قراءات نقدية

عقدة المهاجر.. وجهة نظر في روايات قصي الشيخ عسكر

لا يخلو عمل مهجري لقصي الشيخ عسكر من مقاربة مكشوفة للإيروتيكا. ودائما يكون للفحولة الشرقية زخم مضاعف. ولا أعلم هل هذا تعبير عن عقدة فعلية يحملها الكاتب في صندوقه الأسود. أم أنها ندبة خلفتها لديه تجربة واحدة، وتحولت إلى أحفورة. ومن المؤكد أن الأحفورات دليل على شيء له علاقة بالماضي الحي ولكن الغامض والذي يصعب الاعتراف به.

والتخصص بالتجوال - يسميه الشيخ عسكر الحبكة المهجرية- هو الوجه الآخر لهذا الأثر.

وأستطيع أن أجد عدة أمثلة معاصرة عليه أحدثها لروج غلاس Rodge Glass أستاذ أدب الكتابة في جامعة ستراثكلايد. وقصص مجموعته الصادرة عام 2013 بعنوان "حب وجنس وسفر وموسيقا" تقوم بجولة واسعة من أمريكا في أقصى الغرب وحتى تايوان في أقصى الشرق.

وكان قد سبقه لهذه الأجواء الملحمية غراهام غرين الذي لم يترك بلدا لم يكتب عنه منذ "الأمريكي الهادئ" وهي رواية عن الاستعمار الفرنسي لفيتنام حتى "المونسنيور كيشوت"، التي تكاد تكون آخر أعماله، ويجوب بها سهول وقفار إنكلترا وفرنسا وإسبانيا.

ومع ذلك تتباعد الدوافع بين هذه النماذج.

غلاس يبشر بإنسان اغترابي يضيع بهمومه الذاتية، حتى أنه يقرأ علاقات العمل والمكان والمرأة كملحقات لهمومه وحاجاته الفطرية. وبكل بساطة أعتقد أن بطله جزء يتخلى عن قناعه بالتدريج ليكشف لا أدريته واضطرابه كما هو حال ميرسو بطل "الغريب" لكامو.

وأظن أن الميول الانتحارية لدى هذا النمط لا يترجمها شيء مثل الانحدار في مزيد من سوء التفاهم مع البيئة والمجتمع، وهو ما يقود كامو لوضع أبطاله بين قطبين.. العبث والتمرد. وكل منهما يهزأ بالآخر ويكشف عن عجز الإنسان المعاصر وسياسته في حل ألغاز ومعميات التاريخ.

في حين أن غرين يجهد نفسه باكتشاف قضية تحض الشخصيات على التورط باتجاه يحط من مكانتهم، ويقودهم لتجزئة الطبيعة وتعويم الإنسان.

في حين أن الشيخ عسكر يكتفي بتجريم هويته وتبرئة الآخر. ولا يمكن أن نجد في كل أعماله محاولة واضحة لإدانة المخطط الكولونيالي المسؤول عن التهجير وكشف غطاء الانتلجنسيا الرقيق، المتورط بشكل فعلي بتخريب وهدم الهوية وحضارتها، وتحويلها إلى فراغ وإلى فوضى لا ينقصها الرعب الغروتسكي.

ولا يمكن أن تجد لديه شيئا أقل من التبشير بالتصالح. وهو صلح يرتكز على أوهام نفعية، طالما قال عنها إدوارد سعيد إنها تمثيلات عن وهم لا يدعمه الواقع. ولا مجد ولا شرف الشرق الضائع والمفقود. وبهذا السياق يرى أن الإبعاد يكون ميتافيزيقيا كلما ارتفعت درجة الثقافة لأنه بالضرورة يتسبب بخيانة معرفية وبالتقليل من أهمية الحرية المزعومة.  (انظر: كتابه صور المثقف. ص68).

وتقدم رواية "مستر دوسن" لقصي الشيخ عسكر دليلا مؤكدا على أطروحته.

فهو يحمل الشوكة والسكين من أرضه المنهوبة ليضعها بين يدي أحد رموز الاحتلال. وهي في هذا السياق أرملة الميت - مستر دوسن. ولا يخلو هذا الترميز من إحالات فرويدية مبيتة ومنها التناقض وعقدة الخصاء.

وبقليل من المرونة أعتقد أن الأرملة هي إلهة معبودة وأم. والراوي هو تابع يحتل مرتبة ابن بالتبني. بتعبير آخر هو لا يملأ مكان الأب الشاغر، ولا يمتلك الأم المرغوبة، ولكنه بعمل على تخليدها. وهذه كلها رموز تستبدل علاقة التكافؤ بموقف عرقي وعنصري بالغ الإجحاف. وبلغة واضحة تستبدل عاطفة الحب و الإعجاب بعلاقة استهلاك وقضم. وهو التفسير الحقيقي للسياسة الاستعمارية ودوافعها.

يمكن العودة إلى "ممر إلى الهند" لـــ ي. م. فورستر، والتفكير بمأساة الدكتور عزيز الملون ذي الوجه الداكن.

أو العودة إلى "وطن محمول" للألمانية جيني إيربينبيك التي ربطت مصير غريق في قاع النهر بمصير عدة لاجئين يأكلهم روتين اللجوء.

وسبق لقصي الشيخ عسكر أن أشار - بطريقة غير شعورية - في رواية سابقة له هي "الآنسة تيدي" إلى الخدعة التي يتعرض لها المهاجر المغترب. ولا يكتشف إلا بوقت متأخر أن الممرضة المعالجة له كانت تستغله لغاياتها الشخصية. وفي النهاية تستعير من مطبخه السكين الذي تنحر به حبيبها الغشاش.

وأي مقارنة بين سكاكين الشيخ عسكر وسكاكين الطيب صالح - سعيد المجرم السادي والمزواج في "موسم الهجرة إلى الشمال" تبين كيف تراجعت أطروحة الحضارة العربية والشرقية من الندية إلى المصالحة - وفي أحايين عديدة للاكتفاء بدور المسلي أو الدمية إن لم يكن المخدوع.

وليس في ذلك ما ينتقص من قيمة وتألق أعمال قصي الشيخ عسكر، ولكنه يدل على ظهور استراتيجية اغترابية جديدة تتراجع من النضال في سبيل تحرير الأرض وإطلاق الطاقة المكبوتة لإنسان عربي لديه مشروعه إلى مجرد نصف إنسان خنوع ومسلوب الإرادة..

وربما أجد أكثر من سبب لبطل روايته "الآنسة تيدي" كي يسدل الستار على ضياعه بالبكاء والنشيج بدموع حرى كما ورد في آخر سطر...

***

د. صالح الرزوق

....................

للاطلاع

قصي الشيخ عسكر: مستر دوسن.. (سيرة شوكة وسكين)

في المثقف اليوم