قراءات نقدية

زهير بن أبي سلمى والحرب!!

صادق السامرائيزهير بن أبي سلمى واحد ثلاثة من شعراء العرب قبل الإسلام الذين يُعدون في مقدمة شعراء زمانهم، وهم، إمرؤ القيس، زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني، وقد أفاض في مدح هرم وأبيه سنان، وله فيهما قصائد كثيرة وقصته معهما معروفة وطويلة.

وإبنه كعب الذي يُعد من فحول الشعراء وجهابذتهم وهو صاحب قصيدة البردة المشهورة.

ويُذكَر أنه كان شديد العناية بتنقيح شعره وعرفت قصائده بالحوليات، إذ كان يقضي عاما كاملا في تنقيحها وطبخها في أفران أعماقه الشعرية والفكرية.

ويبدأ معلقته بذات الأسلوب الذي عهدته العرب، بالتغني بالحبيبة المفترضة وتذكّر الأيام الخوالي، وما كانت تجود به من روافد الذكريات العِذاب.

ويمعن بوصف دار الحبيبة وكأنه حي في ذاكرته التي أخذت تفتش عن شواهد تعززها وتوقظها.

ويمضي بالوصف والتصوير والتعظيم والتبجيل، وتحويل الحالة إلى عالم خيالي تزدحم فيه المشاهد الدالة على سموه ورقاء الذين كانوا فيه.

ولا يُعرف لماذا قال عشرين حجة ولم يقل أربعين، لأن حرب داحس والغبراء إستمرت أربعة عقود، وكأنه يشير بأساليب ساخرة وبإستخفاف وتسفيه للحرب، على أنه أمام دار كان يعرفها قبل عشرين سنة، واليوم يجد صعوبة في تلمس ملامحها، فكيف بحرب تدوم أربعين سنة وما خمدت أسبابها وانطفأ أوارها.

وكيف لأجيالٍ لا تدري لماذا أضرمت، وتتواصل في سفك الدماء والإستنزاف الفنائي لوجود القبيلتين العربيتين.

ويمضي في البحث عن أدلة تذكره بتلك الحالة التي كان يعرفها.

وكالباحث الجاد المجتهد يريد التيقن من أن الدار التي يقف عندها هي تلك الدار التي عرفها ولا يريد توهمها.

فيعلل نفسه بالحجارة وما عليها من آثار النار والدخان، وتنثال حالات تفاعله مع أهل الدار وكيف كان يخاطبهم، ويمضي بوصف الحركة والحياة، وكأن كل المشاهد التي كان يعهدها قد حضرت، واخذ بوصفها كما عهدها أو أشرقت في خياله.

وكعادة الشعراء العرب لا يفوتهم التغني بالنساء والإمعان بتعظيم جمالهن، ورؤيتهن كما يتصوروهن لا كما هن عليه، ويمعن بالوصف والتغزل بتلك المشاهد النابضة في مخيلته، وما هي إلا تهيؤات وحالات رمزية تحث المستمع على أن يتذكر ما هو جيد وينكر ما هو سيئ.

وكأنه يريد أن يقدم أمثلة على ضرورة إستحضار الجميل ونبذ القبيح، فالجميل يصنع الحياة ويأخذها إلى آفاق الرقاء.

وربما كان يريد من القوم الإهتمام بما يعزز الحياة وينميها، لا أن يمعنوا بمضاداتها ومعوقاتها والإجتهاد بقتلها وتدميرها.

وهكذا يمضي في مسيرة التعبير الإيجابي وتأكيد أهمية الحياة والتفاعل بمفردات الفضيلة والجمال.

ويتواصل بالترغيب والتحبيب، وكأنه يقدم علاجا ترويحيا للحشود المتحاربة، ويحاججهم على أن الحياة ليست حروبا كلها، وعليهم أن ينظروها بأعين أخرى.

وبوصفه قصة الحياة الجميلة الزاهية في البادية يرغّب فيها ويحث على صناعتها، ويريد بالحجة والدليل تثبيط همم القتل المتبادل.

وبعد الوصف الممتع للحياة وضرورتهم لها، يذكرهم بالبيت العتيد الذي شاركت ببنائه القبيلتان، وبأنهما أصحاب هدف إنساني مشترك.

ويطري على سادة ذبيان (هرم بن سنان والحارث بن عوف) اللذان قررا إيقاف الحرب بعد أربعين سنة. ويذكرهم بأنهما قد عالجا الجراح بالديات من الأبل، وبهذا طببوا الويلات التي عصفت بالقبيلتن، فالحروب لا تفني البشر وإنما الأوبئة سيدة الفناء.

أكثر من ثلث القصيدة يتعلق بآليات التفاعل التي دارت بين القبيلتين، وكان شاهدا عليها بعد أن عمّر لأكثر من ثمانين حولا، وحاولتُ أن أكثفها فيما تقدم، وتفاصيل الحرب ومتاهاتها معروفة، وتناولتها الكتب والدراسات والمقالات والبحوث.

فالأبيات الخمسة والعشرون الأولى من المعلقة ملحمة رمزية ساخرة بالحرب بأسلوب زمانها، وكأنه يهزأ من حرب داحس والغبراء، التي يتعجب من تواصلها لأربعة عقود، وهو يضرب لهم مثلا عن دار عافها قبل عقدين وما تعرف عليها بسهولة، فكيف بهم يتقاتلون طول هذا الوقت لأسباب واهية داستها سنابك السنين ومات أصحابها.

لكنه يفسر الإستمرارية بأن للحرب أثرياؤها، وأنها تبدو كالتجارة المربحة التي تغدق على الطرفين وابل الديات والفديات، وكأن القبيلتين تتاجران بأبنائهما فلكل قتيل ثمن!!

ويبقى السؤال الذي يصعب الجواب عليه، هو كيف لحرب تستمر لأربعين سنة ولا توقظ عقول حكماء القوم قبل هذا الأوان، وما هي ديناميكية النفوس المتحاربة؟!!

ووجدت الإنتقال إلى ما أريد النظر إليه يتركز في الأبيات التي إخترتها من المعلقة.

ويوصي القبيلتين بالحفاظ على العهد وعدم نكثه.

فلا تكتمن الله ما في نفوسكم

ليخفى ومهما يُكتم الله يعلمِ

هذا بيت مذهل ومدهش إذا نُظر إليه في زمانه ومكانه، فهو يحذر بأن الله مطلع على ما تكتمونه في نفوسكم وتتوهمون بإخفائه، فأن الله رقيب عليكم ويعلم ما تخفي الصدور، فكونوا صادقين في قولكم وثابتين على عهدكم، لتخمد نار الحرب التي أكلتكم.

يؤخر فيوضع في كتابٍ فيدخر

ليوم الحساب أو يعجّل فينقمِ

ويتبعه ببيت مدهش حقا هو الآخر، إذ يشير إلى أن ما تقترفونه أو تقومون به سيحفظ في كتاب وستحاسبون عليه عاجلا أم آجلا!!

وما الحرب إلا ما علمتمُ وذُقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَمِ

فحقيقة الحرب ما يقاسيه المتحاربون وما يكابدونه من القلق والإضطراب وفقدان الأمان، فلا يعرف الإنسان إن سيمر ليله بسلام، وهل سيعيش لبعض الوقت لأنه عرضة للقتل من الجهة التي يتحارب معها، فيحاجج القبيلتين ويحثهما على وعي حقيقة الحرب، وليس ظنونها وتوهمها وتصورها على غير حالها المرير.

وهذا إستنتاج راجح يساهم في تأييد إرادة السلام والوئام.

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

وتضْرَ إذا ضريتموها فتضرمِ

فالحرب ما أن تستعر حتى تشب كالنار في الهشيم، وتتواصل متقدة بتزايد خسائرها وآلامها وموجعاتها، التي تزيدها ضراوة وإشتعالا، تلك حقيقة الحروب بين البشر منذ الأزل، لأنها كالدوامة الشديدة التي يسقط فيها الناس فتبتلعهم بشراسة متنامية.

فتَعرُككم عرك الرحى بثقالها

وتلقح كشافا ثمّ تُنتجُ فتتئمِ

وعندما تدور رحى الحرب فأنها تطحن المتقاتلين وتسحقهم سحقا مروعا، وفيها تتوالد الشرور وتتعدد وتتعقد وتتشابك، حتى تجد الأطراف في محنة الفناء المستقيد الطالع نحو سفك المزيد من الدماء، وتأجيج البغضاء والكراهية والأحقاد، التي تمضي في دفع الناس إلى ما يهلكهم.

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم

كأحمر عادٍ ثم تُرضع فتفطمِ

ومن نتائج الحروب الطويلة أنها تتسبب بولادة أجيال لا ترى الحياة إلا سفك دماء، ومنازلة كريهة تجرد وجودهم من معانيه، وترميهم في جحيمات الويلات والتداعيات الجسام.

فهذه الحرب الطويلة قد أوجدت أجيالا من القبيلتين أوهمتهم بأن القتال هو الحياة، والقيمة الكبرى للموت المتبادل بينهما، فيموت أكثرهم ويتطفل على موتهم بعضهم، فيتحقق الإثراء الغاشم المهين.

فتُغلل لكم ما لا تُغِلّ لأهلها

قرى بالعراق من قفيزٍ ودرهمِ

وكأنه يريد القول في هذا البيت بأن مصائب قوم عند قومٍ فوائد، بأسلوب ساخر ومفند لتماديهم في الحرب الشرسة، التي أوجعتهم بقتل رجالاتهم وتأتيم أجيال من أبنائهم، والذين يستثمرون فيها كأنهم لا يرون أن مضارها فاقت منافعها بأكثر مما يتصورون، فلا فائدة من الحروب مهما توهمنا غير ذلك.

ويمضي بعد ذلك في عشرة أبياتٍ واصفا ما جرى بعد الصلح من قتل، وكيف يبرر القاتل قتله، ومَن هو وما يدور في خلده، وكيف أن سادة ذبيان أخمدوا الفتنة التي كادت أن تنطلق بالفديات الجزيلة.

ثم يلقي بببيته المتهكم برمزية عالية، وفيه شيئ من الجزع من سلوك البشر الذي لا يتغير، ويمضي على طبعه العدواني فيقول:

سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأمِ

فيشير إلى ملله من شدائد الحياة ومرارتها، وكأنها لا تستحق العيش لما فيها من الشرور، ويشتد به الغضب عليهم، وكأنه ينبههم بأن الحياة لا تستحق هذه الحروب البلهاء الغبية التي أزهقت أرواح الأبرياء، وأشاعت الحزن والبغضاء.

وأعلم في اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي

وينادي القوم بحقيقة الأمور في الدنيا، فنحن ندري ما مضى وحضر ولا نعرف ما سيأتي، وعلينا أن نتعظ ونتعلم ونرتقي إلى الحلم والحكمة، ونستعمل عقلنا ونفعّله، فما فائدة هذه الحرب؟!

رأيت المنايا خبط عشواء مَن تُصب

تُمته ومن تُخطيئ يُعَمّر فيَهرمِ

ويعيدهم إلى حقيقة الدنيا وواقعها، ويُعلمهم بأن الموت يتخبط الأحياء بعشوائية، ومَن يصبه يرديه ومَن يفلت منه يعمر لبعض الوقت ثم يموت، فلا داعي لإستعجال موتكم لأنكم ستموتون عاجلا أو آجلا في هذه الدنيا، التي ما أبقت على ظهرها حيا قبلكم، فلماذا التقاتل لأتفه الأسباب؟!!

ومن لم يُصانع في أمورٍ كثيرةٍ

يُضرَّس بأنيابٍ ويوطأ بمَنسمِ

وهذا درس متمخض عن الحرب خلاصته أن الإنسان عليه أن يتعلم المهارات السياسية، بدلا من التفاعلات الوحشية التي تعكس مواقف طريقي أو لا طريق، أنت معي أو أنت عدوي، فهذه آليات تفاعل بلهاء تدفع إلى سفك الدماء والذل والهوان، فالإنسان قوي بمعيته وما حوله من أسباب التمكن والإقتدار، فالقبائل قوية ببعضها وضعيفة إن تقاتلت وتناهكت.

ومن يجعل المعروف من دون عِرضه

يَفرهُ ومن لا يتق الشتم يشتمِ

ويدعو إلى المعروف والإحسان ويؤكد أهميتهما في السلوك ما بين الناس، لأنهما يصونان وكأنهما دريئة توقي الإنسان من الشرور، فيحث القبيلتين على تعلم العمل بالمعروف والإحسان، بدلا من الكراهية والأحقاد والإمعان بالقتل الشديد الذي لا يجلب ما هو صالح للقوة والبقاء.

ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضله

على قومه يُستغنَ عنه ويّذمَمِ

ويشجع الأثرياء من القوم على البذل والعطاء وينهاهم عن البخل، ففيه ضعف وفقدان لقيمتهم ودورهم في المجتمع، وعندما يبذلون ما عندهم كأنهم يسقون نبتة الوجود الإنساني الطيبة بسلاف المحبة والألفة والأخوة.

ويبدو أن للمال دوره في تهذيب السلوك والإنتقال به إلى مراتب سامية عند القبائل في ذلك الزمان، ولا يزال دوره مؤثرا حتى اليوم.

ومَن يوفِ لا يُذّمم ومَن يُهدَ قلبه

إلى مطمئن البِرِ لا يتجممِ

ويؤكد على أهمية الوفاء بالعهد وضرورته لإستقامة الحياة وعزتها وكرامتها، وينهى عن التظاهر بما لا يتوافق مع المطمور في الأعماق، لأن في ذلك نفاق وعدوان على القيم الصالحة والأخلاق الحميدة، التي هي عماد البأس والإقتدار. فالتزموا بعهودكم ومواثيقكم ولا تخلفوا العهد، لأن في ذلك عواقب مريرة وتداعيات خطيرة.

ومَن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسبابَ السماء بسلم

ويشير هنا إلى الخوف كدافع سلوكي، وكأنه يحاجج الخائفين من الموت بأنهم لن يفروا منه مهما توهموا، لأنه قادم إليهم بشتى الأسباب، وما عليهم إلا أن يتحرروا من قبضة مخاوفهم ويمارسوا الحياة، لأن واقع الحرب الطويلة التي عاشوها أججت وعززت المخاوف والشك، وحولتهم إلى موجودات متحفزة للعدوان على بعضها.

ومن يجعل المعروف في غير أهله

يكن حمده ذمِّا عليه ويندمِ

وكأنه يريد القول " إتقي شر من أحسنت إليه"، فليس من السهل أن يحسن الإنسان لشخص أهل للإحسان، لكنه قد يرى ذلك، وهي معادلة تفاعلية صعبة ومرهقة، فالبشر والإحسان إليه ديناميكية سلوكية معقدة، لا تُعرف معطياتها، فالبعض يقر ويمتن والبعض ينكر وينتقم من المحسن إليه، وأكثر الناس من الذين يؤجج فيهم الإحسان نوازع النفس الأمارة بالسوء.

ومَن يعصِ أطراف الزجاج فإنه

يطيع العوالي رُكّبت كل لهدم

ويؤكد حقيقة أفضلية الصلح على الحرب، لأن الذي لا يجنح للسلم ستذله الحرب وتهينه وتسقيه كأس الندامة، فيتمنى لو أنه ما خاضها، فما جناه منها لا يقاس بما فقده فيها، وهذه قاعدة سلوكية يبتعد عنها البشر ويندفع للعدوان حتى يجثو على ركبتيه وينقضم ظهره، فيتوسل البعيد والقريب لإخراجه من ورطة الحرب.

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

يُهدّم ومَن لا يظلم الناس يُظلم

هذا البيت يحتاج إلى صفحات عديدة لأنه كثّف فيه معاني سلوكية مطلقة وخبايا نفسية معقدة، فالذي لا يذود عن دياره بسلاحه تتدمر تلك الديار، وهذا واقع حالنا المعاصر الذي فيه عجزنا عن صناعة قوتنا، فاعتمدنا على غيرنا فتخربت ديارنا وتدمرت أحوالنا.

ويبدو أنه يشير بمعنى الظلم إلى الإقتدار والقوة، فالذي يفقد قدرته على حماية ما عنده، يكون فريسة سهلة للآخرين الطامعين فيه.

ومَن يغترب يحسب عدوا صديقه

ومن لم يُكرّم نفسه لم يكرّم

وهنا تعبير إستقراء مدهش، يعيشه الملايين من العرب، فالمغترب إلى مجتمعات أخرى يحسب أنه بين أصدقائه، لأن ما يحصل عليه في البلاد التي هاجر إليها لا يمكنه تحقيقها في موطنه، فيتوهم الذين من حوله أصدقاء، وهو لا يعرف لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقليل تجربة وخبرة بهم، وهذا ما يحصل عند العرب اليوم الذين غادروا بلدانهم وتنعموا بالحياة في مجتمعات غيرهم.

كما أنه يشير إلى ضرورة الإعتداد بالنفس والحفاظ على قيمتها ودورها في الحياة لأن الذي يذل نفسه سيتحقق إذلاله، وهذا ينطبق على الأفراد والجماعات والدول.

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ

وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ

البيت يكشف عن خبرة نفسية عميقة وقدرة على فهم السلوك البشري، فهو السبّاق في هذا الميدان، ويرى أن ما يضمره الإنسان لا بد له أن يظهر في هفواته وتفاعلاته مع الآخرين، فالحب لا يمكن كتمانه مهما توهم المحب، وكذلك العدوان والكراهية، والمواقف السلبية تجاه الآخرين.

وتلك حقيقة سلوكية فاعلة في البشر منذ الأزل، بل وفي كافة المخلوقات.

وكائنْ ترى من صامتٍ لك معجبٍ

زيادته أو نقصه في التكلم

وهنا يعبّر عن معنى " تكلم لأراك"، وربما سبق في هذا فلاسفة اليونان، إذا يشير إلى أن منطق الإنسان وما يبوح به عندما يتكلم يرسم الصورة الأوضح عنه، أما أن تراه صامتا فلا يمكنك أن تقرر وتقدر هويته المعرفية والإنسانية وما هي معانيه.

والبيت يمنحة شهادة في علم النفس والفلسفة في عصره.

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده

فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدّم

تكلم لأرى نصف الصورة ودعني أصغي لكي تكتمل الصورة، وكأنه يترجم القول العربي " المرء بأصغريه لسانه وقلبه"، والعجيب في أمر الشاعر أنه سبر أغوار النفس وأجاد الغوص فيها وإستخلاص قوانينها الفاعلة والمؤثرة في مسيرة الحياة.

فالكلام دفق مما في الأعماق، وبهذا التدفق يمتلئ وعاء المعنى ويفيض فترى الواقع الشخصي بجلاء، مما يؤكد على إمتلاكه موهبة الإدراك النفسي الثاقب.

وإنّ سفاه الشيخ لا حلم بعده

وإن الفتى بعد السفاهة يَحْلُمِ

وفي هذا البيت يعبّر عن " من شب على شيئ شاب عليه"، " وأن الغصون إذا قومتها اعْتدلت ...ولن تلينَ إذا كانت من الخَشب"، وهي خلاصة متمخضة من الحرب التي تحولت إلى مهزلة مأساوية لأسباب ضئيلة، لكنها تراكمت بالتقادم العدواني حتى تحوّلت إلى منازلة دامية ذات فصول ماساوية ضارية.

سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم

ومَن أكثر التسآل يوما سيحرمِ

ويختتم المعلقة بالمديح للشيخين من ذبيان، ويبين أنهما أعطيا وكلما طلب العطاء زادا بعطائهما، مع أن من طبع البشر أنه عندما يكرر السؤال لن ينال ما يريد، لأن الذي يسأله سيتذمر وينفر من الملحة، لكن الشيخين ذوي مكانة نفسية وروح إنسانية طيبة،

 لا تسمحان لهما بغير الجود والإغداق على السائلين.

هذا منطق العرب قبل الإسلام، وفيه براهين دحض وتفنيد للقول بأنهم كانوا أهل جاهلية، ومن الذين يتحركون على هامش الحياة، وتلك فرية إنتقاصية لا تجد ما يسوغها من الحجج، لكنها مرّت على العرب لكثافة الغفلة الفاعلة فيهم، وتصديقهم ما تقوَّله الآخرون عنهم.

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم