قراءات نقدية

في مفهوم الشعر.. الجُنحة المُخِلّة بالعقل.. ديوان: جرح أكبر من الجسد ليحيى السماوي

محمد يونس محمدالشعر موضوعة الميتافيزيقا وليس موضوعة حقيقة العالم حتى ولو اتصفت بها، وسأبدأ بفكرة حرجة عن فلسفة الشعر، فهي جنحة مخلة بالعقل، لكن لا تحتمل المعاينة والبيان، فليست هي تكشف كما الوقائع، ولا تعرف كما المشهودات حتى وإن انتمت اليها، فالشاعر ليس الشخص وانما ذلك الكائن الذي داخل الشخص وربما حتى من الممكن أن يحتجّ عليه، فمن يرى بعينيه ليس كمن يرى ببصيرته، لذا فالشاعر لا علاقة له مباشرة مع التاريخ كما شخصه يرتبط بها بشكل مباشر، والشاعر صراحة لحظة كونية متفردة، وما اقصده بالشاعر ليس ذلك من يكتب النص الشعري بل من يعيشه، والفارق لدينا يماثل شكل الحياة الذي نراه مباشرة ومضمونها الذي نتأمله ونشعر به، فالشعر كما عبر عنه الفلاسفة وماركس واليوت بوصفهما شعراء بأنه ذلك الوهم الذي يستبد بنا، وجميعا في بعض الأحايين نحتاج ذلك الوهم أو نتوسم بلا الوعي أن يستدرجنا نحوه لندخل في عدم الوجود، وليت لنا مقدرة الشاعر الذي يبتكر من ذلك الوهم وجوده الأخّاذ، وليت كل ما في الشعر من معانٍ أن تستبدل المعاني الشخصية الفاقدة للإثارة، ولكن تملك أن تتكرر على الدوام في وجودنا البشري المعتاد، ولنواجه الشاعر الحقيقي ونبحث في اركان عالمه، ومن الطبيعي لن نجد ما ندركه الا في بعض الجمل الشعرية او المفردات، والشاعر يحيى السماوي بجدارة وخفة وثقة يدخلنا الى عوالمه الشعرية في عنونة ديوانه الصادر من دار الينابيع – جرح أكبر من الجسد – والتي قلبت القانون الفيزيائي رأسا على عقب، ولمحت لنا من جهة اخرى على طبيعة وطور ذلك الوهم الجميل .

اذا كان هناك قانون للشعر عدا الوزن او النحو المصاحب له، فذلك  ليس سوى تبرير غر راجح ، والشعر قد قلب كل القوانين الجوهرية لصالحه، وعلى وجه الخصوص لمغادرة الادراك العام والخروج منه، واللحظة الشعرية للشاعر ليست الموجود بل هي الوجود بحد ذاته، فالموجود من الممكن أن يتمثل بالشخص او المظهر البشري للشاعر، وإحاطة الشاعر بعوالمه المنتجة من تحفيز الذاكرة او من خلال تطور الوعي جوهريا، ففي مقطع من القصيدة الاولى يحلُّ الإلتباس بدلا من الادراك والتحديد .

ربنا

قد اظلمَ الصبحُ

فلا نعرفُ

هل أنَّ ملاك العدل في القفطانِ

أم إبليسُ أخفى في الجلابيبِ

غلامهْ

التفسير الجوهري للشعر لا يتصل بالمفاهيم العامة للحياة، وانما يكون اتصاله بما يتيح الخيال الادبي في الشعر من معان، فالمستهل فيه خرق لقانون الطبيعة، وعندما يظلم الصبح يعني ثمة اختلال في الكون، وهذا الكون ليس الذي نعيش فيه، حيث الصبح يوميا يـتألق بالانكشاف الأوسع في الوجود المظهري، وذلك الخرق  لا يملك القصد في ذم النواميس او الجرأة على قوانين الطبيعة، بالقدر الذي استعار في عوالم الشعر تلك الصورة الشعرية المتناغمة الإختلافات، والتي كانت على خلال السائد الشعري الذي نجد فيه الاهتمام بتجميل الذات او تضخيمها بالشكل الذي يجعل الشعر لعنة وجحيم ذوق وأسف تلقٍّ ، والشعر الحقيقي ليس الحقيقة التي نعيش وندرك بل تلك الايهامات النابعة من اقصى الروح، كما في النصوص الشعرية في ديوان – جرح أكبر من الجسد – والذي أثبت فيه الوعي الشعري أنه يمتلك حسا انطولوجيا، فمن الوعي الملتزم بالوزن والقافية في قصيدة العمود الى النقيض المفهومي في قصيدة النثر، وهنا يكمن استيعاب الوعي والذات لتلك الانطولوجيا، وبنية النص الشعري والشاعري ايضا بتراكب ظاهري وجوهري، فالظاهري في موقف معلن، وأما الجوهري فهو ذلك الايهام والوهم الانفعالي الحساس أساس مضمونه، وفي نص – حوار- التي توهمنا عنونتها بأن هناك اشارة الى حوار، وذلك الحوار لا يتحقق إلآ بمواجهة الشاعر لذاته .4081 جرح اكبر من الجسد يحيى السماوي

- صاحبةَ السيادة الخوذةَ

إنَّ الارض قد ضاقت..

فأين نغرس البذورْ ؟

هناك تسلسل للمعنى بتدرج شاقولي ليس بسمة افقية، والمعنى لا يبادر إلآ بعد تحقق الفعل الدرامي داخل بنية الشعر، والذي تحقق في السؤال، وذلك السؤال لا يرتجي اجابة وهو شكل الجملة الاخيرة في المقطع، والتي هي لحظة فاصلة بين الوجود الشعري وبين ما يميل فيه الزمن الى العدم الوجودي داخل مفهوم الوهم والإيهام، وتلك الاعتبارات الحسية للشعر، والتي نضعها في اطار فلسفي ازاء الوجود الشعري ومفهوم الوهم الشعري في عدمه الوجودي، والذي نراه ليس وفق رؤيا هيدغر، فالميتافيزيقا اذا كانت تمثلت في نص شعري فهي ليست استجابة للعدم، بل لما تحفز الذاكرة ، ففي المقطع الشعري هناك مثابة للسؤال عبر المشهود، ففي المبصور الشعري يكون غرس البذور داخل كيان النص وعلى صفحته البيضاء وليس في المشهود العام، ففي النص ومثاله الشعري يوجد وجدان انفعالي وليس ذات بشرية ، فالأرض اذا كانت بحجم خوذة فذلك المجاز الشعري وإيهامنا وليس القصد العام المدرك، وفي النص – الخروج من جبة الأمس – والذي عبر العنونة أعطانا انطباعا عن مفهوم جدلية الشعر والتاريخ، وكما علينا أن نعرف أن الشعر يتصف بالآنية ولا يتصف عبر التاريخ حتى لو تحقق ذلك .

التي قد منحتني

من سلالاتِ القوافي ولدا

*

وأحالتْ جسدي روحًا

وروحي جسدا

في تفسير  الضمير الداخلي للشعر في ذلك المقطع لابد أن نفصل اولا بين الروح والجسد، فالروح غاية فيما الجسد وسيلة، واذا نحن في الواقع نتصل مباشرة بالروح من خلال الجسد، فنحن نحيل المقصد الى امتيازات الفكر المادي، وهذا يتعارض مع المفهوم الشعري والإيهام والوهم، وفارق كبير ما بين أدلّك مباشرة الى الحقيقة عبر الجسد، وبين أن اقودك الى الحقيقة عبر تنشيط عقلك بالإيهام والوهم، ونشر الجسد على حبل الروح في الشعر أيسر بكثير من نشر الروح على حبل الجسد، الا اذا استحالت الروح القميص المناسب، والفعل الشعري الذي يقوده البعض عبر ذاته ليفسد مفهوم الشعر، لكن في الاطار الموضوعي لابد أن يكون الشعر غاية وليس وسيلة، ولكن سيكون الغاية المرجوة لمشاعرنا واحاسيسنا، ونحن من خلال الاحساس الشعري نوازن بين حقيقتنا البشرية وحقيقتنا الحسية، ولابد من المحافظة على تلك الموازنة، والتي لا ننكر احيانا قد صعد انفعال الشاعر في العلة التي تستوجب إعادة إنتاج تلك الموازنة من جديد، ففي قصيدة – برج الحوت وبرج الجدي - هناك استعارة حدادة الانفعال، وتسعى الى قلب التوازن على رأسه، وهي بنفس احتجاج اخرس واقعا لكن في داخل النص يصرخ عسى أن يسمعه الرب الأكبر، ويغير تلك المعادلة الى ما هو يجعل النسب اكثر قناعة وبصيغة مقبولة، لكن يبقى ترسيم الفكر الفلسفي للأمور لا ارادة لنا فيه الا تلك الارادة المعنوية المعتبرة نوعيا، والتي لا اثر لها في وجودنا البشري الا بالتضحيات الهمامة ونصوص الايثار البشرية .

الحوتُ وحدُهُ  بأرض نخلةَ

الناسوتْ

وإنه الحاكمُ  في شريعةِ

اللاهوتْ

*

ووحده الجديُ

عليه البحثُ في الصحراءِ

عن ماءٍ

وعشـبِ الـقُـوتْ

لقد قدم لنا المقطع فلسفة انحسرت بعد ظهور الفلسفة الحديثة الموضوعية اكثر مما كانت الفلسفة قبلها تتصف بالعقلية، وبعد تعيين فلسفة المقطع الشعري، وفي ندرة تفسيرية قدمها لنا المقطع الشعري، لا نجد لها في أفق الواقع من مثيل او دليل، وقد صاغ النص تلك الشفرة المعلنة بتعابير فلسفية، البست الشعر ثوب اللاهوت، وجعلته ذلك المقدس المعنوي او الضمير الروحي المفعم بنقاء ليس مثاليا بل موضوعيا، والتجربة الجديرة عند الشاعر يحيى السماوي في ديوانه – جرح اكبر من الجسد – ونصوصه الشعرية .

***

محمد يونس محمد

في المثقف اليوم