قراءات نقدية

الشاعر راتب سكر يستعيد محنة يوسف الذي أكله الذئب (4-4)

مفيد خنسةثالثاً: المنطق والتعدد الدلالي:

في هذه الفقرة لا بد من دراسة المقدمة النظريّة لمنهج النقد الاحتمالي، وسأكتفي هنا بالتطبيق المباشر.

تطبيق: سأختار المقطع التالي من الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(1)

[يدي جمرة من حنين ..

رماني

إلى غيهب الجب دهري

وغطى صراخي

غبار السنين

*****

أداري مكاني

وأحبو..

على فسحة أوجعت ضيق صدري

لعلي أرى إخوتي

قادمين.)

الهدف الأساسي هنا هو توضيح آليّة إحداث المعاني والمضامين، وليس الهدف البحث في المعاني وحسب، وسأحاول بسط هذا المقطع الذي يعتبر نموذجاً اختياريّاً من القصيدة، ويمكن التطبيق على أي مقطع آخر من القصيدة بالطريقة نفسها، ولكنني اخترت هذا المقطع للبيان والتوضيح، ومن ثم تحليله إلى مكوّناته الأساسيّة،، للكشف عن المكنونات البلاغيّة والتعدد الدلالي فيه، وبيان الأساليب الفنية الجماليّة التي استخدمها الشاعر، ومعرفة المضامين التي يحتويها، مع توضيح آلية الفهم للإمكانات المحتملة لتلك المضامين في بنية المقطع.

الجمل: (القضايا)

الجملة الأولى: (يدي جمرة من حنين ..).

الجملة الثانية: (رماني/ إلى غيهب الجب دهري).

الجملة الثالثة: (غطى صراخي/ غبار السنين).

الجملة الرابعة: (أداري مكاني).

 الجملة الخامسة: (أحبو.. على فسحة).

الجملة السادسة: (أوجعت ضيق صدري).

الجملة السابعة: (لعلي أرى إخوتي قادمين.).

الجملة الثانية: (رماني/ إلى غيهب الجب دهري).

أولاً: المرادفات وتعدد المعاني:

نلاحظ أن هذه الجملة تتألف من (رماني، دهري، إلى غيهب الجب) أي تتألف من الفعل الماضي (رماني)، والفاعل (دهري)، وتتمة الجملة من الجار والمجرور والمضاف إليه)، وهي جملة بسيطة كما نرى، فإذا نظرنا إلى معنى كل مفردة بشكل منفصل نجد أن الفعل (رمى) يحمل معنىً حقيقيّاً، كما يمكن أن يحمل معنىً مجازيّاً وذلك حسب السياق الذي يصاغ فيه، وإذا نظرنا إلى المعنى القاموسي الموروث لمعنى (رمى) نجد: (رمى، يرمي، رمياً ورمايةً ورماءً، واسم الفاعل، رامٍ، واسم المفعول، مرميّ)، ويتعدى الفعل رمى ب(إلى) أو ب(الباء) فنقول: رمى (إلى) ورمى ب، ا/ا معنى رمى: (أطلق)، لقولنا: رماهُ بسهمٍ، أي أطلق عليه بسهمٍ، و(ألقى) لقولنا: رمى الحجارةَ، أي ألقاها، و(قصدَ) لقولنا: رمى المكان، أي قصده، و(زاد)، لقولنا: رمى على الخمسين: أي زاد، و(مهّد) لقولنا: رمى نفسه عليه، أي مهّد لصداقة معه، و(نصر) أو (صنع) لقولنا: نصر الله له، أي نصره أو صنع له، و(ترك) لقولنا: ورمى بحبله على غاربه، أي تركه وخلاه، و(سلّط) أو (ولّى)، لقولنا: ورمى به كلّ البلد، أي سلّطه وولاّه، و(قذف) لقولنا: رمى الشيء من يده، أي قذفه وألقاه، و(كثُرَ) لقولنا: رمى المال، أي كَثُرَ، وإذا اكتفينا بهذه المعاني الاثني عشر لكلمة رمى، فذلك يعني أنها تولّد على الأقل اثني عشر معنى، وإذا نظرنا إلى معنى كلمة دهر في القاموس نجد: (دهر، يدهر، والمصدر: دهرٌ، والجمع: أدهر وأدهار ودهور)، معنى دهرَ: (نزل)، لقولنا: دهر القوم مكروه: أي نزل بهم، أما معنى الدهر: (مدة الحياة الدنيا) وتطلق على ألف سنة، قال تعالى في كتابه العزيز: (وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر الجاثية الآية 24)، و(الزمان الطويل) و(الزمان قل أو كثر) قال تعالى: (هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر الإنسان الآية (1))، و(ألف سنة) و(مئة ألف سنة) و(النازلة) و(الهمة) و(الإرادة) و(الغاية) و(العادة) و(الغلبة)، وفي الحديث الشريف: (لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله)، ونقول: إلى دهر الداهرين: أي إلى الأبد، ونقول بنات الدهر: أي شدائده .....الخ، وإذا اكتفينا بهذه المعاني الأحد عشر، فذلك يعني أن مفردة الدهر تولد على الأقل أحد عشر معنىً، وإذا بحثنا عن معنى كلمة غيهب في المعجم نجد: (الغيهب من الخيل: أي الشديد السواد) و(الغيهب من الرجال: أي الثقيل البليد) و(الغيهب من الليل: أي الشديد الظلمة)، والجمع غياهب.

ثانياً: الإمكانات الدلالية والاحتماليّة:

الآن بعد التفصيل في الفقرة السابقة نتساءل: ما الهدف من هذا العرض الكلاسيكي لمعاني المفردات التي تكونت منها الجملة الثانية التي اخترناها للتطبيق؟، ماذا نعني بالمعنى الحقيقي للجملة؟، ما معنى المعنى المجازي لها؟ ما هي المعاني المُختزنة للجملة؟ ماهي المعاني الممكنة والمحتملة للجملة؟ وماذا نعني بالإمكانات الدلاليّة والاحتماليّة؟، وللإجابة لا بدّ هنا من التفصيل لتوضيح المبدأ الذي يعدّ أحد المرتكزات الأساسيّة للنقد الاحتمالي.

فإذا أردنا نشرح المراد من الجملة، يمكننا أن نشرحها كما مرّ في فقرة المعنى في الفرع الأول، ولكن هل هذه الجملة لا تحمل إلا هذا المعنى فقط؟، الجواب: هذه الجملة يمكن التعبير عن معناها العام بأساليب مخلفة، لكن يبقى المعنى العام المقصود هو هو، وبسؤالٍ أدق هل مكونات الجملة لا تكوّن سوى هذا المعنى العام؟ الجواب، إذا كانت كلمة (رمى) كما وضحنا تولد اثني عشر معنى على الأقل، وكلمة (الدهر) تولد أحد عشر معنى الأقل، وكلمة (الغيهب) تولد ثلاثة معاني على الأقل، فإن الكلمات معاً يمكنها أن تولد 12ضرب 11ضرب 3 حسب المبدأ الأساسي في العد ويساوي(396) معنىً، ويمكننا بسهولة أن نرسم شجرة الإمكانات للمعاني المحتملة المولدة من هذه المفردات، وهنا نعود إلى إجابتنا الأولى، فإذا اكتفينا بالمعنى العام للجملة كما نفعل غالباً أثناء شرح أي جملة شعريّة أو بيت شعريّ، فنقول: معنى الجملة مثلاً هو كما ذكرنا، وبذلك نكون قد أغفلنا الإمكانات، أي المعاني الممكنة (الواقعية)، واكتفينا بالمعنى العام الأقرب إلى المراد، أي نكون قد اكتفينا بالمعنى (الواقع)، الذي غالباً ما يتوقف العقل العربي على أعتابه جاهلاً أو متجاهلاً الإمكانات، ولذلك يبقى منفعلاً بالواقع غير فاعلٍ فيه، يبقى مستهلكاً لا منتجاً، ولا أضيف جديداً إذا قلت إن النقد العربي لم يستطع منذ العصر العباسي أن يؤسس لنظريات نقديّة عربيّة، وبقي يلهث خلف النقد الغربي خاصة، وبقي يجترّ المصطلحات حتى استهلكها كما يستهلك المواطن العربي أيّ منتج مستقدم من الغرب وغيره، وقد ذكرت قبل مرة كيف أن هناك خلطاً بين معنيي المصطلحين الواقع، والواقعيّة في الفكر العربي وغيره، وإنني على ثقة من أن كثيراً من الذين يقعون على هذا الرقم الكبير(396) الذي يمكن أن تولده هذه الجملة القصيرة، قد يتفاجؤون ومنهم من قد يرفض الأمر جملة وتفصيلاً، وهذا أمرٌ متوقع، لكن أجد من الواجب أن أوضح هذه الحقيقة العلمية البسيطة، وإذا سأل سائلٌ: هل هذه الحقيقة العلميّة تحدد شرطاً لازماً لفهم معنى هذه الجملة؟ والجواب ببساطة بالطبع لا، لأنه يمكن فهم المعنى العام كما سبق وذكرنا، لكن هذه الحقيقة تعتبر شرطاً لازماً لمعرفة إمكانات معنى الجملة، وإذا قال: كيف لي أن أذكر هذه الإمكانات بشكل تفصيلي؟، نقول: ليس المهم ذكرها بشكل تفصيلي، وإن كانت شجرة الإمكانات في مثل هذه الحالات البسيطة تساعد على فهم الكيفية التي تتشكل عبرها هذه الإمكانات، ولكن المهم كيف نبني تفكيرنا بناءً معرفيّاً يعتمد على العلم والمنطق؟!، وسيكون ضرباً من العبث أن نذكر الحالات الممكنة لكل جملة، وفي الوقت نفسه سيكون ضرباً من التقصير والجهل حين نكتفي بالمعاني القريبة ونتجاهل الإمكانات الأخرى للمعاني. وسأضرب مثالاً بسيطاً جدّاً، وأعتذر سلفاً لبساطته، وقد أوردته في دراسات أخرى ولابأس من إعادته لتكريس الفهم، لو قلنا في صندوق خمس كرات، وكان السؤال كيف يمكن أن نخرج من هذا الصندوق أربع كرات على مرحلتين؟ فلو أجاب أحدنا، في المرة الأولى أخرج كرة، وفي المرة الثانية أخرج ثلاثاً، سيكون الجواب واحداً من الإجابات الصحيحة، أي إحدى الإمكانات المطلوبة، ولكن هل نكون بهذه الإجابة قد أجبنا عن المطلوب؟ بالطبع لا، لماذا؟ لأننا نكون قد أغفلنا ذكر جميع الإمكانات المتاحة، إذن نحن أمام سؤال رياضي بسيط، وكل جواب صحيح لهذا السؤال هو إمكانيّة من مجموعة إمكانات النتائج الصحيحة، وهي مكونات العدد أربعة، وهنا لا بد أن نسأل قبل الإجابة، هل يشترط في كل مرحلة من المرحلتين أن نسحب كرات من الصندوق؟، فإذا كان الجواب نعم، فذلك يتطلب منا استبعاد حالة (اربع، صفر) وحالة (صفر، أربع)، وإذا كان الجواب: لا، عندئذ يجب ذكر حالة (أربع، صفر) وحالة (صفر، أربع)، أي في إحدى المرحلتين لا نسحب أي كرة، وفي المرحلة الثانية نسحب أربع كرات.

إن هذه المحاكمة تمثل فلسفة الحل، وهي الكيفية التي يمكننا فيها تحديد الإمكانات المتاحة كلّها، ومن ثم توظيف هذه الإمكانات المتاحة من أجل الوصول إلى معرفة، وفي تقديري، فإن فلسفة الحل لا تقل أهميّة عن الحل نفسه، لأن فلسفة الحل تقودنا إلى معرفة القوانين العامة الناظمة.

ثالثاً: التعدد الاحتمالي للجملة: (الجملة الممكنة):

لتوضيح المعنى المقصود، نعود إلى الجملة الثانية التي أخذناها نموذجاً، وهي (رماني إلى غيهب الجب دهري)، وهي تتألف كما ذكرنا من ((1) رماني، (2) دهري، (3) إلى غيهب الجب) وهذه الجملة يمكن إعادة ترتيبها بست طرق هي: ((1) رماني، (3) إلى غيهب الجب، (2) دهري)، ((2) دهري، (1) رماني، (3) إلى غيهب الجب)، ((2) دهري، (3) إلى غيهب الجب، (1) رماني)، ((3) إلى غيهب الجب، (1) رماني، (2) دهري)، ((3) إلى غيهب الجب، (2) دهري (1) رماني)، وهذا يعني كما هو واضح يمكننا الحصول على ست جمل من مكونات هذه الجملة، ولو كانت الجملة مؤلفة من أربع كلمات، لأمكننا الحصول على أربعٍ وعشرين جملة، ولو كانت مؤلفة من خمس كلمات لأمكننا الحصول على مئة وعشرين جملة، وهكذا نجد كيف تتعدد إمكانات الحصول على جمل افتراضيّة ناتجة عن إعادة ترتيب الكلمات في الجملة الواحدة، وكل جملة من هذه الجمل تعتبر جملة ممكنة، ومعنى هذه الجملة يشكل معنى احتماليّاً، وهذا مؤكّد نظريّاً، لأن الوزن الشعري للجملة هنا أساسي، وقد يكون عائقاً فعليّاً في إمكانية إعادة الترتيب في الجملة مع الحفاظ على الوزن، والمهم هنا المبدأ، ومن هذا المنظور فإن الجملة التي أحدثها الشاعر هي واحدة من الإمكانات المتاحة، وهي الجملة الاحتمالية الثانية، من بين الحالات الست المرتبة وفق ما ذكرنا، وهذا المبدأ يطبق على الجمل الشعريّة، وكذلك على التراكيب، فالجمل السبع السابقة يمكن إعادة ترتيبها ب(5040) طريقة، أي يمكن أن نحصل على العدد نفسه من التراكيب، وكل تركيب من هذه التراكيب يعتبر تركيباً ممكناً، أو تركيباً احتماليّاً.

أهميّة الترتيب:

إذا تأملنا قول الشاعر: (رماني إلى غيهب الجب دهري)، ثم تأملنا الجملة، (إلى غيهب الجب دهري رماني)، والسؤال هل هما متطابقتان في المعنى؟ والجواب بالتأكيد لا، لأن ترتيب مكونات الجملة مختلف فيما بينهما، ولتوضيح أهمية الترتيب في الجملة، يمكننا تأمل التبويب المعجمي للكلمات ومعانيها، فمثلاً ونحن نبحث عن معنى (رمى)، سنجد أن الصدارة للفعل (رمى) في كلّ جملة تصاغ لبيان المعاني المختلفة، ونكرر المثال: نقول: (رمى الرجل الحجر) أي ألقاه وقذفه، ولا يمكن أن نجد في المعجم التعبير(الرجل الحجر رمى) كما لن نجد التعبير(الحجر رمى الرجل)، لماذا؟ لأن الصدارة لما نعنيه بالقصد، وهو هنا (رمى)، وهنا نتساءل من جديد، لماذا استخدم الشاعر الجملة (رماني إلى غيهب الجب دهري)؟ نقول: لا يحق لنا أن نسأل الشاعر هنا باستخدام (لماذا؟)!، أو (لمَ؟) لأننا نكون بذلك قد سألنا عن أمر ذاتي لدى الشاعر، والأفضل أن نقول: ما الحكمةُ من استخدام الشاعر للجملة (رماني إلى غيهب الجب دهري)؟، من دون استخدام غيرها من الجمل الاحتماليّة الممكنة؟!، نقول: نهتدي إلى ذلك من بنية الجملة نفسها، فالصدارة للقول: (رماني) أي ينطلق من المعنى الكلي للرمي، ويليه بالأهمية (إلى غيهب) أي شدة الظلام، ثم ينتهي ب(دهري)، أي زمني، أو قدري، فيكون الترتيب، رمي فظلمة شديدة فدهر، وأي اختلاف لهذا الترتيب سيؤثر على المعنى، لنستدل أن الجملة تحمل المعنى الذي أراده الشاعر أن يكون محمولاً على هذه الصيغة دون غيرها من الصيغ، ومن هنا بالتحديد يمكننا أن نستشفّ الحدوس الأولى للشاعر وهو يصطفي المفردات لتشكيل الجملة الشعرية، وكيف يؤالف بين الجمل ويحسن ترتيبها في التراكيب الشعريّة وفق منطق يوحي بنمط تفكير الشاعر، وينبئ بقدرته الفنيّة على حسن الصياغة والرصف، المهم إن بسط القصيدة إلى فروع وشعاب، ومن ثم تفكيك الجملة الشعريّة التي تعتبر اللبنة الأساسية للقصيدة سيساعد على الفهم العميق للقصيدة، ومن ثم سيساعدنا ذلك على سبر الإمكانات المتاحة للمعاني التي يختزنها النص الشعري.  

ملاحظة هامة:

إن ما ذكرناه عن الجملة الثانية يمكن تطبيقه على كل جملة من الجمل السابقة وتجاوزنا ذكره بالتفصيل خشية الإطالة والتكرار.

رابعاً: المنطق الجمالي:

(1) تحديد القضايا

من الواضح أن الجمل التي يتضمنها المقطع هي جملٌ خبريّة، وبالتالي يمكن اعتبار كلّ جملة منها قضيّة، فالقضايا هي:

القضية الأولى: (يدي جمرة من حنين ..(1)). هي هي قضيّة حملية موجبة، الموضوع فيها هو يدي، والمحمول هو (جمرة)، والمعنى مجازيّ، والقضية الثانية: (رماني/ إلى غيهب الجب دهري(2)). هي قضيّة حملية موجبة، الموضوع فيها هو (دهري)، والمحمول هو (رماني)، والمعنى مجازي، والقضية الثالثة: (غطى صراخي/ غبار السنين (3)). هي قضيّة حمليّة موجبة، الموضوع فيها هو (صراخي) والمحمول هو(غطى)، والمعنى مجازي، القضية الرابعة: (أداري مكاني(4)). هي قضيّة حملية موجبة، الموضوع فيها هو (ضمير المتكلم المستتر وجوباً)، والمحمول هو (أداري)، والمعنى حقيقي، والقضية الخامسة: (أحبو.. على فسحة(5)). هي قضيّة حملية موجبة، الموضوع فيها هو (ضمير المتكلم المستتر وجوباً)، والمحمول هو (أحبو)، والمعنى يمكن أن يكون حقيقيّاً ويمكن أن يكون مجازيّاً، لأنّ الفسحة يمكن أن تحمل معنى حقيقيّاً ويمكن أن تحمل معنىً مجازيّاً)، والقضية السادسة: (أوجعت ضيق صدري (6)). هي قضيّة حملية موجبة، الموضوع فيها هو (ضيق صدري) والمحمول هو (أوجعت)، والمعنى حقيقي، وهنا نجد سبع جملٍ، وست قضايا، والسبب يعود إلى أن الجملة السابعة هي جملة إنشائية لأنها تفيد ارجاء، والجملة الإنشائيّة لا تصلح أن تكون قضيّة. أما وظيفتها فهي فنيّة جماليّة.

(2) القضايا المركبة وأدوات الربط:

القضيّة المركبة هي كل قضية ناتجة عن قضيتين أو أكثر باستخدام أدوات الربط (تقاطعٌ، اجتماعٌ، فرقٌ، إتمام)، وإذا اعتبرنا أن مجموعة جميع الإمكانات للقصيدة الواحدة هي فضاء العينة، أمكننا الاستفادة من جبر القضايا، مستفيدين من جبر المجموعات، وعلى اعتبار أن الحدث هو مجموعة جزئيّة من الفضاء الاحتمالي، فيمكن الربط بين المفاهيم الأساسيّة التالية التي يعتمدها النقد الاحتمالي، الجملة الخبرية مرشحة كي تكون قضيّة، القضية يمكن النظر إليها كمجوعة جزئيّة في فضاء العينة التي تمثل مجموعة جميع القضايا التي يمكن أن تتضمنها القصيدة الشعريّة، كما يمكن اعتبار كل قضيّة من القضايا حدثاً، وهكذا ستتوفر لدينا إمكانيَة علمية منطقية احتمالية لدراسة القصيدة. وسنوضح ذلك من خلال التطبيق.

بالعودة إلى القضايا التي حددناها نجدها مرتّبة على النحو، وسأستخدم الرموز للاختصار،

[ (1)، (2)، (3)، (4)، (5)، (6)]، وبالطريقة التي ذكرنا فيها عدد إمكانات إعادة ترتيب الجمل، يمكن أن نجد أن عدد إمكانات إعادة ترتيب هذه القضايا هو: (720) أي يمكننا أن نحصل على سبعمئة وعشرين قضيةً، وإذا أخذنا بعين الاعتبار، إمكانات إعادة الترتيب في كل جملة كما فعلنا في الجملة الأولى، سنجد عدداً كبيراً جدّاً من الجمل والقضايا أو المجموعات أو الأحداث، ولنا أن نقدر كم سيكون عدد القضايا كبيراً في القصيدة الواحدة، فإذا كان هذا المقطع الصغير من القصيدة قد ولّد ما يزيد عن سبعمئة قضية، وبالتالي العدد نفسه من الأحداث أو المجموعات، وإذا لاحظنا أن الجملة الثانية قد ولدت (396) معنى على الأقل، فإن هذا التركيب يولد (285120) معنىً، فهل هذا الرقم مفاجئ؟!، أبداً أبداً، وهكذا فإن القصيدة الواحدة يمكنها أن تولد عدداً كبيراً جداً جدّاً جدّاً من المعاني، ولنا أن نقدر كيف أن اللغة العربيّة توفر إمكانات غير منتهية من إحداث المعاني، كما يمكننا أن نلاحظ أن لكل مبدعٍ أسلوبه الخاص في التعبير عن المعاني، بحيث يتعذّر أن يتطابق تركيبان بين مبدعين على مر التاريخ، لأن احتمال تطابق تركيبين بين كاتبين يكون قريباً من الصفر جداً جدّاً، وبما أن ترتيب القضايا في المنطق على درجة بالغة من الأهميّة فلا يمكننا النظر إلى أي ترتيب آخر على أنه مكافئ للترتيب الذي وردت به القضايا في التركيب السابق. وهكذا سنجد أن المقطع الشعري مرتب على النحو التالي: وسأستخدم الرموز للاختصار.

[(1) و(2) و(3) و(4) و(5) و(6)] وإذا طبقنا الخاصة التجميعية للتقاطع(وَ) سنجد أن هذا التركيب المؤلف من القضايا الست باستخدام أداة الربط (وَ) يكافئ منطقيّاً، كل قضيّة من القضايا التالية: [(1)] و[(2) و[(3) و(4) و(5) و(6)]،

[(1) و(2)] و[(3) و(4) و(5) و(6)] و[(1) و(2) و(3)] و[(4) و(5) و(6)] و[(1) و(2) و(3) و(4)] و[(5) و(6)] و[(1) و(2) و(3) و(4) و(5)] و[(6)]، والتكافؤ هنا يعني أن القضايا معاً لها قيمة الحقيقة نفسها، صادقة كانت أم كاذبة. وأكتفي عند هذا الحد لأن البحث في قيم الحقيقة يحتاج إلى فصل مستقل.

التوازن وتمثيل القصيدة:

يمكن اعتبار (يوسف الذي أكله الذئب) مركز توازن القصيدة، لأنه يمثل مركز انطلاقها، ونقطة انبثاقها، كما يمكن اعتبار كل عقدة من عقد فروعها نقطة توازن بالإضافة إلى النقاط التالية:

أولاً: الصدر: هي نقطة تقاطع بين الفروع الأول والثاني والخامس فهي تمثل نقطة توازن.

 ثانياً: الليل: هي نقطة تقاطع بين الفروع الأول والثالث والخامس فهي تمثل نقطة توازن.

ثالثاً: الكلام: هي نقطة تقاطع بين الفروع الأول والرابع والخامس فهي تمثل نقطة توازن.

رابعاً: الذئاب: هي نقطة تقاطع بين الفروع والثاني والثالث فهي تمثل نقطة توازن.

فإذا مثلنا مركز توازن القصيدة بدائرة صغيرة، ومثلنا عقد الفروع على محيط دائرة مركزها مركز توازن القصيدة، ومن ثم مثلنا نقاط توازن القصيدة على محيط دائرة أخرى بحيث تتوزع وفق درجات ارتباطها بالفروع، ومن ثم مثلنا فروع القصيدة على شكل أشعة منطلقة من مركز توازن القصيدة، ومثلنا الشعاب الرئيسة والشعاب الثانوية كأشعة منطلقة من العقد للفروع، عندئذ نكون قد حصلنا على تمثيل دائري للقصيدة. وهذا التمثيل سيبين كيف أن القصيدة في بنيتها تميل إلى التوازن، وهذا ما يفترضه منهج النقد الاحتمالي، وهو أن القصيدة الشعرية تميل في تركيبها وبنيتها إلى التوازن.

***

مفيد خنسه

في المثقف اليوم