قراءات نقدية

استبداد الموت الغادر.. قراءة في القصة القصيرة "الحمامة" لعلي القاسمي

هذه القصة رائعة للغاية بتجسيدها تسلط نوع من الموت الذي يحوم فوق الرؤوس ويصطاد الأرواح بفعل استفحال المخاطر بفعل فاعل. إنه الموت غير الطبيعي المتسيّد على عرش حياة الضعفاء أو البسطاء. إنها الاعتبارات التي تبرر اليوم الحضور المتزايد لهواجس الموت في الأدب بقوة وتطبع خرائطه المختلفة. القاسمي أبدع بقصته هاته مستحضرا ببلاغة مذهلة هذا المصير الحتمي بأبعاده الشعورية واللاشعورية، محذرا من مسار حياة لن يطيق تفعيل شعارات التعايش والتسامح كونيا.

العقدة في القصة هو نزول قدر الموت في فضاء حمامة وفقدانها لفرخها. فبعدما وصف السارد مساره هو ابنته في طريق العودة بأوصاف طقس الصحراء القاحل: الشمس صفراء شاحبة تتهاوى إلى مرقدها وكأنها تهبط إلى العالم الأسفل، والأرض مهجورة جرداء كالحة، ترك للقارئ لغز تحديد المكان، مقدما إشارات بخصوص الزمان (مطلع التسعينات).

فضاء أحداث القصة كما يرويها السارد لم يحدده الكاتب بوضوح، بل تركه غامضا مرتبطا بشعور القارئ وانتمائه. المغرب بتنوعه الطبيعي وطقسه الصحي وتراكماته السياسية والتنموية يبقى بعيدا عن هذا التوصيف المدمر للنفوس. المكان الذي يصفه الحاكي كلّه لا يزيد على مقبرة .. لكنّها مقبرة للحياة. فإذا استحضر الناقد واقعية أغلب قصصه وبلاغة خياله وأبعاد مقاصده، فإنه لن يطيل التفكير في تحديد المكان ما دام السرد يمتد لوصف واقع مزري من المحيط إلى الخليج. المكان بالنسبة للكاتب لن يكون خارجا عن أحد أقطار انتمائه الجهوي وارتباطاته بمرافئ حبه السبعة.

مؤشرات أوصافه المحددة للمكان تزخر منها سوداوية تغشي الأبصار. وهو عائد وابنته في طريق طويلة مقفرة، ترامت على جانبيها أرض كالحة رماديّة اللون، نَسِيت طعم المطر منذ سنين، واستحالت فيها الاشجار إلى هياكل عارية عجفاء، هجرتها خضرتُها وعصافيرها، لتواجه وحيدةً مصيرها الحزين (بدون دفاع ناسها عليها). وودّعت المياه السواقي والأودية، واختفت قطعان الماشية، وصمتت مزامير الرعاة.

وصف ببلاغة راقية نفحات الموت في طريق العودة، وتابع مجددا الحديث عن أوجاعها بعد وصوله إلى بيته. أهو إعلان شعور بموت غادر يحوم بدون انقطاع فوق رأس السارد وابنته؟ موت خائن لطبيعة وجود ربانية. حركة مريبة خلف النافذة أثارت انتباههما، لتجد الابنةُ أنّ حمامة قد عشّشت في الشبّاك في أثناء غيابهما، ووضعت بيضتيْن. روائح الموت والعفن التي وصفها السارد في طريق عودته تنم وكأن فضاء الحياة الراهنة لن يطيق ولن يستحمل مولودا جديدا. غامرت الحمامة بثقتها حبا في بيضتيها وأملا في حياة الدفء والطمأنينة. اقتربت من البنت فنجحت في ذلك واعتادت عليها.

عاد الكاتب لاستحضار مخاطر الموت الغادر عندما اعتبر الحمامة كائنا لا يعرف حتى الآن ماذا سينتظره في المستقبل القريب على يد أبشع وحوش العصر. إنه يحيلنا بمقاصده على سنوات تهديدات التدهور البيئي والاحتباس الحراري والجفاف القاتل للحياة أرضا ما بعد التسعينات. صوّر البنت وهي تقف قرب نافذتها الأثيرة ترقب حمامتها في عشّها الدافئ. الأب المتمرس والعارف بدسائس الإنسان لأخيه الإنسان يتابع نشرة الأخبار في التلفاز.

وهو يتقدم في ربط أحداث القصة بإتقان واحترافية، تنجلي في ذهن القارئ حقيقة كون وضعية السارد في وطن انتمائه صعبة جدا ومرتبطة بتقلبات كونية عسيرة. التلفاز لا يعرض إلا المجاعات والفيضانات والحروب الأهلية في الصومال .. مذبحة جديدة في الجزائر ذهب ضحيتها أربع مئة وخمسون قتيلاً من قرية واحدة جلّهم من النساء والأطفال والشيوخ .. مئات الأطفال يموتون يوميّاً في العراق بسبب الحصار ونقص الحليب والغذاء والدواء. التطورات تنم وكأن النظام العالمي الجديد المعلن رسميا لا ولن يتحمل منظومة قيم معاكسة لنظام حرية السلع والخدمات ورؤوس الأموال بثقافته الاستهلاكية وشعاراته السياسية الخداعة.

أسرار النص متشعبة. الموت يحصد أرواح الأطفال في مختلف البقاع العربية. القوى الأجنبية لا تمل ولا تكل في تأليب واستفحال مواجع  البلدان العربية خدمة لمصالحها. والأب مهموم بأخبار موت مئات من الأطفال العراقيين يوميا بسبب الحصار، ومن الأطفال الجزائريين يُذبحون بلا رحمة، صرخت الطفلة الصغيرة فجأة: "أنظر أبي، البيضة تفقس. الفرخ يكسرها برأسه، بمنقاره الصغير، إنّه يخرج منها بصعوبة.. أنظر إلى المسكين. ما أضعفه ! ما أصغره ! ما أملس جسمه الخالي من الريش...". وصف الكاتب الموت في عالم الكبار، ولفتت البنت بالموازاة أنظار القارئ إلى صعوبة استمرار المواليد الجدد في الحياة. لم يخرج من البيضة تماماً … إنّه يرتمي بنصف جسمه على الأرض … لا يتحرّك .. إنّه هامد ، أخشى أنّه ميّت … يا إلهي ! أين أمّه ؟ ماذا يمكنني أن أفعل ؟ بابا ، كيف نستطيع مساعدته.

أحدث الكاتب فجوة سردية ساحرة. ترك للقارئ أن يتمم بخياله واقع الطفلة المصدومة. أتم الكاتب مجرى الأحداث مستضيفا القارئ في غرفة نومه. على فراشه تلك الليلة لم يستطع النوم. لقد كانت الحمامة في النافذة المجاورة تنوح وتنوح نواحاً شجيّاً بلا انقطاع طوال الليل. تنوح الحمامة وتنوح الأمهات على وأد أطفالهن بالألوف في عالمنا العربي. الأب يتابع بحزن وأرق ما يقع وهو عاجز تماما عن التدخل. اشتدت قسوة الموت الغادر، واستسلم الجميع لها. انتابني أمام وحشية هذه الصورة كيف سيكون إحساس ملاك الموت؟. إنه يستقبل الأرواح غاضبا من حجم استئصالها وإخراجها من مسارات حياة طبيعية. إنه يستضيف الأبرياء ويستنكر قوة مطاردة الشر للخير بدون رحمة. بُخِّسَت بعلانية مفضوحة دعوات الأنبياء والرسل والمصلحين والفلاسفة والشعراء والثوّار والمفكرين.

نحن أمام عالم يختنق بالشرور إلى درجة أصبح من الممكن وأد أسس العيش المشترك كونيا. انعزل الأب في فراشه ينوح في أعماق روحه المخذولة. حاله حال تلك الحمامة المثكولة حتى الصباح. عم الخوف والضجر الليالي جراء تسلط وحشية المصالح لعقود من الزمان.

بهذه القصة وأخريات اغتبطت بالأقدار التي قربتني من علي القاسمي مزهوا بصداقته الراقية. سررت كثيرا عندما تيقنت بنفسي أنه قضى ويقضي منذ صباه ساعات أيام حياته منغمسا في بحث تأملي دائم، طامحا تحويل الإبداع الأدبي في القصة القصيرة إلى قاطرة ذات الوقع الكبير والمجدي لتحبيب القراءة لجماهير الأمة العربية. انشغالات هذا العالِم من بلاد الرافدين نبهت القراء إلى الحاجة الملحة إلى إثراء روافد متزامنة من شعب الأدب والفكر، والحرص على أن تصب بوفرة وديمومة في نهر معارف الأمة.

يبدو جليا أن القاسمي لم يتقاعس يوما في بذل الجهد اليومي استجابة لانشغالاته القومية. فهو يصبوا بكدحه المتواصل إلى جعل القضايا المصطلحية، والمعجمية، والترجمة، وإشكالات التربية والتعليم، والصحة، آليات فنية وزاد لذيذ ودسم لتسخير السرد والحكي لتجويد الوجود البشري العربي، وتجديد وعي الجماهير بحقها التاريخي في الرفاه والتمتع بالحياة الدنيوية.

يرمي القاسمي، بلا شك، من وراء تنوعات اهتماماته، إلى ترسيخ فكرة كون ارتقاء الكتابة الإبداعية الأدبية في فضاءات المعارف الكونية المتنوعة تشكل في العمق قاطرة، جذابة وسريعة ومريحة، لا يمكن أن لا تتسابق الأجيال، المعتزة بتراب انتمائها الزاخر بالخيرات من المحيط إلى الخليج، لركوبها رغبة في تجويد مقومات حياتها الدنيوية. إن تعميم القدرة لدى الأفراد والجماعات للركوب طواعية في هذه القاطرة الواعدة، بالنسبة له، هو علامة إعلان بداية مرحلة استيقاظ الضمير الفردي والجماعي العربي، مرحلة ستطلب الشعوب خلالها الكلمة، وستمنح لها بضغط من الواقع، وستطلب حقها في المشاركة القوية في التنمية البشرية، وفي الترسيخ الحقيقي للديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان في الحياتين العامة والخاصة.

في إطار هذا المشروع الرائد والواعد والطموح، علينا أن نتجاوز واقع الحمامة المكلومة، وأن نرتبط بحلمها بأمل حياة ممكنة، ودفء وجود آمن، وتلذذ طعم العيش. غاب السارد، المتحدث في القصة بصيغة المتكلم، هو وابنته عن منزل الأسرة لمدة. اغتنمت الحمامة الفرصة، وعششت في النافذة. وضعت بيضتين عازمة تحدي كل الظروف، كيف ما كانت صعوبتها، للحفاظ على تواصل الحياة بين الأصول والفروع من جنسها. بحبكته السردية الفاتنة، ذكرنا الكاتب أن تحمل الأزمات والنكسات بإقدام ووعي لا يمكن أن يكون في نهاية المطاف إلا مصدر إصرار لتجاوزها. فضاء الحياة وطقسها القاسي لم يترك للفرح أي امكانية لاستنشاق نسيم الحياة. تذمرت البنت هلعا، وغادر النوم جفون الأب.

كما سبق أن أشرت إلى ذلك أعلاه، أولى الراوي للفضاء عناية خاصة في مساره الحكائي هذا. فالتصوير الفني لعوامل النص تجعل القارئ في وضعية اضطرارية للالتحام به. وضعه النفسي يرتبط بسرعة بالمجال، بحيث يتخيل نفسه للتو سائقا لسيارة في طريق العودة المقفرة إلى منزله بعد سفر طويل. تسرح مخيلته عوالم القلق والضيق، يحلق فوقها قدر الموت غير الطبيعي، وكأنه نسر مسعور لا يميز طبائع طرائد إقتاته. توقيت العودة تزامن مع اقتراب الغروب الوائد لخيوط الشمس، رمز النور، ومصدر مداخيل عيش الكائنات الحية، التي تهاوت ببطء إلى مرقدها، ليحل محلها ظلام السبات. إنها لوحة فنية رائعة، تعاقب فيها الليل والنهار، مبرزة أحد المعجزات الربانية في الوجود، ومذكرة بفحوى الحديثين النبويين "تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذات الله" و "لا فكرة في الرب". بعدما وصف ببراعة احتضار الطبيعة وحرمانها من مصدر حياتها (الماء)، نبه مباشرة القارئ كيف تصنع لنا الأخبار الإعلامية عوالم الدمار في عالمنا العربي.

القدرة المعرفية الساحرة لهذا الكاتب المبدع موقعتني بإرادة فضولية، وكأنني بطل القصة، في مركز لوحة فنية غارقة في الألم والمعاناة. وجدت نفسي أمام واقع معبر عن تسلط القوي على الضعيف. توج التفاعل باعتداءات الشمال على الجنوب وعلى البيئة. أسوق سيارتي في طريق عودة ترامتْ على جانبيها أرضٌ كالحةٌ رماديَّةُ اللون. فوجعت من كيفية احتضار معالم الفرح بها بسبب حرمانها من طعم المطر منذ سنين. تمعنت متذمرا في وقع اشتداد قسوة الطبيعة على النفوس المستخلفة في الأرض وعلى الكائنات المزخرفة للوجود البشري. حملقت شمالا جنوبا، شرقا وغربا، ولم أر إلا أشجارا تحولت بفعل الجفاف إلى هياكلَ عاريةٍ عجفاء. تمعنت كذلك في الوجود وفي أهمية الماء والخضرة في حياة الكائنات الحية. وأنا في مركز اللوحة دائما، داهمني الهلع عندما فكرت في كيف هجّر وأد الخضرة العصافير من فضاء حياتها الطبيعي، لتواجه وحيدة مصيرها الحزين. أصبت بالارتباك وأنا أحملق أسرّة الأودية الجافة، وكيف دعتِ المياهُ السواقي والأودية، واختفتْ قطعان الماشية، وصمتتْ مزامير الرعاة. علمت كيف تتشكل وتترعرع سعادة الرعاة، وكيف ترتقي وتتنوع ألحان مزاميرهم من زهو الماشية، وهي تتغذى أعشاب الحقول الخضراء.

تسلسلت الأحداث خطيا، وتنامت بشكل تصاعدي، لتشتد أحزان السارد، وهو يتابع مخالب الموت تنهش في أجساد الأطفال والنساء والشباب والكهول والشيوخ في جميع أقطار الوطن العربي. فيضاناتٌ مروعة تجتاحُ بلاد الصومال التي أنهكتْها المجاعة والحرب الأهلية، وتقتلُ المئات من الأطفال والنساء والعجزة... ويلات المذابح في الجزائر... مئات الأطفال يموتون يوميًّا في العراق، بسبب الحصار ونقص الحليب والغذاء والدواء.....

بالطبع، أمام قسوة الموت غير الطبيعية، وغضب الطبيعة الذي لا يرحم، مع اختلال القواعد العلمية لأسرار الوجود بفعل بشري، أبى فرخ الحمامة الذي خرج من بيضته بصعوبة أن يقاوم من أجل العيش واستمرار الروح في جسده. لقد سلّم بسلمية المقهور روحه لخالقها معلنا أن مغادرته دار البقاء هي في حد ذاتها إنذار مروءة فرخ بالمآل التفاقمي لمآسي الحياة بفقدانه. فمعاناة الكبار وقساوة الطبيعة فرضت على المواليد الجدد استعصاء تحمل مآسي التطورات.

من حيث اللغة، عبارات هذه القصة لا تبتعد عن لغة قصص المجموعة (أوان الرحيل). فهي لغة بسيطة، واضحة، خلابة، تعبر عن تاريخ شخصية عربية من العيار الثقيل، ألمت بخبايا الواقع، وسعت دائما لململة أوضاعه، ومتحت من تراكمات التراث الأدبي العربي ومن تاريخ التجربة الإنسانية. الصور القاتمة في هذه القصة أبانت عن تعقيدات الحياة عربيا، وتشابك تفاصيلها، مبرزة أن ما يظهره القاسمي أهون مما يخفيه في عباراته. السارد هو الأب، المنشغل بأرق مضني بمستقبل ابنته، وهو البطل الذي يتأمل واقع حمامة تنتظر ولادة عسيرة لفرخها، لا يستوعب فكرة العيش في حياة تشبه الموت. كما لا يتحمل في نفس الوقت أوضاع الحداد المزمنة في حياة شعوب المنطقة، وكأنه يغازل نورا في الأفق، طامحا تلذيذ مضمون تيمات كتاباته المستقبلية، ومنحها ذوقا مغايرا، ونكهة من واقع انتفض بقوته الكامنة رافضا الركود والرجعية. امتدت معاناته في عوالم فضاءات قصته من الطبيعة، وهو في طريق العودة بمآسيه، إلى حرمة فضائه الداخلي المقدس (منزله)، ليتفرع الإحساس بالضيق والتذمر من خلال شاشة التلفاز بمتابعته أخبار الموت في الأقطار العربية. أما الخاتمة فكانت جد مأساوية. مات الفرخ ساخرا من عالم لم يستوعبه، ليشتد نواح أمه الشجي بلا انقطاع طوال الليل.

لقد نجح القاسمي في تقديم صورة موضوعية عن أوضاع الأقطار العربية. لقد ربط أحداث القصة بتراب قطر شاسع لم يسميه صراحة، ليجعل منه نموذج قطر عربي حضاري، امتد من خلاله عبر التلفاز إلى أقطار أخرى. برع بامتياز في التعبير عن حالة الوضع النفسي المأزوم بجمله المنحوتة، التي رسم من خلالها لوحة تشكيلية قاتمة، تصفع من النظرة الأولى العربي المساير للأوضاع بدون اهتمام أو تفكير في مصيره ومصير أمته. بعباراتها الإبداعية لم تترك القصة مجالا للحياد، بل هاجمت وجدان القارئ منذ الفقرة الأولى مخلخلة غفوته واللامبالاته، زارعة الرعب في روحه، منبهة إياه بخطورة استمرار مسببات الانقراض التدريجي لمقومات الحياة الجماعية في وطنه.

من الناحية البيئية، يوحي هذا النص وكأن الكاتب لا يتقبل استمرار هذه الأوضاع غير الطبيعية. في تقديره، لم يعد الإنسان العربي مطالبا فقط بالتفكير حداثيا في أوضاعه، بل عليه الانتباه إلى خطورة تراكم الإكراهات الكونية وأوزارها على مستقبل الوجود العربي. أتقن ببلاغة مذهلة صياغة تعابيره اللغوية لإثبات حالة التحول المحزن لأحوال الطقس، وما تتكبده الطبيعة من معاناة، وما يتبادر من هنا وهناك من تأزم وابتئاس رافض لتقبل المصير الجديد للمخلوقات. لقد صور للقارئ هذا التحول المفزع بتقديم سلسلة من لقطات صور متكاملة المعنى والمضمون، مبرهنا بالملموس تراكم مسببات وتداعيات عقم أصاب الطبيعة والحياة: "ودعتِ المياهُ السواقي والأودية، واختفتْ قطعان الماشية، وصمتتْ مزامير الرعاة".

تعبيرا عن قلقه وضيقه، وجد الكاتب في اختياره حمامة مسكينة منبر حرية لمخاطبة الآباء والأمهات وأولياء الأمور عربيا. ضاقت بها (الحمامة) السبل والأجواء في الطبيعة، ولم تجد سوى نافذة منزله آملة أن تقضي في سقفها الأعلى فترة توالدها الطبيعية (اعتبرت المكان مهجورا آمنا). نهرتها براثن الجفاف والجفاء، ولم تجد من سبيل للتشبث بأمل استمرار تناسل فصيلتها إلا التكيف مع الوضع الجديد. بعدما لمست الأمان والسلام في اقتراب طفلة السارد من النافذة، ازداد أملها للوصول إلى نهاية مشروعها الطبيعي، الذي تنتظر أن ينتهي بتفقيس بويضتيها وتأمين الخلف بفرخين يكونا أكثر استعدادا للتكيف مع المستجدات ومقاومة عواصف تقلبات الطبيعة والواقع "ظلّت بُنيتي تتردَّد على تلك النافذة تراقبُ الحمامة التي أخذتْ تعتاد على اقترابها المسالِم، ولم تعُدْ تفزع لمرآها".

إن موت الفرخ كان مفزعا. لقد دفع السارد إلى التعبير عن هلعه من سطوة الكآبة والأرق على النفوس. إنه المآل الافتراضي المخيف الذي جعله يقول في العبارة الأخيرة من القصة "عندما أويت إلى فراشي تلك الليلة، لم أستطع النوم ...".

***

الحسين بوخرطة

.......................

القصة الكاملة: "الـحمامة" لعلي القاسمي

كانت الشمس تلوح في الأفق البعيد صفراءَ شاحبةً تتهاوى ببطءٍ إلى مرقدها، حينما عُدتُ وابنتي الصغيرة ـ بعد تمضية عطلةِ نصف السنةـ في طريقٍ طويلة مُقفِرة، ترامتْ على جانبيها أرضٌ كالحةٌ رماديَّةُ اللون، نسيتْ طعمَ المطر منذ سنين، واستحالتْ فيها الأشجارُ إلى هياكلَ عاريةٍ عجفاء، هجرتْها خضرتُها وعصافيرُها، لتواجه وحيدة مصيرها الحزين. وودعتِ المياهُ السواقي والأودية، واختفتْ قطعان الماشية، وصمتتْ مزامير الرعاة.

في غرفة الجلوس بالطابق العلويّ من المنزل، أثارتْ انتباهَنا حركةٌ مريبة خلف النافذة. اقتربتْ ابنتي بحذر منها، وما إنْ رفعتْ الستارةَ عنها حتّى طارتْ حمامةٌ مذعورةٌ بعيدًا في الهواء، ثُمَّ ما لبثتْ أن حطَّتْ على سطح المنزل المقابل. فأطلقتْ ابنتي صرخةً جذلى :"آه! لقد عشَّشت تلك الحمامة هنا، أثناء غيابنا، وخلّفت بيضتَيْن." وأخذتْ تتأملهما ساكنةً لوهلة. ثُمَّ عادت لتجلس إلى جانبي، حيث دسّت رأسها الصغير في صدري، وأنا أواصل قراءة كتابي، وأُمسِّد شعرها الناعم الطويل. وسرعان ما عادتِ الحمامةُ إلى النافذة، بعد أنْ اطمأنّتْ إلى ابتعاد الخطر، لتحضن بيضتَيْها.

وظلّت بُنيتي تتردَّد على تلك النافذة تراقبُ الحمامة التي أخذتْ تعتاد على اقترابها المسالِم، ولم تعُدْ تفزع لمرآها. وأحيانًا، كانت تجد البيضتَيْن فقط، وقد تغيَّبت الحمامة، لتحمل بعد برهةٍ، شيئًا من القش أو الغُصينات، تنسّقها في عشّها.

وفي المساء كنتُ أتابع نشرةَ الأخبار التي يبثّها التلفزيون، في حين وقفتْ ابنتي قرب نافذتها الأثيرة. وتوالت الأنباء من جميع أقطار الوطن العربيّ: فيضاناتٌ مروعة تجتاحُ بلاد الصومال التي أنهكتْها المجاعة والحرب الأهلية، وتقتلُ المئات من الأطفال والنساء والعجزة... مذبحةٌ جديدة تقترفها الجماعات المسلَّحة في الجزائر يذهبُ ضحيتَها أربعـمائة وخمسون قتيلاً في قريةٍ واحدة، جلُّهم من النساء والأطفال والشيوخ... مئات الأطفال يموتون يوميًّا في العراق، بسبب الحصار ونقص الحليب والغذاء والدواء... وفجأةً تصرخ ابنتي:

ـ " انظرْ، البيضة تَفْقِس، الفرخ يكسرها برأسه، بمنقاره الصغير، إنّه يخرج منها بصعوبة... انظرْ إلى المسكين، ما أضعفه! ما أصغره! ما أملسَ جسمه الخالي من الريش..! لم يخرج من البيضة تمامًا ... إنّه يرتمي بنصفِ جسمه على الأرض... لا يتحرّك ... إنّه هامد، أخشى أنَّه ميّت... يا إلهي! أين أُمّه؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ بابا ، كيف نستطيع مساعدته؟"

وعندما أويت إلى فراشي تلك الليلة، لم أستطع النوم؛ فقد كانت الحمامة في النافذة المجاورة تنوح وتنوح نوحًا شجيًّا بلا انقطاع طوال الليل.

في المثقف اليوم