قراءات نقدية

قراءة نقدية للقصة القصيرة "الوصية" للدكتور علي القاسمي

الحسين بوخرطةأود في البداية أن أثني بتقدير وتبجيل على عبقرية الدكتور العلامة علي القاسمي، وعلى موسوعية منتوجاته الإبداعية الراقية. فكره جامع بين الفلسفة والفكر التراثي بتاريخ أدبه وتصوفه ومشاربه النقدية وشعره وقصصه الواقعية والمخيالية وإبداعاته الفنية في التشكيل والموضة والمسرح والسينما والتكنولوجيات الحديثة والحضارة والعولمة بإيديولوجياتها الثقافية والاقتصادية والمالية. يعبر من خلال هذه القصة "الوصية" عن تزايد زمني وجغرافي لشدة مقاومة حضارة عربية إسلامية أنهكها اتساع الهوة العلمية والتكنولوجية مع الدول المتقدمة، ليتم ترتيبها في خانة دول العوز المعرفي والعلمي المعرضة بهشاشتها السياسية والثقافية لمخاطر الضربات الهدامة الجارفة.

فإضافة إلى الجاذبية البلاغية لكلمات السطر الأول من القصة التي خاطب بها السارد أباه في لحظة احتضاره الأخيرة "وأنت مسجى على فراشك، يا أبي، تجابه خصمك العاتي في معركة أخيرة خاسرة لم يربحها أحد قبلك"، أعطى لفقراتها المتتالية جمالية مبهرة باستثماره في التصوير الحسي بفنية ملفتة للرفع من قوة المحسوس وإبراز قداسته، ومعانقة أعلى مستويات اختراقه لعوالم الروح بنبل وعفة عظيمين.

إن إبراز القوة الجاذبية والجمالية للحواس في هذه القصة، كما في الأخريات، هو إبراز لأدوارها في حياة الإنسان، واعتراف من طرف الكاتب لما أسدته (الحواس) من دعم ونعوت مميزة للصوفية وتيارها. إنه الدعم الذي جعل إسهاماتها اللغوية محطة هامة في تاريخ تطور المعجم التاريخي للغة العربية. فإلى جانب ما أسداه ابن خلدون من جهود في هذا المجال، شكل الإذكاء اللغوي الصوفي إلى جانب الحصيلة الإيجابية للقرون الثلاثة الهجرية (الثالث والرابع والخامس) منعطفا هاما مكن اللغة من تجاوز الانشغالات الشعرية السائدة في الجاهلية، وسيطرة القاموس المقدس في القرنين الأول والثاني الهجري، لتكتسب اليوم مقومات التفاعل مع التطورات اللغوية العالمية زمن العلوم وغزو الفضاء والتكنولوجيات المتطورة. إن موت الحواس، كما في قصة "أصابع جدي"، هو موت للإنسانية. لا قيمة ولا لذة لعيش روح عربية بدون ارتقاء لمذوقاتها ومشموماتها وملموساتها ومسموعاتها ومرئياتها.

في هذه القصة، موضوع القراءة، تجاوز السارد الشعور المعتاد بالحزن بفضل حاسة اللمس "أمسكت يدك اليمنى بكلتا يدي، وأنا مطأطئ الرأس. ودون أن أرفع وجهي إليك، ضممتُ يدكَ إلى موضع القلب من صدري. قرَّبتُها من فمي. لثمتُ أصابعك الخمسة واحداً واحدا، بشفتَيّ وأنا صامت"، لتقذف به حاسة الشم إلى وضع نفسي امتزج فيه بعمق الحب وقوة ارتباط الأصول بالفروع "تسربتْ منها رائحةُ المسك إلى أنفي. ما أطيبَ رائحتكَ، يا أبي! أمررتُ راحة كَفِّك على خديّ"، لتغمس به بعد ذلك حاسة اللمس مجددا في ذكريات نبل الرعاية الأبوية "أحسستُ بيدك ثقيلةً جافة؛ ولطالما كانت هذه اليد تمسّد شَعري بخفَّة، وتمسح دموعي برقّة".

أما حاسة البصر، فقد تحولت إلى قناة تواصلية لتبادل الرسائل بين الأب ووريث سره، تواصل المرئيات أعطى للحبكة السردية طابعا خاصا. لقد استعملها القاسمي في معرض توضيح وتبيين وتفكيك الرموز وتحويلها إلى مدركات. لقد امتد هذا الاستعمال إلى نهاية القصة محدثا منعرجات إبداعية غاية في الجمال " نعم، كنتَ تريدني أَن أَرى ما تريد بلحظِ عينيْك...صوَّبتَ نظركَ إليّ، فحاولتُ أن أُخفي عنك دموعي المترقرقة في المآقي...أدرتَ مقلتيْكَ نحو جدار غرفتنا الوحيدة...ثمَّ عادت مقلتاكَ إلى عينَيّ...واستقرَّتا عليهما برهة...ثُمَّ استدارتا ثانيةً صوب الكُتُب والسيف...ثمُّ استقرتْ عيناك على عينَيَّ هنيهة، وأدرتَ مقلتيكَ تجاه أُمّي وأخواتي الصغيرات...وعادت مقلتاكَ إلى عينيَّ ثانيةً واستقرتا عليهما، ثُمَّ استدارتا تلقاءَ أُمّي وأَخواتي...والتقتْ نظرتانا، وأدركتَ ما يدور في عقلي الصغير؛ فركّزت مقلتيْكَ عليّ...وبعد أنْ استقرَّتْ عيناك على عينيّ هنيهة، أدرتَ مقلتيكَ إلى الجدار الآخر الذي علّقتَ عليه بندقيةَ الصيد...ورفعتُ وجهي إليكَ، لأطمئنكَ، يا أبي، على أنّني سأحمل البندقية على كتفي فجرَ كلِّ يوم بعد صلاة الصبح، وأسير بها إلى ضفة النهر أو البراري، وأصطاد البطَّ والإوز والأرانب والغزلان".

القصة تعبير قوي عن هشاشة السياسة وارتباط العراقيين بصفة خاصة، والشعوب العربية بصفة عامة، بالمفهوم الحضاري للوطن، كتراب وطبيعة زاخرة بالخيرات. ينقسم هذا التراب إلى وحدات مجالية قبلية وعشائرية، سر ديمومة العيش فيها تضامن وتكافل أسري، تتوارث من خلاله الأجيال، خاصة الذكور وأكبرهم سنا، عبء المسؤولية في سن مبكرة، وتضطر للتسلح ذاتيا بتقنيات المقاومة والحماية الاجتماعية، والتدريب بالتربية والتنشئة الأبوية على تحمل أمانة رعاية الأسرة وصيانة حرمتها (الأم والبنات).

أمام ضعف أو انعدام مسؤولية الدولة في مجال الرعاية الاجتماعية، قدم لنا الكاتب حالة طفل (السارد) تعسف اليتم والحرمان على طفولته، وتحمل صفة الرجولة وأمانة الرعاية الأسرية في سن العاشرة، لتضيع فرص تعلمه وتكوينه وتكيفه مع متطلبات سوق الشغل ومستلزماته التي تزداد إلحاحا مع مرور الوقت. إنه واقع نموذج طفل، يمثل قاعدة ديموغرافية واسعة قطريا وإقليميا، رماه الواقع بسرعة في غياهب الخوف من المستقبل ومن المصير المجهول، وامتثل بقناعات النشأة للوصاية والقدوة، معربا عن استعداده وجدارته لتحمل المسؤولية " فأنا أريدك أن تعرف، يا أبي، أَنَّني أُحبُّكَ وأُطيعك، وسأفعل كلَّ ما أمرتَني بهِ، حتّى بعد رحيلكَ عنّا، يا أبي". لقد تم تدريبه ليصبح رجلا في سن العاشرة "نعم، يا أبي، لن أبكي، لأنني لمْ أَعُدْ طفلاً، فأنا قد بلغتُ العاشرة".

إن اغتصاب القوة العقلية عراقيا (بلد الكاتب) وعربيا، وتعويضها القسري بالقوة الجسمانية بسبب رداءة التربية والتعليم والتكوين حول الأرض بمواردها الطبيعية من أنهار ووديان وغابات ومراعي وجبال وسفوح وسهول إلى مصدر عيش لأغلب مواطني الشعب الواحد (الفلاحة والتجارة). شكل المعول والفأس والبندقية والصنارة أو شباك صيد السمك والحرث والزرع التقليدي وتربية المواشي والدواجن والمهن غير المهيكلة قطاعا للعيش الهش لغالبية الشعوب. إنها أوطان بثقافة قروية لا تمتد إليها بالقوة اللازمة برامج الاستثمار العمومي التحضرية. حتى التغيير الإيجابي للأوضاع الأسرية لا يتم إلا بجهود مضنية يتكبدها رب الأسرة بالتضحية منشغلا طوال تراكم سنوات عمره بهاجس الخلافة وتفويت مسؤولية الرعاية الأسرية لأحد أو بعض أو كل أبنائه الذكور من بعده. إنه انشغال مؤرق قلما يتيح إمكانية إفلات أحد الأبناء من هذا النسق المضني، وتتاح له فرصة متابعة دراسته الجامعية داخل الوطن أو خارجه. استشهادا على ذلك، أفرغ أحمد في قصة "الحذاء الإنكليزي"، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه من أنجلترا وعودته إلى قريته، خزانة أبيه الزجاجية من الأشياء التراثية، وحفظ بداخلها حذاءه بعناية، وتعفف عن ارتدائه لأن البيئة القروية وإكراهاتها لا تليق بمقامه وجودة صنعه.

كرر القاسمي إبراز واقع الطفولة عدة مرات في كتاباته كما في قصصه الرائعة "البندقية"، و"أصابع جدي"، و"الوصية"، و"الحذاء". يمثل الأب، المدعوم عموما بوقار الجد وحكمته، الراعي لأسرته المرتبط بالأرض. ثقل المسؤولية وجسامتها تجعله لا يكل ولا يمل في تكرار وصاياه لابنه الأكبر سنا حاثا إياه أن يكون قواما على الأسرة. صعوبة الحياة حولت الثقافة السائدة إلى إسمنت يمتن العلاقة ما بين الحضارة والتقاليد والقيم، ثقافة أساسها التكافل والتضامن والكرم والوفاء والإخلاص. ليس هناك خيار آخر لأفراد الأسرة الواحدة، وأفراد الجماعة القروية، سوى العيش في وئام وحب مجتمعين ومتحدين كجسد واحد. القرآن الكريم هو مصدر زاد روحي يتم ترتيل وتجويد آيات سوره، بدون استحضار شرط فهم واستيعاب المدلول والمقاصد بعمق عقلاني، حفاظا على مكانة الآباء والأجداد وتوريث المسؤوليات للخلف بدون تأويل أو انحراف.

لا هم ولا انشغال للأب المحتضر سوى تثبيت وصيته والاطمئنان على مصير الأسرة بعدما درب الوريث على الشعور بالنضج الرجولي في سن مبكرة "أَنَّني أصبحتُ رجلاً، ولا يليق البكاء بنا، نحن الرجال". أوصاه بأولوية قراءة القرآن كل صباح، حتّى إِنْ لم يفهم ما يقرأ، ليكثر الرزق وتحل البركة في الدار. أوصاه ثانيا بالعناية بسيف الجد وأن يكون على أهبة للنضال من أجل العدالة الاجتماعية "إذا كنتُ حيّا عند ظهور المهدي في آخر الزمان، ليملأَ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئتْ ظلماً وجورًا". أوصاه ثالثا أن يحل محله كرب أسرة قادر ومؤهل "سأغدو مسؤولاً عنهنَّ، قوّاماً عليهنَّ، وسأكون ربَّ العائلة بعدك. أَعِدك بإعالتهن ورعايتهن". وأوصاه رابعا، أن توريث العلم والمعرفة هو في نفس الوقت أساس العيش بكرامة وطمأنينة ووقاية من اللهفة لمراكمة المال الحرام وما يرتكب من أجله من ظلم وجور واعتداء على الغير "إنّني قد لا أخلف لك مالا، ولكنّي وهبتكً علمًا وأدبًا. والعلم خيْرٌ من المال. فالعلم يحرسكَ، وأنت تحرس المال."

هذه القصة الرائعة تجسد، إلى جانب أخريات لنفس الكاتب، واقع طفولة الشعوب العربية، الذي امتد لعقود بعد استقلالها من الاستعمار. أجهزة الدولة في العالم العربي لا تستقطب إلا من ثار على نفسه، وأخرجها من ظلمة الجهل، وأدخلها إلى عالم المنافسة العلمية والمعرفية أو الفنية الإبداعية أو الاقتصادية. ومن أجل ذلك، تبقى استفادة الأطفال من النظام التعليمي الرسمي ومؤسسات التنشئة مرتبطا بمدى حرص آبائهم وأمهاتهم وأوليائهم الشديد على تدريبهم على تحمل مسؤولياتهم لئلا تنقض عليهم براثن الضياع والفقر والجهل.

وتجنبا للتعميم في هذا الموضوع، يمكن القول أن بمستطاع المملكة المغربية أن تتحول إلى نموذج لدولة نامية إذا ما أعطت توهجا ملموسا لجهود تنفيذ المشاريع التنموية المفتوحة وعلى رأسها التربية والتعليم والمساواة وتساوي الفرص وحقوق الطفل والتغطية الصحية والحماية الاجتماعية ورقمنة الإدارة وبلورة سجل ديمغرافي واجتماعي ذا مصداقية.

***

الحسين بوخرطة

 

 

في المثقف اليوم