قراءات نقدية

فاعلية الرؤيا الجمالية عند شعراء الحداثة المعاصرين

عصام شرتحالشعر فاعلية رؤيوية تشكيلية، مثيرها الجوهري الأساس الحياكة الجمالية الفاعلة في ربط الكلمة بالكلمة، والجملة بالجملة؛ وهذا يعني أن فاعلية الرؤيا الجمالية تظهر من خلال جمالية الأسلوب، والمثير الجمالي في ربط الكلمة بالكلمة، والجملة بالجملة في نسق كلامي متوازن في شكل التركيب وبنية الدلالة، وإن أي تجربة شعرية تنبع قيمتها من أئتلافها؛ لأنها" ترتبط ببنية التراكيب والدلالات؛ فكل جزء من العمل الفني يعد جزءاً من مكونات التجربة الشعورية نفسها، وعليه، فإن حركتها وتوجهاتها تتمثل في حركته وتوجهاته، حتى إن الوزن الشعري نفسه في حركاته وسكناته يصور ملامح التجربة، وإيقاعها؛ إنه ليس مجرد قالب تصب فيه التجربة، إنما هو جانب هام من جوانب حركة النص، مرتبط ببقية الجوانب والعناصر المكونة لهذه الحركة، إنه مرتبط بأصوات الكلمات، وبالعلاقات القائمة بينها سواء أكانت نحوية، أو دلالية"(1) . ووفق هذا التصور، فإن القيمة الجمالية لفاعلية الرؤية الشعرية ترتبط بالتشكيلات النصية المراوغة ومثيراتها التكوينية التي تحقق أعلى مستويات الاستثارة والفاعلية في ترابطها المثير، وحياكتها النصية المراوغة.

وهذا يعني أن الكلمات في الشعر تكتسب قيمتها من خلال فاعلية الأصوات، ومتحققاتها الجمالية؛ وانسجام الكلمات في النسق الشعري؛ لتحقق فاعليتها التأثيرية، وبناها العميقة؛ ولهذا؛ فإن مادة الشعر الجمالية تكمن في بناه الانزياحية، وإيقاعاته الصوتية المتناغمة، ولهذا يمكن القول: " إن الشعر يستمد إيقاعه من مادة صياغته في أثناء تشكلها حين تعين الألفاظ على بعث الجو بأصواتها، بما فيها من علاقات صوتية؛ تثير الشعور بالانسجام الحي، وذلك عن طريق الأجزاء المكررة، أو المنوعة، وتبعثه كذلك بمحتواها العقلي الذي يثير التصورات بإيحاءاته الدلالية والصوتية، وبالعلاقات القائمة بين الكلمات"(2) . فالقيمة الجمالية للرؤيا الشعرية تكمن في فنية التشكيلات النصية ومثيراتها التكوينية، وهذا يعني أن الشعر توجه جمالي استثاري في شكل اللغة وطاقة جمالية في العزف على الإيقاعات النصية الجمالية التي تثيرها الرؤية الشعرية.

وبهذا التصور، يمكن أن نعد فاعلية الرؤيا الجمالية من محركات الشعرية، ومتحولاتها الجمالية على مستوى الرؤى، والأفكار، والمحفزات الجمالية، يقول عالم الجمال (غيورغي عاتشف): " لاوجود لفكرة شعرية فنية حية دون إيقاع"(3) ؛ والإيقاع الذي يقصده (غيورغي) هو الإيقاع اللغوي الجمالي الذي يحرك الإيقاعات الاستثارية للتراكيب الشعرية من خلال التشكيلات الفنية الجمالية المراوغة، وربط الأنساق الشعرية بمسبباتها الجمالية، " فالشعر- بالمعنى الخاص- يعبر عن التنسيق اللغوي؛ وخاصة اللغة الموزونة التي تخلقها تلك القوة الملوكية التي يختفي عرشها وراء طبيعة الإنسان الخفية، وهذا ينبع من طبيعة اللغة نفسها التي هي نقل مباشر لتصرفات كياننا الداخلي وعواطفه"(4) .

ووفق هذا المقتضى الجمالي يمكن القول: إن الشعر فاعلية رؤيوية تكمن في جعل الكلمات تكتسب أبعاداً جمالية من حيث الحساسية، واللذة، والجمال، ولا يمكن أن تحدث اللغة مصدر جمالها وإحساسها الفني دون الإيقاع الذي يحرك الشعرية من العمق، فالإيقاع" ذو قيمة خاصة من حيث المعاني التي يوحي بها؛ وإذا كان الفن تعبيراً إيحائياً عن معانٍ تفوق المعنى الظاهر؛ فالإيقاع وسيلة مهمة من وسائل هذا التعبير؛ لأنه لغة التواتر والانفعال"(5) . ومن أجل هذا، تكتسب الشعرية إيقاعاتها الجمالية من خلال تفاعل الأنساق الجمالية التي تثير الحساسية واللذة في التلقي الجمالي.

والواقع أن الرؤيا الجمالية تتأسس في قصائد الحداثة على مثيرات التشكيلات الجمالية التي تحقق إيقاعها الجمالي المتحول من خلال جمالية الأنساق الشعرية، وتحولها من قيمة جمالية إلى قيمة مثيرة، وفق متغيرات الأسلوب، ومنحى التحولات البنائية التشكيلية المراوغة؛ لأن " الشعر يستغل إمكانات اللغة إلى أبعد حد ممكن؛ مبتعداً بنفسه عن الكلام العادي، بواسطة الأصوات، والأوزان، وكل الوسائل التي تتيحها الصور الشعرية؛ واللغة الشعرية هي لغة ضمن اللغة، أي أنها لغة لها شكلها المستقل تمام الاستقلال، والشعر -عند فاليري- حساب وتمرين، بل لعبة، وأغنية، وترنم، وسحر، وتعويذة. إنه فن يقوم على الصور البلاغية والترنيم، وهو مواءمة بين الصوت والمعنى، ليصل حسب تقاليده هو، حتى لو كانت تعسفية إلى درجة المثال الذي تشكل عناصره وحدة واحدة تتجاوز الزمن، وتصل عالم المطلق"(6) .

وما ينبغي التأكيد عليه أن الرؤيا الشعرية الجمالية في قصائد الحداثة تختلف من قصيدة إلى قصيدة، وفق مثيرات تكوينية استثارية؛ تحقق أعلى القيم الجمالية وأرقاها، في تشكيلها النصي؛ لأن " الشعر- في المحصلة- نوع متكامل من القول يختلف نوعياً عن النثر، ويحتوي في داخله على سلم من العناصر، والقيم، والقوانين، التي تنتظم لحمته وسداه، على أن العامل البنائي المسيطر في بيت الشعر، والذي يعدل ويكيف بقية العناصر، ويمارس – في النهاية- تأثيراً حاسماً على جميع مستويات هذا الشعر الصوتية والصرفية، والدلالية، هو النموذج الخاص بالإيقاع"(7) .

ولو تتبعنا فاعلية الرؤيا الجمالية -في قصائد الحداثة- لوجدنا اختلافاً حافلاً في فاعلية الرؤيا الجمالية عند شعراء الحداثة، وهذا الاختلاف يتوقف - في الواقع- على فاعلية الخبرة الجمالية التي يمتاز بها كل شاعر عما سواه، فالرؤيا الجمالية تختلف من شاعر إلى شاعر حسب درجة الوعي الجمالي، وفاعلية الرؤى الجمالية التي تثير الشعرية، وتنمي إيقاعاتها الجمالية، وفق المنظورات التالية:

1- فاعلية الرؤيا الجمالية ومثيرها الاقتضائي في التشكيل النصي:

 إن لكل شاعر مبدع رؤيا جمالية، هذه الرؤيا الجمالية هي التي تسعفه في البناء النصي الشاعري المثير، ولا يمكن أن تتبلور الرؤيا الشعرية بفاعلية إبداعية منتجة دون إحساس جمالي، وخبرة جمالية في البناء النصي الشاعري المثير؛ ولهذا يمكن القول: إن إنتاج أية قيمة جمالية لابد من التأسيس الجمالي لها، لدرجة يمكن القول معها" إن الشعر يعبر عن الخصائص الحقيقية لما تدركه حواسنا، وما تشعر به قلوبنا تجاه المدركات. إنه يكشف لنا عن مكان موسيقا إدراكنا بطريقة تجعلنا نتعرف على أنفسنا بشكل لم نكن نعرفها من قبل"(8) . ولهذا، فإن الرؤيا الجمالية في التشكيل الشعري تكشف قدراتنا الإبداعية في تلقي النص الشعري جمالياً، وكلما ارتقى الشاعر في تشكيل اللغة حقق لنصه مظاهر استثارتها، وبلاغتها النصية. ومن هنا تتحدد الشعرية بفاعلية اللغة الجمالية في التشكيل، ومهارته في خلق الاستثارة الجمالية، وبهذا المعنى، يقول علي جعفر العلاق: " القصيدة لغة قبل كل شيء، ولغتها هي التي توصلنا إلى عناصرها الأخرى. في الشعر تكون اللغة خاصية الشاعر الأولى؛ أو مأثرته الكبرى؛ ولذلك نتحدث عن لغة السياب، ولغة أدونيس، ولغة محمود درويش وآخرين، ولا اعني باللغة، هنا، مفردات الشاعر التي يكثر معدل ترددها، أو تكرارها في قصائده؛ ولا أعني معجمه الشعري فقط؛ بل شمائله اللغوية، وعاداته في بناء العبارة، وقدرته على تحويل الجملة اللغوية إلى جملة شعرية؛ أي القدرة على تليين القاعدة اللغوية السائدة، وتكييفها شعرياً. لا بمعنى إلحاق الأذى بها، واختلاق المعاذير للإساءة إليها، بل ما أعنيه شيئاً آخر تماماً. هو الاصغاء لهاجس الشعر لا لمنطق اللغة فقط"(9) .

والواقع أن فاعلية الرؤيا الجمالية – في قصائد الحداثة- تتأتى من خلال البلاغة، أو المهارة الأسلوبية المراوغة في الانتقال من قيمة جمالية أسلوبية إلى قيمة، تبعاً لمثيرها اللغوي، وحساسية الشاعر في الانتقال من قيمة جمالية إلى قيمة، حسب درجات الوعي والاستثارة الجمالية في التلقي الفني الجمالي المثير، " لأن النص يسمح بمعانٍ مختلفة، في الوقت الذي يحدد فيه الإمكانات. من هنا ينظر إلى معنى النص على أنه من إنشاء القارئ، ولكن بإرشاد من التوجيهات النصية"(10) .

ومن يطلع على فاعلية الرؤيا الجمالية- في قصائد الحداثة – يلحظ تنوعاً استثارياً في خلق اللغة الشعرية، واستثارة قيمها الجمالية، لأن النص الشعري المثير هو النص الخلاق برؤاه ومراجعه النصية، وهذا ما اعتمدته القصائد الحداثية في لعبتها الجمالية، كما في قول الشاعر محمود درويش في قصيدته(الجرح القديم) ما يلي:

" وأنا أجتازُ سرداباً من النسيان،

والفلفل، والصوتُ النحاسيُّ

من يدي يهربُ دوريٌّ

وفي عيني ينوبُ الصمتُ عن قولِ الحقيقهْ

عندما تنفجرُ الريحُ بجلدي

وتكفُّ الشمسُ عن طهوِ النعاسْ"(11) .

إن القارئ –هنا- يشعر بجمالية الرؤيا الشعرية في تشكيل الأنساق الشعرية الجمالية المراوغة، من خلال الحياكة المثيرة في خلق الانساق الانزياحية الصادمة: [وأنا أجتاز سرداباً من النسيان- تكف الشمس عن طهو الحقيقهْ]؛ فالقارئ –هنا- يشعر حيال هذه التشكيلات باللذة الجمالية، وقوة الدافع الجمالي أو العامل الأسلوبي الذي يبدو في ربط الكلمات على هذه الشاكلة من الاستثارة، والتميز، والفرادة الأسلوبية، في الانتقال من مثير أسلوبي تشكيلي انزياحي صادم فنياً: [وانا أجتاز سرداباً من النسيان] إلى آخر: [عندما تنفجر الريحُ بجلدي]؛ بإيقاع ثائر متوتر الرؤى، والدلالات، والمعاني الثائرة على واقعها الوجودي المأزوم.

ووفق هذا التصور، يمكن القول: إن الرؤيا الجمالية- في قصائد الحداثة- مؤسسة على استثارة القيم الجمالية؛ بالانتقال من قيمة جمالية إلى قيمة تبرز الدلالات والمثيرات النصية، كما في قول نزار قباني:

" صباحَ اليوم فاجأني

دليلُ أنوثتي الأول

كتمتُ تمزقي..

وأخذتُ أرقبُ روعة َ الجدولْ

وأتبعُ موجهُ الذهبي..

أتبعهُ ولا أسألْ

هنا أحجارُ ياقوتٍ

وكنزُ لآلئٍ مهملْ

هنا.. نافورةٌ جذلى

هنا جسرٌ من المخملْ

هنا سفنٌ من التوليبِ

ترجو الأجمل الأجملْ

هنا.. حبرٌ بغير يدٍ

هنا.. جرحٌ ولا مقتلْ

أأخجلُ منهُ

هل بحرٌ بعزةِ موجهِ يخجلْ؟

أنا للخصبِ مصدرهُ

أنا يدهُ

أنا المغزلْ"(12) .

هنا، يفاجئنا الشاعر نزار قباني بالرؤيا الجمالية في تشكيل الصور الشعرية المتناغمة في بث الحالة الشعورية التي تصف مشاعر الأنوثة على لسان أنثى جميلة؛ تكتشف جمال أنوثتها وتتباهى به: [هنا.. نافورة جذلى/ هنا جسرٌ من المخمل/ هنا سفنٌ من التوليب]، ثم ينتقل من صورة استعارية إلى صورة لخلق درجة من الفاعلية، واللذة في تشكيل المشهد الشعري الغزلي بإحساس جمالي.

والمثير أن كل صورة تشكل إيقاعها الجمالي المتناغم مع الموقف الشعري، الذي تثيره المحبوبة: [هل بحرٌ بعزة موجه يخجل/ أنا للخصب مصدره/ أنا يده / أنا المغزل]، وهكذا رسم القباني الصور الشعرية المتنوعة التي تظهر بلاغة الرؤيا الشعرية في رسم الصور الشعرية على مثل هذه الشاكلة الجمالية في ربط الأنساق الشعرية واستثارة قيمتها الجمالية.

والواقع ان الشعرية قيمة جمالية استثارية في خلق الرؤية الجمالية المراوغة التي تبث القها الجمالي، تبعاً لفاعلية الرؤيا الجمالية، ومثيراتها التكوينية؛ فالرؤيا الجمالية – عند القباني- رؤيا تشكيلية في تشعير المشهد الشعري، وخلق استثارته التكوينية في الانتقال من صورة إلى صورة، ومن مشهد شعري إلى آخر، وتبعاً لذلك يمكن القول: إن المحفز الجمالي في تشكيل القصيدة –عند القباني- يثير اللذة الجمالية في التشكيل لخلق الرؤية الجمالية، واستثارة إيقاعاتها الجمالية.

والمثير حقاً أن فاعلية الرؤيا الجمالية – عند شعراء الحداثة- تختلف من قصيدة إلى قصيدة، تبعاً لمتغيرات الرؤية الجمالية، ومحفزاتها النصية، فالقباني يعتمد في رؤيته الجمالية على مثيرات التشكيل الانسيابي الشاعري عبر شعرية الصورة ومثيراتها التكوينية، في حين أن الرؤيا الجمالية عند المقالح تعتمد رهافة الصور، وبلاغة انزياحها الشاعري المثير، كما في قصيدته الموسومة ب(إلى اللقاء) التي يقول فيها:

"إلى اللقاء...

حين افترقنا واختفت عيناك في نهاية الطريق

أجهشَ في عينيَّ، وأظلم المكان

وامتدَّ...

لم أجد لعيني شاطئاً ولا ميناء

أحسستُ أنني الغريق...

أن طيور حبنا الجميلة البيضاء

ترحلُ خارج الزمان

تلهثُ في الحريق"(13) .

إن القارئ، هنا، يدهش من فاعلية الرؤيا الجمالية في القصيدة من خلال البث الجمالي العاطفي الذي يثيره الشاعر عبر الصور الشعرية المثيرة التي تبرز أثر الفراق، والوادع المحتوم؛ فكل صورة شعرية تبث شجنها الشعوري العميق، بأسى شعوري منكسر، وإحساس مأزوم: [حين افترقنا، واختفت عيناك في نهاية الطريق/ أجهش في عينيَّ/ وأظلم المكان/ وامتدَّ]، إن هذه الصور التشكيلية العميقة في إحساسها تبرز ألقها العاطفي، وشعورها اليائس المنكسر، وكأن كل صورة تجعل الموقف الشعوري غاية في الإحساس، والانكسار الشعوري، والأسى العاطفي المأزوم، كما في قوله: [أحسستُ أنني الغريق.../ أن طيور حبنا الجميلة البيضاء/ ترحل خارج الزمان/ تلهث في الحريق]؛ إننا نلحظ من خلال المعجم اللغوي للأنساق الشعرية إحساس الشاعر العاطفي القلق المأزوم من خلال المفردات التالية: [الغريق= الحريق]، وكأن مرارة الفراق والانكسار إثر وداع محبوبته تظهر نفسيته المنكسرة الحزينة وشعوره العاطفي المرير. وكأن كل صورة تبث ألقها العاطفي الاغترابي بأسى منكسر وشعور يائس حزين. وهذا ما يظهره بقوة في المقطع الذي يليه:

" وقفتُ تائهَ المسار

واريتُ حبي مثخناً

أطعمتُهُ طحالبَ البحار

أسقيته عصيرَ الصمتِ.. لم يزلْ إليكِ ظامئاً

يفتشُ الأمواجَ والقواقع

تمرُّ حوله الأيامُ تختفي

وهو هناك... في المكان راكع

أنلتقي؟

ما أوجعَ السؤال

يعصرني..

يحفرُ في الأعماقِ والعيونْ

دوائر الظنون"(14) .

إن القارئ، هنا، يدهش من هذه الصور الشعرية المأزومة التي تبرز وداعه لمحبوبته، والصور الرؤيوية الكاشفة عن عمق معاناته، ومشاعره المأزومة، وكأن كل صورة تبرز إحساسه المأزوم بكل ما تحمله هذه الصور من رؤى ودلالات مأساوية جارحة: [ما أوجع السؤال يعصرني.. يحفر في الأعماق والعيون دوائر الظنون]؛ فهذه الصور الانزياحية المأزومة لا يشكلها إلا شاعر متمرس في لعبته الشعرية الجمالية؛ لإثارة الرؤية الجمالية، وتحقيق مبتغاها الجمالي؛ وهكذا يمكن القول: إن فاعلية الرؤيا الجمالية – في القصائد الحداثية – تتأتى من بلاغة التشكيلات النصية الاستثارية التي تثير الشعرية من العمق، ولا قيمة للرؤيا الشعرية بمعزل عن شاعرية اللغة، وبلاغة مثيراتها التشكيلية الخلاقة؛ لأن القارئ الجمالي التشكيلي هو الذي يرفع درجة الحساسية الجمالية في تلقي النص الشعري جمالياً.

وصفوة القول: إن فاعلية الرؤيا الجمالية ومثيرها الاقتضائي في التشكيل النصي- عند شعراء الحداثة- تتأتى من بلاغة الانزياحات الجمالية الخلاقة التي تثير الرؤيا الجمالية في تشكيل الأنساق اللغوية الصادمة التي تحقق جمالية خاصة في الاستثارة والتخليق النصي؛ من خلال فاعلية الانزياح الجمالية التي تحقق غايتها وفاعليتها النصية القصوى عبر تفاعل الأنساق الشعرية واستثارة قيمها الجمالية. وكلما كانت لعبة الشاعر الإسنادية انزياحية في تحقيق إيقاعاتها الجمالية حققت الصور مثيرها الجمالي وحراكها الأسلوبي المثير.

2- فاعلية الرؤيا الجمالية في استثارة اللقطات التصويرية الصادمة:

لاشك في أن فاعلية الرؤيا الجمالية تكمن في استثارة اللقطات التصويرية الصادمة التي تتأتى من محفزات الرؤيا الجمالية التي تثير الفاعلية الشعرية في التلقي النصي الناجع أو المثير؛ ولهذا " لا يرجع نجاح الشاعر في سيطرته على تجربته، وتمكنه منها إلا إلى قدرته على تكوين علاقات لغوية جديدة تتكشف من خلال التجربة، ويتحدد بها الفكر ذاته. إن الشاعر يحتضن الكلمات، ويتأملها، ويعيد تشكيلها؛ بل إنه قد يغير من صياغتها، ويحطم من أنسقتها، ونظامها العرفي الثابت، ويخلق لنفسه نظاماً فريداً خاصاً به، وما يحدث نتيجة لذلك ليس من قبيل الضرورة الشكلية المرتبطة بالوزن؛ وإنما هو الضرورة الملحة النابعة من الرغبة في اكتشاف معنى التجربة، وطبيعتها. وبهذا الفهم، فإنه لا يمكن إدراك لغة الشاعر، وفاعليتها؛ تبعاً لتصورات لغوية عامة لا تضع في اعتبارها فاعلية التجربة الشعرية وخصوصيتها وفرديتها"(15) .أي إن الشاعر المبدع من خلال اللغة يحقق للشعرية قيمتها الاستثارية النصية التي تنقل الشاعر من قيمة أسلوبية تشكيلية إلى قيمة نصية أخرى، تبعاً لمثيراتها التشكيلية وإيقاعاتها التفاعلية المؤثرة.

والشاعر الإبداعي الحداثوي المثير هو الذي يحقق قيمة جمالية في خلق الروابط الجمالية الفاعلة في الانتقال من قيمة جمالية إلى قيمة، حسب بلاغته، ومنظوراته الجمالية في تحفيز لغته الشعرية؛ فاللعبة الجمالية لعبة تشكيلية استثارية خلاقة برؤاها ومعانيها الخلاقة، لاسيما في التقاط التشكيلات التصويرية الصادمة على شاكلة قول الشاعر نضال القاسم:

" يا حرية ً

أيتها المغلوبة المنكسرة مثل جثةٍ في الظلام

أنا الإنسانُ

أيقنتُ أني أحبُّكِ حبَّ المجانين

أخفقتُ كثيراً

كيفَ لي أن أخبئ الآن وجهي المهزوم

والمكلوم

والمنكسر"(16) .

لابد من الإشارة إلى أن التقاط التشكيلات التصويرية الصادمة- في أي نص شعري مثير- يعتمد على فنية أو بلاغة الانزياحات التشكيلية الصادمة التي تخلق إيقاعها الجمالي من خلال الحبكة النصية المراوغة، وإيقاعها التفاعلي المثير، كما في قوله: [أيتها المغلوبة المنكسرة مثل جثةٍ في الظلام/ كيف لي أن أخبئ وجهي المهزوم / والمكلوم/ والمنكسر]، فثمة رؤية جمالية تحفيزية في هذا الخطاب الشعري على مستوى الحياكة الجمالية، وفاعلية اللقطات التحفيزية المؤثرة، ففي قوله: [أيتها المغلوبة المنكسرة مثل جثة في الظلام] يبني الشاعر إيقاع قصيدته اللغوي على مثيرات المشهد الشعري المأزوم ومتحولات الرؤية الشعرية المنزاحة بإيقاعاتها النصية المراوغة؛ وكأن النص الشعري يشكل قيمته الانزياحية من خلال المعنى المثير والرؤية التشكيلية الصادمة؛ وهذا يدلنا على أن الفكر الجمالي – عند نضال القاسم – فكر جمالي تحولي شاعري الرؤية، وإنتاج الدلالات المؤثرة.

والواقع أن فاعلية الرؤيا الجمالية في استثارة اللقطات التصويرية الصادمة في قصائد الحداثة تعتمد بكارة الإسنادات الجمالية ومحفزاتها النصية، فالقيمة الجمالية لا تكمن في اللقطات التشكيلية الصادمة وبناها العميقة، فحسب؛ وإنما بما تتضمنه من قيم تأثيرية خلاقة كما في قول علي جمعة الكعود:

" دلقتُ

على درجِ الروحِ

خمري

وحزني ترنح منتشياً

ودروبي تضيقُ

على خطوتي

ها أنا اتنفسُ

رائحة َ الدمعِ

وهو يذرًّ غبار البكاء

على وجنتين

معتقتين

بدنِّ الأسى"(17) .

إن القارئ هنا يدرك أن فنية اللعبة التشكيلية الجمالية في قصائد الكعود تعتمد على لذة تنقلات الشاعر من قيمة استثارية جمالية صادمة إلى قيمة استثارية أكثر قيمة، ولذة، واستثارة جمالية خلاقة بالرؤى والدلالات النصية الجديدة، كما في تصوير حالته النفسية المختنقة بالحسرة، والأسى الدامع: [ها أنا أتنفس رائحةَ الدمع/ وهو يذرُّ غبار البكاء على وجنتين معتقتين بدن الأسى]، ففي قوله [دن الأسى] يخلق الشاعر رؤيته التشكيلية الصادمة؛وهكذا، تتحول القصيدة إلى قيمة جمالية مثيرة في خلق المعاني الجمالية المحملة بكل دلالات الاغتراب، والبث الشاعري المتألق، وها يؤكد أن التقاط التشكيلات التصويرية الصادمة يرفع الشعرية، ويثير قيمها الجمالية، لاسيما عندما يتحول النص الشعري إلى بؤرة جمالية تشكيلية تفيض بالدلالات والمعاني الشعرية؛ وهكذا، تتحول الشعرية في أوج تناميها الجمالي إلى فاعلية التشكيل الإبداعي الخلاق من خلال الغواية اللغوية الجمالية التي تصنعها حنكة الشاعر التشكيلية من خلال الصدمة الجمالية واللذة في تلقيها، لأن الفن الشعري إن لم يحقق اللذة الجمالية او القيمة الجمالية العليا يبقى نصاً منقوصاً على المستوى الإبداعي؛ لأنه لم يحقق تفاعله المثير، وقيمته التاثيرية الفنية العالية التي تظهر في استثارتها وصدمتها المؤثرة.

وصفوة القول: إن فاعلية أية قيمة جمالية تتأسس على مثيرها الجمالي المتحول من قيمة جمالية إلى قيمة، وفق مؤشرات نصية بليغة تحقق استثارتها من قيمها الجمالية ومتحولاتها النصية البليغة التي ترتكز على فاعلية الرؤية الجمالية ومتغيرها الانزياحي التصويري الصادم. وهذا يعني أن أي ارتقاء جمالي تفاعلي في استثارة الشعرية يرجع إلى فاعلية قيمها الانزياحية الصادمة ومثيرها التكويني الخلاق بقيمه ومؤشراته البليغة.

3- فاعلية الرؤيا الجمالية في استثارة المتغيرات الأسلوبية البليغة:

إن الشعرية كتلة فواعل جمالية، ومجموعة قيم انزياحية متغيرة في رؤاهان ومؤثراتها الجمالية البليغة؛ ولهذا، تختلف فاعلية الرؤيا الجمالية من شاعر إلى شاعر آخر حسب بلاغة المتغيرات الأسلوبية، وقيمها الانزياحية الجديدة؛ ولهذا، ": فإن فاعلية الرؤيا الجمالية تبرز في الشكل اللغوي الجمالي الذي تثيره على فضاء النص الشعري؛ وهذا يعني أن الشاعر المؤثر فنياً أو جمالياً يمتاح من إيحاءات الكلمة ما يغني تجربته الشعرية، وينتقي من اللغة المفردات التي تتناغم مع موقفه الوجداني وتموجاته النفسية، ذلك أن لكل كلمة نغمها الخاص المتولد عن تتابع الأصوات والمقاطع، وما يميز الشاعر المبدع عن غيره الاهتداء إلى الكلمة التي يقتضيها السياق، بحيث يقرع الاذن جرسها عند التلفظ بها، فتولد عند المستمع أثراً رناناً يتساوق مع الغرض الذي يقصده الشاعر"(18) .

وبهذا التصور، فإن فاعلية الرؤيا الجمالية تتبدى في الحراك الجمالي المثير الذي تثيره بين الأنساق التشكيلية، والتي تظهر من خلال انسجام الأنساق الشعرية، وتغير قيمها الجمالية، من قيمة جمالية إلى قيمة، وفق متغيرها الجمالي المثير، وغلبة القرائن الفاعلة في خلق الاستثارة الجمالية.

وما ينبغي التأكيد عليه أن فاعلية الرؤيا الجمالية تظهر في استثارة المتغيرات الأسلوبية البليغة التي تظهر في تنوع الأساليب والرؤى الجمالية المرتبطة بها، وهذا يعني أن فاعلية الرؤيا الجمالية تكمن" في روح البناء الكلية، أي الاتحاد بين الجزئيات، بحيث تصبح وحدة متكاملة، فيشعر الناظر إلى المصنوع بالصلة بين جزئياته، وعلى ذلك، فإن الروح الكلية هي التي تعطي هذه الجزئيات جمالها، ونحن لا نستطيع أن نبصر الروح إلا إذا تجاوزنا الجزئيات إلى الكليات"(19) .

والشاعر الحداثوي المبدع هو الذي يحقق فاعلية الرؤيا الجمالية من خلال بلاغة المتغيرات الاسلوبية المثيرة في النص، عبر بلاغة الانتقال الفني الجمالي من متغير أسلوبي جمالي إلى آخر، كما في قول نزار قباني:

" صديقتي،

مللت من تجارة الجواري..

مللتُ من مراكبي

مللت من بحاري

لو تعرفين مرة..

بشاعة الإحساسِ بالدوارِ

حينَ يعودُ المرءُ من حريمهِ

منكمشاً كدودةِ المحارِ..

وتافهاً كذرةِ الغبار..

حينَ الشفاهُ كلها

تصير من وفرتها

كالشوكِ في البراري

حين النهودُ كلها

تدقُّ في رتابةٍ كساعةِ الجدار"(20) .

لابد من الإشارة بداية إلى أن فاعلية الرؤيا الشعرية تتحدد ببلاغة المتغيرات الأسلوبية، ومستوى نشاطها الإبداعي التي ترفع سوية الأنساق الشعرية جمالياً من خلال شعرية الرؤى والبنى الدالة؛ وهذا يعني أن فاعلية المتغيرات الأسلوبية تبرز من خلال شعرية القيم الجمالية المثيرة؛ كما في قوله: [حين الشفاه كلها/ تصير من وفرتها كالشوك في البراري/ حين النهود كلها / تدق في رتابة كساعة الجدار]، وهذا دليل أن اللعبة الشعرية لعبة جمالية مؤشرها الأساس الحركة الجمالية في رسم الأنساق التشكيلية المراوغة، وبناها الخلاقة. ففي الصور التالية(كالشوك في البراري- كساعة الجدار] خلق ممانعة تشبيهية مؤثرة ترفع حرارة الاستثارة واللذة الجمالية في النسق الشعري؛ مما يدلل على بلاغة الأنساق الشعرية ومتحولها الجمالي المثير.

والواقع أن فاعلية الرؤيا الجمالية -في قصائد الحداثة- تتنوع تبعاً لفاعلية المتغيرات الأسلوبية، وتنوع المؤثرات الجمالية التي تربط الكلمة بالكلمة، والجملة بالجملة، وهذا يعني أن بلاغة المتغيرات الجمالية تتبع فاعلية الشعرية ومثيراتها التكوينية، لأن قيمة النص جمالياً من قيمة متحوله الجمالي، وطاقة هذا المتحول الجمالي في استثارة الشعرية بأعلى قيمها الجمالية، كما في قول محمود درويش:

" واقفٌ تحت الشبابيك،

على الشارع واقفْ

درجاتُ السلم المهجور لا تعرفُ خطوي

لا ولا الشباك عارفْ

من يدِ النخلةِ أصطادُ سحابهْ

عندما تسقطُ في حلقي ذبابه

وعلى أنقاض إنسانيتي

تعبرُ الشمسُ وأقدامُ العواصفْ

واقفٌ تحت الشبابيك العتيقهْ

وأنا أجتاز سرداباً من النسيان، والفلفل والصوت النحاسيُّ

من يدي يهربُ دوريٌّ

وفي عيني ينوبُ الصمتُ

عن قول الحقيقهْ"(21) .

إن القارئ النصي أو الجمالي يستطيع ان يتحسس الفاعلية الجمالية الاستثارية للرؤيا الجمالية في تحفيز الشعرية، من خلال التشكيلات النصية الاستثارية البليغة: [وأنا أجتاز سرداباً من النسيان/ والفلفل/ والصوت النحاسي]، ثم تتبدى فاعلية الاستثارة الجمالية في الأنساق التالية: [من يدي يهرب دوري/ وفي عيني ينوب الصمت عن قول الحقيقهْ]، فكل نسق شعري يحقق قيمة جمالية استثارية في خلق الممانعة الجمالية الآسرة التي ترفع درجة الحساسية واللذة الجمالية في التحفيز النصي؛ وهذا يعني أن فاعلية الرؤيا الشعرية جمالياً تظهر من خلال بلاغة الأنساق الشعرية، واستثارة متخيلاتها الجمالية، تبعاً لفاعلية الحراك الجمالي الأسلوبي، فكل قيمة جمالية ترتكز على مرجعية القيمة الجمالية الأخرى، مما يحقق الممانعة الجمالية في خلق الاستثارة وبلاغة التأثير.

وهنا، نلحظ أن الشعرية ليست نسجاً تشكيلاً نصياً ممانعاً في خلق الاستثارة الجمالية في النسق الشعري؛ وإنما كتلة انزياحات متحولة برؤاها ودلالاتها النصية، وهذا ينعكس على شعرية الانساق وبلاغة رؤاها النصية، وكلما كانت الأنساق الشعرية متفاعلة في استثارة اللذة الجمالية في خلق متغيرها الجمالي المثير أو الخلاق استطعت أن تزيد فاعلية استثارتها وبناها النصية العميقة.

والملاحظ أن فاعلية الرؤيا الجمالية تتحقق من خلال شعرية المتغيرات الأسلوبية، وقيمتها النصية في خلق الاستثارة النصية، كما في قصيدة (رسالة جوابية) لعبد العزيز المقالح، وفيها يقول:

" لا تنتظر..

على الشفاه لا تهزًّ صوتَ اللومْ

فربما يعودُ ذات يوم

إن أطلقت سراحَ وجهه الرياح

لكنه يعودُ مثخن الجبين

في قلبه، في عينه تعربدُ الرياح

وتندبُ السنين

حزني عليه كم يموتُ كل ليلة على مضاجع الحنين"(22) .

إن القارئ –هنا- يدرك فاعلية الرؤيا الجمالية من خلال بلاغة المتغيرات الأسلوبية الخلاقة بدلالاتها ورؤاها النصية المفاجئة في تحفيز الرؤيا الجمالية، كما في الأنساق التالية: [لا تنتظر... على الشفاه لا تهزُّ صوت اللوم/ لكنه يعود مثخن الجبين.../ حزني عليه كم يموت كل ليلة على مضاجع الحنين]؛ فالمثير هنا أن فاعلية الرؤيا الجمالية تظهر من خلال حنكة الشاعر في الانتقال من رؤية إلى رؤية، لتحقق إيقاعها الجمالي الخلاق، كما في قوله: [صوت اللوم- مثخن الجبين- مضاجع الحنين]؛ فالقيمة ليست في شعرية التوليفات النسقية الشاعرية فحسب، وإنما باللذة الجمالية التي تشكلها الأنساق الشعرية؛ لتحقق غايتها الإبداعية.

ولو تأمل القارئ في الحيثيات التشكيلية للأنساق الشعرية السابقة لأدرك فاعلية الأنساق الشعرية في خلق مثيراتها التشكيلية التي تظهر من خلال دينامية الأنساق الشعرية ومتحولها الجمالي، وهذا دليل أن الشعرية بلاغة رؤى استثارية خلاقة بدلالاتها النصية الممانعة.

وصفوة القول: إن الشعرية - في قصائد الحداثة- تتأتى من بلاغة الأنساق الشعرية التي تحقق قيمتها النصية من خلال التوليفات النسقية الخلاقة بدلالاتها ورؤاها، وهذا يعني أن الشعرية لعبة استثارات جمالية خلاقة بوعيها ومثيراتها النصية, وكلما كانت الأنساق الشعرية غنية برؤيتها الجمالية استطعت أن تثير المتلقي، وتحرك الرؤى النصية الجمالية.

4- فاعلية الرؤية الجمالية في خلق التكامل النصي:

 الشعرية إيقاعات جمالية تحقق غايتها من خلال تفاعل الأنساق الشعرية؛ لاستثارة قيمها الجمالية المثيرة؛ والشاعر المبدع هو الذي يحقق إيقاعاته النصية المتكاملة في تحفيز الرؤية الجمالية، واستثارة قيمها الخلاقة؛ فالإيقاع التكاملي الجمالي" ليس مجموعة أصوات مفردة تنطق مستقلة بكيانات ذاتية، بل هو مجموعة هذه الأصوات المتناسقة والمنتظمة في تركيب لغوية، يحمل كل تركيب منها خصائص تعكس الصورة الذهنية والدلالات المرتبطة بالسياق اللغوي، وسياق الموقف الشعوري. ومن هنا، فإن لكل صوت موسيقا تحدث نغماً صوتياً له علاقة بالتيار الشعوري في مسار النص؛ وهذا لأن لكل صوت مخرجه وصفاته التي ترتبط بدلالة الكلمة عن طريق علاقة فنية وشعورية؛ وهذه العلاقة لا يتعمد الشاعر إبرازها، لأن موهبته الفطرية وتملكه لأدواته اللغوية والفنية يمكنانه من ذلك فطرياً"(23) .

والشاعر المبدع هو الذي يبني النص الشعري بناء فنياً محكماً من خلال تآلف أجزائه النصية، واستثارة القيم الجمالية التي تحقق المتعة في التلقي النصي؛ فالقيمة الجمالية ليست لفاعلية الأجزاء النصية في القصيدة؛ وإنما القيمة للبنية الكلية التي تثيرها الأنساق الشعرية في تحقيق غايتها الإبداعية؛ ومن هنا، فإن " لغة الشعر تنشأ بين الشاعر وبقية المدركات التي تكون عالمه الشعري؛ ذلك أن اللغة الموجودة خارج الشعر تكون في حالة فوضى لا يعثر فيها الإنسان على نفسه، ولكن حين تدخل في إطار الشعر يصنفها الشاعر وينظمها مخلصاً إياها من الفوضى، ليحقق وجوده من خلال التغيير الفعال لآلية وجودها في العملية الإبداعية"(24) .

و تكمن فاعلية الرؤيا الجمالية -في قصائد الحداثة- في خلق التكامل النصي؛ على مستوى تفاعل الأجزاء النصية، لتحقق قيمتها النصية الخلاقة أو المنتجة في بناها ورؤاها التشكيلية، من أول لبنة تشكيلية في القصيدة إلى آخر كلمة في بنيتها النصية، كما في قول محمود درويش:

"كتبتُ وصيتي بدمي

ثقوا بالماءِ يا سكان أغنيتي

ونمتُ مضرجاً ومتوجاً بغدي..

حلمتُ بأنَّ قلبَ الأرضِ أكبرُ

من خريطتها

وأوضح من مراياها ومشنقتي

وهمتُ بغيمةٍ بيضاء تأخذني

إلى أعلى

كأنني هدهدٌ، والريحُ أجنحتي"(25) .

لابد من الإشارة بداية إلى أن فاعلية الرؤيا الجمالية تسهم في خلق التكامل النصي؛ لاسيما من خلال تآلف الأنساق الشعرية التي ترفع درجة الحساسية الجمالية في التلقي الشعري الجمالي؛ وهنا ابتدأ الشاعر في خلق اللحمة الجمالية في النص من خلال استثارة الأنساق الشعرية، كما في قوله: [كتبت وصيتي بدمي/ ثقوا بالماء يا سكان أغنيتي/ همتُ بغيمةٍ بيضاء تأخذني إلى أعلى/ كأنني هدهدٌ/ والريحُ اجنحتي]؛ فكل نسق شعري من الأنساق السابقة يبرز بقوة في تفعيل الرؤيا الجمالية التي ترتكز على بلاغة الإيحاء، وشعرية الأنساق الجمالية المراوغة.

والقارئ الجمالي يدرك التكامل الفني الجمالي الذي تثيره الأنساق الشعرية من خلال تناغم الأنساق الشعرية وتفاعلها مع الأنساق الشعرية لتبدو مثيراتها النصية قمة في الفاعلية والحنكة الجمالية كما في القفلة النصية: [كأنني هدهدٌ، والريحُ أجنحتي]، وهذا دليل أن الشاعر المثير هو الذي يقف على القفلة الشاعرية المثيرة التي تبين حنكته الجمالية في الانتقال من رؤية إلى رؤية، ومن موقف جمالي استثاري إلى آخر.

والمثير أن شعرية الرؤيا ترتكز على حساسية الموقف الشعري، وشعرية الرؤية الفنية التي تخلق إيقاعها الجمالي الممانع، كما في قول الشاعر علي الدميني:

" يابساً كالعناقيدِ في وحشتي

أتأمل طيفَ النساء

اللواتي استعرنَ هواي قميصاً لأحلامهنّ

ولما بلغنا قريباً من المنحنى

ملن عني، كمن يتهيأ للثأر من زهو عاشقه

فيفرُّ إلى نأيه، مثل أغنيةٍ هاربة"(26) .

إن القارئ -هنا – يتلذذ بشعرية الرؤيا الجمالية الغزلية التي تشي بشعرية الحالة، واستثارة إيقاعاتها الجمالية من خلال الانتقال من رؤية جمالية إلى رؤية، لخلق التكامل النصي في وصف محبوبته وإحساسه الجمالي بها، وهذا الوصف الشاعري الجمالي دليل حنكة جمالية في الانتقال من رؤية جمالية إلى رؤية، لتبرز الدلالات بإيقاعاتها الجمالية الخلاقة، كما في قوله: [يابساً كالعناقيد في وحشتي/ أتأمل طيف النساء]، فكل مثير لغوي نصي يحقق إيقاعها الجمالي، ومتحوله الخلاق الموحي، وهذا يدلنا على أن الشعرية فاعلية رؤى جمالية تبث ألقها الجمالي بحراك شعوري وإحساس جمالي خلاق، وكلما احتفى الشاعر بإيقاعات الرؤيا الجمالية، وتكامل الرؤى النصية حقق لقصيدته التناغم والاستثارة واللذة الجمالية.

والمثير أن فاعلية الرؤيا الجمالية – في قصائد الحداثة - تتأتى من الحراك الجمالي على مستوى الأنساق الشعرية لتحقق أيقاعها الجمالي التكاملي، كما في قصيدة(ديك الجن الحمصي) لنزار قباني:

إني قتلتك.. واسترحتُ

يا أرخص امرأةٍ عرفتُ

أغمدتُ في نهديك سكيني

وفي دمكِ اغتسلتُ

وأكلتُ من شفةِ الجراحِ

ومن سلافتها شربتُ

وطعنتُ حبكِ في الوريدِ

طعنتهُ.. حتى شبعتُ

ولفافتي بفمي.. فلا انفعلَ

الدخانُ... ولا انفعلتُ"(27) .

لابد من الإشارة بداية إلى أن اللعبة الشعرية تكمن في تكاملها الجمالي واستثارتها النصية؛ وهذا يعني أن شعرية الرؤيا تكمن في لعبتها الانزياحية الخلاقة التي تشي بها، من خلال فاعلية الرؤية التشكيلية والقيمة الاستثارية الجمالية التي تحصلها في النص، وهنا، إن نص القباني أثارنا بالمتخيل الجمالي البليغ الذي يربط النسق الأول بالثاني، والثاني بالثالث، كما في بلاغة الأنساق الشعرية التالية: [وأكلت من شفة الجراح/ ومن سلافتها شربت/ وطعنت حبك في الوريد/ طعنة حتى شبعتُ/ ولفافتي بفمي .. فلا انفعل الدخان/ ولا انفعلت]، وهذا التكامل الجمالي في الرؤيا الشعرية يؤكد أن القباني شاعري الرؤيا بامتياز واستثارة جمالية، مما يؤكد شعرية الرؤيا، وبلاغة النص في استثارة الرؤى الشعرية الممانعة.

وصفوة القول: إن فاعلية الرؤيا الجمالية – في قصائد الحداثة – تكمن في خلق التكامل الجمالي الذي يثير اللذة الجمالية في انسق الشعري من خلال فاعلية النص الشعري، ومثيراته التشكيلية، والشاعر المهم إبداعياً هو الذي يفعِّل الرؤيا الجمالية من خلال فاعلية البنى التشكيلية التي تثير الشعرية من العمق.

5- فاعلية الرؤيا الجمالية في خلق المناورات الأسلوبية المثيرة:

الشعر فن جمالي؛ استثاري الرؤيا، والملمح، والأسلوب؛ قوامه فاعلية الرؤيا الجمالية، وبلاغة المناورات الأسلوبية الخلاقة التي تشي بمهارة إبداعية تشكيلية مثيرة، وحنكة بليغة في توليف الكلمات، وربطها جمالياً؛ لأن الإبداع الشعري الفاعل نتاج خبرة جمالية في خلق المناورات الاسلوبية الخلاقة ببناها ورؤاها التشكيلية؛ ونقصد ب(المناورة الأسلوبية المثيرة): المناورة التي تخلق إيقاعها الجمالي من خلال بلاغة ترابطها الأسلوبي الانزياحي في النسق الشعري الذي تدخل في تركيبه؛ وهذه البلاغة تزداد شعرية وفنية كلما جاء الترابط فاعلاً في خلق الاستثارة الجمالية؛ عن طريق تلوين الرؤى الشعرية والتشكيلات الشاعرية التي تدلل على خبرة جمالية وإحساس جمالي في توليف الأنساق الشعرية بكل ماتتضمنه من قيم ومؤثرات نصية بليغة. وهذا يعني أن "إبداع الشاعر لا يعزى إلى الكلمات فحسب، وإنما إلى نظم الكلمات وترتيبها، واستغلال خواصها الصوتية والصرفية في سبيل تنسيقها في تراكيب متجانسة؛ يضفي عليها الشاعر الكثير من مشاعره ورؤاه؛ وههنا، تتحقق جمالية النظم عن طريق التلاحم القائم بين التركيب المبدع والشعور الخاص، أي بين الوسيلة الفنية والرؤية الداخلية لدى الشاعر"(28) . ولهذا، تبدو قيمة الشاعر شعرياً بارزة في المثيرات الجمالية التي تحققها الأنساق الشعرية عبر فاعلية الترابط الجمالي الاستثاري بين الأنساق الشعرية، على مستوى استثاري فاعل في خلق المناورات الأسلوبية التشكيلية الصادمة.

والشاعر المبدع هو الذي يلتف بمناوراته الأسلوبية البليغة؛ ليحقق إيقاعها الجمالي، ويثير القارئ في تنقلات الرؤية الجمالية من قيمة جمالية إلى قيمة؛ وفق متغيرها الجمالي الصادم ومتحولها النسقي البليغ وهذا يعني أن" الشاعر لا يعتمد في بناء قصيدته على انتقاء المفردات، واختيار الأساليب النحوية الملائمة بقدر ما يركز على الناحية الفنية، والإيحاءات الفكرية، ووقع الكلمات موسيقياً؛ فهناك مفردات تأتلف مع مفردات دون غيرها، وهناك أساليب لغوية تتجاوز العرف الشائع إلى الإبداع الخاص؛ وهذا كله يحتاج إلى مقدرة إبداعية يمكنها تركيب المفردات والتنسيق بينها؛ فلغة الشعر أغنى، وأعمق لا بالكلمات فحسب، بل في الصياغات، وطرق تركيب، فكل عنصر لغوي في الشعر يستخدم في تطوير قدرة العنصر الآخر، ومن هنا، تقوم لغة الشعر على أساس تنظيمي يشارك فيه الشكل الشعري المعنى الشعري في انسجام لا قرين له خارج الشعر"(29) . وهذا يعني أن الجمالية النصية ماثلة في بنية الرؤى وهندسة التراكيب الفنية التي تخلق متحولها الجمالي من بلاغة الرؤى الشعرية ومؤثراتها الرابطة التي تربط كل عنصر لغوي بمثيره الجمالي على نحو مهندس وموقع فنياً.

والواقع أن فنية المناورة الأسلوبية البليغة تتأتى من حنكة الشاعر الأسلوبية، وبكارة الأنساق الشعرية في استثارة القيم الجمالية الخلاقة التي تتأتى من بكارة الأنساق التشكيلية، والحنكة في رسم الأنساق البليغة في رؤاها ومقتضياتها التشكيلية، وعليها تنبني الرؤيا الجمالية في إنتاج اللذة الجمالية في لغة الشعر، ذلك أن " الشعر يبحث عن جميع إمكانات إيقاعه، فيلجأ إلى الأساليب اللغوية؛ ليقدم تنويعات مختلفة، تنسجم مع السياق الشعري، والموقف الوجداني الذي يعيشه الشاعر"(30) .وهذا يعني أن الشاعر لايختار تركيبه الشعرية إلا بعد طول تفكر وتدبر بالقيم الجمالية التي أثارتها تشكيلاته الصادمة حتى ارتقى جماليا في نسق قصائده الشعرية.

ومن يطلع على لغة الحداثة الشعرية يلحظ أن فاعلية الرؤيا الجمالية تتبدى في خلق المناورات الأسلوبية البليغة التي تشي بحكمة جمالية في ربط الكلمات، وتوليفها جمالياً على مثل هذه الشاكلة الانزياحية الخلاقة في قصيدة (نهاية) لأحمد عبد المعطي حجازي:

" ما الذي أبقت لنا الأيام، حتى نتجلد

وكلانا يخبر الآخر.. أن الحبَّ مات!

أي ساعات سرورٍ، نستعيدُ الآن ذكراها، فنصمد

لرياح اليأس والذل التي هبت علينا

في هدوء الكلمات!"(31) .

لابد من الإشارة بداية إلى أن فاعلية الرؤيا الجمالية- في قصائد الحداثة- تتأتى من بلاغة المناورات الأسلوبية الخلاقة التي تشي بها على المستوى الفني أو الجمالي؛ من خلال حنكة الشاعر في الانتقال من مناورة أسلوبية إلى أخرى، كما في المناورات الأسلوبية التالية: [لرياح اليأس والذل التي هبت علينا/ في هدوء الكلمات]، فالمناورة الأسلوبية(رياح الذل) تشي بإحساس جمالي شاعري في كشف الأثر الذي يولده الذل في النفس من حرقة وألم، ومرارة، ما استطاع الشاعر التعبير عنه إلا برؤيا جمالية مفتوحة تشي بحجم إحساسه الجمالي بما يعانيه من أسى وانكسار. ناهيك عن بلاغة الرؤى الشعرية في مناورته الأسلوبية[هدوء الكلمات] من إحساس شاعري يحرك اللذة الجمالية في النسق الشعري، وفق متغيرات أسلوبية تحرك الإحساس الجمالي وترتقي به.

واللافت أن فاعلية الرؤيا الجمالية – عند شعراء الحداثة- تختلف من قصيدة إلى قصيدة، تبعاً لفاعلية الرؤى الشعرية، وحجم المرارة التي يعيشها الشاعر في عالمه الوجودي القلق، كما في قصيدة(الأسلحة والرصاص) لبدر شاكر السياب:

" حديد .. رصاص..

حديد عتيق

رصاصٌ.." ليخلو هذا الطريق

من الضحكة الثرة الصافيهْ

وخفق الخطى والهتاف الطروب

فمن يملأ الدار عند الغروب

بدفء الضحى واخضلال السهوب"(32) .

إن القارئ هنا يدرك فاعلية الرؤيا الجمالية من خلال بلاغة الانتقال من مناورة أسلوبية إلى مناورة أخرى لخلق رؤية جمالية خلاقة تشي بها على المستوى الفني؛ كما في المناورات التالية: [خفق الخطى- الهتاف الطروب- دفء الضحى- اخضلال السهوب]؛ فكل نسق شعري يشي باستثارة النسق الشعري الآخر، لتبرز الإيقاعات الجمالية، في هذه التوليفة النسقية الجمالية؛ وهذا دليل أن المناورات الأسلوبية بؤر دلالية مفصلية في استثارة الرؤيا الخلاقة بمراجعها ورؤاها النصية. فكل نسق شعري يشي بمهارة إبداعية وقيمة في بث الرؤى والدلالات الفنية الصادمة التي يثيرها الشاعر في نسقه الشعري.

والمثير كذلك أن المناورات الأسلوبية—في قصائد الحداثة – تتنوع من قيمة جمالية إلى قيمة، ومن قصيدة إلى قصيدة، حسب فاعلية الرؤية الجمالية في خلق المناورات الخلاقة، على شاكلة قول شوقي بزيع في قصيدته(كم أنت أجمل في الحنين إليك) التي يقول فيها:

" محضُ يدينِ فارغتينِ في أبديةٍ ثكلى

يدايّ،

وإذ تداهمني عواصفُ نأيكِ الهوجاءُ

تنشبُ حيرتي أظفارها كالقطة العمياء

في الغبشِ المرائي

كم أنت أجمل في الحنين إليك"(34) .

لابد من الإشارة بداية إلى أن فاعلية الرؤيا الجمالية – في قصائد الحداثة- تبرز في بلاغة المتغيرات والمناورات الأسلوبية، بالانتقال من مناورة أسلوبية خلاقة إلى مناورة أشد بلاغة واستثارة جمالية، حسب بلاغة الرؤى الشعرية ومثيراتها التكوينية، كما في المناورات الأسلوبية التالية: [عواصف نأيك الهوجاء- تنشب حيرتي أظفارها كالقطة العمياء في الغبش المرائي]، والمثير حقاً أن كل بنية تشكيلية في هذه الأنساق الشعرية تبرز بوصفها محطات استثارية مناورة في خلق اللذة الجمالية في التشكيل، وهذا يعني أن بلاغة الرؤى الشعرية تبرز في هذه الانزياحات الصادمة بمناورتها التشكيلية الخلاقة التي تشي بها على المستوى الفني.

ففي قول الشاعر (وإذ تداهمني عواصفُ نأيك الهوجاء) يعبر عن إحساسه الشعوري المتوتر إزاء غياب محبوبته وعواصف الشقاء والأسى التي تنتابه إثر فراقها، فما وجد أبلغ وأشد مضاضة ووطأة على النفس من هذه الصورة التعبيرية الانزياحية الصادمة(عواصف نأيك الهوجاء) في الدلالة على إحساسه المرير، وأساه الشعوري المنكسر.

وهذا الأسلوب التشكيلي الممانع ذاته نجده في الصورة التالية: [تنشب حيرتي أظفارها كالقطة العمياء في الغبش المرائي]، فالشاعر تخنقه حيرته وتمد أظفارها إلى أنفاسه ليعيش حالة الضياع والشكوك في حبها، لدرجة يتخبط في حبها كالقطة العمياء في الظلام الدامس، دلالة على شدة الحيرة والشكوك التي دخلت أعماقه، وحركت مشاعره المتوترة.

وصفوة القول: إن فاعلية الرؤيا الجمالية – في قصائد الحداثة- تتأتى من خلال بلاغة الأنساق الشعرية التي تشي بها على المستوى الفني، وغنى النص إبداعياً يتأتى من غنى مناوراته الأسلوبية الخلاقة التي تشي بها على مستوى البنية، والتشكيل، ولعبة الأنساق الشعرية الممانعة في رؤاها ومؤثراتها الفنية.

نتائج أخيرة:

1- إن فاعلية الرؤيا الجمالية ومثيرها الاقتضائي في التشكيل النصي- عند شعراء الحداثة- تختلف من شاعر إلى شاعر، ومن نص شعري إلى آخر، تبعاً لمغريات الرؤية النصية، وبلاغتها في خلق الاستثارة النصية، وهذا يعني أن فاعلية الرؤيا الجمالية تبرز في قصائد الحداثة، تبعاً لفاعلية الإحساس الجمالي وكيفية تحقيقه المتعة الجمالية في التلقي النصي من خلال الحياكة الجمالية البليغة ورؤاها العميقة.

2- إن فاعلية الرؤيا الجمالية- في قصائد الحداثة- تبرز في استثارة اللقطات التصويرية الصادمة التي تميز نصاً شعرياً عما سواه، تبعاً لفاعلية الرؤيا الجمالية المحركة للشعرية في أرقى تحولاتها الجمالية، وهذا يتوقف على فاعلية الرؤيا الشعرية، وقيمتها في تحريك الأحداث والرؤى الشعرية.

3- إن فاعلية الرؤيا الجمالية – في قصائد الحداثة- تكمن في استثارة المتغيرات الأسلوبية البليغة، وهذه المتغيرات تتغير من قيمة جمالية أسلوبية إلى قيمة، تبعاً لمؤثرات الرؤيا الشعرية، وفاعلية اللذة الجمالية في التشكيل النصي، فالقيمة الجمالية تتحدد من خلال حراك الرؤى الدالة التي تشي بها على المستوى الفني.

4- إن فاعلية الرؤيا الجمالية- في قصائد الحداثة- تكمن في خلق التكامل النصي، والشاعر المبدع جمالياً هو الذي ينوع في مؤثراته الفنية لخلق التكامل النصي، على مستوى الرؤى، والدلالات، والمؤثرات الشعورية البليغة، وهذا يعني ان حنكة الشاعر الإبداعية تكمن في التوليف والترابط النسقي الشاعري بين الأنساق، وكلما كانت الأنساق تفاعلية في خلق الاستثارة الجمالية حققت القيمة الجمالية في النص؛ وهذا يرتد إلى الداخل الفني أو النبض الشعوري الذي تبثه القصيدة في تحولاتها النصية الخلاقة.

5- إن فاعلية الرؤيا الجمالية – عند شعراء الحداثة – تكمن في خلق المناورات الأسلوبية المثيرة واستثارة الرؤى الجمالية الصادمة، والكشف عن البنى النصية العميقة التي تثير الشعرية من العمق. فالقيمة الجمالية ليست في بلاغة الأنساق الشعرية ومثيراتها التكوينية في النص، وإنما في البنى والرؤى الدالة التي تشي بها، ومتحولاتها الأسلوبية البليغة في نسقها الشعري.

***

د. عصام شرتح

............................

الحواشي:

(1) حمدان، ابتسام، 1997- الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي، دار القلم العربي، حلب، ط1، ص90.

(2) المرجع نفسه، ص90.

(3) غاتشف، غيورغي، 1990- الوعي والفن، تر: نوفل نيوف، عالم المعرفة، الكويت، ع146، ص74.

(4) ديتش، ديفيد، 1967- مناهج النقد الأدبي، تر: محمد يوسف نجم، دار صادر، بيروت، ط1، ص179.

(5) غريب، روز، 1971- تمهيد في النقد الأدبي، دار المكشوف، بيروت، ط1، ص110.

(6) ويليك، رينيه، 1987- مفاهيم نقدية، تر: محمد عصفور، سلسلة علم المعرفة، الكويت، ع110، ص478.

(7) فضل، صلاح، 1985- نظريات البنائية في النقد الأدبي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3، ص71.

(8) روزنتال، م.ل، 1983- الشعر والحياة العامة، تر: إبراهيم يحيى الشهابي، مرا: عبد الحميد الحسن، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ص88.

(9) العلاق، علي جعفر، 2015- حياة القصيدة، حوار عبد اللطيف الواري، دار كنعان، دمشق، ط1، ص132.

(10) هولب، روبرت، 1994- نظرية التلقي، تر: عز الدين إسماعيل، كتاب النادي الأدبي الثقافي، جدة، ط1، ص237.

(11) درويش، محمود، 2005- الأعمال الأولى، دار الريس، ص178.

(12) قباني، نزار- الأعمال الشعرية الكاملة، ج1/ ص598-599.

(13) المقالح، عبد العزيز- الأعمال الشعرية، دار العودة، بيروت، ص216.

(14) المصدر نفسه، ص217.

(15) عصفور، جابر، 1974- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ص144-145.

(17) جمعة الكعود، علي، 2017- وشوم الظل، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص7.

(18) ترمانيني، خلود، 2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص72.

(19) المرجع نفسه، ص34-35.

(20) قباني، نزار- الأعمال الشعرية الكاملة، ج1/ ص545-546.

(21) درويش، محمود، 2005- الأعمال الأولى، ص177-178.

(22) المقالح، عبد العزيز، 1985- الأعمال الشعرية، ص315.

(23) ترمانيني، خلود، 2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص60.

(24) المرجع نفسه، ص34.

(25) درويش، محمود، 2009- الأعمال الشعرية الجديدة، منشورات رياض الريس، بيروت، ص21.

(26) الدميني، علي، 2016- خرز الوقت، النادي الأدبي في منطقة الباحة، المملكة العربية السعودية، ص64-65.

(27) قباني، نزار- الأعمال الشعرية الكاملة، ج1/ ص549.

(28) ترمانيني، خلود، 2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، ص95.

(29) المرجع نفسه، ص95.

(30) المرجع نفسه، ص95.

(31) حجازي، أحمد عبد المعطي، 1965- لم يبق إلا الاعتراف، دار الآداب، بيروت، ص75.

(32) السياب، بدر شاكر- ديوان بدر شاكر السياب، مج 1، ص573-574.

 (33) بزيع، شوقي، 2005- الأعمال الشعرية، ج2/ ص557.

 

في المثقف اليوم