قراءات نقدية

الشاعر راتب سكر يستعيد محنة يوسف الذي أكله الذئب (1-4)

مفيد خنسةمن منّا لم يعش محنة ما؟، من منّا لم يتجرّع كأس الخيبة والحسرة والألم؟، من منّا لم يخطف له الموت أحد المقربين إلى روحه وقلبه؟ لعلها الحياة هي دار محنة الإنسان، لكن محنة سيدنا يوسف من أصعب المحن التي يمكن أن يواجهها أبٌ كما واجهها سيدنا يعقوب، ولعلها أكثر القصص حرارة وتشويقاً وإثارة، في التاريخ الإنساني، ويصعب أن يصادف وجود شخص يمكن له أن يعيش تلك المحنة كما عاشها سيدنا يوسف، وقد وصفها البيان الإلهي في القرآن الكريم بأنها أحسن القصص لقوله تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص ... سورة يوسف الآية (3))، إنها تلخص محنة حسد الأخوة، الذي يكبر في نفوسهم حتى يجمعوا على التخلص من أخيهم يوسف الأحب إلى قلب أبيه، القصة كلها تمثُل في الذاكرة ونحن نطالع قصيدة الشاعر راتب سكر(يوسف الذي أكله الذئب) التي اخترتها من مجموعته الشعريّة التي حملت عنوان (في حضرة العاصي)، للدراسة وفق منهج النقد الاحتمالي. لنتعرف على قصية جديدة بطلها الشاعر نفسه، وأحداثها في عالم شعري يجمع بين الحقيقي والمجازي، بين الواقع والمتخيل.

الفرع الأول: (الغيابة)

يقول الشاعر:

(يدي جمرة من حنين ..

رماني

إلى غيهب الجب دهري

وغطى صراخي

غبار السنين

**

أداري مكاني

وأحبو..

على فسحة أوجعت ضيق صدري

لعلي أرى إخوتي

قادمين.

**

بساطاً من الطين

مدّت حروفي ..

وحزني فضاء لطيري

مهيض الجناحين

في موكب من خشوع

يصلي ..

ليشفي كلامي

معيناً بقايا وجودي

بصمت عنيد

غفا في يديه

الأنين ..

**

مياه السواقي

تقصّ الحكايات عني

نشيدي على ضفتيها طعين

تهيج الخزامى غرامي

وفي غصتي

راح يهذي زماني

دمي في حديدي

رهين.)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الشاعر الذي يتقمص محنة سيدنا يوسف، وإلقائه في غيابة الجب، وعقدته (يدي جمرة من حنين) وشعابه الرئيسة هي: (رماني/ إلى غيهب الجب دهري) و(وغطى صراخي/ غبار السنين) و(أداري مكاني/ وأحبو.. /على فسحة أوجعت ضيق صدري) و(لعلي أرى إخوتي/ قادمين.) و(بساطاً من الطين/ مددت حروفي ..) و(تهيج الخزامى غرامي)، أما شعابه الثانويّة فهي: (وحزني فضاء لطيري/ مهيض الجناحين/ في موكب من خشوع/ يصلي (.. و(ليشفي كلامي/ معيناً بقايا وجودي) و(بصمت عنيد/ غفا في يديه/ الأنين (.. و(مياه السواقي/ تقصّ الحكايات عني) و(نشيدي على ضفتيها طعين) و(وفي غصتي/ راح يهذي زماني) و(دمي في حديدي/ رهين.).

 (1) تمهيد:

نلاحظ أن الشاعر اختار عنواناً لا يخلو من المشاكسة والاستفزاز، لأنه ينقلنا مباشرة من قصّة موروثة شهيرة قديمة معروفة، وهي مثبتة في القرآن الكريم بسورة مستقلة، إلى قصة عنوانها منافٍ للحدث الأساسي فيها وهو الكذبة التي برر بها أخوة يوسف لأبيهم غياب يوسف، حين قالوا له: أكله الذئب، وهنا سأتوقف عند مقولة: (أكله الذئب) لجهة الذئب، وعنوان القصيدة (يوسف الذي أكله الذئب) لجهة يوسف الذي أكله الذئب.

المقولة الأولى: (أكله الذئب)

إن قارئ القصة للمرة الأولى الآن سيكتشف بسهولة أن قول إخوة يوسف لأبيهم: (أكله الذئب) كذبة ساذجة، ولا تقبل إلاّ على سبيل القصة، وسيدنا يعقوب لم يصدقهم، على الرغم من أنهم جاؤوا على قميصه بدمٍ كدليلٍ على صحة ادعائهم، وهو على يقين من أنهم كانوا قد ارتكبوا المعصية وسلم الأمر لله: قال تعالى: (وجاؤوا على قميصه بدمٍ كذبٍ قال بل سولت أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعانُ على ما تصفون .... سورة يوسف الآية (18))، والسؤال: أي ذئب يمكن له أن يأكل رجلاً؟!!، المعلوم أن الذئب ينهش نهشاً، ولا يأكل أكلاً، وبافتراض أن الذئب أكله نهشاً!، فهل سمعنا أو وجدنا أن ذئباً يأكل رجلاً بكامله من دون أن يبقي منه شيئاً؟!!، حتى عظامه، إذن أكل الذئب لرجل بالكامل هذا أمرٌ غير وارد على الإطلاق، والقصة تغفل الملابسات التي تتعلق بقضية أكل الذئب ليوسف، وتكتفي بالإشارة من أبيه إلى أن أنفسهم قد سولت أمراً، لإيمانه بأن الله سيقضي أمراً كان مفعولا، وما يهمنا هنا ليست الملابسات التي تتعلق بنسيج القصة، إنما يهمنا أن نقرر بأنه لا يوجد ذئب بالواقع يأكل رجلاً أكلاً كاملاً، كما يأكل الرجل رغيف الخبز، إذن هذا الذئب هو ذئب افتراضي وليس ذئباً حقيقياً،

المقولة الثانية: (يوسف الذي أكله الذئب)

هذا ما يقرره عنوان القصيدة، وبالتالي، يوسف القصيدة هو غيره يوسف الحقيقي الذي تضمنت قصته مكيدة إخوته والافتراء على أبيهم بأن الذئب قد أكله ليتخلصوا منه، ويظفروا بمحبة أبيهم التي كان يخص بها يوسف ويمنعها عنهم كما زعموا!، فيوسف القصيدة إذن هو شخصيّة افتراضيّة، يستخدمها الشاعر رمزاً مجازياً، يمكن أن تعني ذات الشاعر، ويمكن أن تعني أي شخصيّة لها السمات نفسها، ويتخذها سبيلاً لبناء القصيدة. بالنظر إلى مكونين أساسيين:

الأول: الذئب الافتراضي. والثاني: يوسف الافتراضي.

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري، وفيه ينشئ الشاعر قصة الشخصية الافتراضيّة ليوسف التي يسقطها على تجربته المعاصرة، فقوله: (يدي جمرة من حنين ..) أي إنه يكابد من الهجران والوحدة والغياب، ويمد يده مفعمة بلهيب الشوق، ونار الوجد، طلباً للنجاة، وقوله:(رماني/ إلى غيهب الجب دهري/ وغطى صراخي/ غبار السنين) أي إن من خانه هو الزمن الذي عاش فيه كما خان يوسفَ إخوته ورموه في غيابة الجب حيث الظلام الشديد، ومع مرور السنين أخذ غبارها يتراكم عليه حتى صار صراخُه يخبو ويتلاشى من دون أن يسمعه أحدٌ أو يجيب، وقوله: (أداري مكاني/ وأحبو.. على فسحة أوجعت ضيق صدري/ لعلي أرى إخوتي/ قادمين.) أي إنه يداري ضيق مكان عزلته، فيتحرك ببطءٍ شديدٍ بما يتسع له من فسحة صغيرة وقد ضاق صدره ونفذ صبره على التحمّل، لعلّ أحداً من إخوته يسمع نداءه ويتلمس جمر يده الممدودة إليهم!، وقوله: (بساطاً من الطين/ مددت حروفي ..) يشير إلى أن الشاعر يفتح أبواباً جديدة للمعاني واحتمالاتها، فأن يمد الشاعر حروفه بساطاً من الطين ذلك يعني أنه يبدأ في إحداث المعاني وتشكيلها، ليجعلنا نعود إلى الجملتين السابقتين ونضيف إليهما المعنى الجديد الذي يفترضه السياق، وهو، أنه قُدّر للشاعر أن يكون معزولاً في محيطه كعزلة يوسف في الجب، وقد أمضى حياته وهو يمد يده للتواصل والاندماج مع ذلك المحيط من غير فائدة، وعلى الرغم من ذلك فقد بقي يداري ذلك المحيط الذي أخذ يضيق عليه وعلى صدره على أمل أن يجيء من ينقذه من عزلته، كما بقي يوسف على أمل أن يأتي إليه من ينقذه من الجب، ويصبح قوله: (بساطاً من الطين/ مددت حروفي ..) أي حين لم يأت أحد لإنقاذه من الجب، لم يجد وسيلة سوى الخروج المجازي بالطيران، وهكذا فقد أحدث بحروف كتاباته بساطاً طينياً، أي اتخذ الحروف وسيلة، وقوله: (وحزني فضاء لطيري/ مهيض الجناحين) أي وجعل من الحزن والكآبة والألم فضاء لطيره ضعيف الجناحين، وقوله: (في موكب من خشوع/ يصلي .. ليشفي كلامي/ معيناً بقايا وجودي/ بصمت عنيد/ غفا في يديه/ الأنين) أي كأن طيره يشيع الشاعر في موكب جنائزي ويصلي من أجل أن يكون كلامه المنسوج من تلك الحروف صحيحاً لا تشوبه شائبة في بسط بنيانه، من أجل أن يعبّر عما تبقى من حقيقته وجوهره، غير أنه لم يقو، فساد صمت ثقيل بعد أن تلاشت أصوات الألم والتوجع بين يديه. وقوله: (مياه السواقي/ تقصّ الحكايات عني / نشيدي على ضفتيها طعين/ تهيج الخزامى غرامي/ وفي غصتي/ راح يهذي زماني/ دمي في حديدي/ رهين.) أي وهو في الجب تمر به مياهُ السواقي فترقّ لحاله ويتدفق الماء ويجري فكأن صداهُ يقص حكاياته ويطلق أنغام نشيده المطعون بالخيبة والانكسار على الضفاف الممتدة، فتزيد من هيامه ولهفته أزرار الخزامى التي انحنت حزينة على أنغام نشيده على ضفاف تلك السواقي، والغصة تكتم صوته في زمن كل منا فيه رهين دمه.

استدراك:

إذا نظرنا إلى قول الشاعر: (رماني إلى غيهب الجب دهري)، سنجد أن الشاعر يحرص على ترتيب الجملة لحمل المعنى المراد، ولكن نتساءل: لماذا اختار الشاعر حرف الجر(إلى) ولم يستخدم (في) مثلاً؟، فقد ورد في سورة سيدنا يوسف ذكر (غيبت الجب) في آيتين، لقوله تعالى: (وألقوه في غيبتِ الجب الآية (10))، وقوله تعالى: (أن يجعلوه في غيبتِ الجب)، وكان استخدام حرف الجر (في) في كلتا الآيتين الكريمتين المتتاليتين، ولكن لا ننسَ أن الفعل الأول الذي يسبق (في) هو الفعل (ألقوه) وهي تفيد الظرفية المكانية، والفعل الذي يسبق (في) في الآية الثانية هو (يجعلوه) و(في) هنا تفيد الظرفيّة المكانية أيضاً، ولكن ما له الشاعر استخدم (إلى) على الرغم من أنّ إحدى مرادفات الفعل (رمى) هي (ألقى)؟ والجواب يكمن في المعنى لحرف الجر (إلى) الذي يدل على انتهاء الغاية المكانية، أو انتهاء الغاية الزمانيّة، (فغيهب) يشير إلى وقت اشتداد الظلام، و(الجب) يشير إلى المكان، فيكون استخدام الشاعر لحرف الجر (إلى) هو الاستخدام الدقيق، لأنها تفيد المعنيين معاً، وهو انتهاء الغاية المكانيّة والزمانيّة معاً، وسنبين أن رمى يتعدى بأحد الحرفين(ب) أو (إلى).

الصورة والبيان:

على الرغم من أن يوسف القصيدة هو شخصيّة افتراضيّة، وأنّ ذئب القصيدة الأصليّة هو ذئب افتراضي، فإن المعاني في القصيدة تتراوح بين الحقيقيّة والمجازيّة، فقوله: (يدي جمرة) تشبيهٌ بليغ، وقوله: (رماني/ إلى غيهب الجب دهري) استعارة، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصورة، تدعى قصيدة خطيّة، لأنها تمتلك درجة واحدة من الحريّة، وقوله: (وغطى صراخي/ غبار السنين) صورة بيانيّة ثنائيّة البعد لأنها تتضمن استعارتين بآنٍ واحد، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصورة تدعى قصيدة السطح، أو قصيدة مستوية، لأنها تمتلك درجتين من الحريّة، ويصبح التركيب: (رماني/ إلى غيهب الجب دهري/ وغطى صراخي/ غبار السنين) هي صورة بيانية ثلاثيّة الأبعاد لأنها تتضمن ثلاث استعارات بآن واحد، والقصيدة التي تتسم بهذا النوع من الصورة تدعى قصيدة عميقة لأنها تمتلك ثلاث درجات من الحرية، وقوله: (بساطاً من الطين/ مدّت حروفي ..) تشبيه، وهو أسلوب قصر لتقديم ما حقه التأخير، وقوله: (مياه السواقي / تقصّ الحكايات عني) استعارة.

***

مفيد خنسه

 

في المثقف اليوم