قراءات نقدية

البعد "السيزيفي" في رواية "الشيخ والبحر'' لإرنست همنغواي

محمد الكرافستمثل الرواية، اليوم، جنسا أدبيا فاتنا، لا يزال يستهوي بمساحيقه التجريبية عشاق القصص المشوقة والأحداث المتنامية في شرنقة السرد، ويستهوي المهووسين بلذة القراءة وعوالمها الساحرة.

وتحافظ الرواية، بذلك، على مكانتها رغم المغريات الكثيرة وهيمنة الابتذال والتسليع في كثير من الخطابات الجوفاء التي ضربت بأطنابها حتى الثمالة في أوساط الكثيرين، وجعلت الثقافة على الهامش في ظل الضحالة الفكرية التي خيمت على وجودنا الباهت.

تحفل رواية The Old Man and the Sea  (الشيخ والبحر) للكاتب الأمريكي المعروف إرنست همنغواي (1899-1961)  بكثير من الدلالات والرموز الإنسانية الفياضة، بعدما اعتبرها العديد من النقاد عملا إبداعيا طافحا بالحياة والقيم العليا والمشاعر النبيلة في أبعد تجلياتها.

استطاعت هذه الرواية أن تحمل همنغواي على عاتق الشهرة العالمية، بعد ظهورها سنة 1952، حيث نجح بعد نشرها في الحصول على جائزة نوبل سنة 1954. كما نجح في رسم ملامح جديدة للإبداع السردي الطويل، مذكرا عشاق الرواية العالمية بروائع مارك توين وهيرمان مليفيل ودوستويفسكي خلال القرن 19.

يبدو متن القصة في رواية "الشيخ والبحر"على المستوى "التحبيكي"، كلاسيكيا حتى النخاع، غير إن كيفية تدفق الأحداث تحمل معها سردا مكثفا يضمر مشاعر إنسانية جارفة، يضفيها على الشخصيات، ويستنطقها بشكل ذكي، مستخرجا منها عصارة الأحاسيس الإنسانية في أبهى حللها.

لقد اشتهر همنغواي، في عدد من رواياته الأخرى (وداعا للسلاح 1929)، بلغته السردية البسيطة التي يغلب عليها التصوير المشهدي أثناء السرد الخطي الذي ينقلنا إلى تفاصيل شاردة بشكل سريع، حيث تنساب رواية "الشيخ والبحر" بسيطة وسهلة للغاية، لكنها زاخرة بالبياضات التي تورط القارئ في لعبة ماكرة.

لقد كتبها همنغواي في هافانا، كوبا، وصوّر فيها تناميا لأحداث بحرية في مجتمع بعيد عن ثقافته، لكنه ينقل بأمانة بليغة نسقا دلاليا شفافا للصراع الإنساني اليومي في صورته "السيزيفية" ضد الفشل/الهزيمة عن طريق المحاولة والتكرار، دون كلل أو ملل.

وما يحصل للشيخ، في الرواية، طيلة 84 يوما من العودة بشبكة خاوية الوفاض، يسلط نوعا من التبئير Focalisation على مشاعر الحزن والصبر والضعف والهشاشة السيكولوجية والتعاطف مع الآخر (من طرف الصبي) في مستويات نفسية متقلبة حسب المواقف الإنسانية.

كما يمكن اعتبار هذا العمل السردي بمثابة قطاف باذخ من عوالم هذه المواقف الإنسانية المتعددة، وكأن همنغواي يصور الإنسان في حالات صراعه الشاقة من أجل البقاء والاستمرار في أنطولوجيا الوجود.

ويقدم الروائي " البحار/الشيخ" المسمى سانتياغو، الذي يحمل اسما ذا نفحة إسبانية/ أندلسية، وهو يصارع قدرة الروح البشرية على تحمل المشقة والمعاناة من أجل إثبات الذات في النهاية، بغض النظر عن التقدم في العمر.

ولا يعتبر الأمر جديدا بالنسبة لهمنغواي المهووس بالبحر حتى النخاع، إذ إنه سبق أن أدرك بشكل جلي قسوته وشدته عندما كان يزمجر بأمواجه العاتية أمامه وهو بحار، ولذلك يحتفي به في صراع الشيخ من أجل محاولة صيد سمكة بعد قرابة ثلاثة أشهر من الفشل المرير والعذاب النفسي.

ختاما، تبقى رواية "الشيخ والبحر"، بمثابة خارطة طريق إبداعية، ارتهن فيها همنغواي إلى توصيف الصراع الإنساني اليومي للإفلات من كماشة الحياة؛ إنه صراع بطعم العلقم لإثبات النجاح وتكريس هوس "سيزيفي" بالصعود إلى القمة مجددا، أو على الأقل العودة إلى نقطة البداية وعدم الاستسلام.

***

د. محمد الكرافس – المغرب

 باحث وروائي

في المثقف اليوم