قراءات نقدية

الأنوثة الشرقيّة.. بين مطرقة الذكورة الطوباوية وسندان الأعراف الجامدة

علي فضيل العربيوالتقاليد البائدة في المجتمع القروي الشرقي.. دراسة نقدية لرواية " شغف أنوثة شرقية " للروائية الجزائرية فاطمة الزهراء بطوش

منذ عصر ما قبل الإسلام، المسمّى بالعصر الجاهلي، كان لبعض النساء العربيات (الشرقيّات) حضور لافت في الحياة القبليّة، الأسواق الأدبيّة. لقد شهدت بلاد العرب عبر العصور المتتابعة، شاعرات وأديبات لامعات، على غرار الشاعرة العربية المخضرمة تماضر بنت عمرو بن الحارث المشهورة بالخنساء، والملقبة بشاعرة الرثاء في الشعر العربي برمّته، والتي ملأت الآفاق والفيافي. والأميرة الشاعرة، القرطبية الأندلسية، ولاّدة بنت المستكفي، ومي زيادة، أديبة الشام ومصر، ونازك الملائكة، مجدّدة الشعر العربي الحديث، ورائدة الشعر الحر، بقصيدتها " الكوليرا "، والأستاذة والكاتبة والباحثة المصرية، عائشة عبد الرحمن، المشهورة ببنت الشاطيء. وغيرهنّ من الكاتبات والمبدعات العربيات في المشرق والمغرب العربيين. أمّا الساحة الأدبية الجزائريّة، فقد أنجبت لنا أديبات ومبدعات كثيرات، في مضمار الشعر أو النثر، كتبن بلغة الضاد، أو بلغة الاحتلال، من أمثال: آسيا جبّار، وزهور ونيسي، وأحلام مستغانمي، وربيعة جلطي، وجميلة زنّير، وزوليخة السعودي، وفضيلة الفاروق، ومليكة مقدّم، وغيرهنّ من أديبات الجيل الجديد ؛ جيل ما بعد التسعينيّات، جيل الديمقراطية والتعدّد الحزبي، والانفتاح على حريّة التعبير.

و من بين الأديبات الروائيات الجزائريّات اللائي ظهرن في العشريّة الأخيرة، الروائية فاطمة الزهراء بطوش من خلال روايتها " شغف أنوثة شرقيّة "، والصادرة عن دار المثقف للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى عام 2017 م.

و قبل أن ألج إلى عتبات الرواية ومتنها، ارتأيت أن أستهل هذه المقاربة النقدية من البدء، وهو صياغة العنوان مبنى ومعنى، " شغف أنوثة شرقية "، فقد صاغته الروائية فاطمة الزهراء بطوش صياغة مثيرة للمشاعر والرؤى، بما احتواه من دلالة وتشفير، باعتبار اللغة، كما قال سوسير، " منظمومة مفهوماتية وهمية، لا تجد طريقها إلى التجسيد " إلا بواسطة النطق أو التعبير أو الكتابة، لتخرج من صورتها الذهنية، إلى أرض الواقع. كما أنّ العنوان عند جمهور الأدباء والنقاد، هو عتبة المتن الروائي ومفتاح تأويله، يحمل دلالات وظيفية، تجعل المتلقي يقبل على قراءة النص الروائي بشغف كبير. وقد يؤدي العنوان – أحيانا – دورا سلبيا تجاه المعمار الروائي، ويساهم في نفور القاريء منه. لهذا السبب، وغيره، وجب على الكتاب والشعراء الاعتناء بالعنوان، من حيث الصياغة اللفظية والبناء الدلالي.

و قد ارتأيت أن أدلي برأيي حول معنى كلمة " أنوثة " الواردة فيه، والتي يشترك فيها الإنسان والحيوان والنبات، كونها صفة تعبّرعن الصنف. فقد عرفتها الموسوعة الحرّة بأنّها " مجموعة السمات البيولوجية والجسدية عند الفرد وقد تشمل الكلمة أيضاً مجموعة الصفات النفسية أو الشكلية الخارجية كاللباس ولكن في هذه الحالة تكون افتراضات فرضها المجتمع حتى باتت المعنى الأساسي للكلمة في المجتمعات، فحلت الفرضية مكان الواقع". فالشغف مصدر، يبدو من الناحية السيميائية اسما مثيرا للغاية. فقد ورد في معناه، الحب والفتنة والولع والتعلّق والاخضرار والاندماج في الشيء، اندماجا كليّا. أما لفظة " أنوثة " فهي لا تعني في معناه اللغوي، القاموسي جنس الأنثى الإنسان. بل هي صفة عامة في الطبيعة، تشمل أيضا الكائنات غير العاقلة ؛ المتحركة والجامدة، المرئية بالعين المجرّدة والخافية. بل، أيضا، قد تعبّر – بغض النظر عن المكوّن الفيزيولوجي – عن بعض الذكور ممن يتصفون بصفات الأنوثة في سلوكهم وعواطفهم ونفسياتهم. ومن خلال العنوان، نكتشف مدى تعطش (الأنثى) الشرقية إلى الحياة الكريمة، وشوقها إلى الحريّة وولعها بها، وتطلّعها إليها. فهي بدونها أرضا يابسة، ويبابا من رماد. رغم أنّ المرأة الشرقية، كانت محظوظة عبر التاريخ. حين منحتها الأديان، والإسلام على وجه الخصوص، حقوقها كاملة، وحرّرها من عبودية وجاهلية الذكر، ورفع من مكانتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في وقت كان فيه الغرب الأعجمي في أوروبا وغيرها من القارات، يعاملها معاملة الحيوان.

كما أن المجتمع الشرقي لا يشكو من أزمة الأنوثة في كيانها المجرّد، بل يشكو من تداعيات الجهل على الأنثى الشرقية، وخاصة في القرى والأرياف المتخلّفة ثقافيا وعلميّا ودينيا، والتي تديرها الأعراف الميّتة والتقاليد المميتة، باسم المحافظة والأصالة. فحبذا لو استعملت الروائية لفظة " أنثى " بدل أنوثة.

كما تعمّدت الكاتبة – عن وعي أو غير وعي منها – في توظيف مصطلح " أنوثة "، مقابل " رجولة "، بدل " امرأة " للدلالة على مكانتها المنحطّة في المجتمع الشرقي، فهي في نظره " أنثى " كبقيّة إناث الكائنات الأخرى. وهذه النظرة الدونيّة، تفضح قمّة الانحطاط الفكري والأخلاقي في المجتمع الشرقي.

و هي رواية من ثلاثة فصول، استهلت الكاتبة فاطمة الزهراء بطوش الفصل الأول بمقولة الشخصية الخيالية، هولمز، والتي التي ابتكرها سير آرثر كونان دويل " ليس صوت القبلة أعلى من صوت المدفع، لكن صداها يدوم أكثر " ص 6. وفي الفصل الثاني صدرته بمقولة للشاعرالروماني القديم أوفيد " الرجال تقتلهم الكراهية والنساء يقتلهنّ الحب " ص 89. أما الفصل الثالث والأخير فأوردت الكاتبة مقولة للكاتب المسرحي والشاعر والممثل الإنجليزي وليم شكسبير " لا تتنهدن بعد الآنّ أيّتها النساء، لا تتنهدن أبدا، فالرجال خادعون أبدا " ص 121.

و هي – لعمري – مقولات إيحائية ودلالية، هدفها توجيه العمل الروائي نحو هدف معيّن في ذهن الكاتبة، وتعبّر عن الرواسب النفسية والاجتماعية التي انطلقت منها الكاتبة.

بدأتها الروائية فاطمة الزهراء بطوش برسم معالم بطلتها " زهراء المرأة الريفية، الباحثة عن الحب والزواج، والتي انتهى بها المطاف إلى فشل زواجها والطلاق من زوجها " لحبيب ". " زهراء " ؛ المرأة الجامعية المتحصّلة على شهادة الماجستر في المالية، وعلى شهادة في التمريض. وجدت نفسها تسبح عكس التيار، بل كان تيار التقاليد البائدة، والأعراف السائدة في مجتمع ريفي وقروي متخلّف وجاهلا بأصول الدين والحكمة، سببا مباشرا في مأساتها، واحتراق أحلامها المشروعة. مجتمع ذكوري، يفتقد لصفات الرجولة الحقة، يعتبر الأنثى كائنا حيّا، ضعيفا: " بحاجة إلى توجيه دائم، وظيفتها القرار في المنزل والقيام بحاجيات أهله " ص 135. مجتمع تسيطر عليه، وتدير دواليب يومياته " أنفس فرضت قانون الذكورة فرضا، لا يعطي للأنوثة سوى حق التزام الصمت تحت نصوص وتشريعات مفادها ألا تبوح بما يخالجك من مشاعر، لا تقولي كذا، ولا، لا " ص 90. " يحق للمرأة العيش وسط حطام أنوثتها وفقط " ص 09. هنا اكتشفت البطلة زهراء، حقيقة وجودها في بيئتها (الزمكان)؛ التزام الصمت، والحطام تحت قانون الذكورة المفروض. الكاتبة، عرفت كيف تنتقي المفردات الدالة على القهر النفسي والاجتماعي. هنا، تلعب اللغة دور الكشّاف عن عمق الأزمة النفسية والأخلاقيّة التي يعاني منها هذا الذكر (المريض نفسيّا). فهو ذكر يحاول التخلّص من القهر الكامن في لا شعوره، وممارسته على الأنثى، معتقدا أنّ قهرها إثبات لهويته الرجولية.

لكنّ بطلة الرواية، زهراء، تحاول مجابهة هذا الوضع المأساوي، الشاذ عن العقل والمنطق والدين. وبفضل تعليمها الجامعي، ونيلها لشهادتي الماجستر والتمريض، حاولت، بكل ما أوتيت من علم وذكاء ودهاء، كسر هذا الطوق الجهنّمي، الذي عقل حريتها وسلب حقوقها الآدمية، وحريّتها الإنسانيّة، ومكانتها الاجتماعية.

تقو ل زهراء، وهي تقاوم عنجهية، شهريار الذكورة، جمال: "... أنا لا أريد أن أكون مجرد امرأة مجرّدة من فكرها وأحلامها " ص 56. أجل، هي تريد أن تكون، كما أرادت هي أن تكون، صنيعة نفسها، لا صنيعته هو.

زهراء والطفلة ابنة أخ زوجها لحبيب والأخريات ؛ فادية، العمة حبيبة، سامية، الجدّة، أم سامية. كلّهن شخصيات أنثوية، قدمتهنّ الروائية مهزومات، منكسرات، مسلوبات الحرية، مقهورات، في مجتمع ذكوريّ ينظر إلى الأنثى نظرة الذئب إلى الشاة القاصية. ولا يعترف بوجود ها كامرأة فاعلة خارج دائرة حظيرة خدمة الذكر وتلبية مطالبه اليومية من جنس وطهي وغسل ووو.. وهو يعتقد، بل متيّقن أن سلوكه ذاك معاملته للمرأة من صفات الرجولة. لكن شتّان ما بين الرجولة والذكورة.

تبدو زهراء، بفضل تعليمها الجامعي، امرأة واعية بما يدور حولها. تدرك أنّ التحرّر الحقيقي، لا يكمن في المظهر وتقليد المرأة الغربية في التعرّي والفجور الجنسي. الحريّة لا تعني، عند زهراء، التنصل من الانتماء إلى مجتمعها العربي والإسلامي والذوبان في مجتمع غربيّ، والتمرّد على القيّم الأخلاقية النبيلة " هل بوسع ثوب انجليزي الصنع أن يستر جسد امرأة عربيّة، ومن قرية تدّعي المحافظة ؟ " ص 14.

بل الحريّة الحقيقية، هي الانعتاق من الجهل والخرافة والتقاليد البائدة وسيطرة الذكر باسم مبدأ الرجولة والقوامة و(ادّعاء) المحافظة المزيّفة. وهل حرمان الأنثى من طلب العلم من المحافظة ؟ وماذا تعني، كلمة (المحافظة) في هذا السياق التعبيري ؟. إنّها لفظة مجرّدة من معناها الحقيقي والإيجابي، مكتسبة بعدا مجازيا سلبيا مرادفا (للجهل والقمع والحرمان). " أدرك واقع جسد تحرر للتو، أنّه بحاجة لروح واثقة، مغامرة وعاشقة، وتزيل عنه غبار الكسل " ص 07.

و من خلال أساليب السرد والوصف والحوار، تظهر لنا إشكالية التواصل بين شخصيات الرواية. حيث جاءت علاقاتها متوترة، استفزازية ساذجة وعاكسة لنمط حياة اجتماعية ونفسية وعاطفية مهزوزة وشاذة سائدة في محيط قروي وريفي متخلّف، تتحكّم في دواليبه حزمة من التشريعات القبلية الجامدة والمعطّلة لديناميكية التفكير الحر والواعي، المميتة لكل مبادرة نحو التغيير الإيجابيّ والتقدّم والرقيّ. تشريعات تحرص على وأد عقل الأنثى إمعانا في الاستيلاء والقهر، مثلما كانت بعض القبائل ما قبل الإسلام تئد جسد الأنثى خوفا من العار. فما أشبه الحاضر بالماضي. وهل هناك ما هو أخطر من وأد العقول؟ شخصيات الرواية، باستثناء البطلة زهراء، تتصرّف وفق منطق محدود الرؤية، غريزيّ القناعة. وتبدو لنا تلك السلوكات الاستفزازية في علاقة بطلة الرواية زهراء بزوج أمّها لحسن: " أيّتها العاقة، إن لم تخرسي، فسألقي بك إلى أحضان الشارع " ص 98. وفي حوار زهراء وجمال حول معنى الحب، حين يقرّر أنّ: " الحب عندي في قبلة، ضمّة، كل الجسد " ص 54. أما زهراء، فنظرتها للحب مختلفة عنه: " الحب إحساس روحي..هو تقديم تضحيات في سبيل إسعاد المحبوب دون انتظار المقابل " ص 55. وقولها أيضا: ".. أنا وأنت مختلفين.. أنت تريد جسدا يشبع رغباتك.. تختار في المرأة تضاريسها ولا يهمّك باطنها ولا فكرها ولا جوهرها يعنيك " ص 55. لكن جمال يرد عليها ساخرا: " دعيني من ترهاتك وأجيبي على طلبي، كامرأة سويّة، أتقبلين الزواج " ص 56. وهذا الحوار هو صورة تلخّص نظرة الرجل الشرقي إلى الأنثى، في مجتمع، قروي، ريفي، جاهل ومحكوم بأعراف خرافية وأسطورية. فهو لا الأنثى عقلا وروحا وعاطفة. بل يراها جسدا يطفيء فيه نيران شهوته الجنسية، سواء بالزواج أو بغيره. والأنثى في عرف الجدّ بين الموت ذبحا أو الطلاق. " الحر يا إما يذبح، ويا إمّا يطلّق " ص 66. ما أفظعه من مجتمع قاس، متمثل في موقف الجد، انتزع من الأنثى الريفيّة الحقّ في الحياة، ومنح للذكورة المتخلّفة، الجامدة، الجاهلة، مفتاح تقرير مصيرها.

ومن مميّزات البطلة زهراء، أنّها واعية بواقعها المعيش، غير مستسلمة له، لها قدرة على الصمود والمواجهة والتحدي والتطلّع إلى الحريّة والتهوّر. فهي تقدّم نفسها، في قولها: " لكن تهوّري ألزمني على التشبث بمقود الحب دون رخصة.. وعلى الانطلاق بحرية غير آبهة بما قد أصطدم من حواجز الواقع المرّ " ص 37. وقولها أيضا: " علمت أن الطريق التي أسلكها مسدودة " ص 38. وقولها أيضا: " أرى قدرتي في كسر قيود مثلث خفقات الانهيار " ص 39. وقولها أيضا: " معالم فتح أرض الأنوثة تلوح لي من بعيد " ص 39. وقولها كذلك: " لابأس بامرأة تنظر أبعد ممّا هو مسنّ لها، أن ترى ليست نهاية الكون، أن تكون رائدة الأدب والفن في وسط محافظ " ص 53.

وعندما نتأمل هذه الجمل السردية والوصفية، نلاحظ أن الروائية فاطمة الزهراء بطوش، حرصت على إظهار معالم صراع تراجيدي مرّ وقاتم على مستويين ؛ صراع ذاتي، نفسي، داخليّ ينتابه الشك والتردّد والخوف. ويظهر ذلك في توظيف ألفاظ مثل: (تهوّري، دون رخصة، لا بأس). وصراع ضد واقع متخلّف يختفي وراء المحافظة الزائفة، تعبّر عنه هذه الألفاظ بشكل مباشر ومكنيّ ومستعار (حواجز، مسدودة، معالم فتح،، قيود، الانهيار، مسن لها، وسط محافظ). وهو صراع مستمّر وكينونيّ وبطيء ومنقوص الثمار والحوافز، من توظيف الأفعال المضارعة الدالة على الاستمرارية (أصطدم، أرى، تلوح، أسلكها، تنظر، ترى، تكون).

لغة السرد في الرواية:

الرواية ليست تأريخا أو نقلا لأحداث واقعية، أو سردا لوقائع متخيّلة، بل هي إبداع أدبي وفنّي يخاطب العقول والوجدان، ويحرّك المشاعر. أما هدفه فهو الغوص في القضايا الإنسانية الراهنة والاستشرافية بأسلوب قصصي معيّن، ومضمون حكائي هادف. فالرواية لا تقدّم للقاريء حلولا سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية لأزمات المجتمع المحلي أو العالمي. لأن الروائي، ليس رجل سياسة أو عالم اجتماع أو رجل دين أو خبيرا اقتصاديا. بل هو خلاصة واقع اجتماعي وثقافيّ وإنسانيّ.

لا يمكن لكاتب أو شاعر - مهما كانت قدرته اللغويّة وفطنته وذكاؤه وعبقريته - الادّعاء الانطلاق في إبداعاته من نقطة الصفر. الإبداع النثري والشعري يحكمه عنصر التراكم والتجارب المتلاحقة. وأسلوب يُكتسب من خلال الاطّلاع على تجارب السابقين. أردت أن اقول – دون الوقوع في خانة الموازنة - أنّ الروائية فاطمة الزهراء بطوش متأثرة في فكرتها وأسلوبها بالكاتبة والشاعرة الجزائرية أحلام مستغانمي. في روايتها " فوضى الحواس ". وهذا، لا ينقص من رواية " شغف أنوثة شرقية " مقدار قطمير. فلم ينج الأدباء والشعراء – قديما وحديثا – من جاذبية التأثر. فقد تأثر الشاعر الإيطالي دانتي أليغري في الكوميديا الإلهية برسالة الغفران لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أبي العلاء المعري. وتاثر أمير الشعراء أحمد شوقي بسينية البحتري ونونية ابن زيدون. والأمثلة كثيرة، لو عدنا إلى تصفّح باب الموازنة والمقارنة في النقد الأدبي الحديث.

جاء أسلوب السرد عند الروائية فاطمة الزهراء بطوش، دالا على التقرير، ووالوصف. بسيطا، لا ضعيفا، سهلا وغير معقّد، واضحا لا غامضا. لكن الكاتبة تسقط في المباشرة والتقريرية. كأنّها وقعت - ربّما في غفلة منها أو دون وعي - ضحية السطحية، حين تخون اللغة صاحبها، وتغريه بأسلوبها المجرّد من جماليات الخيال ونبض المخيال. أسلوب يليق بصحفية تكتب تقريرا اجتماعيا. قالت في معرض وصفها لمدينة المدية – وهي مسقط رأس الروائية كما أعلم – " المدية التي ترسل أشعة المحافظة والمباديء والتمسك بالعادات والتقاليد إلى كلّ البلديات والدوائر التابعة لها " ص 78. وقولها أيضا في السياق نفسه: " هي مدينة المدية تلك التي تحمل أسمى معاني والأخلاق والمباديء وتحمل أوسمة رقيّ المشاعر ونبل العلاقات." ص 78. وقولها: " خلف هذا الستار حقائقا - (هكذا وردت، والصواب حقائق) – أخرى لفئات معينة تتستر بحجاب الأخلاق، تخلعه حين تغفل عنها العيون ناسية أو متناسية عيون الرقيب الأعظم.. لتقترف الممنوعات " ص 79. قال الجاحظ: أنّ " المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها والعجمي والعربي، البدوي والقروي، إنّما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ ".

عنصر الحوار في الرواية:

 الحوار في المعمار الروائي، آلة كشّافة عن سمات الشخصية، أكانت رئيسية أو ثانوية، جاهزة أو نامية

. ومرآة عن مستواها الفكري والعلمي والثقافي ومكانتها الاجتماعية، وهو الحوار في  المتن الروائي يعكس بوضوح سيرورة سلوكيات الشخصيات وانفعالاتها وعلاقاتها فيما بينها، وبين محيطها الاجتماعي والثقافي والسياسي والأخلاقي.

و لهذا وجب على الأديب الاعتناء بعنصر الحوار، وإعطاءه قيمته الفنيّة، من حيث المبنى و المعنى، أو من حيث الشكل والمضمون.. وبالعودة إلى رواية " شغف أنوثة شرقية " للروائية فاطمة الزهراء بطوش، نلاحظ أن الحوار بين شخصيات روايتها مثّل ثلث حجم الرواية. وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه دلّ على عمق الإشكالية (الفكرة) التي طرحتها الكاتبة، ودرامية الصراع بين طرفين متناقضين فكريّا وعاطفيّا. فقد خاطبت زهراء (الأنثى) جمال (الذكر) في جملة حوارية، قائلة: " أنا وأنت مختلفين تماما..." ص 55. وهذا الاختلاف نابع من فلسفة المجتمع الريفي، القروي. وهو ليس اختلافا في وجهات النظر، يمكن رأب صدعه عاجلا وبسهولة، بل هو اختلاف وتناقض له تراكمات واجتماعية وسيكولوجية وتاريخية.

جاء الحوار في هذه الرواية مباشرا وسهلا، إلى درجة البساطة والعاميّة في بعض المقاطع. ولكنّها بساطة وعاميّة، أرادت الكاتبة، من وراء توظيفهما محاكاة الواقع تحت عنوان النظريّة الواقعيّة، كقولها على لسان أخ زوج زهراء: " واش اندير بالقراية ؟ ها هو المثال أمامنا، بنت الجامعة قلّة حياء، وقلّة أدب " ص 139. وقولها على لسان جمال: " أيّا السلام عليكم يا جماعة. " ص 34. وقولها على لسان مراد: " خليت مخ سامية ثمة.. قلت بالاك يقدر يريقلو " ص 107 وقول زهراء: " والنسا فيهم طبيعة ما يحبوش يربوا وحدهم أولاد الرجال لي ما يتحملوش " ص 126. وقول زهراء: " حبّة طماطم خامجة تفسّد الكاجو " ص 144. " شوكة قلبي وين تروح نلقاك " ص 144. وقول الكاتبة على لسان (عمدة) البيت ناهرا لمياء ولخضر: " وشحال من مرّة قتلك ما نحبّش ادخلي روحك في نساء خاوتك.. وأنت تشوف روحك راجل كي تهين مرت أخوك.. عندك مرتك تحكم فيها " ص 126. وتبدو هذه العبارة الأخيرة مشحونة بالتناقض والأنانية. فرغم أن العمدة، هو صورة للذكر الشرقي الذي يؤمن بأن الرجل الحر، هو من يذل المرأة ويهينها " الحر يا إما يذبح، ويا إما يطلق " ص 66، فقد بدا العمدة - وهي كنية لا علاقة لها بالمجتمع الجزائري - هنا وكأنّه يدافع عن المرأة. بينما هو في حقيقته رأس القهر والاضطهاد ورمزه وأداته. وهذا موقف غريب وشاذ عن الجو العام للرواية.

و جاءت بعض الجمل الحوارية، عند بطلة الرواية زهراء طويلة، وهي الفتاة المتعلّمة التي تستطيع إيصال فكرتها إلى الآخر بأسلوب موجز، وسبب ذلك هو شيوع الجهل في أوساط مجتمع لا يفهم الأشياء بالعبارة الطويلة والواضحة، فمن أنّى له الفهم بالإشارة والإيجاز. بل، مجتمع لا يعترف بمبدأ الحوار بين الذكر والأنثى، لأنّه مبنيّ على معادلة الذكر القويّ، الآمر، المتسلّط، والأنثى الصعيفة، المأمورة، المستسلمة. جاء على لسان بطلة الرواية زهراء: " طبعا أقبل الزواج.. أوليس سنة الله ورسوله.. لكني لا أقبلك زوجا..أنا لا أريد أن أكون مجرد امرأة مجردة من فكرها وأحلامها تلبي ولا تجد من يقدرها على الاقل.. لا أريد ان أكون امرأة سوية بحسب مفهومك... " ص 56

و قولها أيضا في حوارها مع سليم: " لست أدري ما ستقوله عني.. ولكن أرجو منك أن تفهم أنّه حين الحمل ثقيلا على المرأة المراوغة والمكابرة يصعب عليها الاستمرار ولا يعود يعنيها من الرجل الذي تحب لا الحلال ولا الحرام.. كل ما أريده..أظن أنّك لن تفهم ما أريده حتى لو شرحت لك..أنا حقا أعتذر منك." ص 45. وهي، كما وردت، جمل حوارية طويلة. تنم عن حجم القهر والقلق لدى البطلة زهراء.

و بعد، فإن رواية " شغف أنوثة شرقية " للروائية فاطمة بطوش، إضافة مميّزة للرواية الشبابية في الجزائر. وهي لم تخل من إيجابيات على مستوى السرد والحوار والمعالجة الدراميّة، الرومانسية للفكرة، كم لم تخل من سلبيات على المستوى نفسه.

لقد شدّتني صياغة عنوانها، " شغف أنوثة شرقية " وهو عنوان مثير للمشاعر والرؤى، وما احتواه من دلالة وتشفير، باعتبار اللغة، كما قال سوسير، " منظمومة مفهوماتية وهمية، لا تجد طريقها إلى التجسيد " إلا بواسطة النطق أو التعبير أو الكتابة، لتخرج من صورتها الذهنية، إلى أرض الواقع. كما أنّ العنوان عند جمهور الأدباء والنقاد، هو عتبة المتن الروائي ومفتاح تأويله، يحمل دلالات وظيفية، تجعل المتلقي يقبل على قراءة النص الروائي بشغف كبير. وقد يؤدي العنوان – أحيانا – دورا سلبيا تجاه المعمار الروائي، ويساهم في نفور القاريء منه. لهذا السبب، وغيره، وجب على الكتاب والشعراء الاعتناء بالعنوان، من حيث الصياغة اللفظية والبناء الدلالي.

و قد ارتأيت أن أدلي برأيي حول معنى كلمة " أنوثة " الواردة فيه، والتي يشترك فيها الإنسان والحيوان والنبات، كونها صفة تعبّرعن الصنف. فقد عرفتها الموسوعة الحرّة بأنّها " مجموعة السمات البيولوجية والجسدية عند الفرد وقد تشمل الكلمة أيضاً مجموعة الصفات النفسية أو الشكلية الخارجية كاللباس ولكن في هذه الحالة تكون افتراضات فرضها المجتمع حتى باتت المعنى الأساسي للكلمة في المجتمعات، فحلت الفرضية مكان الواقع". فالشغف مصدر، يبدو من الناحية السيميائية اسما مثيرا للغاية. فقد ورد في معناه، الحب والفتنة والولع والتعلّق والاخضرار والاندماج في الشيء، اندماجا كليّا. أما لفظة " أنوثة " فهي لا تعني في معناه اللغوي، القاموسي جنس الأنثى الإنسان. بل هي صفة عامة في الطبيعة، تشمل أيضا الكائنات غير العاقلة ؛ المتحركة والجامدة، المرئية بالعين المجرّدة والخافية. بل، أيضا، قد تعبّر – بغض النظر عن المكوّن الفيزيولوجي – عن بعض الذكور ممن يتصفون بصفات الأنوثة في سلوكهم وعواطفهم ونفسياتهم. ومن خلال العنوان، نكتشف مدى تعطش (الأنثى) الشرقية إلى الحياة الكريمة، وشوقها إلى الحريّة وولعها بها، وتطلّعها إليها. فهي بدونها أرضا يابسة، ويبابا من رماد. رغم أنّ المرأة الشرقية، كانت محظوظة عبر التاريخ. حين منحتها الأديان، والإسلام على وجه الخصوص، حقوقها كاملة، وحرّرها من عبودية وجاهلية الذكر، ورفع من مكانتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في وقت كان فيه الغرب الأعجمي في أوروبا وغيرها من القارات، يعاملها معاملة الحيوان.

كما أن المجتمع الشرقي لا يشكو من أزمة الأنوثة في كيانها المجرّد، بل يشكو من تداعيات الجهل على الأنثى الشرقية، وخاصة في القرى والأرياف المتخلّفة ثقافيا وعلميّا ودينيا، والتي تديرها الأعراف الميّتة والتقاليد المميتة، باسم المحافظة والأصالة. فحبذا لو استعملت الروائية لفظة " أنثى " بدل أنوثة.

كما تعمّدت الكاتبة – عن وعي أو غير وعي منها – في توظيف مصطلح " أنوثة "، مقابل " رجولة "، بدل " امرأة " للدلالة على مكانتها المنحطّة في المجتمع الشرقي، فهي في نظره " أنثى " كبقيّة إناث الكائنات الأخرى. وهذه النظرة الدونيّة، تفضح قمّة الانحطاط الفكري والأخلاقي في المجتمع الشرقي.

هي، أيضا، رواية طرحت، من جديد، مفهوم الصراع الصامت والجهوري بين المرأة وذاتها، وبينها وبين الرجل في مجتمع شرقيّ ذكوريّ، يلغي مكانة الأنثى، وخصوصا القروية منها والريفية، ويجردها من حقوقها الإنسانيّة المشروعة. بالرغم من تحقيق المرأة الشرقيّة في المدن، فتوح علمية شتّى، ومكاسب سياسية واجتماعية جمّة. فاقتحمت المرأة العمل السياسي والحزبي، أو أقحمت فيه، وانخرطت في نشاطات الجمعيات المدنيّة والخيرية، الاجتماعية منها والدينية.

و هي إشكالية عويصة ومتجذّرة نفسيا وأخلاقيا واجتماعيا، مرتكزة على مفاهيم دينية وطوباوية مغلوطة، وأعراف وتقاليد موروثة عن العصر الجاهلي عند العرب، وعن العصور الوسطى في أوربا. حيث انعقد في سنة 673 م مؤتمرا، حول تحديد الطبيعة القانونية للمرأة، وطرح فيه السؤال: هل هي إنسان أم حيوان ؟ وبعد نقاش وجدال، توصلوا إلى أن المرأة إنسان، لكنها لا حقوق لها.

إنّه لمن المحزن، حقا، أنّ تظل الأنثى في المجتمع الشرقي (العربي) قاصرة، فكريّا وعقائديا في عين الذكر الأعمى، لا الرجل ذي البصر والبصيرة، تحت ذريعة تاريخية مغلوطة، وكأنّها نظريّة رياضية، وعرضة لتجاذبات اجتماعية وفكرية ودينية وايديولوجية، بعد انقضاء زهاء أربعة عشر قرن من تحريرها ومنحها حقوقها المشروعة والشرعية. ويستمر، هذا الذكر الشرقي المضطهد سياسيا وفكريا، ومن وراء قناع (الرجولة) المزيّفة، في تعنيف المرأة باسم القوامة.

إنّ تطرّف بعض نسوة المدن الكبرى والصغرى، ممّن كان لهنّ حظ من التعليم والثقافة، وحصلن على نصيب من العلم القليل أو الوافر، سببه المباشر اضطهاد هذا الذكر الشرقي لها، من خلال تفريطه في تربيتها على القيّم النبيلة والمباديء الإنسانية السمحة، وإفراطه في إهانتها عن علم ناقص أو جهل جاهليّ فاضح ؛ هذا السلوك السلبي، ساهم في انحرافها عن هويّتها، ووقوعها في شباك الإيديولوجية الغربية المتوحشة، التي أفرعت كيان المرأة من روحها السامية، وعرضتها في أسواق النخاسة جسدا عاريا من العفة والشرف.

و الأهم في الرواية، هو إبراز إصرار المرأة على نيل حقوقها، وكفاحها المستمبت من أجل أنثى خنساوية * وخديجية ** وخولية ***." واصلت رحلة التحرّر من قبضة أشباح أنوثتي.. بالتحرر من لحسن ومن جمال.. " ص 142. ".. تحصلت على منصب عمل في العاصمة في مجال التمريض." ص 143.

كما أشارت الرواية إلى دور التعليم، في تحرير الأنثى الشرقيّة من عبثية الذكر الشرقي وترهاته الطوباوية، وتوعيتها بمفهوم الحريّة الحقيقية ؛ وهي حريّة عقلية وفكرية، قبل أن تكون حرية فيزيقية، جسدية، تفضي إلى الانحراف الأخلاقي. حريّة تتبوأ فيها المرأة مكانة المدرسة لإعداد مجتمع مزدهر الأخلاق، وطيب الأعراق، يحلّق بجناحين، هما الرجل والمرأة معا، وسواء بسواء. وهكذا، فإنّ الرواية تبشّر بانتصار الأنثى الشرقية على ذاتها وعلى خوفها، ونهوضها من حطامها، كانبعث طائر العنقاء من رماده، وانتقالها من مرتبة الأنوثة إلى مرتبة المرأة.

***

بقلم الروائي والناقد: علي فضيل العربي

سيدي عكاشة / الجزائر.

.......................

هامش:

* خنساوية: نسبة إلى الشاعرة والصحابية الخنساء.

**خديجية: نسبة إلى السيدة خديجة رضي الله عنها.

*** خولية: نسبة إلى البطلة خولة بنت الأزور.

في المثقف اليوم