قراءات نقدية

قراءة في رواية (الصندوق الأسود) للكاتبة كليزار أنور

حيدر عبدالرضاذاتية تضخيم الأنا الساردة ووهن الجنين السردي في أنابيب التخصيب اللاروائي

توطئة:

عندما يريد الروائي إخضاع الأدوات والشكل والموضوعة الروائية إلى سيطرته التأليفية، لابد من تحويل جملة أفكاره المنصوصة في الفضاء والتمفصلات الفاعلة في جسد نصه إلى عملية تخطيط أو ما يمكننا تسميتها المدروسية المعاشة إزاء محاور النص المتكونة في مخطوطته السردية، لا أن تكون سياقات الرواية عبارة عن أحوال نفسية ومزاجية وشطحات عاطفية من مقولات الشخصية الساردة في استرجاعاتها إلى ذاكرتها المحفوفة بإعادة إنتاج الذكريات واليوميات من صوت الساردة التي تسعى في نصها الذي وضعته طي ملائمة أحوالها الشخصية ورغباتها الرومانسية في محددات ومواضع تأبى لذاتها التنظيم الزمني عبر محكماتها المقيدة أو تلك الأحداث الناتجة عن تركيزات مضطربة في الأهواء الشخصانية في عملية لملمت مجرى الرواية.

ـ اضطرابات الذات الساردة في أحوالها المروية

1ـ العتبات النصية بين العرض وشواغل الحكي:

من أبرز سمات الوظائف التي اعتمدتها كليزار في مستهل الفصول الأولى من روايتها، عتبة الإهداء التي تتلخص في جملة (إلى أبني الذي لم يأت!)التي ذيلتها بعلامة التعجب في نهاية الجملة، وعندما نتخطى العتبة الإهدائية إلى بداية الفصل الأول المرقم، قد نواجه من الساردة ذلك الأداء العرضي من تقديم مجموعة من النساء الخاضعات إلى عمليات تخصيب المبايض من خلال الحيامن الذكورية في مشفى ما في العاصمة السورية دمشق، وعلى هذا النحو يبدأ زمن الحكي من خلال عين كاميرا الساردة المشاركة، في تعريف القارىء على مجموعة النساء وإلى مواضع أوطانهن وكيفية حكاية كل واحدة بصفاتها وسماتها الخارجية، وما يدل على وسائط الاضطراب السردي في منقول الساردة إلى حيوات تلك النسوة ما هو إلا تقديمها لكل منهن بطريقة تذكرنا ببرامج مقابلات شكاوى الناس. فلا أعتقد من جهتي الشخصية من ضرورة ما إلى زمن الحكي عن أحوال النسوة وكيفية مجرى حكاياتهن بطريقة عرضية تقريرية فجة خالية من كل صياغة روائية أو حتى قصة قصيرة مهلهة الأطراف: (الانتظار ممل قضينا عليه بالأحاديث الجانبية، وربما التافهة، وبعضهن سردن حكاياتهن منذ ليلة زفافهن إلى ما وصلت إليه اليوم في هذه الصالة: إسراء امرأة متزوجة منذ تسع سنين ترتدي العباءة المحلية، ولم تخلعها رغم أننا كلنا نساء من حولها.. جاءت من مدينة ـ الكوت ـ وسط العراق بصحبة زوجها الذي هددها إن لم تحمل بعد هذه العملية، فسيتزوج عليها بامرأة أخرى.تعيش مع أهل زوجها.تسع سنوات من القهر والذل والمهانة.. قالت: ـ كل يوم يذكروني بجدبي، وكأنه فيتامين أتناوله مع طعام الفطور / أما سوسن جاءت من مدينة الأنبار.. تزوجت مرة ورزقت بطفلة، وطلقت وتزوجت للمرة الثانية، لكنها لم تنجب منه، رغم زواجها قبل سبع سنوات.زوجها يريد طفلا، وشرطه أن يكون ولدا وليس بنتا./ص8 الرواية)بهذه الصورة التقريرية التي تذكرنا (سوالف الكنائن!) والأخبارية، تقدم لنا الساردة المشاركة أسماء النساء وتقاويم ولادتهن ومحال نشأت كل واحدة منهن ونوعية حكايتها مع زوجها بوظيفة لا تحكمها أي قيمة أسلوبية وفنية أو حتى ولو تشويقية من شأنها جذبنا إلى متعة حكايات غير نمطية الوتيرة، بل إنها بدت وكأنها حكايا ينقلها لنا الوعي الشعبي من خلال حكايات ذات نكهة عجائزية تحسن مراقبة كلمات الأخريات ونقل عنهن تصورات كل واحدة بطريقتها الحكواتية المعهودة لدى فن الحكي(جدتي والمصباح السحري؟!) في أشد الليالي الشتوية بردا.

2ـ عولمة التزاوج واغتيال نضارة الرابط السردي:

تتمايز مؤشرات الفصل القادم من الرواية بحوادث يشغلها الشواذ والانحراف الدلالي في واصلة المسار الروائي.تتبين لنا بأن الساردة المشاركة تقدم لنا دلالات هي من اللااتفاق السردي مطلقا، بل إنها لربما لا تحدث حتى في أشد الروايات سطحية وتقريرية، ولا أدري لماذا تحاول الشخصية تقديم ذاتها بهذه الطريقة التي تحيط بوصفها علامات خاصة من سوء الصياغة الموضوعية: هل كانت تقصد الساردة ذلك النوع من الأنوثة المتحررة وسط مجتمع شرقي بحت؟أم إنها متأثرة بقراءتها لنوال سعداوي ومستغانمي صاحبتي الرواية الأيروتيكية بإمتياز؟هل تود حقا المؤلفة تقديم شخصيتها ضمن نطاق هذا المجال من القيمالأنثوية الخاصة في شخصية روايتها؟أم إنها بدت بمحاولة صنع رواية بلا أدنى ضوابط ومؤهلات أدواتية وموضوعية الموضوعة الروائية الجادة؟.أن حقيقة دلالات رواية (الصندوق الأسود) كما سنلاحظ من خلال فصولها اللاحقة تدون سيرة وأنوثة الفتاة المغامرة في عوالم عقدة البحث عن (الزوج الانموذج؟) ولكن للأسف فهذة الساردة المشاركة لم تقع على مرادها على ما يبدو من سياق الأحداث، لذا ظلت حتى بعد زواجها من زوجها عن طريق المراسلة والتعارف على شبكة الانترنيت، تعاود مسيرتها القديمة بطلوعها بذلك الدور من الأنثى التي تراوغ نزوات حبها القديم إلى صاحب البريد الالكتروني المدعو بـ (الصندوق الأسود) وهو الشخصية ماهر ذلك الجزء من ماضيها المغامراتي بعقدة الحب لكل من هب ودب في طريقها، حتى وأن كان مجرد ذكرا في عضويته النوعية فقط: (كنت أعرفه ويعرفني، لكننا لم نلتق سوى على صفحات الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية، قصتي تجاور قصته أو مقالي بجانب مقاله، معرفتي به لا تتعدى حدود أسمه ككاتب.تفاجأت ذات يوم برسالة وصلت لإيميلي عنوانها ـ زواج ـ وبين أسطرها رغبته في أن يفتح بي بيتا.. حتما فتحت فمي مندهشة وأنا أقراها وأعيد قراءتها.. لا أدري، ما شعرت لحظتها بصدق نيته. /ص15 ص16 الرواية) أن عملية ربط الأواصر والخيوط في محددات الساردة الشخصية، بدت وكأنها مغالاة في حصيلة التخييل ، بل أنها تعدت الصورة المصدقة من حقيقة الواقع.أنا لا أنكر بعدم وجود هكذا مصادفات في الواقع، بل أنكر على المؤلفة القيمة في نسج حوادث سردها، فهي من جهة ما بدت مجموعة أحداث مفرطة في أحاسيسها العاطفية والرومانسية، أما من جهة أخرى فلا يمكن على القارىء الوثوق بصحة وسلامة الحبكة اللامتزنة في حياكة الأسباب والمسببات التبئيرية التي أقامة من خلالها السارد عوالما خارج الرؤية الموضوعية المتفق عليها واقعا وخيالا.

3ـ العوائق في تحقيق أمومة طفل الأنابيب:

تخضع محفزات الحكي في فن الرواية إجمالا، إلى أنظمة سببية ينهض من خلالها تسلسل الأفعال السردية المشكلة لبنية تحاكي التصور التخييلي المجانب لتمظهرات شرائط الواقع الفعلي.وإذا ما تفحصنا مقادير القيمة الإجرائية في بعض أحداث رواية (الصندوق الأسود)لوجدنا بأن أغلبها مما لا يقع ضمن بلاغة الأسباب والمسببات المؤطرة بواصلات سردية حكائية متلاحمة في بناء الأفعال السردية.فعلى سبيل المثال تخبرنا الساردة المشاركة عن حجم المساومة الحادثة بينها وبين السيد زوجها إزاء مشروعية العمل بالتخصيب الأنبوبي، وكما توضح الساردة بأن العملية: (العملية مكلفة ولابد أن تجرى خارج العراق.. وأخترنا من المشافي أفضلها وأضمنها نجاحا، مشفى متخصص في دمشق.. طلبت من زوجي أن نتناصف التكاليف كما فعلنا حينما اشترينا البيت والسيارة.. لكنه رفض وبشدة قائلا: ـ المشروع مشروعك؟كانت مساومة قاسية لابد أن أرضخ لها في سبيل هدف ومشروع لأي امرأة تحلم أن تكون أما./ص19 الرواية) تواجهنا في وحدات هذا الفصل مجموعة من الأخبار والتصريحات والتنقلات بين العراق وسوريا، لأجل إكمال عملية الإخصاب الأنبوبي في عدة دفعات ومراحل قاهرة، وقد أسهبت الساردة في وصفها وعرض محصلاتها.بيد أن الفصل التالي نلاحظه أيضا لا يحمل سوى الانطباع ذاته من حياة الزوج والزوجة في مساحة مضاعفة من التنزه والسياحة في الأسواق السورية، وكأنها هذان الفصلان مخصصان لفسحة مسرودة من الحديث حول سفرات خاصة بما يقارب مخطوطة حالات سيرة ذاتية.

ـ مسافة ووقائع زمن حكاية البؤرة السوداء

قد نعاين بأن بناء الشخوص بشكل أو بآخر في الرواية، هو علامة إيحائية وانعكاسية لرؤى الكاتب في واقع انطباعات ومشاهد نصه، لذا فهذه الهيئات اللاأدوارية المتعينة على مستوى الإنشاء السردي، لا يمكن توظيفها إلا ببواعث ملامح خارجية أو داخلية من حياة الكاتب نفسه، وحتى وأن تكن متخيلة، فأن عملية التخييل هي المستلهم من الباطن الذاكراتي ليس إلا.تصادف الشخصية بعد ذهابها مع زوجها إلى صالة الانترنيت، وفتحها إلى شاشة حاسوبها ، وبعد الدخول إلى بريدها الوارد، تلاحظ ثمة رسالة تحمل عنوان(الصندوق الأسود)كما إنها جاءت مسندة تحت مؤشرات خطية عنوانية بـ (الماقبل): (في البداية جذبتني الأسطر الأولى.. يبدو بأنها حكاية.. وما أكثر الحكايات التي ترسل إلينا، لم أتبين من هذا الإيميل من رجل أم امرأة، من شخص أعرفه أو ربما لا أعرفه.على كل.. نقلت الملف إلى ـ الفلاش ميموري ـ لأقرأه في البيت./ص32 الرواية) في موجهات هذا الفصل تواجهنا ملامح حكاية الحب القديمة بين ماهر والساردة الشخصية في أحداث الماضي التي تكتب القصص والخواطر في بعض الصحف وقد حاول هذا الشخصية ماهر عن طرائق التملق تارة والتحرش تارة والظهور بمظهر الكائن المتمسك بقدسية محبوبته التي هي الساردة بذاتها.. ورغم ما تظهره الساردة حينا من المقاومة المفتعلة والمكشوفة بحس الغواية، نكتشف بأنها هي الأخرى من بات عاشقا لهذا الشاب.في الحقيقة أن واقع علاقة الساردة بماهر لا تتعلق على ما يبدو فقط في كونه وسيما وزوجها دميما في شكله الخارجي.أما في ما يتعلق في الجزء الثاني من العنونة الفصولية بـ (المفكرة) فلا نواجه سوى مجموعة هوامش ومتون يوميات ومذكرات للساردة ذاتها حول الحرب وتأملات ذاتها التي تدون صور المواقف والحالات بطريقة أسلوبية تذكرنا بمادة الخواطر والإنشاء المدرسي.

ـ تعليق القراءة:

لا خلاف في أن الشخصية الروائية من بنات أفكار الروائي نفسه، ولكنها أحيانا تبدو هي نفسها بالالتفات نحو مرآة شخصها المتجسدة في مسار الفواعل الروائية.بإيجاز شديد أقول إلى الأخت القاصة والروائية كليزار أنور مثل هذا القول الختامي: في الواقع لم أشأ بدءا بنشر قراءتي هذه حول تجربة رواية(الصندوق الأسود)ولكن ما جعلني ملزما على نشرها هو إصراري وتمسكي بعدم خيانة جهة القارىء وتلقي ، الذي هو بعيدا عن حقيقة النص ومساحة تقويمه الكلية، لذا فروايتك لا تتعدى محاور المذكرات واليوميات الصادرة عن حياة شخصية مكابرة في وجودها النرجسي كونها الكاتبة التي أصبحت في مشروع تدوين أحلامها ومذكراتها الماقبلية المغامرة .وزيادة على هذا أقول مضيفا إن الرواية في محصلة أدواتها وإجراءاتها الفنية لم ترتق إلى مستوى الرواية أبدا، فقط بما تحمله كلمة رواية المثبتة على أعلى غلافها.. بل إنها لا تتعدى كونها محض تمرين في كتابة الشكل اللاروائي المحصل في مؤشرات تقترب من المذكرات فحسب أو السيرة الذاتية.كما وهناك تفاصيل عديدة في خاتمة الرواية، للأسف غدة لا تثير فينا الغبطة القرائية أو الدهشة الجمالية في قراءة تجربة الكاتبة مع ذاتها وشخوصها الروائية، التي بدت وكأنها تحيا في كنف دور تلك الأمومة مع طفلها السردي اللامخصب في الأرحام الروائية.وبالمقابل من كل هذا أود إعلام الكاتبة العزيزة ختاما، حول مدى وحجم الاحتفاليات والكرنفالات التي تتكون من حلقة بارزة من أساتذة الجامعات حول منجزها الروائي احتفالا، حتى أقول لها أن هذه الأمسيات لا تمثل النقد الأمين بأي حال من الأحوال، وأساتذة الجامعات ليسوا نقادا يوما ما.. هذه فقاعات تتمثل بحلاوة ظهورها وحضورها الشخصي في ساحات المواقع وصفحات الصحف اليومية والأسبوعية.الناقد الحقيقي هو من لا يساومه أحد ما على صدق أدواته الموضوعية والتقويمية للنص المدروس، كحال كثيرين أعرفهم كل المعرفة في زحفهم نحو الكتابة حول نصوص النساء طلبا للود أو التقرب وللأسف هم أغلبهم من أصحاب النقود الأكاديمية.النصوص الكبيرة هي من تخلق نقادها وقرائها، وليس التدليل بها على هذا وذاك، وهكذا تبقى رواية (الصندوق الأسود) عبارة عن موضوعة سردية واهنة في دلالاتها وصياغة تقاناتها لتبدو لنا مجرد ذلك الجنين السردي في روح وأنابيب التخصيب اللاروائي .؟!

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم