قراءات نقدية

سيميائية الشخصية الرئيسية في رواية (صرخة رحم)

صدرت رواية (صرخة رحم) للروائية، سعاد بريوة، تحت اسم فنّي مستعار (سعاد عشتار) عن دار النشر أيّوش، سنة 2020 م. وهي رواية، كما جاء في ملخّص للروائية، تعبّر عن بوح سرديّ، تدور أحداثه في قرية متهالكة في جبال سكيكدة، وقعت أحداثها في زمن العشرية السوداء، وتنتهي بموت البطلة (فايزة) في فترة اندلاع الحراك الشعبي. مباشرة بعد عملية إنجاب طفل إثر عملية تلقيح اصطناعي بالقاهرة.

تتميّز الرواية بحسّ مأساوي واقعيّ، فالبطلة تكافح وسط مجتمع ذكوريّ غارق في الجهل، وبعد أن تقع في الحب، تكتشف أنّ الحب خائن بدوره، تصاب بالعقم فتختار الموت كاملة على العيش في مجتمع يحتقرها.

تكشف لنا الرواية صراع الأنثى بصمت وموتها بواسطة عادات وأعراف جاهلية، في مجتمع ذكوريّ أرعن.

حين شرعت في قراءة الصفحات الأولى من رواية (صرخة رحم)، وجدت نفسي مدفوعا ومشدودا - بسلاسة وغير مرغم - إلى وجوب إتمام صفحاتها 198. وارتأيت دراستها من زاوية سيميائية شخصيتها الرئيسية أو بطلتها (فايزة). وعلاقاتها بشخصيات الرواية في محيطها القروي، كالأب سي الرزقي والأم لالة سعدية، والخالة ربيحة، وزوجها إبراهيم وصديقتها حنان، وأختها سهام، ومراد وزوجته.

هي رواية جمعت بين تيمات متناقضة ومتصارعة إلى درجة العدم ؛ جمعت بين السلام والحرب. وبين الوفاء والخيانة، بين الحب والكراهية، بين الموت والحياة. بين الأمل واليأس، بين صراخ البطلة في صمت من قسوة الألم وساديّة مجتمع ذكوريّ جاهل ومتجاهل ومتسلّط وعديم الرحمة والمسامحة.

حاولت الروائيّة، سعاد عشتار (سعاد بريوة)، في روايتها (صرخة رحم)، رسم معالم المجتمع الريفي والقروي، في بيئة فترة العشرية السوداء، الحمراء، وما بعدها، حين اندلع الحراك الشعبي. وجاء العنوان، كونه هو عتبة النص أو المعمار الروائي، منه يلج المتلقي والناقد إلى أعماق النص الروائي، ويكون غنيّا بأبعاده ودلالاته ومستوياته، مهما كان قصيرا أم طويلا. دالا على شدّة المعاناة والألم وقسوتهما على نفسية البطلة، وعلى حجم الرفض للواقع المعيش، وعدم الاستسلام له.

فالصراخ – من الناحية السيكولوجية - سواء أ كان عالياً أو خفيضا، سلوك فطريّ، يريح الإنسان نفسياً، ويريحه من حالة الإجهاد التي يعاني منها ؛ فحسب ما ذكرته بعض الدراسات النفسية، فإنه يساعد في إخراج كميّة هائلة من الضغط النفسي، كما يساهم في طرد الطاقة السلبية من جسم الإنسان، بالإضافة إلى فوائده الجمّة في إنعاش الدماغ وتحسين المزاج النفسي للشخص الصارخ. " الصراخ، إنّه مريح جدا " ص 89.

أما لفظة (رحم)، فقد رمزت بها الروائية إلى جنس الأنثى. واخترتها بدلا من كلمة أنثى للدلالة على عمق الإشكالية وتجذرها في أوساط المجتمع. لأنّ كلمة (رحم) من الزاوية السيميائية، تشتق منها مجموعة من الألفاظ، ذات الدلالات القويّة والمثيرة ؛مثل: الرحم، وتعني القرابة القريبة جدا، كما تعني موضع تكوّن الجنين، والرحمة، وتعني الشفقة ووالرقّة، ومنها كلمتي التراحم، والرحيم. وغيرهما. والصراخ تنبيه على بلوغ الخنجر العظم. وإذا كان عاجزا عن حلّ المشكلات المعقّدة، إلاّ أنّه يخفّف من شدّة الغضب، ويفرغ الطاقة السلبية المتراكمة. يقول الدكتور يوري فيالبا، أخصائي الطب النفسي، " أن الكثيرين يعتقدون بأنه لا يمكن حل أي مشكلة بالصراخ. ولكن في الواقع يمكن أن يحل الصراخ بعض المشكلات الداخلية " كما يشير الدكتور فيالبا، " إلى أنه يمكن للصراخ في لحظة التوتر العاطفي الشديد، أن يخفف ذروة الغليان وإعادة التوازن الداخلي. "

و الملاحظ، أنّ الروائية، قد انتقت اسم بطلة روايتها بعناية واحترافية، فاختارت لها اسم (فائزة)، وهو اسم مشتقّ من الجذر والمصدر اللغوي (فوز)، ودلالته السيميائية تعني الانتصار والنجاح وتحقيق الهدف المنشود.

شخصيّات الرواية:

ارتأيت أن أتناول بالدراسة الأبعاد السيميائية للشخصية الرئيسية (البطل) في هذه الرواية (فايزة). نظرا لأهميّتها في المعمار الروائي والقصصي والحكائي، ودورها في بناء السياقات السردية والحواريّة في المضمون الواقعي أو المتخيّل، وعلاقاتها بالشخصيّات الثانوية الواردة في الرواية.

فالشخصية الروائية لها دور وظيفيّ، وهي مركز العمل الروائي ومحركه الأساسي، لأنّها تتقمّص قضايا الإنسان، سواء الاجتماعية أو النفسيّة أو الأخلاقية أو الفلسفية أو التاريخيّة. وتجسّد صفات الإنسان الذي نكتب عنه وتطلّعاته وهمومه وأحلامه، بأسلوب مباشر وواقعيّ أو غير مباشر، مجازيّ وتخيّليّ. ولا يمكن أن نتصوّر وجود عمل روائيّ بدون شخصيّة، مهما كانت نوعيّة صفاتها المادية أو المعنويّة ومكانتها الاجتماعيّة وحجمها الفكريّ والنفسيّ وتفاعلاتها داخل نسيج بيئتها (إطار الزمان والمكان)، المحليّة أو الانسانية. لكن، هناك رهط من القراء، يخلطون بين مفهوم الشخصيّة الروائيّة ومعناها العام في المعمار الروائي، والشخصيّة الملموسة والمرئيّة والكائنة في عالم الواقع المعيش. فالشخصيّة الروائية، هي شخصيّة فنيّة وتخيّليّة، تتحرّك بفعل تطوّر الأحداث، بين الكلمات والسطور والفضاءات السرديّة والحواريّة. وهي كما يقول تزفيتان تودوروف: " مجرد كائن ورقيّ، ليس له وجود خارج الكلمات ". بينما الشخصية الواقعيّة المرئية، هي شخصيّة تتحرّك خارج الإطار الفنّي، لكل ما تحمله من أفعال وسلوكات وأقوال، إيجابية أو سلبية، وما تواجهه من ردود أفعال في محيطها الاجتماعي أو السياسي أو الأخلاقي.

يعرّف بعض النقاد الرواية بقولهم: " الرواية شخصيّة "، لأنّ الشخصيّة وسيلة الكاتب الروائي الأساسية للتعبير والكشف عن واقعه وأحاسيسه وأفكاره بشكل مجازيّ (غير مباشر) أو بشكل مباشر وصريح، على المستوى الحركي (الدال والمدلول، الفاعل والمفعول به). وتُسهم إسهاما حاسما في تعميق البناء الفنّي في المعمار الروائي.

***

و قبل استعراض سمات شخصيّة (فايزة) الرئيسيّة في هذه الرواية للروائيّة سعاد بريوة، صاحبة الاسم الفنّي (سعاد عشتار)، ارتأيت المرور على الشخصيّات الثانويّة الواردة فيها، نظرا لدور بعضها الحاسم في تطوّر الأحداث على المستوى الواقعي والفنّي التخيّلي. ومن هذا المنطلق، صنّفت الشخصيات الثانوية إلى صنفين:

1 – شخصيات ثانويّة حاسمة: (الزوج إبراهيم، الأم لالة سعديّة، الحماة الخالة ربيحة).

2 – شخصيات ثانوية عاديّة: (الأب سي الرزقي، الأخ عمّار، خطيبة عمّار منال، الأخت سهام، كمال زوج سهام، مراد، حنان، زوجة مراد، الطبيب، خالد السكّير، عبد الرحمن سعد، مدير المكتبة بالقاهرة).

الزوج إبراهيم: شاب متعلّم، جامعي المستوى، ضحيّة البطالة التي أصابت الإطارات الجامعية، " هذا الوطن علّمنا ورمانا للشارع لا أمل، ليس باليد حيلة " ص 28. في مقتبل العمر، قروي ّ، يتيم الأب، عامل بسيط في ورشة بناء، مصدوم من اغتيال أبيه الشرطي على أيدي الجماعات الإرهابية في العشرية السوداء. ناقم على الأوضاع السياسية والاجتماعية. مضطرب السلوك، سوداويّ، هاديء تارة، وتارة أخرى عصبيّ وعنيف، مشاعره مهزوزة ومتناقضة ؛ محب، وفيّ، خائن، متهوّر، واع بما يدور حوله " لا خير في بلاد السرّاقين، لكلاب، الخماّج " ص 134، ثائر، يحلم بالثورة على واقعه والتغيير نحو الأفضل. دخل السجن بتهمة تحطيم أملاك عمومية. خان زوجته مع صديقتها حنان. تصفه الروائيّة قائلة " اسمه إبراهيم في الخامسة والعشرين، لكنّه يبدو أكبر... عيونه سوداء (عيناه سوداوان) وشعره أسود، طويل القامة وعضلاته مفتولة... يبدو دائما غاضبا وناقما على الحياة، في كل حديث يسب حكام هذا البلد ويصفهم بأنّهم لصوص وخونة " ص 31.

الأمّ لالة سعدية: شخصية ساذجة وأميّة وثابتة وأحادية الجانب، نظرتها إلى الحياة ماديّة بحتة وسطحيّة جدا. همّها الوحيد زواج أبنائها. رافضة لتعليم ابنتها (فايزة) " دعي عنك هذه الكتب، الزواج أهم لك صدقيني " ص 11. مؤمنة بالخرافات والخزعبلات، خاضعة للعادات والتقاليد البائدة. لها قدر من الخبرة والتجربة في الحياة، وذلك بحكم سنّها ومعايشتها لبيئتها القرويّة المتخلّفة.

الأب سي الرزقي: رجل له نصيب كبير من الوعي وطيب السريرة. حريص على تعليم ابنته (فايزة)، حلمه أن يراها أستاذة. لكنّ فقدانه جعل (فايزة) تفقد سندها القويّ في الحياة في فترة العشرية السوداء. " رحل ركيزة البيت وسند الظهر وقت المحن، صار الزمن من بعده كأنّه لا يسير " ص 15.

الأخت سهام: امرأة ماديّة حتى النخاع، رغم مستواها التعليمي الثانوي. الحياة في نظرها. " سهام حقّقت كل أحلامها؛ زوج غنيّ، بيت، سيّارة، أولاد وكلّ التفاهات.." ص 16.

الأخ عمّار: شخصيّة انتهازيّة وأنانيّة وذكوريّة بلا رجولة ولا أنفة، حيث يستغلّ قرار زواج أخته (فايزة)، كي تدفع له مهر زواجه من (منال). أرغمت والدته (فايزة) على دفع مهر عروسه، وقائلة لها " لقد قررت أنّك لن تتزوّجي قبل دفع مهر أخيك " ص 114.

الخالة ربيحة: شخصية ثابتة، أحادية الجانب، هي حماة (فايزة)، امرأة أرملة، ميسورة الحال، ومعقّدة، تنظر إلى الآخرين من زاوية الريبة والشك والحذر، وهي من ضحايا الإرهاب، فقدت زوجها في العشريّة السوداء على أيدي الجماعات الإرهابيّة. امرأة " صارمة جدا " ص 52. متحكّمة في دواليب أسرتها الصغيرة، صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة. متعصّبة لآرائها، ترفض التنازل عنها بشدّة، لاتختلف عن لالة سعديّة كثيرا في خضوعها للعادات والتقاليد والخزعبلات في المجتمع القرويّ الماديّ، المنغلق على نفسه والمتزمّت للجهل والخرافة. ضدّ عمل المرأة، تصرّ على أنّ المرأة خُلقت للبيت والزواج والذريّة فقط. وتصرّح بذلك قائلة لفايزة. " لا أحب المرأة العاملة، فهي تهمل بيتها " ص 126. " المرأة خُلقت للبيت" ص 127." لو كان الأمر بيدي لمنعتك من التدريس " ص 127. ".

أما الشخصيات الثانوية الأخرى (، خطيبة عمّار منال، الأخت سهام، كمال زوج سهام، مراد، حنان، زوجة مراد، الطبيب، خالد السكّير، عبد الرحمن سعد، مدير المكتبة بالقاهرة). فهي شخصيات غير ناميّة، لكنّها ساعدت على تعميق البناء الدرامي لمعمار الرواية. فالطبيب ومدير المكتبة، جمعت بينها سمات الطيبة والخيريّة والهدوء، بينما اتّسمت شخصيات(منال وحنان وكمال وزوجة مراد) بالغيرة والخيانة والطمع والأنانيّة المفرطة.

إذن، (فايزة)، هي بطلة الرواية، في مقتبل العمر، شابة متعلّمة، منحتها الظروف الاستثنائية قدرا، لابأس به من التعليم الجامعي، واستطاعت أن تقتحم مهنة التعليم. قدّمتها الروائية في مقطع سرديّ مثير، قالت فيه: " المرأة الوحيدة التي أكملت دراستها الجامعية، واستطاعت أن تكسر أغلال هذه القرية، التي تنبع من معتقدات الرجولة ؛ يتزوج، يطلّق، يخون، يضرب، يصرخ، يدرس، يحلم... نعم فهو رجل " ص 21. أجل، استطاعت (فايزة)، أن تحطّم قيود الحرمان من التعليم والوظيفة بحجة، أنّ المرأة هي آلة نسل فقط، لقد قيل لها: " العمل للرجال، النساء مكانهنّ البيت." ص 26. " المرأة خُلقت لتربية الأولاد " ص 26. وهي تعكس سمة التحدي والمقاومة، وكاريزميّة قوة التغيير الإيجابية والذاتية، الكامنة لدى شخصية فائزة، لأنّها مؤمنة بصواب مواقفها، وحتمية تحقيق أحلامها وأحلام أبيها. وفي هذين المقطعين السالفين، يبدو التناقض صارخا في المجتمع الذكوري بين القول والواقع. وتتبادر إلى الذهن، هذه الأسئلة: هل العمل يتعارض وتربية الأولاد؟ ألا تتطلّب التربية السليمة للأبناء قدرا من العلم والمعرفة؟، فلو قيل، أن المرأة خُلقت للإنجاب وللرضاعة، لكان الأمر مفهوما.

كما تبدو البطلة (فايزة) امرأة شجاعة وطموحة، مصرّة على المواجهة من أجل التغيير الإيجابي، مهما كان الثمن. ومتأكّدة من أنّ العلم والعمل هما أفضل وسيلة لتحقيق ذلك. تحاول أنّ تغيّر مفهوم زواج البنت في القرية. فأختها (سهام) الجميلة، تسرّعت تزوجت كمال، الذي يكبرها تسعة عشر سنة، من أجل المال، " سهام تزوجت لأجل المال " ص 19. أمّا (لالة سعدية) " تزوّجت من أجل إنجاب الأولاد " ص 19. هذه، حال بنات القرية ؛ حياتهنّ راوح مكانها بين زواج من أجل المال وإنجاب للأولاد. لكنّ (فائزة) حطمت هذا العرف الاجتماعي، الذي يشبه (الطابو). رفضت اختصار مسيرة حياتها بين فكيّ المال والإنجاب فقط.

عندما نتأمّل الحوار التالي بين (فائزة) والعجوز - التي ترمز للجمود والعجز والتقاليد المميتة، همّها الزواج والذريّة فقط - بعد تعيينها أستاذة في ثانوية ابن زياد، نكتشف إيمان (فائزة) بأحلامها وإصرارها على مواجهة مجتمع تقليدي خامل، محافظ على ديمومة الجهل والتخلّف، ولا ينتج سوى العراقيل والمثبّطات.

" أين مكان العمل؟ " ص 19.

" ثانوية ابن زياد. " ص 19.

" أليست في الولاية، إنّها بعيدة جدا ثمانون كلم هل جننت؟ " ص 20.

" ارفضي العمل وتزوّجي، أريحينا من همك " ص 20.

" سأعمل لن أتنازل عن أحلامي " ص 20.

لقد عكس الحوار، بوضوح، ودون تورية بلاغية أو مجاز، النظرة المتزمّتة للمجتمع القروي للمرأة، ولو كانت متعلّمة. وكانت الألفاظ التالية: (بعيدة، جننت، ارفضي، أريحينا، همّك) ترجمانا لذلك. لكنّ (فائزة)، لم تخش، ولم ترضخ، ولم تستسلم للأمر الواقع. تحدّت، لأنها كانت تمتلك قوة روحية ونفسية. كانت تؤمن بالتغيير نحو الأفضل، ولو بعد حين. هي، تدرك أن التغيير صعب، لكنّها ستحاول، وستحاول. لن تملّ، ولن تيأس ولن تستعجل. فالقضية لا تتعلّق بتغيير لون طلاء جدارأسمنتي، ولا تغيير لون بدلة أو فستان. كلا، القضية أعمق من ذلك بكثير. هي تغيير وتحطيم أفكار بالية، جامدة، موروثة، ميّتة، مميتة، صنميّة، ترسّبت في ذاكرة القرية منذ سنين. أفكار خرافية، انتحلت صفة دينية ثابتة ومقدّسة، وألغت أحلام أجيال كاملة، واغتالت مئات العقول النسائية، ووأدتها في مهدها، وحرمت المجتمع من عبقريّات علميّة وأدبيّة جمّة.

ما أصعب التغيير، حين تجهر به المرأة في مجتمع ذكوريّ مستبّد، يعامل المرأة معاملة الآمة القاصرة، لأنّ التغيير – في نظر كهنة التخلّف والجمود - خروج عن (دستور القبيلة)، وتمرّد وصعلكة جاهلية. غير أنّ (فائزة) ؛ المرأة المتعلّمة، المدركة لحقوقها وواجباتها، المتمرّدة على أصنام قريتها، تعلن عن نواياها وأهدافها صراحة في قولها:

" أنا أؤمن بالتغيير إلى الأحسن " ص 20.

" اليوم سأحاول، وغدا سأحاول " ص 20.

" بعد غد سأحاول، وبعدها أنجح " ص 20.

تقطن فائزة في منطقة ريفية، قاسية المناخ الطبيعي، لا تؤمن إلا بالمادة، يغلب على ساكنتها الأميّة، وسيطرة الأعراف والتقاليد البائدة والخرافات الناجمة عن الجهل، تزعم أنّها محافظة. لكنّ الحقيقة غير ذلك. بل هي عبارة عن مجتمع منغلق وسوداويّ وساديّ. يرى المرأة – كما قال نزار قباني – " شاة أو بعيرا، والعالم جنسا وسريرا " ص 30. فمتى كانت المحافظة، حرمان المرأة من نور العلم، وقد منحتها كل الأديان السماوية، والقوانين الوضعية حقّ التعلّم؟ هل المحافظة، تبيح لبعض الناس إهانة المرأة، وحرمانها من حقوقها الشرعية؟ ألا يعلم دعاة الوأد الجاهلي، أنّ الإسلام قد كرّم المرأة أيّما تكريم؟

من السمات الإيجابية الأخرى لشخصية (فائزة) ؛ بطلة رواية (صرخة رحم) للروائية سعاد عشتار، عنصر الوعي المكتسب من دراستها الفيزيائية الجامعية. على خلاف أختها (سهام) التي لم يتعدّ تعليمها المرحلة الثانويّة. وهنا، تشير الروائية إلى دور التعليم، والتفكير العقلي والمنطقي في حياة الإنسان. فكلّما ارتفع مستوى التعلّم عند المرأة، ارتفع منسوب الوعي عندها، وأدركت المعنى الحقيقي للحريّة والمسؤولية. بينما تقع المرأة الأميّة، أو نصف المتعلّمة في براثن المادة، وأخطبوط الذكورة، حيث يذيقها ألوانا شتى من العبودية والذل باسم القوامة والعصمة. في المقاطع السردية التالية، تظهر لنا سمة هذا الوعي الأنثوي. " كيف تمكّن الجهل من هذه القرية، كيف يرضى أحد أن يعيش في الجحيم كي يرضي عيون المجتمع، هل عمرنا هيّن لنقضيه في إخفاء الأوجاع، ألا تملك الأنثى الحق في الصراخ؟ الصراخ إنّه مريح جدا، لم لا يكون هناك كهف في هذه القرية اللعينة مخصص لصراخ النساء؟ أيعقل أنّ صراخ المرأة يحب أن يكون تحت التراب فقط، داخل ذلك اللحد المظلم، ربّما لا تستطيع الصراخ هناك أيضا " ص 89 / 90. " العالم غريب حقا، كل شيء حرام، أن تحب المرأة حرام، أن تتعلّم حرام، أن ترفض الخيانة حرام، ربّما اتّحدت المرأة في جسد الحرام، أترانا حرام يمشي على هذه الأرض؟ " ص 90. في التفاؤل. " لم تتنازل المرأة عن حقّها في معرفة الحقيقة؟ " ص 96. " رفضت السماح للفشل أن يسيّر حياتها." ص 98.

(الجهل، الجحيم، عمرنا هيّن، إخفاء الأوجاع، الصراخ، كهف، اللحد المظلم، حرام، لم تتنازل، رفضت، الفشل). هذه، الألفاظ الموحية بالمعاناة القاسية والصراع المحتدم بين طرفين متناقضين ومتدافعين، لن تخمد نيرانه، إلاّ باستسلام طرف لطرف، أو عودة الحقيقة إلى موضعها. ويُمنح كل ذي حق حقّه. لم يُخلق الذكر ليكون وصيّا على الأنثى، كما لو أنّه وصيّ على أيتام قاصرين، إنّما خلق ليكون رجلا رحيما بها وحاميا لشرفها وبقية حقوقها الفطريّة ؛ المادية والمعنويّة، والتي حدّدها لها الإسلام الحنيف.

لقد منحها التعليم درجة عالية من الوعي.أدركت تفاصيل بيئتها المكانية والزمانية في جغرافية قرويّة، خاضعة لقوانين ذكوريّة ساديّة، وسلوكات وطقوس نسائية، خرافية مضحكة إلى حدّ البكاء. فها هي والدتها (لالة سعديّة) تلقي في أذن ابنتها تعاويذ سحرية خشية من العين والحسد. " تقترب لالة سعديّة من " سهام " تحتضنها وتلقي في أذنها بعض التعويذات السحريّة " ص 96. " رمت لالة سعديّة دلو الماء وراءهم، إنّه خرافات قديمة لتسهيل الطريق وإبعاد الشرّ وأعين الحسد " ص 97.

و حين تقتحم (فائزة) عالم مدينة روسيكادا (سكيكدة)،

من بوابة وظيفتها كأستاذة لمادة الفيزياء بثانوية ابن زياد تلتقي صديقتها (حنان) في الغرفة بالإقامة الجامعية (الحدائق 3)، والتي تدرس علم النفس.

و تلتقي لاحقا في الحافلة - أثناء تنقّلها من الإقامة الحامعية إلى الثانوية – الشاب (إبراهيم) صاحب 25 سنة من عمره، وهو خريج جامعي، قادم من عالم قرويّ مجاور، يعمل في ورشة بناء، هربا من البطالة. وهو – كما روت لها صديقتها (حنان) – من ضحايا المأساة الوطنيّة، قتلت جماعة إرهابية والده، الذي كان قائد كتيبة للشرطة في العشريّة السوداء. وقد وسردت (حنان) تفاصيل تلك الجريمة النكراء، في مقطع سرديّ دراماتيكيّ فظيع ومؤثّر، يظهر بشاعة الإرهاب الأعمى: " ذاك الشتاء الماطر، فقد كان في إجازة من عمله دامت خمسة أيام فقط، فالأوضاع كانت مضطربة وعمله الحسّاس كقائد كتيبة للشرطة جعله لا يزور بيته كثيرا، كيف علمت تلك الوحوش بوجوده؟ فقد كان لا يخرج كثيرا... كيف قاموا بمحاصرة بيته وجرّه كحيوان إلى الخارج تحت تلك الأمطار الغزيرة؟ لمعان تلك السكين الحادة وهم يجهزونها لقطع رقبته، صراخ زوجته وولديه، ترجيهم بعدم قتله، يقال أنّ زوجته هُدّدت بالاغتصاب إن لم تلتزم الصمت والدخول إلى البيت ممّا جعله يوميء لها برأسه كمودّع يترك وصيته الأخيرة، لقد نحروا عنقه بكل برودة، تركوه مرميّا وغادروا مردّدين، الله أكبر، الله أكبر... الله ورسوله بريئون منهم، فهم لا يعلمون من الاسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه." ص 33.

و تكتشف (فايزة) مرضها أيضا، عندما فاجأتها الطبيبة قائلة " إنّه كيس داخل رحمك، منذ متى الألم." ص 65. لتزداد نسبة التوتر أكثر. وتدخل (فايزة) في نفق آخر، مظلم، مجهول العواقب، في مجتمع مريض، مصاب في (رحمه). وهي التي ظنّت، أنّها نجت بأعجوبة من جحيم قريتها المصابة بأورام عويصة، ولعلّ أعوصها على الإطلاق، ورم الجهل القاتل وورم الذكورة المزيّفة.

تشعر (فائزة) بالغربة، وهي تعتقد أنّها انعتقت من ضيق القرية إلى شساعة المدينة. ونجت من سجن مجتمع ذكوريّ متخلّف إلى مدينة توفّر لها أجواء الحريّة والتفتّح والعصرنة لتطوير ذاتها وتحقيق أحلامها المؤجّلة. لكنّها صُدمت، لأنّ صورة المدينة الجميلة، الراقيّة، المتفتّحة، التي كانت في خيالها، لم تجدها في واقعها الجديد. هنا، تلجأ (فائزة) إلى الذاكرة، لعلّها تسعفها، فتحنّ إلى قريتها لتشبع الروح من " جفاء هذه المدينة الخاوية " ص 26. ". وتتساءل متعجّبة، مذهولة ومردّدة: " لم كلّ المدن رغم اتّساعها وعماراتها المزخرفة وثقافة سكانها، تبدو بلا روح كجسد معذّب يبحث عن قبر خاو ليختبيء فيه " ص 26. هكذا، تنمو أحداث الرواية، وتمتزج فيها مشاعر شتى ؛ الحنين والحب والمرض والقلق والغربة والأمل.

و يبدأ فصل آخر من حياة (فائزة)، عندما تقع في حبّ (إبراهيم) والذي يبدو أكبر من عمره الحقيقي (في سنّ الأربعين)، بسبب تجاعيد جبينه، ويقترح عليها الزواج. لتطفو على سطح الأحداث سمة أخرى، ألا وهي سمة الحب. حبّ الجنس الآخر. هذا الذكر الذي له في ذاكرتها رواسب سلبية. لكنّها أحبّت في (إبراهيم) رجولته، كرجولة أبيها (سي الرزقي). ولم تحب ذكورته. فقد كان يعاملها برقّة ومودّة ولطف وإنسانية ويحجز لها، كل صباح مكانا في الحافلة، ودعاها إلى مأدبة غداء على شاطيء البحر. لكنّ، يبدو أنّ الحب عملة نادرة في مجتمعها القرويّ. وهو آخر ما يفكّرون فيه. فقد اصطدمت قبل زواجها بطغيان الواقع الماديّ على المشاعر كلّها. نصحتها صديقتها (حنان) بوجوب التريّث، قالت لها: " لو كنت مكانك لما تسرّعت، أنت أستاذة وهو مجرّد عامل بسيط " ص 59. لكن الحبّ الحقيقي – في نظر (فايزة) لا يعترف بالفوارق الاجتماعية، ولا بالتفاوت في سلّم الوظائف. وهنا، تدافع (فايزة) عن حبيبها، الذي يحمل شهادة جامعية: " ليس ذنبه أن الدولة لم توفّر له منصب عمل محترم، لقد أكمل دراسته الجامعية، ماذا يفعل أكثر؟ " ص 60. وهذا المقطع السردي، فيه إدانة صارخة لنظام سياسي مفلس على جميع الأصعدة، عجز عن حماية الإطارات الجامعية والكفاءات العلمية من غول البطالة والهجرة السريّة، المعروفة في الأوساط الشعبية والإعلامية بظاهرة (الحرقة).

لقد رفضت أمها (لالة سعدية) وأختها (سهام) وأخوها (عمّار) زواج (فايزة) من إبراهيم، لأنّه في نظرهم، رجل طامع، يريد أموالها فقط. حيث تصرّح الأم " ذاك الرجل طامع في أموالك، أخوك أولى بها. " ص 115. ويظهر موقف الأم في المقطع السردي: " لالة سعدية تتجنّب الحديث في هذا الموضوع، وكأنّه صار من المحرّمات، ما أكثر المحرّمات داخل أسوار هذه القرية " ص 103.

و لم يشذ (عمّار) عن موقف الأم: " فايزة، ارفضي طلبه، سيأتيك أفضل منه " ص 102. وكذلك قالت لها (سهام)، المرأة الماديّة: " هل جننت إنّه يريد أموالك " ص 107. وتقول لها أيضا: " أفيقي أيّتها المجنونة، لا يوجد الحب، هناك من يشتهي فيك شيئا فقط، الرجال لا يعرفون الحب، يبحثون عن ملذاتهم فقط " ص 107. وهنا، نلاحظ كيف سيطر الشّك وهاجس رؤية الآخر بمنظار الغدر والطمع. بينما الأم غارقة في وحل الطمع. وهذا نوع من سلوك الإسقاط، تمارسه الأم ضد ابنها (فايزة). بل تطوّر الأمر إلى درجة المساومة. حين تنزع لالة سعدية القناع عن الحقيقة، فتواجهها بصراحة قاسية " لقد قررت أنّك لن تتزوجي قبل دفع مهر أخيك " ص 114. وعندها تتساءل (فايزة) بألم وحسرة وحرقة. " هل أصبح زواجي يشترى بالنقود؟ " ص 115. لقد " اختفى مفهوم الزواج على أنّه استقرار ومودة من قاموس هذه القرية اللعينة " ص 19، كما وصفته الروائية.

و في المقطع السردي التالي، تطفو على الأذهان ظاهرتا السادية والتمييز المقيت لصالح الذكر، وعلى حساب الأنثى في المجتمع الريفي والقروي: " أمر عجيب، كيف تستطيع الأم أن تكون قاسية؟ كيف تبني سعادة ولدها على تعاسة ابنتها؟ إنّه التقديس الجاهلي للرجل، أظنّ لالة سعدية قد اتّحدت روحها داخل جسد (عمار) كحال أمّهات القرية كلّهنّ " ص 107. والأمر الغريب أن نجد في المجتمع الريفي، الأنثى تمارس عملية القهر ضدّ الأنثى (أيّ ضد نفسها وو جودها، متمثّلا في بنات جنسها)، وليس الذكر فقط. وإذا ظاهرة الوأد الجسدي الجاهلي، قد اختفت إلى الأبد، فقد ظهر، في المجتمع الريفي والقروي المتخلّف وأد من نوع جديد وأشدّ خطورة على الإنسانية، ألا وهو وأد الذكر لأفكار المرأة النيّرة وأحلامها المشروعة وحريّتها. والأفظع من ذلك أنّ يتحوّل الوأد من طابعه الاجتماعي والأخلاقي إلى طابع سياسي يمارسه المستبّد ضد رعيّته بقوّة وعنف ورعونة.

و بعد زواجها من حبيب القلب، إبراهيم، يواجهها واقع جديد، لا يختلف كثيرا عن واقعها القديم، ومعركة أخرى في بيت الزوجية، بطلتها حماتها (الخالة ربيحة). فكان لزاما عليها الاتّصاف والتسلّح بالتحدّي والصبر والحكمة. فهي وحيدة في مواجهة غير متكافئة (الخالة ربيحة، الصارمة جدا التي تكره المرأة العاملة وزوجة الأخ الكبير مراد الغيورة، ومشكلة تأخر الإنجاب، وشؤون البيت).

وحيدة في دفاعها عن أحلامها وحبّها، وحيدة في مجابهة عائلة غير متّزنة، قالت عنها صديقتها حنان: " أمّه صارمة جدا، أحسّهم معقّدين بعض الشيء " ص 52. وحيدة أمام مجتمع ريفيّ سريالي معقّد ومتناقض، يدّعي المحافظة، وهو يمارس طقوسا جاهلية ووثنيّة في حقّ الأنثى ؛ الذكر فيه يضطهد الأنثى، والأنثى تضطهد الأنثى أيضا، خدمة للذكر. وخير دليل ما ورد في المقطعين السرديين التاليين، وعلى لسان الروائية. " الحب جريمة كبيرة في هذا الوطن، حين تعشق أنثى كأنّك قمت بتعريّة رمز من رموز هذا الوطن ولا يكون العقاب إلا الخيانة العظمى " ص 42. والقصد التهمة، التي تستوجب العقوبة الشديدة. " لا يستطيع الرجل العربي أن يقول للأنثى أحبّك أمام والديه أو إخوته وأولاده، لكنّه يستطيع شتمها وضربها أمام الجميع " ص 42. فالمشكل هنا، ذكوريّ وليس رجوليّا. لأن صفة الرجولة تحفظ كرامة المرأة، مهما كانت رتبتها في المجتمع. وأظنّ أن الكاتبة تدرك الفرق السيميائي بينهما. فالرجل العربيّ الأصيل والحقيقي، لا يبني رجولته على إهانة شقيقته المرأة، بالشتم أو الضرب أمام الملأ. إنّما هو سلوك الذكر العربي المعتل نفسيّا، الفاقد لصفات الرجولة الحقّة، حين يحاول ترميم بنائه النفسي الهشّ، المشرف على الانهيار، وإظهار رجولته الممسوخة. لكن، كما قالت (فايزة) ردّا على صديقتها (حنان): " الجهل يفوز أحيانا يا صديقتي " ص 132.

من سمات شخصية البطلة (فايزة)، سعيها إلى التغيير والإصلاح بأسلوب سلس ومتواضع. فهي رغم مستواها الفكري والعلمي والجامعي، حاولت الاندماج في مجتمعها القرويّ، قصد تغييره من الداخل – لكنّها لم توفّق في مسعاها - نظرا للتفاوت الثقافي بينها وبين أسرتها وبينها ويبن مجتمعها الريفي، القروي، الذكوري البحت. وتحطيم تلك الأصنام الفكرية، التي توارثها أبناء قريتها، والقرى المجاورة، عن آبائهم وأجدادهم، وعن الحقبة الاستعمارية المظلمة، منذ عشرات العقود من الزمن، ليس بالأمر الهيّن. فالتغيير في نظرها، تغيير فكريّ ونفسيّ ومعنويّ.، مصداقا لقوله تعالى: " إنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم " (الرعد / 11). وحين تصطدم البطلة (فايزة) بالخالة ربيحة (والدة زوجها)، تدرك صورة أخرى لبشاعة الواقع القروي الجامد، المتعصّب، الأرعن. وتدرك أيضا غور الإشكالية التي تواجه المرأة المتزوّجة والعاملة. فالحب والتناغم والتشاور والتفاهم والمودة والرحمة بين الزوجين سلوكات محرّمة. فلا يمكن للذكر (سي السيّد)، أن ينصت لزوجتها أو الأخذ برأيها، ولو كان عين الصواب، أو يطيع آدميتها وإنسانيها، وإلاّ لفقوا لها جريمة السحر. ورموا زوجها بأوصاف الخنوع والخضوع وانعدام الرجولة وفقدان العقل، كما وصف الخالة ربيحة ابنها إبراهيم " والله داتلك عقلك، بالرحمة عليك يا ولدي " ص 131.

و من أخطر المشاكل التي تواجهها المرأة في المجتمع القروي والريفي، مشكلة تأخر الإنجاب، ولو لبضعة أشهر، فالمرأة مطالبة بالإنجاب في عامها الأوّل، وإلاّ قيل عنها أنّها عاقر. إنّه مجتمع لا يفرّق بين مفهوميّ التأخّر والعقم. والمتهّم الأول والأخير هي المرأة. رقم أنّ المنطق يفرض تقاسم المشكلة بين الزوجين. فقد يكون التأخر مردّه إلى عقم الذكر أو مرضه أو عجز فيه، لا عقر الأنثى. وقد يكونان هما معا. لكنّ الأنثى هي الطرف الأوّل، المتّهم، وهي ضحيّة الطلاق. لم تنج (فايزة) من الألسنة في بيت الزوجية، (أم زوجها، الخالة ربيحة، وزوجة مراد الساخرة منها)، حيث اتّهماها (فايزة) بأنّها امرأة عاقر. تصف الروائية ذلك المشهد، كما يلي: " ينادونها بالعاقر في غيابها، تسمعهم أحيانا يضحكون عليها، وكيف أنّها لا تساوي أيّ شيء دون وجود طفل في حجرها " ص 131. ثم تتساءل الروائية، وكأنّها تنوب عن البطلة (فايزة) " هل الحرمان من نعمة الأمومة يسلب منها مشاعر الإنسانية، لا زالت تلك الروح تعيش في الداخل، بذلك القعر المظلم والبارد " ص 131. وتضيف الروائية وصفا آخر لمعاناة (فايزة) في بيت زوجها " حاولت زوجة مراد السخرية منها عدة مرّات، خاصة في المناسبات أو عند حضور الضيوف، تلميحات وغمزات هنا وهناك، إنّها عاقر، مرّت سنتان وأرضها لا زالت قاحلة لم تروَ بماء المطر بعد، أم تراها أرض رملية صحراء جرداء تشرب الماء، دون أن يلقح الزهر." ص 131. فكلمات (السخريّة، تلميحات، غمزات، عاقر، قاحلة، لم تروَ، رملية،صحراء جرداء) حملت سمات إيحائية لمجتمع شرقي متخلّف ومريض فكريّا وأخلاقيّا.

و لو تأملنا الحوار التالي الذي دار بين فايزة والخالة ربيحة، لوقفنا على رعونة هذه الأخيرة وساديتها اتّجاه كنّتها (فايزة).

- " أظن الوقت تأخّر كثيرا، وأنت لم تحملي بعد.

- ردت فايزة: كل شيء بقضاء الله وقدره.

- كلامي ليس معك، سأكلّم إبراهيم حين عودته "

أما ما دار بين إبراهيم وأمّه ربيحة حول مسألة الإنجاب، حين استدعته إلى غرفتها، كأنّها عنصر من المباحث الجنائية. " وأعطته محاضرة حول أهميّة الأولاد، وأنّها لن تصبر على فايزة أكثر من هذا " ص، إنّه يعكس اضطهاد الأم الشرقيّة للكنّة (زوجة الإبن)، ونظرتها إلى ماهية الزواج وهدفه.

- " أنا لست مستعدا لتلك المسؤولية، لا أريد الولاد حاليّا.

- إن كنت لا تريدهم، لم تزوجت؟

- لدي أحلام ومشاريع، لن يهرب الوقت على إنجاب الأولاد.

- الوقت يهرب على المرأة يا ولدي.

- فايزة ليست لها مشكلة، كما أنها منشغلة بعملها.

- والله هذي حلوة، قالك منشغلة ها ها..

- اتمنى أن لا تزعجيها بعد الآن بهذا الموضوع.

- والله داتلك عقلك، بالرحمة عليك يا ولدي. " ص 130.

ماذا لو كان الأمر يتعلّق بابنتها؟ هل كانت ستعاملها بالشكل نفسه؟ من المؤكّد لا.

فالخالة (ربيحة) وزوجة مراد وعمّار وحنان والزوج إبراهيم والأخت سهام ولالة سعدية، هم مرآة صدئة لمجتمع متناقض وماديّ وانتهازي وأنانيّ وساديّ ومريض ومعقّد وسطحيّ، نخرته الشكوك وأرضة الطمع. مجتمع يرى السعادة في المال فقط. تقول البطلة (فايزة)، العفيفة النفس: " وهل يمكن لأموالكم شراء سعادتي ونقاء نفسي، لقد لوّثني ابنك بغدره " ص 172. لقد عارضت الخالة ربيحة علاج (فايزة)، خوفا على المال، وواجهتها قائلة: " أنت عاقر، ونحن نتحمّل علاجك؟ لن أقبل " ص 172. لحظتها ردّت (فايزة) متحدّية: " نعم أنا عاقر، نعم رحمي مريض، لكن جيبي مملوء " ص 173. وحين تطلب (فايزة) من مراد الوفاء بوعده لها، والتكفّل بمصاريف علاجها في الخارج، تصدمها الخالة ربيحة قائلة لمراد: " لا تتسرّع يا ولدي، فكّر جيّدا، لعلّها تريد أملاك العائلة." ص 172.

ثم، أكانت مشاريع وأحلام إبراهيم هي السبب الحقيقي وراء عدم استعداده لأداء دور الأبوة مسؤوليتها؟ وما هي تلك المشاريع والأحلام، يا ترى؟ أم هي حجة واهية لأمر في نفسه؟ أم هو خوفه من أن يعيق إنجاب الأبناء من فايزة، عشقه الخفيّ لحنان؟ تلك الصديقة الخائنة لقداسة الصداقة والثقة.

و من سمات شخصية (فايزة)، قدرتها على تحمّل أعباء مجتمعها المظلم والظالم لكينونة الأنثى، منذ لحظة ميلادها ؛ من إهانات، وغمز، ولمز، وقذف، وتهم باطلة ؛ فهي عاقر، إذا لم تنجب في عامها الأول من الزواج، تُشتم، تُضرب، تُحرم من ضرورات الحياة، يُسخر منها، تحمّل مسؤولية فشل الذكر أو انحرافه. لا أحد يحسّ بوجعها، مهما حاولت البكاء والصراخ. تصف الروائية مأساة الأنثى بقولها: " المرأة مسؤولة عن كل الأمور السيّئة " ص 162. وتضيف في موضع آخر: " الرجل التعيس بسبب امرأة فاسدة في حياته، الرجل السعيد بسبب امرأة جيّدة، اختفى القضاء والقدر من المفاهيم " ص 162. وتقول عن (فايزة) أيضا: " رأسها صار فدية لكل مصيبة " ص 163.

و مازال الإنسان العربي، في البوادي والفيافي وو الأرياف والقرى، بل وأيضا في المدن، يحمل في موطن شعوره أو لا شعوره بقايا النظرة الدونية والجاهلية إلى الأنثى عند ميلادها، مازالت في أعماق نفسه طباع الذكر الكظيم، إذا ما بُشّر بالأنثى، كما وصفه القرآن الكريم. قال تعالى: " وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم " (النحل – 58). فتراه يتفاخر بميلاد الذكر، بينما يتحرّج من ميلاد الأنثى. وكم من الزوجات طُلّقن لأنهنّ أنجبن إناثا، ولم ينجبن لأزواجهنّ ذكورا. ثم إن بعض الآباء لا يعدلون في معاملاتهم لأبنائهم، فيفضّلون الذكر على الأنثى، كأن يعطون الأولوية لتعليم الذكر دون الأنثى، لأن الأنثى في رأيهم، آلة نسل، خُلقت لتمكث في البيت، في انتظار زوج (يسترها)، أو آلة حدباء تحملها إلى مثواها الأخير.

و من سماتها أيضا، تعرضها للصدمة، بعد اكتشاف خيانة زوجها لها مع صديقتها (حنان)، بعد خروجه من السجن، وعن طريق الصدفة، ومن خلال رسائلها له على هاتفه المحمول. تصف الروائيّة عشتار سعاد ذلك في الجملتين التاليتين، وعلى لسان (حنان): " حبيبي كلّمني، لماذا لا ترد؟ " ص 165. " ألو، حبيبي، هل اشتقت لي بهذه السرعة؟ " ص 168. وفي المقطع السردي التالي ـ تصف الروائية موقف (فايزة) من تبريرات زوجها، قائلة: " عبثا كان يحاول، إنّها تدرك بكل غرائزها الأنثوية أنّه كذبة كبيرة، حلم كان يوما جميلا لن يتكرّر " ص 167. وفي اعترافه الصريح لها: " أخبرها أنّها كانت تزوره في السجن " ص 168. هل كانت ستدفعها هذه الخيانة إلى الانتقام من زوجها، ومن صديقتها حنان؟، و" بإرادة امرأة صغيرة، صمّمت على الانتقام، تستطيع أن تقضي على القدر نفسه. " ص 171. غير أنّ (فائزة)، المرأة الطيّبة، المسالمة، ليس من طبعها الانتقام ممّن أجبّت، والغدر به. كانت تتمنى أن يرتقي إلى مستوى الرجولة الحقّة. " كان الأجدر به أن يكون رجلا، بدل أن يسرق أحلامي " ص 172.

فالإرادة والتصميم والوضوح وقوّة الروح، من الناحية السيمائية، مثيرة للغاية، تكشف عن الجانب الخفيّ والمضيء والإيجابي من شخصية (فايزة). فهي وإن بدت مقهورة، ومستضعفة وضحية لمرض رحمها، ورعونة بيئتها الريفية والقروية، الرازحة تحت نير الجهل والخيانة والتقاليد الميّتة والمميتة، فإنّها غير مستسلمة ولا يائسة، مادامت تمتلك روحا قويّة، وأحلاما لا تحدّها الآفاق.

ستكتشف (فايزة) في رحلتها العلاجية إلى مصر، عالما لا يختلف كثيرا عمّا ألفته في الجزائر. ستكتشف أن البلاد العربية، شعوبها نسخة واحدة، يجمعها همّ واحد، ومعاناة واحدة. شعوب سلبها الاستبداد الإرادة وحريّة التعبير والتفكير. شعوب استوطن الكبت في أعماقها، شعوب محرومة من الصراخ بقوّة والتعبير عن الألم، وتوّاقة إلى الخروج من عالم الكبت، والثورة على واقعها القبلي، لاستئصال ورم

الاستبداد من رحمها. وصفت الروائية رحلة البطلة إلى مصر، بأنّها رحلة بحث عن الحريّة، في عالم مظلم: " حلّقت فايزة في الجو، لكنّها طائر مكسور الجناح يبحث عن الحريّة المزعومة في سماء سوداء مظلمة. " ص 176.

و في القاهرة، وجدت نفسها في مكتبة باب الدنيا (مكتبة الصراخ)، لمديرها (عبد الرحمن سعد)، بعدما نصحها طبيبها بزيارتها: " هذا عنوان " مكتبة الصراخ "، أنصحك بزيارتها سوف يساعدك الأمر على إخراج الطاقة السلبية والتفكير قبل اتّخاذ القرار " ص 181. راقت لها الفكرة، وهي التي كانت محرومة من الصراخ في قريتها، محرومة من التعبير عن الجراح لمداواة الآلام، لأن صوتها في نظرجلاّديها (عورة)، وتمرّدها على دستور القبيلة و(مقدّساتها) السوداء، تمرّد على (الفطرة) الأنثوية وهتك للعرف الاجتماعي (المقدّس)، وتهديد للتقاليد الموروثة عن الأسلاف. " كم تمنّت الصراخ في أحد كهوف القرية دوما " ص 181. ولكن، أنّى لها ذلك، " قانون الحياة شئت أم أبيت، لن تكبر دون ألم ولن تتعلّم دون خطأ، لن تنجح دون فشل ولن تحب دون أن تفقد، لا شيء مجانا أبدا، دائما عليك أن تدفع، عجلة الحياة مستمرّة في الدوران، عليك أن تدفع، ستطحنك بين ثناياها يوما حتى وإن كنت تدفع ضرائبك باستمرار " ص 183. وعندما رفضت (فايزة) إجراء عملية استئصال الرحم، وأصرّت على التلقيح الإصطناعي بغرض الإنجاب، صرخ إبراهيم في وجهها: " أنت مجنونة، جئنا من أجل العملية، ماذا يدور في رأسك؟ " ص 181. ردّت عليه بنبرة الرفض والتحدّي والثقة والانعتاق من عالم القطيع: " إنّها حياتي أنا، أحلامي أنا، من أنت لتقرّر عن حياتي؟ " ص 182. لقد بلغت درجة الوعي، عندها، مرحلة الاستغناء عن قوامة الذكر، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في التفكير وتقريرمصير حياتها، والتمييز بين مفهوم الطاعة الزوجية والخنوع والذل. لقد استرجعت ذاتها المسلوبة، ووعيها المغيّب في كهف (الذكورة) المزيّفة. ونلمح ذلك في المقاطع السردية التالية الموحية، الواردة على لسان الروائية سعاد عشتار: " إذا أردت تحرير المرأة من بؤسها أعطها طفلا، إذا أردت شفاء رحم عاقر يحتضر أعطه طفلا، والرجل هو دائما مجرّد وسيلة لعملية التحرير." ص 182. " المرأة كلّما نضجت أصبحت أكثر أنوثة، ناضلت وعضّت بالنواجذ أمام حقوقها المسلوبة، من أنت لتحرمها حقّ الحياة، حين حصرتم مفهوم حياتها في الإنجاب والولادة، الآلة معطّلة سوف تصلحها وتؤدي عملها على أكمل وجه، لن تلتصق بها صفات النقص بعد الآن، الحكم كان ظالما، دراستها، عملها، أحلامها ذهبوا في مهب الريح، مزاد حياتكم العلني أعلن أنّها ممتلكات دون قيمة، لا تباع ولا تشترى مثل أسطورة " بقرة اليتامى " ص 182 / 183.

تصف الروائية ذلك الموقف قائلة: " في الصباح الباكر كانت الوجهة غرب القاهرة، نحو ذاك المكان المنشود، (مكتبة باب الدنيا) ترحب بكم، مدير المكتبة " عبد الرحمن سعد "، رجل بشوش وطيّب، المكان يعجّ بالزوار. أتراهم جاؤوا جميعا لأجل الصراخ؟ إنّهم من كلّ الأعمار ولا تبدو على هيأتهم الثقافة والتعليم، لا بد أنّهم جاؤوا للصراخ وليس لقراءة الكتب " ص 183 / 184. هكذا تجد (فايزة) نفسها وسط عالم (يعجّ) بضحايا الجهل والاستبداد والقهر الاجتماعي والكبت النفسي، وما ينجرّ عنه - (وأقصد الكبت النفسي) - من قلق وعصبية واضطراب في بناء الشخصية. فقد اعتقد سيغموند فرويد، أنّ الشخصية تتكوّن من: الأنا والمعرف (الخزان اللاواعي) والأنا العليا. وهي مستويات متنافسة، قد تؤدي إلى مزيد من القلق وفوبيا الخوف، كما هو حاصل لبطلة الرواية (فايزة).

تكتشف (فايزة) عالما مليئا بالصراخ، زوّاره (من كل الأعمار) ؛ صغار وكبار، ومحرومين من (الثقافة والتعليم) ومن نسيج اجتماعيّ متخلّف، تقوده الأفكار البائدة. (جاؤوا) بمحض إرادتهم لممارسة الصراخ في غرفة معزولة وسوداء، بعيدا عن عالمهم الواقعي المرئي. بعدما حُرموا من(الصراخ) بحريّة في واقعهم المعيش، أُرغِموا على الكبت النفسي. وعندما سألت مالك المكتبة عن الفكرة، أخبرها أنّها ليست فكرته، بل هي فكرة المهندس " عمر عنيبة "، قالت بكل ثقة وحسرة: " يا ليت الفكرة تصل إلى كل مدينة وقرية، فما أكثر القهر والضغط داخل قلب العربي المسكين " ص 184.

هي أمنية (فايزة)، أن يعمّ الصراخ البلاد العربية كلّها، وهو رمز سيميائي، يوحي بنضج الوعي لدى الشعوب المضطهدة، باسم الوطنيّة الثوريّة تارة، والقوميّة الوحداويّة تارة أخرى، ويوحي، أيضا، بإلزاميّة الثورة على الاستبداد والقهر والتسلّط، ويوميء إلى (الربيع العربي)، الذي أفشلته القوى الرجعية والظلاميّة والقابلية للعبودية وطوابير العملاء للأصولية الممسوخة، والليبرالية المتوحشة، في كل من سوريا واليمن ومصر ووو.

وصرخت (فايزة)، في تلك الغرفة المعزولة الجدران والمغطّاة بقماش أسود. " صرخت فايزة بكل قوّتها مرارا وتكرارا، كادت أحبالها الصوتية تتقطّع " ص 185. ولمّا خرجت من غرفة الصراخ، " خرجت بإحساس جديد، خفيفة كالريشة، الروح ترقص أخيرا داخل هذا الجسد المريض " ص 185.

و من سمات شخصية (فايزة)، أيضا، المجازفة بحياتها من أجل تحقيق حلم الإنجاب، رغم خطورة العملية على حياتها. " فوحوش المجهول قد تكون أرحم من وحوش عالمها " ص 187. فتوظيف لفظة (وحوش) للتعبير عن واقعها المرّ، ومحيطها المتمثّل في (زوجها إبراهيم، الخالة ربيحة، صديقتها الخائنة حنان، أخوها عمّار، خالد السكّيرالذي كاد يغتصبها طفلة في سنّ التاسعة، زوجة مراد..). هذا، التوظيف له دلالة سيميائية قويّة ومعبّرة ومثيرة لمشاعر الأسى والخوف. أيكون موتها خلاص من عالم (الوحوش)، وارتقاء إلى عالم المثل والبراءة والنقاء والوفاء والطهارة. وتعبّر الروائيّة عن ذلك في مقطع سرديّ حزين ومميّز قائلة: " كيف يعقل أن تعيش مع شخص تشاركه كل تفاصيل حياتك وأنت منفصل عنه عاطفيّا، ما أغربه من سجن ندخله بطوع إرادتنا لنحترق داخل أسواره ونموت ببطء شديد، هذا ما يحدث حين نسلّم أمورنا لهواجس قلب لعين يقذف بنا في أول حفرة تصادفه في الطريق." ص 190/ 191. وفي المقطع إشارة واضحة إلى خيانة زوجها وخذلان المجتمع القروي لها.

ماتت (فايزة) وضحت بنفسها من أجل أن تنجب طفلا، تمحو به عن نفسها (عار) العقر وتزيل (النقص) وتحقّق (الكمال) في نظر مجتمعها القرويّ، الفاقد للضمير الإنساني. قتلها الجهل وأجهزت عليها القسوة. " لقد قتلوها بجهلهم، بكلامهم القاسي، المرأة العاقر أو المريضة روح تتنفس وتحسّ. " ص 197. " المجرم نحن، أفكارنا المعلّبة داخل أجسادنا المعذّبة، إنّه نحن المجتمع بكل أطرافه بعاداته وتقاليده وقوانينه الجائرة " ص 197.

ماتت وتركت وصيتها أختها (سهام) بأن تحسن تربية ابنها أحسن تربية، تقول الكاتبة سعاد عشتار في ختام الرواية. " تركت وصيّة إلى سهام بأن تربي طفلها الصغير بعيدا عن الجهل والظلم، أن تعلّمه كيف يحب، أن يحترم المرأة، فهي البنت والأخت والزوجة والأم، هي ما يكمّل نصفه الناقص، مهما حاول الكمال لن ينجح دونها، المرأة ليست ذلك الجسر الذي تعبره وقت انتصارك وتتشبّث في أحباله الممزّقة حين يوشك على السقوط. المرأة انتماء. الأنثى هي الوطن " ص 197.

و بعد، فإنّ رواية (صرخة رحم) للروائية (بريوة سعاد)، صاحبة الاسم الفني (سعاد عشتار). صرخة امرأة في ليل سرمديّ، وفضح مشروع لمجتمع عربي مقنّع ومتخفّي وراء قناع النفاق الاجتماعي والديني. مجتمع ذكوريّ يسقط كلّ عاهاته الأخلاقية وعوره السياسي ونواقصه الاجتماعية على الأنثى.

جاءت شخصياتها في معظم فترات حياتها لامنتميّة، مأزومة نفسيّا واجتماعيّا وأخلاقيّا وعقائديّا. وهي مرآة لصراع بين جيلين، أحدهما تقليديّ، محافظ، ولكنّه جامد التفكير، مشدود إلى ماض خرافيّ وساذج، والآخر، متعلّم، واع، تقدّمي، طموح، مشدود النظر إلى المستقبل المشرق.

من المآخذ التي رصدتها في رواية (صرخة رحم)، أنّ صاحبتها سعاد عشتار (سعاد بريوة)، كانت في بعض المقاطع السرديّة مهيمنة وغير محايدة، وذات سلطة سافرة على بطلة الرواية (فايزة) في توجيه الأحداث، حيث بدت لنا رؤيتها الخلفيّة ومعرفتها المطلقة في درجة التبئير الصفر. وهذا ما يجعل السارد (الراوي) أكبر من الشخصية في حالة ورودها بصيغة الضمير الغائب. ولعلّ هذا الأمر عائد إلى وجود علاقة تشابه وتعاطف بين شخصيّة البطلة والروائية (الراوية / الساردة). ورغم امتلاك الروائيّة سعاد عشتار في حاجة للغة سرديّة سلسة، فإنّها في حاجة إلى تطويرها، لأن اللغة ليست مجرّد ساعي بريد، بل هي حمّالة أفكار وتاريخ ومشاعر ومعان وصور فنيّة.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي

في المثقف اليوم