبحث في ما وراء الضبابْ) أي تحاول أن تتجاوز في الكشف كل ما يعكر صفو رؤيتها، فتبدد الضباب لتبحث عما وراءه من المستور، وقوله: (وتفتح زراً يُطل/ على باحة الوجدِ/ تفتح آخرَ/ يفضي إلى جهة في السحابْ) أي تفتح زر الضباب الذي يحجب عنها الرؤية، كما تفتح زر قميصه عن صدره الطافح بالشوق، ولكنها لا تكتفي، فتفتح زرّاً آخر ينتهي إلى جهة في السحاب الذي يبدو أكثر كثافة وأكثر غموضاً، أي إن محاولتها فاشلة في تقصي غموضه، ويمكن أن يكون المعنى أنها تفتح زرّاً آخر حتى تصل إلى جهة الخصب والعطاء الذي يشبه الغيم حين تنسكب أمطاره على الأرض العطشى، وقوله: (أقول بقصد المزاح: / أرى الشوق عندك/ في آخر الشوط صارا) أي يقصد المزاح إنما يعني الجِدية، محاولاً أن يبين لها أنها وصلت إلي ذروة الشغف ونفد عندها الحب، وقوله: (تمدّ يديها إلى صدرها/ وتخرج شوقاً جديداً.. جديداً / كأثوابنا ليلة العيدِ/ أيّام كنا صغارا) أي تفاجئه بأن لديها شغفاً ليس له نهاية، فتخرج من صدرها ما يظهر شوقاً جديداً يبعث لديه الفرح العميق، مثلما كان يفرح الأطفال بأثواب العيد الجديدة حين كانوا صغارا.

***

مفيد خنسه

 

 

في المثقف اليوم