قراءات نقدية

فينومينولوجيا التّناصّ في روايتي "سويت أميركا" و"هناك في شيكاغو"

4190 سويت شيكاغوللروائيتين هناء عبيد والشّاعرة زينب لعوج

الأرض كلها فندق.. وبيتي هو القدس.. ولن أكون هنا يومها لأعرف كم كنت غريبة قبل ذلك.. ولا كم سأصبح منفية بعد الآن.. جسمي معي غير أن الروح عندكم فجسمي في غربة والروح في وطن فليعجب الناس منّي أن لي بدنا لا روح فيه ولي روح بلا بدن.. هكذا أرادت الكاتبة هناء أن تقول على لسان بطلة روايتها.. وحيثما تكون الحرّية يكون الوطن.. قالت الشاعرة زينب على لسان بطل روايتها، ذلك الحلم الذي تتوق كلاهما إلى إلى تحقيقه من خلال أبطال روايتيهما. ما أعمق العبارتين.. لا توجد حالة أكبر من الغربة التي تنشأ بين الحلم والواقع من أجل حرّية كليهما،.فالوطن بالنّسبة لكليهما هو الأرض التي ولدتا فيها، ونشأتا بها، وترعرعتا في أرجائها، فهو يمثّل الذكريات التي لا يمكن نسيانها، حيث يحتضن الأحباب، والأصدقاء، والأهل، والآباء، والأجداد، وقد تعلقتا بأول بيت وأرض ولدتا بها وترعرعتا فيها.. أميركا.. الحلم الذّي يراود غالبية الشباب العربي، كلمة مرادفة للنجاح المهني والازدهار المادي وتحقيق الذات إلى حد مبالغ فيه، فهل الحلم الأميركي واقع أم خيال؟

 منذ رعونة الشباب ترسخت فكرة الهجرة إلى أميركا في ذهن "نسرين " فتحولت إلى حلم انتظرت بلهفة تحقيقه إلى أن انتقلت إلى " شيكاغو"، ظانة أنّ أمريكا الحلم الذي من خلاله ستتاح كل الفرص وتفتح الأبواب بسهولة، وفي الواقع لم تكن الأمور بهذه البساطة. ومنذ القهر والحرب والاستيلاب ألحت فكرة الهجرة إلى شمال أميركا على بطل روايتنا " جيل " إلى أن أقام رفقة أسرته بمدينة الحرّية " فريلاند " وكاد يقتنع أن الوطن ليس أرضا. ولكنه الأرض والحق معا، فإن غاب الحق فلا وطن لغير ذي حق.والعدالة حق، فلا غرابة في أن يجد وطنا حيث العدالة والحرية.. هاجر بطلا روايتينا هناك في أميركا حيث الراحة والرخاء التي تناسب كل حالم.هناك في أميركا هل جاز أن نقول "سويت شيكاغو" ؟.

 ظواهرية التّناصّ:

 فيما يخص وعي ظواهرية التناصّ في مقامنا هذا، هاهما رائعتان من روائع حرتين من حرائر العرب جزائرية " زينب " ومقدسية " هناء" تقدّمان للقارىء العربي روايتين من أعمق وأمتع ما يمكن أن يقبل عليه القارىء العربي، حيث تطوف في ثنايا أحداثهما سمات إنسانية هي ضالة كل عربي مقهور. يتجلى التّناصّ في العلاقات التي تربط نصوص الكاتبة هناء بنصوص الشاعرة زينب، سواء ربطا مباشرا أو ضمنيا، بوعي أو بغير وعي.. حيث رصدنا جملة من المقتطفات المستعارة شعوريا أو لا شعوريا. كما يتجلّى في بنية الروايتين أنّ جملهما القصيرة مثقلة بالمعاني، مكلّلة بالمشاعر الصادقة تطبعهما اللّغة السلسة الجميلة التي تعجّ ببديع النسج العربي الملقح ببعض العبارات العامية التي تنمّ عن تعلّق الكاتبتين بأصولهما، ولا يخفى على القارىء ذي الذائقة الراقية، عثوره على الإمتاع الحكائي السردي النّاعم الذي تتخلّله وصلات شعرية غنائية عذبة، تنبىء عن ثقافة ورقي ذائقتيهما الفنية كل حسب خصوصية أسلوبها ونمط ثقافتها. وكأنّ الكاتبة هناء تكتب لكي تكمّلها الشاعرة زينب. وكأنّ جيل يصرخ كي تبرّر صراخه نسرين بطلة روايتنا، فالتفاعل النصّي موجود يتطلّب الابحار في عالم المعنى والدلالة.فيوجد في نصوص الروايتين من التناصّ " Intertextualite "، كما يجرّنا التدقيق في الدّلالة إلى ما وراء النصوص، الميتانصّية " Metatextualit "فتكامل أفكار الروايتين يظهر الارتباط الضمني للنصوص،و يجدر بنا الحديث عن المسافات التي تفصل الذات القارئة عن النص المقروء.وكيف نقرأ النصّ فلسفيا؟ كما أنّ وعي ما وراء النص يجعلنا نطعم هذا بذاك، فنجد النصوص في الروايتين تتراءى بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو أخرى، فتظهر المعنى أحيانا وتضمره أخرى.. كلتاهما تحدّثتا عن الغربة، الموضوع واحد وتتفرّق الغايات كي تجتمع من جديد، بعد أن أرهقتهما تبعات الاغتراب، فيشدّهما الحنين إلى الوطن، لقد كان سبب غربتهما هو البحث عن الحياة الرغيدة، لكن الاصطدام بمعوقات الحياة اختلف.فالكاتبة " هناء" مرتبطة بجذورها الفلسطينية ارتباطا نفسيا وثيقا؛ إِذ لم تقل "هنا" بل "هناك"، وعلى هذا المنوال استمرت الكاتبة، على لسان بطلتها "نسرين" تبرّر وتشكو غربتها في هذه المدينة، الّتي وصفتها بالرائعة من ناحية طبيعتها وجغرافيتها، بينما هي مدينة التسارع الحياتي والمزاحمة في التقاط لقمة العيش، وافتقاد الحياة الأسرية القريبة من الانسان والالتفاف حول العائلة، بل هي الأقرب إِلى حياة الآلة والرتابة. فرحلة تحقيق الذات في بلاد العم سام قد لا تكون أقل سهولة في كثير من الأحيان منها في المجتمعات العربية، حيث أن المجتمع هناك وإن كان منفتحا وقائما على الهجرة وخليط متجانس من الأقليات العرقية، لكنه مثله مثل أي مجتمع آخر يعاني مشكلات عدة وتناقضات هيكلية، فولايات الشمال الأميركي، على سبيل المثال، مليئة بأحياء السود الفقيرة والمهمشة أين تطرح مشكلة العرق والدين وتفرض العنصرية والتفرقة، فتصرخ الشاعرة " زينب " من الشمال، وهي التي عاشت وعايشت الوضع هناك، تصرخ معلنة قساوة التعايش مع العنصرية والتهميش المقصود والارهاب المستنسخ.

 نعي ظواهرية التّناصّ في القيم الجميلة التي أقحمتها كلتا الروائيتين في نصوصهما، فتكشف رواية " سويت أميركا " عن مدى طيبة السيد جيل وزوجته وصفاء إنسانيتهما حين نعلم أن الفتاتين تحت رعايتهما بالتبني، وهم جميعا يشكلون أسرة مثالية تغمرها أجواء من الألفة والمحبة والتربية الكريمة. فظهرت العواطف بكافّة المشاعر، منها مشاعر الفرح والحب الرومانسي، ومشاعر الأمومة، ومشاعر الانتماء والحنين للوطن، كذلك مشاعر الحزن والاكتئاب، مشاعر الفقدان، وفراق الأهل. أبدعت الكاتبة في تصوير المشاعر الجيّاشة، تجلّت جياشة المشاعر في رواية " هناك في شيكاغو" على لسان الرّاوية نسرين أثناء سرد الحوار الذّاتي، وتطرّقت الكاتبة " هناء " للنظرة والمعاملات السّلبيّة التي يلقاها المسلمون في الغربة، خاصة بعد حادثة أيلول عام 2001 في منهاتن؛ وجدت الكاتبة مساحة كافية للدفاع عن المسلمين، وتوضيح الأمور وعدم التعميم، وأن هذه الحادثة لا تتعلّق بالإسلام، بل الهدف منها تشويه صورة الإسلام، وعمل غسيل دماغ ضد المسلمين من قِبل الإعلام الغربي. إنّها تتكلم بنفس لسان الشاعرة " زينب لعوج "، وكأنهما استعارتا نفس العبارات والمشاعر للدفاع عن الإسلام والذود عنه والحؤول دون تشويه صورته. كما نعي ظواهرية التناص الضمني لدى الكاتبتين في ظاهرة مهمّة في الحياة خارج الوطن، وهي ظاهرة المودّة والألفة ما بين المغتربين، حيث تجمعهم محنة مشتركة والبعد عن الوطن الأمّ. ويتجلى واضحا في اجتماع نسرين بصديقات زوجة عمّها وحميمية اللّقاء وبالمقابل يظهر في تماهي فيديريكو والباسكي بعائلة "جيل".

ظواهرية الميتاتناصّ:

الغربة واحدة لكنّ الاغتراب حمّال أوجه، تغرّبت كاتبتانا لكنّهما عبّرتاعن اغترابهما بأساليب مختلفة، جعل من الكاتبة " هناء " تعيش اغتراب الانسلاخ عن الهوية والسقوط في بئر التقليد وفقدان العادات والقيم الفلسطينية الجميلة، وتغرّبت شاعرتنا " زينب" وعاشت اغتراب اللاعدالة والعنصرية في بلد يدّعي الحرية شعارا له. فما كان أمامهما إلاّ أن تبدعا في عنوان روايتيهما باعتماد الكناية جواز سفر رسمي لولوج النّص، ونعرف أنّ الكناية من ألطف أساليب البلاغة وأدقها حيث تضع لك المعاني في صورة المحسوسات، وكأنهما تسخرا وتتهكّما على حلم الهجرة إلى أميركا بأبهى وأبلغ العبارات.ففلسفة العنوان: " هناك في شيكاغو ".. " سويت أميركا " تجعل من القارىء للعنوانين والمتعمّق في دلالتهما، أن يفهم مضمون الروايتين قبل الولوج الى نصيها.. فكلمة هناك توحي بالقطيعة مع المكان، وكأنّ الكاتبة تؤكد أن المغترب يبحث عن الهناك التي لهث وراءها، كي يحقق العيش الرغيد لكن حلمه الهارب يبقى يطارده مدى الحياة فوجوده في "الهناك" من أجل العيش لكن الوجود الحقيقي هو "هنا "، فمهما حلّ المغترب في أوطان غيره يبقى يشعر أنه هناك وروحه معلقة بوطنه الأم.. المغترب هناك يسكن وطنا حلم بالعيش فيه لكن الوطن يسكنه أينما حل فالهناك من أجل العيش والهنا من اجل الحياة وشتان بين العيش والحياة.. فنحن نحيا هاهنا ونحلم بالعيش هناك فهل من سبيل كي نعيش ونحيا في أوطاننا ؟

***

ليلى تباني

 

في المثقف اليوم